- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة النور.
مكانة سورة النور:
يجب أن تعلموا أن لهذه السورة مكانة كبيرة في القرآن الكريم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخصها بعناية فائقة، وسيدنا عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل الكوفة:
(( عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ. ))
تفسير كلمة ( سورة ) ودلالاتها:
أما كلمة
حكمة خلق شهوة المرأة:
في أصل الخلق خُلِقت المرأة على ما هي عليه ليرقى بها الرجل إلى رب السماوات والأرض، خلقت امرأة وأودع الله في الرجل حبّها، هذا الحب هو ما يُعبَّر عنه بالشهوة، والشهوة هي الطريق التي توصلنا إلى الله عز وجل.
نحن نرقى بالشهوات إلى رب الأرض والسماوات، لو لم يكن في قلب الإنسان هذا النازع، وهذا الميل، فما قيمة الاستقامة؟ لا قيمة لها، لو أن الإنسان لا يحب، ولا يكره، ولا يغضب، ولا يبغض، ولا يتمنى، ولا يرجو، لو كان الإنسان كقطعة من خشب كيف يرقى إلى الله، قطعة الخشب كيف ترقى إلى الله، لكن الله سبحانه وتعالى ركَّب في الإنسان شهوات من أجل أن يرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، ولولا هذه الشهوات لما ارتقى إلى الله، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
هذا التزيين من أجل أن تكف عن الحرام، وأن تأخذ الحلال، إن كففت عن الحرام ارتقيت إلى الله، وإن أخذت الحلال ارتقيت إلى الله.
إذاً الشهوة سلّمٌ إلى الله، يجب أن توقن حق اليقين أن هذه الشهوات طريقنا إلى الله، إنك إذا واجهت امرأة مُتهتِّكة، وغضضت بصرك عنها خوفا من الله، وطمعا في رضوانه، إنك بهذا ترقى، فإذا تفضل الله عليك، وأكرمك بزوجة صالحة إذا نظرتَ إليها سرتك، وإذا غبت عنها حفظتك، وإذا أمرتها أطاعتك، ارتقيت إلى الله من نوع آخر، ارتقيت إليه شاكراً، في الحالة الأولى ارتقيت إليه صابراً، وفي الحالة الثانية ارتقيت إليه شاكراً.
دعوة صريحة على تعلُّم سورة النور وتعليمها للنساء:
إذاً هذه السورة ألح عليكم، وأتمنى عليكم أن تعلموها نساءكم، إما أن تعلموها نساءكم، أو ادعوهن إلى أن يحضرن هذه الدروس التي تتعلق بالمرأة، إنها نصف المجتمع، إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع، لأن العلاقة بين المرأة والرجل علاقة إيجابية في ظل التشريع، ومدمرة في ظل التفلت، كعلاقة البنزين مع السيارة، علاقة إيجابية، لولا هذا الوقود لما تحركت السيارة، إنها تتحرك بهذا الوقود، لكن بشرط أن يكون هذا الوقود في مستودعه، وأن يسير في الأنابيب المحكمة إلى المحرك، إلى الموزع، إلى غرف الانفجار، إنه ينفجر، ولكن يولّد حركة تنقلك من مكان إلى مكان، فأصبح هذا الوقود السائل نعمة عظمى نقلك من مكان إلى مكان، فإذا خرج هذا الوقود من مستودعه، وخرج من أنابيبه، وصُب فوق السيارة، وجاءته شرارة أحرقها، إذا هو قوة مدمرة، إما أن يكون البنزين أو هذا الوقود السائل قوة محركة، وإما أن يكون قوة مدمرة، هذه هي الشهوة تماماً، إما أن تكون قوة محركة إلى الله عز وجل ترقى بها، وإما أن تكون قوة مدمرة تُذْهِب حياتك سدى، لذلك فإن الموضوع خطير جداً، في القرآن الكريم آيات كثيرة جدا تتحدث عن النساء، وعن انضباطهن، وعمّا يحل لهن، وما يحرّم عليهن، وفي موضوع إبداء زينتهن، هذه كلها موضوعات يجب أن نأخذ بها، وذلك يعني أنه إذا أردت لإيمانك السلامة، ولحياتك الاستقرار، ولمعادك السعادة فعليك أن تأخذ بما في هذه السورة من أحكام تفصيلية، وعليكم أيها الإخوة أن تتعلموها، وتعلموها نساءكم.
يا أيها الإخوة المؤمنون، هذه السورة تعلموها، وعلموها نساءكم، ربما أؤخر الخوض في تفاصيل الآيات، وفي الأحكام الشرعية المتعلقة بآيات هذه السورة إلى درس قادم، وفي هذا الدرس سألقي عليها شعاعاً كاشفاً، وبعض التعليقات حول مجمل موضوعها.
محور السورة: العفاف والستر:
هذه السورة كما قلت قبل قليل سماها الله سورة، لأنها مجموعة آيات تتمحور حول محور واحد، ألا وهو العفاف، والتستر، يعني أن الإنسان حينما يتفلت في شأن العفاف، والتستر، حينما يتفلت من القيود أو من الحدود، وهذه الكلمة أريد أن أقف عندها، فربما رأى بعضهم أحكام الدين في شأن غض البصر، وعدم الاختلاط، وهذا المكان لا يجوز، وهذا المكان يجوز، ربما توهم بعضهم أن الأخذ بهذه الأوامر نوع من تقييد الحرية، لا والله، إنه ضمان للسلامة، إن أوامر الدين في شأن العلاقة بالنساء ليست من قبيل الحد من الحرية، بل هي من قبيل ضمان السلامة، إنك إذا ركبت شاحنة، ولها وزن كبير يزيد عن خمسة أطنان، ووصلت إلى جسر كتب عليه: الحمولة القصوى ثلاثة أطنان، وليس في الطريق أحد يراقبك، وليس في الطريق أحد يحاسبك، فهل من مصلحتك أن تعبر هذا الجسر بهذه الشاحنة ذات الوزن الذي يفوق طاقة هذا الجسر، هل تخشى أن تُخالَف؟ لا، الموضوع متعلق بك وحدك، هل تقول: هل يراني أحد؟ هل هناك إنسان يحاسبني؟ يا ترى هل أكتب مخالفة؟ لا، الموضوع أعمق من ذلك، إنك إذا دنوت من الجسر، وقطعته، وهو ذو حمولة قليلة ربما انهارت السيارة، ووقعت في النهر، فعندما يفهم الإنسان أحكام الدين هذا الفهم، وبأنها ليست حداً لحريتك، إنما هي ضمان لسلامتك، ليست أحكام الشرع تضييقاً على حياتك، إنما هي صون لسعادتك، لذلك هذا الذي يطيع الله عز وجل لا يضل، ولا يشقى:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
وقال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
يا أيها الإخوة الأكارم: هذه السورة تعلموها وعلموها نساءكم:
﴿ سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) ﴾
سورةٌ أنزلناها:
معنى: فَرَضْنَاهَا
معنى: ﴿فَرَضْنَاهَا﴾ أيْ أوجبنا العمل بأحكامها، التعريف الدقيق للفرض: إيجاب العمل بالأحكام، والأوامر الإلهية على مستويات: بعضها فرض، وبعضها واجب، وبعضها سنة مؤكدة، وبعضها سنة غير مؤكدة، وبعضها مستحب، وبعضها مباح، وهناك مكروه كراهة تنزيهية، ومكروه كراهة تحريمية، وهناك الحرام.
حينما يقول سبحانه:
وربنا عز وجل فوق ذلك جعل حدوداً، فربنا أمرَ ونهى، لكن في علم القانون التشريع لا يكفي، بل لا بد له من مؤيد قانوني، لو فرضنا أننا أصدرنا قانوناً للسير، يجب أن يلزم السائق الجانب الأيمن، فيجب ألا يتجاوز في المنعطفات، ثمة مجموعة كبيرة جداً من التعليمات، فيجب أن يقود مركبة وهو يحمل إجازة سياقة... إلخ، فهذا القانون ما قيمته لو لم يكن هناك عقوبات، فمن يخالف هذه المادة تُسحَب إجازته، ومن يخالف هذه المادة يُلقى الحجز على مركبته، ويودع في السجن، هذه تسمى في القوانين المؤيدات القانونية، ولولاها لما كان لهذا القانون معنى، والدين جاء لينظم حياتنا، لينظم هذه الشهوات التي أودعها الله فينا، فأمرك بالزواج، أمرك بغض البصر، ونهاك عن الزنى، نهاك عن الاختلاط، فهذه التنظيمات، وهذه الأوامر، والنواهي لولا المؤيدات القانونية لا قيمة لها، لذلك فالزاني يُجلَد، وإذا كان مُحصناً يُرجَم، والسارق تُقطَع يده.
حفظُ الكليات الخمس:
بحث علماء الأصول في أن الشرع الحنيف يهدف إلى خمسة أشياء: إلى حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العِرض، وحفظ الدين.
1 – حفظ النفس:
يهدف إلى حفظ النفس، فمن قتل نفسا فجزاؤه القتل:
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179) ﴾
فحفظ النفس أمر إلهي، والمؤيد القانوني لها أن القاتل يُقتَل، والقتل أنفى للقتل.
2 – حفظ العقل:
والشرع الحنيف جاء ليحفظ العقل، فمن عطّل عقله بشرب الخمر فلا بد أن يُقام عليه حد الخمر.
أنت مأمور أن تحفظ نفسك، فالمنتحر جزاؤه إلى جهنم، والذي يقتل نفساً بغير نفس إلى النار أيضاً، وحد القتلِ القتلُ، فحفظ العقل يكون بألّا تفعل شيئاً يعطل هذا العقل، ولاشيءَ يذهب العقل كشرب الخمر، لذلك جاء حدّ شرب الخمر.
3 – حفظ المال:
وحفظ المال هدف ثالث من أهداف الشرع الحنيف، وهذا الأمر له مؤيد قانوني، فمن أخذ ما ليس له قطعت يده:
يد بخمس مئين عسجد وُديــت ما بالها قُطعت في ربع دينار
قال عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
لما كانت أمينة كانت ثمينـة، فلما خانت هانت، فأول شيء حفظ النفس، ثم حفظ الدين، ثم حفظ العقل، ثم حفظ المال، ثم حفظ العِرض.
4 – حفظ العرض:
فمن يزنِ يُجلد إذا كان غير مُحصَن، ومن يزنِ يُرجم إذا كان محصناً.
5 – حفظ الدِّين:
وأما حفظ الدين، فإنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتعرف إليه، وأن نتعرف إلى شرعه، ومن أراد أن يصرف الناس عن الدين، وأن يُطفئ نور الله عز وجل فله في الشرع حد:
﴿
لهم جزاء عند الله عز وجل، فخمسة أشياء، حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض، وكل هذه الأشياء إذا تجاوزها الإنسان فهناك حد رادع مانع.
فهذه السورة في مجملها تتعلق بموضوع المرأة، بموضوع العِرض، وهو شيء خطير.
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا
يعني أوجبنا العمل بأحكامها، نقول مثلا للإنسان: إن شربَ الماء فرض لبقاء حياتك، ومعنى فرض أي ضروري، ولابد من شرب الماء، لكن شراء باقة زهر للبيت ليس هذا فرضاً، هناك أنواع منوعة من الفواكه، والثمار يمكن أن تعيش من دونها، لكن الخبز، لكن الهواء، لكن الماء، لكن القوت، هذه كلها فرائض لاستمرار حياتك، وأما حياة النفس فهناك فرائض لها: فالصلاة فرض، بمعنى أنك إذا لم تصلِّ أهلكت نفسك، والصيام فرض، والحج فرض، والزكاة فرض، وكذلك كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب.
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
هذه معنى:
﴿
الأحكام في القرآن الكريم موجَّهة للذكور شاملة للإناث:
أولا: جميع الأحكام في القرآن الكريم يُكتفى بأن تُوجَّه إلى الذكور، ومعنى ذلك تشمل النساء أيضاً، قال تعالى:
﴿
هذا نهي، فالذين آمنوا مَنهِيّون عن أن يُبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى؟ وهل المؤمنات غير منهيات؟ لا، إنهن منهيّات بحكم التغليب، لأن الذين آمنوا يعني آمنوا بالله، والإيمان يشمل الذكور والنساء، فمن باب التغليب جميع النساء مأمورات أن يكففن عن المنِّ بصدقاتهن، إذاً لماذا؟ لو أن الله قال: الزاني فاجلدوه مائة جلدة، ألا يشمل النساء؟ قال: بعضهم يتوهم أن المرأة التي زُنِيَ بها ليست مسؤولة عن ذلك، ليشمل هذا الحكم المرأة والرجل معاً ذكر الله عز وجل أن:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
الحكمة مِن تقديم الزانية على الزاني:
الآن لدينا سؤال: هنا ذُكِرَت الزانية قبل الزاني، وفي آيات أخرى ذُكِر السارق قبل السارقة، لماذا بدأ الله بالزانية، وبدأ هناك بالسارق؟ قال بعض العلماء: لأن المرأة أقدر على الزنا من الرجل، هي التي تغريه في البداية، هي التي تدعوه، والرجل أقدر على السرقة من المرأة، لذلك في هذه الآية قُدِّمت المرأة، وفي آية السرقة قُدِّم الرجل.
الفرق بين النكاح والزنى:
الحقيقة أن الزنى هو لقاء غير مشروع، بينما الزواج فهو لقاء مشروع، بينهما أن المرأة إذا خطبتها، وتزوجتها، وعقدت عليها القران، وأنجبت منها أولاداً، الثمار يانعة، الثمار أسرة، أسرة فيها أطفال كالزهور، هؤلاء الأطفال يكبرون، والفتيات يكبرن، هذه الأسرة تجلب لك أصهاراً أخياراً، تجلب لك صهرات خيرات، تكبر هذه الأسرة وترى فيها السعادة، والأنس والراحة، ويكبر الرجل ليجد زوجته أمامه، طبعا زوجته كانت شابة، لكن هذه المرحلة تخطاها، الآن أم لأولاد، تتمتع بالحكمة، والرحمة، والمحبة، وجد أولاده أمامه، بينما الزنى ينتهي إلى الفضيحة.
لي صديق حدثني فقال: طُرِقَ بابي الساعة الرابعة صباحاً، ففتحت الباب فلم أجد أحداً، فنظرت إلى أسفل فإذا كيس فيه شيء يتحرك، فتحته فوجدت فيه طفلاً وُلدَ حديثاً، طبعاً أخذه إلى مستشفى، أو إلى مصح، على كلٍ وقفت عند هذه القصة فقلت: سبحان الله، لمّا ينجب الإنسان في ظل الزواج، يبقى طوال تسعة الأشهر ينتظر هذا المولود، ويعد له مهداً، ويعد له حاجاته، وألبسته، وهناك تفاؤل، وهناك بِشْرٌ، وهناك سعادة، وهناك ترقّب، وهناك انتظار، فإذا وضعت المرأة وليدها عمت الفرحة، وصارت التهاني، والحفلات، والضيافات، والمباركات، وقُدِّمت الهدايا، سبحانك يا رب هذا في الطريق المشروع، فإذا كانت هذه الولادة من الزنا وُضِعَ المولود في كيس، ووُضِع أمام الباب، وقُرِع الجرس، وولى صاحبه هاربا، وهذا الطريق غير المشروع.
حينما يخطب الإنسان امرأة تطلق أبواق السيارات يوم العرس أصواتها، فالعمل المشروع يرضاه الله عز وجل، ويرضاه الناس، ويرضى الناس عنك، لكن إذا كان هناك لقاء في طريق غير مشروع، ينخلع من يقوم به قلبه لأية خطوة تقع خلف ظهره، أليس كذلك؟
لذلك ليس في الإسلام حرمان أيها الإخوة، ولكن فيه تنظيم، كل شهوة أودعها الله في الإنسان جعل لها قناة نظيفة تمر من خلالها، تحب المرأة، هذا شيء جميل، تزوج، لا أحد يعترض عليك، لا أحد ينتقدك، تبقى في عزتك، وكرامتك، تبقى في نقائك، تبقى في صفائك، تحب المال فاعمل في طريق مشروع، تحب أن تعلو في الأرض قَدِّم للناس شيئاً يرفعوك على أكفّهم، فشهوة المرأة تُقْضَى بالزواج، وشهوة المال تقضى بالعمل، وشهوة العلو بالأرض تقضى بالعطاء، والأنبياء صلوات الله عليهم أعطوا، ولم يأخذوا، لكن الله سبحانه وتعالى رفع ذكرهم في كل مكان، وفي كل زمان.
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
(( الخَمْرُ جِمَاعُ الإِثْمِ، وَالنِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ، وَحُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ ))
وجوب اتخاذ هامش أمان بين العبد والزنا:
المرأة فخ، فالذي عنده إرادة قوية للانضباط وَفق ما أمر الله به فهو في حصن حصين.
القول الشهير: الإنسان الشريف يجب أن يهرب لا من الخطيئة، بل من أسبابها، قال ربنا عز وجل:
﴿
بدأت بالابتعاد عن كل رفيق سوء، فربما أغراك بالمعصية، فإذا ابتعدت عن أماكن الشبهات، وعن الأماكن الموبوءة بالنساء الفاسقات، حيث إن النبي عليه الصلاة والسلام وصف نساء آخرِ الزمان بأنهن
(( صِنْفانِ مِن أهْلِ النَّارِ لَمْ أرَهُما، قَوْمٌ معهُمْ سِياطٌ كَأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بها النَّاسَ، ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا. ))
قد تكون إحداهن تلبس أغلى الثياب، وقيمته بالآلاف، لكن هذه الثياب لمْ تلبسْها هذه المرأة كي تستر بها جسمها، بل لتبرز مفاتنها، إذاً
وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
حدَثَ هذا حين عطِّلَتْ حدود الله:
وقد تسأل الآن: الإحصاء الأخير، أو قبل الأخير إحصاء من 5-10 سنوات: في كل 30 ثانية في أمريكا تُرتكب جريمة قتل، أو سرقة، أو اغتصاب، هذه الجرائم التي وصلت إلى دوائر الشرطة، أما التي لم تصل فحدِّث ولا حرج، لعدم وجود عقوبات رادعة، فاعتبر الإنسان نفسه حراً، له أن يلتقي مع من يشاء، هي رضيت، وأنت رضيت، ولكن أين الحق العام؟ الحق العام خطير جداً، فعندما عطلنا الحق العام انتشر مرض الإيدز.
الآن هناك في أمريكا ثمانية عشر مليوناً يحملون هذا المرض، والذعر من هذا المرض يفوق حدود الخيال، كل ذلك بسبب الانحراف، لذلك من نعمة الله علينا أن هذا المرض قلما ينتشر في بلاد المسلمين بسبب الانضباط، لا يوجد حالات غير شرعية، الزواج لا ينتقل هذا المرض إلا عن طريق العلاقات غير الشرعية، أما العلاقات الشرعية كالزواج فلم يثبت فيها جميعاً حالة مرضية، إلا أن يكون أحد الزوجين زانياً من قبل، وقد أصيب بهذا المرض قبل الزواج، أما إن لم يكن هناك زنى من قبل فإن العلاقة الزوجية لا يمكن أن تحدث مرضاً من الأمراض التي تسمى الأمراضَ الجنسيةَ.
التلقيح: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أما
هل تعلمون ما هو التلقيح؟ عندما يُلقَّح الإنسان ضد مرض يقوى على مقاومته، فهذا الطفل، هذا الشاب، عندما تتجمع أعداد هائلة من الناس - عشرة آلاف إلى عشرين ألفًا - على إنسان يُجلَد، ويرون بأم أعينهم هذا الهول، وهذا الألم، وهذا التحقير الذي يصيب هذا الزاني حينئذ ينشأ تلقيح، وتطعيم عند كل المؤمنين، لكن حينما يُقام الحد فقلما يحدث الزنى، إنه شيء خطير جداً، فلذلك هنالك عقوبات يجب أن تتم أمام مرأى الجمهور كي يتعظ بها الناس، فمثلاً شنق المجرم في السجن لا قيمة له، بل يجب أن يُشنَق في ساحة عامة كي يتعظ الناس، هذا مصير القاتل، هذا المجرم انتهى به الأمر إلى أن يُشنَق، كذلك الزاني انتهى به الأمر إلى أن يُجلَد على قارعة الطريق.
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)﴾
معنى الآية:
المعنى الأول:
أن الزاني لا يطيب له إلا الزانية، طبيعته خبيثة، فهو يبحث عن زانية، والزانية تبحث عن زانٍ، هذا يشاكل هذا، وهذا يشاكل ذاك، قال تعالى:
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ
الإنسان المستقيم الطاهر العفيف يبحث عن طاهرة عفيفة، والإنسان الفاسق الزاني يبحث عن فاسقة، طبعا هذا الكلام ساقه العلماء لمن أُقيم عليه الحد، ولم يتب من ذنبه، أما مِن تاب تَاب الله عليه، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
(( يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ، آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))
وقال تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا(53)﴾
هذا الكلام مَسوق لمن أصرّ على الزنى، ولم يتب.
المعنى الثاني:
المعنى الثالث:
وبعضهم قال: هو المؤمن لا يستطيب هذه الزانية.
المعنى الرابع:
وبعضهم قال: لا، هذا حكم شرعي، الزواج لا ينعقد فهو باطل، إذا عُقد زواج رجل غير زانٍ على امرأة زانية لم تتب فالزواج باطل، ليس هذا من جنس هذه، هذا من طينة، وهذه من طينة أخرى،
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ما أبعد حياة الإيمان عن الزنى، طريق طويل، المقدمات كلها عنده ممنوعة، فالاختلاط ممنوع، وكذلك إطلاق البصر، والمشي بمكان موبوء، وأن يصحب أناساً فاسقين، وأن يقرأ أدبا رخيصاً، كل هذه المقدمات هي في الأساس محرمة عليه لذلك:
قال ربنا عز وجل:
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سلاَمًا(63)﴾
إلى آخر الآيات، حتى يقول:
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
هنا دقة بالغة في الآية، ربنا عز وجل لم ينهَهُم عن الزنى، بل نفى عنهم الزنى، طبعا أن تنهى ابنك عن أن يضرب أخاه معنى ذلك أنه من عادته أن يضرب أخاه، النهي فيه احتمال تصوري، إذا نهيت ابنك عن التأخر معنى ذلك أنه قد يتأخر، أما إذا نفيت عنه هذه الحالة فهذه أشد أنواع النهي، أن تنفي وقوع الحالة إطلاقاً، فربنا عز وجل قال:
خطورة القذف في الأعراض:
الآن يقول عليه الصلاة والسلام:
(( ... وَإِنَّ قَذْفَ مُحْصَنَةٍ لَيَهْدِمُ عَمَلَ مَائَةِ سَنَةٍ ))
ما أكثر الناس الذين يلغطون بالأعراض، ما أكثر الناس الذين يتحدثون، يهرِفون بما لا يعرفون، فَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
(( حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ، وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ))
حينما قال ربنا عز وجل:
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4) ﴾
معنى المحصنة:
ما معنى محصنة؟ أيْ هذه مُحصنة من الزنى، لها زوج، لها قيّم، هذه الحاجة ملبّاة، هذه محصنة من أن تزني، لأسباب كثيرة، إما لأنها مؤمنة، أو لأن لها زوجًا، هذا الذي يرميها، وكأنه رماها بحجر في مقتل من مقاتلها، كأنه رماها بسهم، كأنه أطلق عليها رصاصة.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فما قولك وأنت ساكت، وفمك مطبَق، إذا حدثت نفسك أن هذه زانية؟ لقد وقعت في جريمة رمي المحصنات الغافلات، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
فعلى الإنسان أن يكون دقيقاً، ولا يتسرع، ولا ينقل روايات غير صحيحة، غير مؤكدة، فربنا عز وجل علمنا ألاّ تقبل هذه التهمة إلا مع أربعة شهود رأوا حالة الزنى رأيَ العين، وهذا مستحيل تقريبا، إذاً فالأفضل أن تصمت.
فقدان القاذف بالزنا لحقوقه المدنية:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5) ﴾
التوبة تَجُبُّ ما قبلها
﴿
وقال تعالى:
﴿
عندنا استثناء دائم، فالذين تابوا مُستثنون من الفسق، ومُستثنون من عدم قبول الشهادة، أي عندما يتوب الإنسان يستعيد حقه المدني، وحقه أن يكون شاهداً عدلاً.
الضبط والعدالة من صفات المسلم الأساسية:
أعمالٌ تُسقِط العدالة وتجرحها:
العدالة إما أن تُلغى، وإما أن تسقط، وإما أن تُجرح، من يرمِ امرأة محصنة تسقط عدالته، من يكذب تسقط عدالته، من يظلم تسقط عدالته، من يخلف وعده تسقط عدالته، هذا عن سقوط العدالة، فماذا عن جرحها؟ من أكل لقمة من حرام جُرِحت عدالته، من طفّف في الميزان بمقدار تمرة جُرحت عدالته، من تنزّه في الطرقات جُرحت عدالته، من كان حديثه عن النساء جُرحت عدالته، من صحب الأراذل جُرحت عدالته، من بال في الطريق جرحت عدالته، من قاد برذوناً فأخاف به الأطفال جرحت عدالته، من أطلق لفرسه العِنان، أي أسرع، جُرحت عدالته، من علا صياحه في البيت جُرحت عدالته، من لعب النرد جرحت عدالته، ومن لعب الشطرنج جرحت عدالته، فهو يضيع وقته سدى، العلماء ذكروا ثلاثة وثلاثين بنداً تجرح العدالة، من أكل في الطريق، من مشى حافياً، من بال في الطريق جرحت عدالته، فجرح العدالة شيء، وسقوط العدالة شيء آخر، إن قذف المرأة المحصنة مما يسقط العدالة.
هذه الآيات دقيقة جدا، إن شاء الله تعالى لنا عودة إليها في الدرس القادم من أجل أن نقف على أحكامها التفصيلية.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.