- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة النور، مرَّ معنا في الدرس الماضي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، الذي أوردته كتب الحديث عن حديث الإفك، وها هي الآيات التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم يبرّئ فيها السيدة عائشة رضي الله عنها مما اتُّهمت به، فكل مُتَّهم بريء له بهذه السيدة العظيمة أسوة حسنة، إن الذي برّأها سيبرّئه، والحياة طافحة بمشكلات من نوع أن تُلصق بإنسان ما تهمة هو منها بريء، وهذا الذي يحدث له حكمة بالغة، وربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿
بين الإفك والغيبة والنميمة:
الإفك هو الكذب، بل هو أشد أنواع الكذب، الإفك أن تختلق شيئاً لا أصل له، أن تقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، أن ينقلب الحق إلى باطل، والباطل إلى حق، أن تختلق شيئاً لا أصل له، وهو الذي يسميه العلماء استنباطاً من هذا الحديث الإفكَ، فالذي يغتاب فإنه يقول ما هو واقع، ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا
فالغيبة محرمة تحريماً قطعياً بنص القرآن الكريم، ولا اجتهاد في مورد النص، بمعنى أن الإنسان يقوم باجتهادات، فيقول: إن هذا الكلام مفيد، تجريح فلان مفيد، الحديث بالسوء عن فلان مفيد، لا اجتهاد في مورد النص، فإذا جاء نص قرآني قطعي يحرم الغيبة فلا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يبيحها لنفسه، لكن علماء الفقه أجازوا الغيبة في حالات قصوى، حالات لها شروط معقدة، فإذا سئلت عن إنسان في موضوع زواج، أو موضوع شراكة فعليك أن تبين الحقيقة، ولو كانت مُرّة، فربنا عز وجل قال:
(( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ))
القتات هو النمام، تحدث فلان عن فلان بسوء، فجاء فلان، ونقل الخبر لمن تُحدِّث عنه، فهذه هي النميمة، وربنا سبحانه وتعالى نهى أيضاً بنص القرآن الكريم، والنبي عليه الصلاة والسلام بيّن أنه لا يدخل الجنة قتّات، فالغيبة حديث واقع، لكنه يسوء صاحبه، والنميمة نقل هذا الحديث لصاحبه، لكن الإفك اختلاق موضوع لا أصل له إطلاقاً، موضوع مُختَلق بقضِّه، وقضيضه، جملة، وتفصيلاً، ليس له مستند واقعي، هذا هو الإفك، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالذي ينحاز انحيازًا أعمى من دون تبصُّر، مع فلان على الحق، أو على الباطل فهذا تعصب، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ))
ليس منا أبداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينفي عن هذا الذي ينحاز انحيازًا أعمى من دون تبصر، على الحق، أو على الباطل، بشيء واقعي، أو شيء غير واقعي، بما هو خير، أو بما هو شر أن يكون من أمته، أن تنحاز انحيازًا أعمى إلى جهة ما، فهذا هو التعصب الذي يرفضه النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث يبدو لإنسان غير متعمق أنه يدعو إلى التعصب، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ))
أيْ أن توقفه عند حده، أن تقف ضده، هذا نصر له، إنك إذا وقفت في وجه أخ، أو صديق، أو جار، أو ابن، أو قريب، وقفت في وجهه حينما يطغى، فأنت بهذا تعمل لمصلحته، تسعى لرده إلى الله ورسوله، تسعى لإيقافه عند حده، تسعى لتوبته
يروى أن أبا حنيفة النعمان رضي الله عنه دخل على المنصور، وكان عند المنصور قاض يكرهه، ويضمر له العداوة، فأراد هذا القاضي أن يوقع بين أبي حنيفة وبين الخليفة المنصور، فقال على مسمع من المنصور: يا أبا حنيفة إذا أمرني الخليفة بقتل امرئ أأقتله، أم أتريث، فلعله مظلوم؟ إن قال له: اقتله: أغضب الله سبحانه وتعالى، وإن قال له: لا تقتله، ولا تأخذ بأمره أغضب المنصور، فهما أمران أحلاهما مرّ، فما كان من أبي حنيفة النعمان، وقد كان ذكيا إلا أن قال: يا هذا ! الخليفة على الحق أم على الباطل ؟ فقال: مع الحق، قال: أنت كن مع الحق.
انتهى الأمر، فيجب على المؤمن أن يكون مع الحق، وليس مع أخيه، أو جاره، أو شريكه، بل مع الحق، ومن صفات المؤمن أنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وفي الحديث عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ سَرَقَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاذَتْ بِأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا ))
فربنا عز وجل قال:
كل شيء وقع بإرادة الله: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ
إسقاط على واقعنا اليومي:
نحن الآن يجب أن نقيس على هذا الحديث، إنه أحياناً تقع مشكلة في البيت، هذه المشكلة ما دامت وقعت فقد أرادها الله، وما دام الله أرادها فلابد أن يكون فيها الخير، قد تعرف من زوجتك ما لم تعرفه من قبل، قد تعرف من هذه المشكلة وفاءها لك، فتزداد حباً لها، قد تعرف منها عفتها، قد تعرف منها طهرها، أنت كنت قبل هذا في غفلة عن هذه المعاني، قد تعرف الصديق من العدو، قد يُفرَز الناس في هذه المشكلة، فالإنسان في علاقاته الاجتماعية، في بيته، مع أقربائه، مع إخوانه، مع أخواته، مع جيرانه، مع أصدقائه، مع من يحب، مع من يكره، تنشأ مشكلة قد تُبنى على غلط، تبنى على إشاعة، تبنى على تهمة، تبنى على بهتان، تبنى على إفك، فهذا المشكلة وقعت، وما دامت قد وقعت فقد أرادها الله، وما دام الله أرادها ففيها الخير، وهكذا يقول الله عز وجل:
﴿
وحده، لم يقل: بيدك الخير والشر.
مِنْ خالصِ التوحيد الخالصِ: الاستسلامُ لقضاء الله وقدره:
هذه الكلمة نستنبط منها أشياء كثيرة، في حياتنا قد نخاف، فالخوف خير، وقد تشح السماء، وشح السماء خير، قد يأتي وباء، والوباء خير، قد تأتي قضية، قد نعاني من مأساة، إن جميع المصائب في ضوء هذه الآية تؤدي إلى الخير، لذلك المؤمن فهمه عميق، المؤمن متفائل تفاؤلاً حقيقياً، مبنيًّا على التوحيد، مبنيًّا على أدلة من كتاب الله.
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرِهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمٌونَ(216)﴾
لذلك فإنّ قمة التوحيد أن تستسلم لله الواحد الديان: يا رب؛ أنا مستسلم لقضائك، راض بحكمك، ماض فيّ أمرك:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
إنّ النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف ذاق القهر، وصل إليها من مكة ماشياً على قدميه، وبين مكة والطائف قرابة مئة ميل، قطعها مشيًا على قدميه، فلما وصلها وقف منه أهل الطائف موقفاً من أسوأ المواقف، استهزؤوا به، وبدعوته، وبرسالته، واستخفوا به، ردوه شرّ ردٍّ، أغروا به سفهاءهم، فألجؤوه إلى بستان، فقال:
(( يا رب، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، فجاءه جبريل فقال: يا محمد ؛ أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين، فقال: لا يا أخي، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. ))
اعتذر لهم صلى الله عليه وسلم، وظهر بذلك معدنه النبيل، وظهر صبره، وظهرت حكمته، ورحمته، ولولا هذا الحادث لما انكشف النبي عليه الصلاة والسلام على حقيقته، هذه حقيقة النبوة، رحمة ما بعدها رحمة، حكمة ما بعدها حكمة، حنان ما بعده حنان، لطف ما بعده لطف، فاعتذر لهم بقوله:
لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ
﴿ اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(75)﴾
وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
لهذا قال الإمام علي كرّم الله وجهه:
فيقينه برحمة الله وحكمته، وعظمته قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء فالإمام ابن عطاء الله السكندري في حكمه العطائية الشهيرة يفصّل بعضاً من المعاني التي وردت في الآية الكريمة:
يقول الإمام السكندري: "مَن ظنّ انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره، وربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، أعطاك الدنيا فابتعدت عن الهدى، فهذا في الحقيقة منع، وربما منعك فأعطاك، منعك من الدنيا فاقتربت من الله عز وجل، فكان هذا المنع عين العطاء، وقد يكون العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان، إن الله ليحمي صفيه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام، وكما يحمي أحدكم غنمه من مراتع الهلكة.
ومتى فتح لك باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء، فعندما يُثبت لك الطبيب أن هذه الأكلة تسبب التهاباً في الأمعاء أو التهاباً في المعدة، وهذا المريض معه بوادر التهاب في المعدة، وإن هذا الطعام فيه مواد ثقيلة، فيه مواد حريفة، وفيه مواد مخرشة، وهناك حالة مرضية ابتدائية في المعدة، فإذا أقنعك الطبيب أن هذا الطعام يؤذي المعدة، ويسبب التهاباً بدرجة عالية، فأنت حينما تفهم حكمة المنع ينقلب المنع عين العطاء.
وإنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه، الذي يؤلم في المنع أنك لا تعرف الحكمة، فلو عرفت الحكمة لم يعد المنع مؤلماً، فالذي بإمكانه أن يأكل ما لذ، وطاب إذا نصحه الطبيب بترك هذه الأكلة لا تؤلمه هذه النصيحة، بل يتلقاها بالقبول الحسن.
ومتى أوحشك من خلقه، فليفتح لك باب الأنس به، أحياناً لا يقدّرك الناس، ولا يعرفون قيمتك فيتهجمون عليك، ويجحدون فضلك، ويتنكرون لك، ويبتعدون عنك، ويلغطون في حقك، هذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، ومتى أوحشك من خلقه فليفتح لك باب الأنس به.
وربما وجدت في الفاقات ما لا تجده في الصوم والصلاة، فقد ترفع المصيبة الإنسان عشرات الدرجات، حيث إن الصلاة نفسها لا يمكن أن تفعل فعلها في هذا الإنسان لذلك:
موقف المؤمنين من الإفك: حُسنُ الظن بزوجات النبي عليه الصلاة والسلام:
هناك مؤمنون كثيرون أحسنوا الظن بنبيهم، وأحسنوا الظن بزوجاته الطاهرات، منهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي قال لزوجته: هل تسمعين ما يلغط الناس؟ قالت: نعم! قال: بالله عليك أتخونين أنت لو كنت مكان السيدة عائشة من رسول الله؟ قالت: لا، والله! قال: واللهِ لا أفعل ما اتهم به صفوان، وصفوان أفضل مني، وعائشة أفضل منك.
هذا المعدن الطيب ظهر، سيدنا أبو أيوب الأنصاري وكثيرون من الصحابة الكرام أحسنوا الظن بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأحسنوا الظن بأخيهم صفوان، وأحسنوا الظن بالسيدة عائشة، فكان هذا الحديث بمثابة المِحَك الذي أظهرهم على حقيقتهم، وأظهر نبلهم، وأظهر حسن ظنهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأظهر اعترافهم بالجميل، وأنهم يعرفون الحقيقة، فهذا من أبواب الخير.
من الخير أيضا الذي ظهر من حديث الإفك؛ أن هؤلاء الذين امتنعوا عن مساعدة من روجوا هذا الحديث عاتبهم الله عز وجل عتاباً رقيقاً، فبين أن هؤلاء من أولي الفضل، ولا ينبغي لأولي الفضل أن يمنعوا فضلهم عن المسيئين، فكان حكماً شرعياً رائعاً، فإذا فعلت خيراً فاصنع المعروف مع أهله، ومع غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله، فإذا فعلت الخير فلا ينبغي أن تنتظر من هذا الخير شكراناً، ولا اعترافاً، ولا مديحاً، ولا ثناء، هكذا قال ربنا سبحانه وتعالى:
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا(9) ﴾
السيدة عائشة رضي الله عنها ظهر لها أن أخواتها أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا الظن بها، فلما سأل النبي عليه الصلاة والسلام زوجته زينب رضي الله عنها: "ما تقولين أنت في عائشة؟ فقالت: "واللهِ لا أعلم عنها إلا خيراً"، حتى الضرة التي يسميها الناس مُرّة أحسنت الظن بأختها السيدة عائشة.
ظهور بشرية النبي عليه الصلاة والسلام:
شيء آخر مهم جداً، إلى أن نزلت آيات تبرئة السيدة عائشة بين حديث الإفك، بين بداية الحديث وبين التبرئة شهر كامل، والنبي عليه الصلاة والسلام بشر لا يعرف الحقيقة، سأل بعض أصحابه، سأل بريرة الجارية التي لها علاقة بالسيدة عائشة، وهو لا يدري ماذا يصنع، فظهرت بشريته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿
هكذا أمره الله عز وجل أن يقول:
﴿
أنا مثلكم، لا أعلم، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم، وهناك فرق كبير بين المخلوق والخالق
﴿ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) ﴾
من أساليب المنافقين: الأسلوب الالتفافي:
إنّ النبي عليه الصلاة والسلام وقف موقف الحليم، موقف المتبصر، هو يعلم طهارة زوجته، يعلمها قطعاً، ولكن كيف يقنع الناس بهذا؟ كيف يقول لهم: ليس للخبر أصل من الصحة؟ قال على المنبر:
(( يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَن يَعْذِرُنِي مِن رَجُلٍ قدْ بَلَغَ أَذَاهُ في أَهْلِ بَيْتي فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ علَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا. ))
ومع ذلك انتشر اللغط في أنحاء المدينة، لكن الله سبحانه وتعالى وضع حداً فاصلاً لهذا اللَّغَط، إذاً هذا الذي وقع خير، ظهرت براءتها، وعفتها، وطهارتها، وظهرت براءة هذا الصحابي الجليل الذي كان كله حياء، حينما لمح أم المؤمنين ابتعد عنها، وقال لها يا أماه، وأناخ لها الناقة، وأركبها، وأوصلها إلى مكان مستقرها، فماذا فعل هذا الصحابي الجليل؟ وظهرت عداوة المنافقين، وظهر خبثهم، وظهر لؤمهم، وظهر حقدهم، بل إن المنافقين حينما عجزوا أن يواجهوا الحق التفوا عليه بهذا الحديث الباطل، إن الذي يتحدث حديثاً مغلوطاً فيه اتهام، وافتآت وبهتان عن إنسان عظيم إنه بهذا يعبر عن عجزه عن مواجهة الحجة بالحجة، حينما عجزوا عن رد هذا الحق الناصع لجؤوا إلى أسلوب التفافي، وهو الحديث في السيدة عائشة رضي الله عنها، لذلك:
حادثة الإفك امتحان وفرزٌ:
ثمة قصة تُروَى؛ أن رجلاً كان يبيع زعتراً برياً، وينادي عليه، فسمع آخر ما أعظم بِرِّي، فذابت روحه في محبة الله، وغيره سمع انظر ترَ بِرِّي، وثالث سمع زعتر بري، فأحياناً كلمة واحدة يفهمها كل واحد على هواه، على ما في نفسه، فالحادث أحياناً البريء يبرِّئ، والعفيف يظن العفاف، والمستقيم يظن الاستقامة، والخبيث يظن الخبث، واللئيم يظن اللؤم، فكأن هذا الحديث محّص من كان مع النبي عليه الصلاة والسلام، فالمنافقون سقطوا، والمؤمنون نجحوا في الامتحان، تجد مثلاً في الصف خمسين طالباً كلهم يلبسون لباساً موحداُ، ويجلسون جلسة نظامية، من هو المتفوق؟ من الكسول؟ من الذي يملك محاكمة قوية؟ الله أعلم، من الذي يملك ذاكرة قوية؟ من الذي سينجح؟ تأتي مذاكرة واحدة، يُطرح سؤال، تُوزع الأوراق..... 5 من عشرين، 3 من عشرين، 0 من عشرين، عشرين من عشرين، اختلف الأمر، فهذا الامتحان، وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان، فهذا حديث الإفك امتحان لقول الله عز وجل:
﴿
وهذا الامتحان في كل زمان ومكان، المؤمنون كلهم مؤمنون، حادث واحد يفرزهم إلى مؤمنين من الدرجة الأولى، مؤمنين من الدرجة الثانية، أقل إيماناً، إلى منافقين، إلى كفار، في معركة الخندق قال ربنا عز وجل:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾
أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، غير قادر على أن يبول، ويعدكم محمد، هكذا يقولون أن تفتح عليكم بلاد قيصر وكسرى، ظهر نفاقه وظهر كفره وظهر كفره بالدعوة.
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
لذلك:
التحذير من مشاركة العاصي في معصيته:
تُروى قصة لها هدف رمزي؛ أن حريقاً كبيراً شب في مكان ما، وأنه لو اجتمع ألف إنسان ليس في إمكانهم أن يطفئوه، تأتي الضفدعة فتملأ فمها ماء محاولة إطفاء هذا الحريق، ويأتي حيوان آخر فينفخ فيه ليزيد إضرامه، لا هذا أطفأه، ولا ذاك أشعله، ولكن هذا ظهر خيره، وهذا ظهر شره، هذه مواقف، وقع حدث أنت لم تسهم في فعله، بل أثنيت، لذلك عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ عَنِ الْعُرْسِ ابْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا، وَقَالَ مَرَّةً: أَنْكَرَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا. ))
لو وقعت معصية أمامك، وأنكرتها كنت كمن لو غبت عنها،
(( الذَّنْبُ شُؤْمُ عَلَى فَاعِلِهِ؛ إِنْ عَيَّرَهُ ابْتُلِيَ بِهِ، وَإِنِ اغْتَابَهُ أَثِمَ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ شَارَكَهُ ))
فإذا كان لك صاحب اقترف ذنباً، فإذا رضيته شاركته في الإثم، فإن ذكرته فقد اغتبته، إن عيرته ابتليت به، وإن رضيته شاركته في الإثم، وإن ذكرته فقد اغتبته، فإذا كان لك صديق أخ مؤمن وقع في خطيئة، وقع في ذنب فأنت بين أن تكون مغتاباً، وبين أن تكون شامتاً، وبين أن تكون راضياً، فإن كنت راضياً فأنت شريكه، وإن كنت شامتاً فلابد أن تقع فيه، وإن كنت ذاكراً لهذا الذنب فقد اغتبته، لذلك فالذنب شؤم على غير صاحبه، هذا الحديث؛ حديث الإفك يتكرر، ولا يخلو مجتمع، ولا مدينة، ولا قرية، ولا مجتمع، ولا فئة دينية، ولا جماعة دينية من قيلٍ وقال، وأخذ ورد، وفلان فعل، وفلان لم يفعل، فلان كيف فعل هذا؟ فهذا الحديث هناك من يصدق، وهناك من يكذب، هناك من يحسن الظن، وهناك من يسيء الظن، هناك من ينجح، وهناك من يرسب، هناك من يرقى، وهناك من يسفل بهذا الحديث، لذلك الحديث تمحيص
لذلك تأتي بعض الروايات لتبين أن الذي تولى كِبرَ هذا الحديث هو عبد الله بن أبي سلول، رئيس المنافقين، فحينما سمع أن الصحابي صفوان بن المعطل السلمي جاء بالسيدة عائشة على بعيره قال كلمته الشهيرة: لم تنجُ منه، ولم ينج منها، فروّج هذا الخبر، لذلك:
﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)﴾
دعوة إلى حسن الظن وإنكار التهمة عن المسلم:
هذه الآية دقيقة جداً، من معانيها أن
معنى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا
المعنى الأول: هل تفعل هذا أيها الصحابي ؟
أنت أيها الصحابي هل تفعل هذا؟ لا والله، فصفوان أفضل منك، فإن كنت أنت لا تفعل هذا فهو لا يفعل أيضاً، وأنتِ أيتها الصحابية هل تخونين النبي، لو أنك زوجته؟ لا والله، لا أخونه، إذاً السيدة عائشة أفضل منك، فإن كنت أنت لا تفعلين وزوجك لا يفعل، أفيُعقل أن يفعل صفوان هذا وعائشة الزوج الطاهرة أن تفعل هذا؟.
فربنا عز وجل يحضنا على أننا إذا سمعنا مثل هذه الأحاديث أن نظن بأنفسنا خيراً، فإذا كنت أنت لا تفعله فصفوان يفعله؟ هذا قياس رائع جداً، إذا كنت أنت على تواضعك، وعلى إيمانك المتواضع لا تفعل هذا، فهل يفعله صفوان؟ وفي بعض الروايات تروي، وهي روايات باطلة، وغير صحيحة، والنبي عليه الصلاة والسلام منها بريء، أنه كان يسير في طريق فرأى باباً موارباً، أي مفتوحاً، ورأى خلفه امرأة تغتسل، هي السيدة زينب، فقال: سبحان الله فوقعت في نفسه، نقول نحن للمؤمن العادي الذي جاء آخر الزمان، ولا يبلغ إيمانه مثقال ذرة من آخر صحابي جليل: يا أيها الأخ الكريم؛ أتفعل أنت هذا؟ إذا رأيت باباً مفتوحاً، أتنظر إليه أم تغض البصر؟ إن كنت أنت لا تفعل فهذا، فالنبي أعظم، وأسمى من أن يفعل هذا، وهذه قصة مختلقة، لذلك:
المعنى الثاني: قيسوا ذلك على أنفسكم
(( تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى منه عُضْو تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. ))
إذا تحدثت عن أخيك فهو أخوك، فكأنما تتحدث عن نفسك، وفي آية مشابهة لهذه الآية يقول تعالى:
﴿
لم يقل الله تعالى: ولا تأكلوا أموال إخوانكم، بل قال:
في القرآن الكريم لفتات رائعة جدا، فالمعنى الثاني أن المؤمن إذا تحدث عن أخيه المؤمن بالسوء فكأنما يتحدث عن نفسه، لذلك قالوا: من أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه، وكأنك تطعن في هذا الدين، هذا أخوك صائم، مصلّ، مستقيم، فإذا تحدثت عنه بالسوء فالحديث عن الدين بالسوء، إذا كان هذا شأن المسلم فاقرأ على الدنيا السلام، لذلك الحديث عن المؤمنين حديث خطير، وإن الله يدافع عن الذين آمنوا:
(( مَن آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالْحَرْبِ. ))
فلا تجعل همك تجريح الناس، فتضعضع ثفتهم بالدين، وتضعضع ثقتهم بأهل الحق، لا تجعل همك تتبع عورات الآخرين، ومن تتبع عورات الآخرين فضحه الله في عقر داره.
(( يا مَعْشَرَ مَن آمن بلسانِه ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمينَ، ولا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِم، فإنه مَن تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيه المسلمِ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَه، يَفْضَحْهُ ولو في جوفِ بيتِه. ))
قاعدة جليلة: إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدَّعيًّا فالدليل:
عندنا قاعدة؛ هذه القاعدة لو طبقها المسلمون لسعدوا وأسعدوا، إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مبتدعاً فالدليل، إذا نقلت خبراً توخى الصحة، من قال لك هذا الخبر؟ هل سمعه هو بأذنه؟ لا سمعه من إنسان، وهذا الإنسان ممن سمعه؟ من إنسان آخر، وفي النهاية فكرة، أو خاطر خطر لفلان، نقله إلى أخيه على أنه وقع من إنسان لإنسان لإنسان، فصار الخبر قطعياً، وهو خبر موهوم، لذلك "إذا كنت ناقلا فالصحة، وإذا كنت مبتدعاً فالدليل"، إن جئت بشيء جديد أين الدليل؟ لابد من دليل عقلي، ولابد من دليل نقلي، ولابد من دليل واقعي، إذا أردت أن تقول: أنا رأيي كذا، وكذا فلا بأس، لكن ما لدليل ؟ لا نقبل من دون دليل، ولا نرفض من دون دليل، لا نقبل قصة من دون صحة، ومن دون التأكد من صحة راويها لذلك:
﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً
هل هناك شهداء أربعة رأوا بأم أعينهم هذه الخيانة.
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنَدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) ﴾
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
عملية كبيرة، فأنت حينما تنقل هذا الخبر تشكك بهذا النبي العظيم، أهكذا زوجته؟ أنت حينما تروج لهذا الخبر تشكك بهذا الدين، وتشكك بالوحي كله، لذلك فهذا الذي جاءت به هذه العصبة إفك مبين، وعمل كبير، وبهتان عظيم، ولولا رحمة الله عز وجل بأنه جعل حد القذف حداً لمن يتجاوز حرمة الآخرين لأهلك الله سبحانه وتعالى كل من روج هذا الخبر، لكن ربنا عز وجل يمهل، ولا يأخذ بالذنب الواحد.
﴿
وجوب التأكد من الأخبار قبل نقلها: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
التلقي يجب أن يكون بالقلب، تلقيت هذا الخبر فتريث، ادرسه، وازن، حلل، قِس، اسأل، تحقق:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6)﴾
تأكد يا أخي، واسأل، وأعظِمْ بذاك الحديث المروي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. ))
كفى بالمرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع، أيْ يكفيك إثماً، ويكفيك كذباً أن تنقل للناس كل ما سمعته، لأن هذا الذي سمعته يحتاج إلى تمحيص، إلى تدقيق، وإلى تحقيق، وإلى تنسيق، وإلى حذف، ويحتاج إلى مقص تقص منه كل كذب، أما الذي يسمع، ويروي ما يسمع دون تمحيص فهذا إنسان عند النبي عليه الصلاة والسلام كذاب، وعند النبي عليه الصلاة والسلام آثم.
فلا تشهد إلا على مثل الشمس في كبد السماء، إذا كان الشيء كالشمس واضحاً فاشهد عليه.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.