- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (024)سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة النور، في الدرس الماضي تم بفضل الله عز وجل شرح بعض المعاني من الآية الكريمة:
﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)﴾
وآية اليوم:
﴿ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)﴾
الحكمة من ورود الزاني قبل الزانية في هذه الآية:
الشيء الذي يلفت النظر أن الله سبحانه وتعالى بدأ في هذه الآية:
قال بعض العلماء: إن الزانية في الآية الأولى قُدِّمت على الزاني لأنها الأصل في عملية الزنى، فهي التي أظهرت مفاتنها، وهي التي قالت له: هيت لك، وهي التي كانت السبب في الزنى، ولكن جاء الزاني في الآية الثانية مُقدماً على الزانية لأن الرجل في عقد النكاح هو الأصل، وهو الذي يطلب، إذا حملنا كلمة لا ينكح بمعنى عقد الزواج، ففي القرآن الكريم وردت كلمة النكاح بمعنى عقد الزواج، وقد ذكر بعض العلماء أن كلمة النكاح تعني عملية اللقاء، فلذلك الزاني هنا قُدِّم على الزانية لأنه إذا كان النكاح هو عقد الزواج فالرجل فهو الأصل، فهو الذي يطلب، لذلك قُدِّم الزاني على الزانية.
شيء آخر:
الكلام البلاغي خبرٌ وإنشاء:
من أجل أن يكون التفسير واضحاً لابد من وقفة بلاغية، فالكلام عند علماء البلاغة خبر وإنشاء.
1 – الإنشاء:
الإنشاء هو الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والترجي، والحض، والنداء، هذه الأساليب تسمى أساليب الإنشاء، لأن هذا الكلام لا يحتمل الكذب أو الصدق، مثلا لو أنك سألت إنساناً: كم الساعة؟ هل له أن يقول لك أنت كاذب؟ لا يمكن أن يقال للسائل: كاذب، ولا للمستفهِم، ولا للذي يأمر، ولا للذي ينهى.
2 – الخبر:
أما إذا قلت: أنا عندي مئة ألف ليرة فهذا خبر، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فربنا عز وجل أحيانا يأتي بالكلام على صيغة الخبر، وهو يريد النهي.
هذا المعنى دقيق يُوضَّح بمثل مُنتزَع من حياتنا اليومية: لو أن أباً قال لابنه لا تأتِ بعد الساعة العاشرة، إنه ينهاه عن أن يأتي بعد هذه الساعة المتأخرة، فهذا نهي، ولكن النهي يفيد أنه بإمكان هذا الولد أن يأتي قبل الساعة العاشرة، أو بعد الساعة العاشرة، فالنهي يحتمل تصوُّر وجود المنهي.
إذا قال المدير لموظفيه: لا تتأخروا، معنى ذلك أن التأخر واقع منهم، إنه من الممكن أن يتأخروا، فنهاهم عن التأخر، فالنهي من لوازمه أنه يفيد احتمال وقوع المنهي، فإذا قلت لإنسان: لا تأكل كثيراً، معنى ذلك أن من عادته أن يأكل كثيراً، فهذا الأب الذي قال لابنه: لا تأتِ بعد الساعة العاشرة، فهو ينهاه أن يأتي بعد هذه الساعة، لأن احتمال مجيئه بعد هذه الساعة قائم، أما إذا قال الأب لابنه: أنا ليس عندي أحد يأتي بعد الساعة العاشرة، فهذا الكلام خبر، ولكن هذا الكلام الخبري صيغ على طريقة تفيد النهي، ولكن لا يلزم من هذا الكلام أن هناك احتمال أن يأتي هذا الابن متأخراً، فربنا عز وجل أحيانا يسوق النهي على شكل خبر، مثلاً قوله عليه الصلاة والسلام:
(( لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ولا عَلَى خَالَتِهَا. ))
فهذا خبر يفيد النهي، وقوله صلى الله عليه وسلم:
(( لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً ))
وهذا خبر يفيد النهي أيضًا.
أهمية معرفة الخبر والإنشاء في فهم آيات الله:
وهذا الموضوع؛ أن تعرف أن الكلام خبر وإنشاء مهم جداً في فهم آيات الله، الإنشاء هو: الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والترجي، والحض، هذه كلها أساليب الإنشاء، وما عداها فهي أساليب الخبر، فربنا عز وجل قال:
﴿
فهذا إنشاء، لأن فيه نهي.
فقوله:
تفسير الآية ومعانيها:
فهذه الآية لها عدة معان، وقد اختلف العلماء في تفسيرها.
التفسير الأول: خبرٌ للمبالغة:
بعضهم قال: هذا نهي جاء على شكل الخبر للمبالغة، وكأن الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نعقد زواجاً بين زانٍ وبين عفيفة، أو بين زانية وعفيف، وكأن الله سبحانه وتعالى نهانا بهذه الآية عن أن نعقد نكاحاً بين رجل مؤمن عفيف وبين زانية، أو مَن هي أسوأ حالاً منها، وهي المشركة، ونهانا أن نعقد زواجاً بين امرأة مسلمة عفيفة، وبين زانٍ، أو من هو أقبح حالاً منه، وهو المشرك، فالمعنى الأول المستفاد من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ينهانا عن أن نعقد زواجاً بين مسلم عفيف، وبين زانية مشركة، فهذا الزواج باطل، لذلك هذا موضوع خلافي بين الفقهاء، والحديث عنه يطول، ويرجع إليه من شاء ذلك إلى كتب الفقه، بل إلى كتب الفروع، هذا هو المعنى الأول.
يؤكد هذا المعنى قراءة وردت على لسان بعض الصحابة: الزَّانِي لاَ يَنكِحْ: بجزم ينكحْ، فإذا كانت على الجزم جاءت (لا ) ناهية، بمعنى النهي، لكن قراءة حفص عن عاصم:
التفسير الثاني: خبرٌ للتقبيح:
عندنا معنى آخر لهذه الآية، وهو أنها خبر، كما قلت قبل قليل، ولكن يفيد التقبيح، أيْ ليس من المستحسن، وليس من اللياقة أن ينكح الزاني عفيفة، وليس من المعقول أن تنكح الزانية عفيفاً، فهذا خبر ساقه الله عز وجل على سبيل تقبيح هذا الفعل، لا على سبيل التحريم.
الحقيقة أن الحياة الواقعية فيها أمثلة كثيرة، الشيء الثابت أنه قد يتزوج الزاني امرأة عفيفة، وقد تتزوج الزانية شاباً عفيفاً.
التفسير الثالث: على معنى ( ينبغي ):
هذا التحريم محمول بالمعنى الثالث على أنه " ينبغي"، فمثلاً ربنا سبحانه وتعالى قال:
﴿
فإذا فهمت هذه الآية على أن هذا الشيء واقع مائة بالمائة فقد تُفاجَأ بامرأة طاهرة زوجها غير طاهر وقد تُفاجَأ بإنسان طيّب وله زوجة غير طيبة، الواقع على عكس ذلك، فلما قال ربنا عز وجل:
ولو أنك قلت للناس: قال الله تعالى:
مثلاً: قال الله تعالى في البيت الحرام:
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ
أي هذا البيت الحرام لا يمكن أن تقع فيه مشكلة، فلما وقعت مشكلة قبل سنوات شكك بعضهم في كتاب الله، هذه الآية معناها: يا عبادي اجعلوا هذا البيت آمنا، هذا خبر ساقه الله بمعنى ينبغي، أيْ ينبغي أن يكون آمناً، واجعلوه آمناً، هذا فهم دقيق لقوله تعالى:
وقوله سبحانه:
أول معنى على التحريم؛ خبر جرى مجرى التحريم.
والمعنى الثاني خبر جرى مجرى التقبيح.
وخبر يعد كالخبر الحقيقي، تقول أحيانا: الشيخ لا يصبو، ليس من عادة الشيخ أن يصبو، أي أن يحب، والسلطان لا يكذب، ليس من عادة السلطان أن يكذب، فهذا خبر جاء محض خبر، من عادة الزاني أنه لا يطرب إلا للزانية، ومن عادة الزانية أنها لا ترضى إلا بالزاني، هنا جاء الخبر على معناه الحقيقي.
في المعنى الأول جاء الخبر على معنى التحريم، وهو موضوع خلافي بين الفقهاء.
في المعنى الثاني جاء الخبر على معنى التقبيح.
وفي المعنى الثالث جاء الخبر ليخبرنا أنه في الأعم الأغلب الزاني لا ترتاح نفسه إلاّ للزانية، لا ينسجم إلا مع الزانية، والزانية لا تقبل إلا بالزاني.
هذه المعاني المنوعة في هذه الآية تفيد التحريم أحياناً، وتفيد التقبيح أحياناً، وتفيد تقرير عادة في المجتمع أحياناً أخرى، وتفيد الإخبار بشكله الطبيعي.
وَحُرِّمَ ذَلَكَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ
الإيمان مرتبة علمية:
بنية المؤمن بنية عالية الإيمان مرتبة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، لو اتخذه لعلّمه، فالمؤمن مستقيم على أمر الله، وكفاك بالاستقامة علماً، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
(( كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهلا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ ))
فالإيمان مرتبة علمية لا يمكن لإنسان مستقيم إلا أن يكون على شيء من العلم، عرف أن له رباً سيحاسبه، عرف أن هذا يجوز، وهذا لا يجوز، هذا حق، وهذا باطل، هذا خير، وهذا شر، هذا سأحاسب عليه، وهذا لا أحاسب عليه، هذا مباح، هذا فرض، هذا حرام، هذه سنة مؤكدة، غير مؤكدة، مستحب، مكروه كراهة تنزيهية، كراهة تحريمية، فهذا المستقيم على أمر الله على جانب من العلم قطعاً، فالإيمان مرتبة علمية، أو لقب علمي، وفي الوقت نفسه مرتبة أخلاقية، فإذا قلت: مؤمن؛ معناها أخلاقي أيْ مؤمن صادق، مؤمن مستقيم، مؤمن منصف، مؤمن لطيف، فالإيمان مرتبة أخلاقية، ومرتبة جمالية، المؤمن له أذواق، وله سعادة، لا يعرفها إلا من ذاقها، لأن ربنا عز وجل يتجلى على قلبه تجليات الرحمة، فقلبه مفعم برحمات الله عز وجل، لذلك فهذه الآية تفيد أنه لا ينبغي أن يقترن الزاني إلا بالزانية، أما أن يتزوج الزاني العفيفة، أو أن تتزوج العفيفة بالزاني، فهذا من بعض المعاني مُحرَّم، ومن بعض المعاني غير مقبول ذوقاً، ومن بعض المعاني لا يقع في العادة.
آية القذف: حِكمتُها وأحكامها:
الآن عندنا آية سماها العلماء آية القذف، كيف لو أنك أمسكت بحجر كبير، وقذفت به إنساناً على رأسه، فأرديته قتيلاً، فالذي يتهم امرأة عفيفة مسلمة بالزنى كأنه رماها بحجر فهشّم رأسها، لأن المرأة أثمن ما تملكه سمعتها، وعرضها، فإذا رميتها بالزنى فكأنك رميتها بحجر أصاب منها مقتلاً، لذلك لو أن الشرع تساهل في أمر القذف لصارت أعراض الناس كالكلأ، ترعاه البهائم، فكل إنسان متهم في عرضه، وكل امرأة متهمة، فالإنسان يشك أحياناً، فهناك حالات لو أن إنساناً افترى على امرأة مسلمة عفيفة، واتهمها بالزنى، وتناقل الناس هذا الخبر حتى وصل إلى ذويها، وكان في أهلها أناس منفعلون، لهم انفعال شديد، ربما أقدموا على قتلها، وهي بريئة، فدرءاً لهذه الفتن، ودرءاً لهذه السمعة السيئة، ودرءاً لهذا التشكيك في أعراض الناس، ودرءاً لهذا الخراب في البيوت، ودرءاً لهذا الإرجاف في المدينة، درءاً لهذا كله شرع الله سبحانه وتعالى حد القذف، فقال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4)﴾
معنى الرمي:
الرمي في أصل اللغة: القذف بشيء صُلب، سياق الآيات، ربنا عز وجل حكيم في نظمه حكيم، فلم يقل: والذين يرمون المحصنات بالزنى، لأن سياق الآيات عن الزنى:
تعريف المحصَنة:
المحصنات هذه الصفة مشتقة من الإحصان، والإحصان هو المنع، والمُحصَن بالفتح هي المرأة أو الرجل الذي يمتنع عن الزنى لعفته، ولعلمه، ولشرفه، ولعقله.
1 – الإحصان بالعفاف:
قال العلماء: الإحصان بأربعة أشياء: الإحصان بالعفاف، فالعفة إحصان.
2 – الإحصان بالإسلام:
هناك إحصان بالإسلام، فالمسلم محصن.
3 – الإحصان بالحرية:
هناك إحصان بالحرية.
4 – الإحصان بالتزويج:
وهناك إحصان بالتزويج، فالمتزوج محصن، والمسلم محصن، والعفيف محصن.
معنى الإحصان في الآية:
لكن هنا الإحصان يغلب عليه معنى العفة من أن يزني، فربنا سبحانه وتعالى قال:
(( إنّ قَذَفَ مُحْصَنَةً يَهْدِمُ عَمَلَ ثَمَانِينَ سَنَةٍ ))
صور القذف:
والآية تنص على أن الذي يرمي امرأة، الرامي رجل، والمرمي امرأة، لكن العلماء قالوا: هذه الآية تتسع لأربع صور:
قد يرمي رجل امرأة بالزنى، وقد ترمي امرأة رجلاً بالزنى، وقد يرمي رجل رجلاً بالزنى، وقد ترمي امرأةٌ امرأةً بالزنى، فكل هذه الحالات تنطبق عليها هذه الآية، فلو أن امرأة اتهمت رجلاً بالزنى لأُقيم عليها الحد، وجُلدت ثمانين جلدة، ولو أن امرأة اتهمت امرأة أخرى بالزنى لجُلدت ثمانين جلدة، ولو أن رجلاً اتهم آخر بالزنى لجُلد ثمانين جلدة، فموضوع القذف يشمل كل الحالات: امرأة رجل، رجل امرأة، امرأة امْرأة، رَجل رجل.
لكن لو أن إنسانا فاجراً من عادته أن يزني، وهو لا يتورع عن الزنى، بل لا يتورع أن يخفي ذلك عن الناس، ورميتَه بالزنى فلا حد عليك.
متى يجب حدُّ القذفِ ؟
الحكمةُ مِن شهادة الرجل دون المرأة في الحدود:
أولاً: ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ
لأن هذا الحد خطير قد يكون هناك رجم، قد يكون هناك جلد، فيه فضيحة، فيه تشهير، لابد من أن يكون أولاً أربعة شهود، في بعض الحالات يكفي شاهد واحد، هذا موضوع الشهادة موضوع طويل في الفقه، هناك حالات بالتعامل يكفي شاهد واحد، وفي حالات لابد من شاهدين، لكن في حالة الحدود لابد من أربعة شهداء، وأن يكونوا حصراً من الرجال، الآن مَن قذف ذِمِّية - غير مسلمة - بالزنى، ولها ولد مسلم يقام عليه حد القذف مراعاة لابنها المسلم، لأن هذا الذي يرمي ذمية بالزنى سبّب العار لابنها، ومن قذف ذمية لها زوج مسلم يقام عليه الحد مراعاة لزوجها، فهناك دقة بالغة في الأحكام الشرعية.
الشروط الواجب توفرها في الشهود:
البلوغ والعقل والاختيار والعدالة والعلم بالتحريم
وفي الدرس قبل الماضي ذكرت لكم كيف أن امرأة كانت تغسل امرأةً ميتة، وفجأة التصقت يدها في جسدها، حيث استحال أن تُنزَع هذه اليد عن هذا الجسد، وحار أهل الميت؛ أيقطعون جزءاً من لحمها، أم يقطعون يد المغسِّلة، وقالوا كما هو معروف: لا يُفتى ومالك في المدينة، عرضوا على الإمام مالك هذه الواقعة فقال: هذه المُغسِّلة اتهمت المرأة الميت بالزنى، ولذلك اجلدوها ثمانين جلدة، ويروى أنه مع الضربة الثمانين نُزعت يدها من جسد الميتة، فالإمام الغزالي في الإحياء يقول: " هناك غيبة القلب"، فالإنسان لو لم ينطق بلسانه فهناك حالات إذا حدثته نفسه بكذا باطلاً، وظلماً فلابد أن يُعاقب، لأنه من أحسن الظن بأخيه فكأنما أحسن الظن بربه، ومن حق المسلم على المسلم أن يصون دمه، وماله، وألَّا يقع فيه بغير بينة، فهؤلاء الشهود يجب أن يكونوا من أهل الشهادة، وتعلمون أن رواية الحديث علمتنا علماً دقيقاً، هو أنه لا يصح لإنسان أن يروي الحديث الشريف ما لم يكن عدلاً، وثقة، الثفة والعدل، العدل والأهلية، العدالة صفة نفسية، تعني أنه لا يكذب، والدقة، والثقة، والضبط صفة عقلية، فمن أجل أن تروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن تتأكد من أن هذا الإنسان يتمتع بالعدالة، وبالضبط.
اختلاف الأئمة في شرط العدالة:
أما موضوع الشهادة بين الناس في أحوال الناس ومعايشهم فقال العلماء: " يكفي أن يكون هؤلاء من أهل الشهادة"، ومن هم أهل الشهادة ؟ بعضهم قال: هم أهل العدالة، أيْ إنسان لا يكذب، إنسان ما جُرّب عليه كذب قط، ما جربت عليه خيانة، ما جرب عليه انحراف، هؤلاء أهل الشهادة، ولكن أن يكون الشهود من أهل العدالة، أو لا يكونون، فهذا موضوع خلافي بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي، فإذا جئت بأربعة شهود شهدوا أن هذه المرأة زانية، فهؤلاء الشهود ينبغي عند الإمام الشافعي أن يكونوا من أهل العدالة، مستقيمين، لكن الإمام أبا حنيفة لم يشترط أن يكونوا من أهل العدالة، لأنه يصعب ذلك، فلو فرضنا أننا نريد أن نحاسب الناس حساباً دقيقاً جداً لتعطلت الشهادة في العالم الإسلامي، هذا رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
ما يترتب على القذف:
1 - سقوط شهادة الشهود:
2 - دَمغُهم بالفسق:
هل ينصرف الاستثناء إلى الأقسام الثلاثة ؟
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)﴾
هذه الآية فيها دقة بلاغية، وهي أن الاستثناء هل ينصرف إلى الأقسام الثلاثة، فإذا قذف الإنسانُ امرأة محصنة، ثم تاب هل يُعفى من إقامة الحد؟
الجواب: لا! لماذا؟ لأن الحقوق في المجتمع الإسلامي نوعان؛ حق الأفراد، وحق الله عز وجل فلو أن المقذوف عفا، وقال: أنا عفوت عنك، لقد قذفت زوجتي، والزوجة عفت فهل عفو الزوجة يمنع إقامة الحد؟
الجواب: لا! هذا حق الله عز وجل، وليس حق المقذوفة، بل هو حق الله، فلو أن المقذوفة ماتت قبل أن يقام على المقذوف الحد هل يعفى من الحد؟ لا! في النظام الغربي جريمة الزنى لا يمكن أن تُحرَّك بها قضية في القضاء إلا بطلب من الزوج، أو من المزني بها، فلو أن الزوج أسقط حقه في المرافعة، ولو أن المرأة أسقطت حقها، لا تُحرَّك دعوى ضد الزاني أبداً، أما في الإسلام فهناك حق الله عز وجل، فعفو المقذوفة لا يعفي القاذف من حد القذف.
إذًا:
متى تُقبَل شهادة القاذف بعد توبته ؟
1 – الاعتراف بافتراء التهمة:
إن الذي يقذف امرأة محصنة لا يستعيد اعتباره الإسلامي في المجتمع الإسلامي إلا بعد أن يعترف بأنه كاذب بهذه التهمة، للذين قال أمامهم جميعاً، يجب أن يعترف أنه كان كاذباً في هذا الموضوع، إذا قال القاذف: إنه كان كاذباً، وإن هذه المرأة التي اتهمها بالزنى هي امرأة بريئة عفيفة حَصان.
2 – مُضيّ عام لإثبات صلاحه:
ويجب أن يمضي عليه عام حتى يثبت صلاحه، بعدئذ تُقبَل شهادته، ولا تُقبَل شهادة القاذف إلا بعد أمرين؛ أن يعترف بأنه كاذب، وأن يصرّح بأن هذه المرأة التي اتهمها بالزنى امرأة عفيفة، وأن يمضي عام بأكمله يثبت للناس صلاحه، عندئذ يسترد حقه في الإدلاء بالشهادة تطبيقاً لهذه الآية:
أما أن ينسحب الاستثناء على الآية القسم الأخير:
لو أنه تاب إلى الله توبة نصوحاً فلا بد أن يقوم عليه حد الجلد، أو حد القذف، لأن هذا حق الله عز وجل، على كلٍّ العلماء انقسموا حول هذه الآية قسمين: بعضهم غلّب حق الله على حق العبد المقذوف، وبعضهم غلّب حق المقذوف على حق الله، لكن الذين غلّبوا حق الله على حق العبد المقذوف كانوا أقرب إلى الحقيقة، لأن الله سبحانه وتعالى ولي الذين آمنوا، فهذا المقذوف عفا أم لم يعفُ فلابد أن يقام عليه الحد، فالإنسان دقيق، فالناس أحياناً في سهراتهم ونزهاتهم ولقاءاتهم يتحدثون عن فلانة، وعن علّانة، فلو كان الإنسان سيُحاسب حساباً دقيقاً وفق هذه الآية يجب أن يُجلد معظم الناس، كيف تخوض في أعراض النساء، كيف تتهم فلانة أنها زانية، كيف تشير بإصبعيك، كيف تنفض ثوبك وتقول: لا أدري، هذا قذف أساساً، القذف ليس باللسان فقط، باللسان، وبالحركة، وبالإشارة، وبالعبارة.
جلد الشهود عند عدم استكمال الأربعة:
لو أن هذا القاذف تمكّن أن يحضر ثلاثة شهود على أن هذه المرأة زانية يقام عليه الحد، ويجلد الشهود على أنهم قاذفون أيضاً، فيجب أن يكونوا أربعة، فإذا كانوا ثلاثة يُجلَدون كلهم، فهذا كان شاهداً، فلما لم يستكمل النصاب أصبح قاذفاً، ويُقام عليه حد الجلد صوناً لحق المرأة العفيفة.
ثلاثة شهود جاؤوا ليدلوا بشهادتهم، إذا هم يُبطَحون على الأرض، ويُجلدون، لأن الرابع لم يأتِ معهم.
إقامة الحدود منوطة بالسلطان حصرًا:
أما كلمة:
الذي يهمنا من هذه الآية أن المجتمع الإسلامي يجب أن يكون نظيفاً، بل يجب أن تكون الثقة شائعة فيه، فلو سمحنا للناس أن يتهم بعضهم بعضاً من دون قيد أو شرط لأصبح الشك هو الأصل، نحن عندنا قاعدة أساسية: الإنسان بريء ما لم يُتَّهم، فالأصل أن الإنسان بريء، والأصل أن الإنسان عفيف، وأن الإنسان طاهر، وأنه مستقيم، فإذا أردت أن تتهمه فيجب أن تقيم على ذلك الدليل القطعي، وإلا فهناك عقاب وبيل، فهذه الآية تردع الناس عن أن يلغطوا في أعراض المسلمين والمسلمات، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
لكن ثمة حالات سوف نراها في الدرس القادم، زوج فاجأ زوجته وهي في موضع الزنى، فهل عليه أنْ يُحضر أربعة شهداء؟! هذا مستحيل، لذلك عندنا آية اسمها آية الملاعنة، هذه نشرحها إن شاء الله تعالى في الدرس القادم.
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9)﴾
تحريم رواية أخبار اللقاءات وقصص الخلاعة:
بقيت نقطة واحدة، وهي أن الإسلام من خلال هذه الآية حرّم قذف المحصنات توصلاً إلى تحريم رواية أخبار اللقاءات، والزنى، وما شاكل ذلك، هذه الأخبار من شأنها إذا شاعت بين الناس أن تشجع الناس على الزنى، فرواية الأخبار في البلاد الأجنبية هذه الموضوعات تُطرَق في وسائل الإعلام، في الصحف، في المجلات كثيراً، إلى أن يظن الإنسان أن هذا شيْء مألوف، فنقل هذه الأخبار ليس من آداب المسلم، وترويجُ قصة إذا كان بالحارة، وسمع بقضية زنى، بقضية لا أخلاقية، ولو كان بشكل صحيح، بشكل غير مبالغ به، هذا يلفت نظر الشاب أحياناً، يُدخِل في روعه أن الناس هكذا، أن هذا الشيء مباح، فلئلا تكون هذه القصص منتشرة ورائجة في المجتمع الإسلامي جُعل حد القذف، غير أنه صونًا للأعراض وللأنساب، ودفعاً للشك، والرَّيب، وصونًا للدماء من أن تُهدَر ظلماً، عندنا شيء ثانٍ؛ هذا الموضوع لا ينبغي أن يروج بين الناس، موضوع العلاقات الزوجية، موضوع فلان وفلانة، فلان دخل بيتاً، كان في خلوة مع فلانة، فمثل هذه الكلمات من شأنها أن تثير العواطف، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عَنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ قَالَ:
(( كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً، إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا. ))
اختار كلمة بعيدة عن الإثارة
قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(7)﴾
فهذه الآية من فوائدها أنها تنهى عن الخوض في هذه الموضوعات كلياً، وإذا خاض الإنسان فيها ظلماً فلابد من حد القذف الذي يقترب من حد الزنى.
الملف مدقق