وضع داكن
27-04-2024
Logo
حياة المسلم 1- إذاعة حياة إف إم- الحلقة : 107 - هل الأخلاق تغني عن الدين ؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع :
  بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، يا ربنا صلِ وسلم وبارك على سيدنا ورسولنا محمد الصادق الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وأهلاً وسهلاً بكم مستمعينا الكرام في حلقة جديدة مع فضيلة العلامة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، مرحباً بكم أستاذنا وشيخنا .
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم ، ونفع بكم ، وأعلى قدركم .
المذيع :
 اللهم آمين ، وإياكم شيخنا الكريم .
 شيخنا الكريم نتحدث اليوم عن العبادات ، عن العبادات الشعائرية والتعاملية والفرق بينهما ، والدمج بينهما وقيمتها عند الله ، أبدأ بالحديث الذي رواه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه، عن أبي هريرة قال :

((قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال : لا خير فيها هي في النار ، قيل : فإن فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأثوار من إقط ولا تؤذي أحداً بلسانها ، قال : هي في الجنة))

[ أحمد عن أبي هريرة ]

 دكتورنا الكريم نوضح لو تفضلتم وتكرمتم للمستمعين الكرام معنى العبادة ، والفرق بين العبادة الشعائرية والتعاملية ؟

 

العبادة بأدق تعريفها خضوع الإنسان لمنهج الله :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
الحقيقة هناك مصطلح دقيق جداً أتمنى أن يكون واضحاً لدى الأخوة المسلمين : علة وجود الإنسان في الدنيا ، لو أرسل أب ابنه إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون ، باريس مدينة عملاقة فيها مطاعم ، فيها ملاهٍ ، فيها دور سينما ، فيها مسارح ، فيها ملاعب ، فيها حدائق ، فيها أسواق ، نقول هذا الطالب بهذه المدينة العملاقة علة وجوده فقط الدراسة ، قد يأكل بمطعم ، يزور حديقة ، يدخل لمكتبة ، يشتري كتاباً ، يدخل لمؤسسة ، لكن علة وجوده الأولى والأخيرة في هذه المدينة الدراسة .
 لو أردت أن أوسع هذا المثل على وجودنا في الدنيا ، الإنسان يشتري ، يبيع ، يتزوج ، يتاجر ، يسافر ، يقيم بمصيف ، يقيم في الصيف ببيت على البحر ، يغير سيارته ، أنشطة كثيرة ، لكن لو سألنا أنفسنا : ما علة وجودنا في الدنيا ؟ الذي خلقنا لماذا جاء بنا إلى الدنيا ؟ أنا إيماني الأساسي ، ومعي أدلة قطعية ، قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات : 56 ]

 أما العبادة كلمة واسعة جداً ، هي بأدق تعريفها خضوع هذا الكائن لمنهج الله ، الإله هو الصانع ، وبعبارة متداولة الآن اتباع تعليمات الصانع ، أنت أعقد آلة في الكون ، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع عظيم ، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة ، فأنت انطلاقاً من حرصك اللامحدود على سلامتك ، وعلى سعادتك ، وعلى استمرارك ينبغي أن تتبع تعليمات الصانع .
 أكاد أقول : هذا الشيء الطبيعي ، هذا الشيء موجود بكل إنسان ، مفطور فيه حب وجوده ، بل سلامة وجوده ، بل كمال وجوده ، بل استمرار وجوده ، واستمرار وجوده ، وكمال وجوده ، هذه منوطة باتباع تعليمات الصانع ، هذا أصل العبادة ، لك خالق عظيم خلقك للجنة ، وجاء بك إلى الدنيا كي تدفع ثمن الجنة .

 

الصلاة هي أصل العبادات كلها :

﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة النحل : 32]

هذه باء السبب ، فأنت جيء بك للدنيا كي تعرف الله أولاً ، وكي تعبده ثانياً ، وكي تتقرب إليه ثالثاً ، كي تستحق أن تمتلك مفتاح الجنة ، لا ثمن الجنة ، الجنة لا ثمن لها ، الثمن مفتاحها فقط ، العبادة هي طاعة طوعيةٌ ليست قصريةً ، الذي خلقنا حياتنا بيده ، صحتنا بيده ، موتنا بيده ، الغنى بيده ، الفقر بيده ، الصحة بيده ، المرض بيده ، ومع كل هذه الخصائص ما قبل أن نعبده إكراهاً ، قال :

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[ سورة البقرة : 256]

 بل أراد أن نعبده محبةً ، قال :

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

[ سورة المائدة : 54]

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

[ سورة البقرة : 165]

المذيع :
 الله يفتح عليكم يا دكتور ، دكتورنا العبادة لله سبحانه وتعالى لها أبوابٌ كثيرة مع تصالح العلماء على تسميته : مصطلح العبادة التعاملية والعبادة الشرعية ، هل لنا أن نوضح هذه المصطلحات لجمهورنا الكريم دكتور ؟
الدكتور راتب :
 الحقيقة أن الإنسان عندما يصلي عقد اتصالاً مع الله ، اشتق منه الكمال ، اشتق منه الأمن ، اشتق منه السكينة ، اشتق منه التوفيق ، اشتق منه النجاح ، هذه هي العبادة ، الصلاة هي أصل العبادات كلها ، لكن الصلاة ما لم نستقم على أمر الله لن نقطف من الصلاة شيئاً .

(( يؤتى برجال يوم القيامة لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثورا ، قيل يا رسول الله جلهم لنا ، قال : إنهم يصلون كما تصلون ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))

[ سنن ابن ماجه عن ثوبان ]

 ما لم نفهم الدين تعليمات الصانع التي تبدأ ، سامحني بهذه الكلمة ، من فراش الزوجية وتنتهي بالعلاقات الدولية ، لا أبالغ قد تكون خمسة آلاف بند ، كسب المال ، إنفاق المال ، اختيار الزوجة ، تربية الأولاد ، قضاء وقت الفراغ ، يوجد أنشطة لا تعد ولا تحصى ، فحينما يضبط الإنسان كل هذه الأنشطة وفق منهج الله ، ما أحوجنا إلى شيء ليس فيه معصية.

 

الله عز وجل خلقنا لجنتين جنة في الدنيا وجنة في الآخرة :

 ما من شهوة أودعت فينا إلا لها قناة نظيفة تسري خلالها ، الإنسان يحب الجمال والكمال والنوال ، فالجمال أنت تتصل مع أصل الجمال في الكون ، وقد تختار زوجة جميلة لا مانع ، هذا الجمال والكمال تحب الموقف الكامل ، الأخلاق ، الوفاء بالعهد ، إغاثة الملهوف ، يوجد كمالات رائعة جداً ، وتحب النوال العطاء ، هو الجمال ، والكمال ، والنوال عند الله عز وجل لذلك :

(( ابن آدم اطلبنِ تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء))

 الله هو كل شيء سيدي ، لكن خلقنا ليرحمنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض والدليل :

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود : 119 ]

 هذه الآية تركل بقدمك مليون مقولة تناقضها ، يقول : سبحان الله خلقنا للعذاب ، أي عذاب ؟ خلقك للجنة ، خلقك لجنتين معاً ، جنة في الدنيا وجنة في الآخرة ، والدليل :

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن : 46 ]

 من أوجه تفسير هذه الآية جنة الدنيا هي جنة القرب من الله ، وجنة الآخرة معروفة.
المذيع :
 لكن لله سبحانه وتعالى كما تفضلت دكتور خلقنا لنكون من أهل رحمته وجنته ، لكن هناك امتحان ، وهو امتحان الدنيا ، الإيمان والكفر .
الدكتور راتب :
 قبل الإيمان والكفر ، كم مادة غذائية نستطيع أن نأكل ؟ والله بالآلاف ، حرم الخنزير فقط ، كم شراب نستطيع أن نشرب ، شراب عصير ؟ والله بالآلاف ، حرم الخمر ، نسب المحرمات .
المذيع :
 لماذا نعصيه ؟

من طبق منهج الله ضمن السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة :

الدكتور راتب :
 الحقيقة المنهج تفصيلي ، يوجد صدق ، أحياناً من مصلحتك أن تكذب ، ربما من أجل أن تتزوج بفتاة أخرى تقول : لست متزوجاً مثلاً ، أحياناً أنت تتحرك بدافع الشهوة فيلزمك أن تكذب ، فالاستقامة دقيقة جداً ، عندما تطبق منهج الله عز وجل ضمنت السلامة والسعادة في الدنيا والآخرة ، هذه تعليمات الصانع .
هذه السيارة التي اشتريتها ، لو تألق ضوء أحمر فيها ، لو أنك غير متبع للتعليمات الدقيقة ستتوهم أن الضوء ضوء تزييني ، هو ضوء تحذيري ، الزيت انتهى ، فأنت حتى تفهم أن الضوء ليس ضوء تزييني حرقت المحرك ، سيكلفك حوالي مئة ألف ، أما إن فهمت أن الضوء تحذيري عندها ستقف وتضيف الزيت وتنتهي المشكلة .
 العبرة ليست بالظواهر بمعنى الظواهر ، أحياناً تحدث مأساة ، تأتي مصيبة ، ضيق قلب ، هذه كلها سببها : ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة ، البطولة ألا يأخذ الإنسان الأمر بسذاجة ، هكذا الحياة لا أحد مرتاح ، لا .

﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾

[ سورة الرحمن : 46 ]

 جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، تزوج امرأة صالحة يسعد بها ، أذكر إنساناً هو والد صديقي ، توفيت والدته ، صديق حميم ، فذهبت للتعزية ، الأم توفت ، وكان عمرها خمساً وثمانين سنة ، والأب عمره خمس وتسعون ، بكى الأب بكاءً غير معقول ، في العزاء ، فحاولت التخفيف عنه ، قال لي : والله يا ولدي عشت معها خمساً وخمسين سنة ما نمت يوماً غاضباً منها ، هذا البيت السعيد ، والله في كل بيت ، بيت المؤمنين قطعة من الجنة ، لكن نحن عندما نخالف منهج الله ندفع الثمن .
المذيع :
 إذاً هذه الجنة دكتور ، هذه هي الرحمة .
الدكتور راتب :
 جنة الدنيا ، جنة القرب من الله .
المذيع :
 لا يشترط أن تكون جنة الدنيا أن يكون لديك دخل مالي .

الصلاة اتصال بأصل الجمال والكمال والنوال :

الدكتور راتب :
 بيتك العادي بيت مساحته حوالي ستين متراً ، لكنك عندما تصلي تتصل بأصل الجمال والكمال والنوال ، يوجد عند المؤمن مشاعر .

فــــلو شاهدت عيناك من حسننا  الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا  خلعت عنك ثياب العجب وجئتنا
ولــــــو ذقت من طعم المحبة ذرة  عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــا
ولـــو نسمت من قربنا لك نسمة  لمت غريب واشتياق لقربنــــــــــــا
ولــــــو لاح من أنوارنا لك لائح  تركت جميع الكائنات لأجلنــــــــــا
فما حبنا سهل وكل من ادعـى  سهولته قلنــــــــا له قــــد جهلتنـــا
***

 عفواً سيدي ، وأنت تأكل تفاحة مستمتعاً ، طعم التفاح لذيذ ، تنظر إلى ساحل البحر ، منظر البحر جميل ، إلى جبل أخضر ، هذه كلها من خلق الله ، فكيف إذا اتصلت مع أصل الجمال وهو الله ، الله مبدع الجمال ، كله من إبداعه ، كم نوعاً من الورد يوجد ؟ والله كان لي عمل ببذور الزينة ، عندنا خارطة يوجد ما يقارب ألف نبات تزييني ضمن البيت ، لا يحتاج للشمس ، هذه الزهور ليست كلها للأكل ، لتستمتع بعينيك فيها ، الله خالق كون معجز ، هذا الكون يدل عليه ، يشف عن وجود إله عظيم كامل ، ذات كاملة ، ذات لا يحتاج إلى جهة أخرى لاستمراره ، وكاملة ، أسماؤه كلها حسنى ، وصفاته عليا .
المذيع :
الله يفتح عليكم يا دكتور ، لا يزال لدينا كثير من الموضوعات التي نطرحها عليكم دكتورنا الكريم ، وخاصة ما يشاع اليوم أن المهم أخلاق الإنسان أكثر من التفاصيل الثانية ، دينك بينك وبين ربك ، فهل الأخلاق تغني عن الدين ؟ والدين هل يجب أن يكون متمماً بالأخلاق ؟ هذا محور حديثنا بتوسع مع فضيلتكم .
 دكتورنا الكريم ، في حديثنا الرائع ، جزاك الله خيراً ، توضيح فكرة مهمة عن وجود الإنسان في الكون وهي العبادة ، وهي مطلع عنوان حلقتنا ، الآن هناك دكتور كما تفضلت عبادات شعائرية كالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، وهناك عبادات تعاملية ما يرتبط بمعاملات الإنسان بأخيه الإنسان مسلماً أو غير مسلم ، اليوم دكتور تظهر بعض الأصوات التي تقول : الحجاب في القلب ، اللحية في القلب ، الصلاة هي شيء بينك وبين ربك ، صليت أم لم تصلِّ أنت حر ، المهم والأهم هو تعاملك مع الناس ، ما رأي فضيلتكم في هذا ؟

 

الدنيا لمن أتقنها :

الدكتور راتب :
 والله لو أن إنساناً ذكياً جداً تصرف بذكاء ، إذا كان صادقاً في تجارته يربح أكثر ، إذا أتقن عمله يربح أكثر ، وفى بوعده يربح أكثر ، هذا المنطلق الفكري للاستقامة موجود ، موجود في أوروبا بشكل واضح جداً ، لذلك هذا يأخذ الدنيا ، ما طلب الله ، الآخرة ما طلبها أبداً ، لذلك : هذه الدنيا ، الدنيا لمن أتقنها .

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 105]

مثلاً دولة عندها تأمين صحي قوية عند الله ، وقد تكون كافرة ، لكن عند الله قوية ، أمنوا لسكانهم معالجة مجانية ، عندها تكافؤ فرص الله يدعمها .
 "إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة على الأمة المسلمة الظالمة ، والدنيا تصلح بالكفر والعدل ولا تصلح بالإيمان والظلم" .
 الدنيا لها حساب آخر ، الآخرة لمن أعطاها فقط ، أما الدنيا لمن أحسن إدارتها .

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 105]

 لو ذهبت إلى العالم الغربي تتفاجأ أنه يوجد صدق في التعامل ، رأوا أن الصدق يكسبهم دولارات أكثر ، أنا لي كلمة : هم يعبدون الدولار من دون الله ، لأنهم يعبدون الدولار صدقهم مال ، صدقهم إتقان عمل ، فكل شيء يفعلونه من أجل رفع مستوى دخلهم ، وهذا شيء معروف ، فإتقان الدنيا مطلوب من المؤمن ، أما لو أتقنها الكافر ينالها ، الدنيا لمن أتقنها .

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾

[ سورة الأنبياء : 105]

 لإدارتها ، يوجد تكافؤ فرص ، يوجد تأمين صحي ، لا أحد يتجاوز القانون دون أن يُحاسَب .
المذيع :
 لأنهم كانوا أهل عدل واهتمام فيها مكنهم الله من إدارتها .
الدكتور راتب :
 أبداً في الدنيا فقط .
المذيع :
 إذا كان هذا جزاء من يهتم بهذه السلوكيات في الدنيا ما جزاء المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر إن اهتم بها دكتور ؟ هل جزاؤه فقط بالدنيا ؟

 

لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه :

الدكتور راتب :
 لا ، لي رأي آخر سيدي ، أنا في الحقيقة كنت قادماً ذات مرة من المغرب إلى دمشق بالطائرة ، والطيار تلميذي ، أدخلني غرفة القيادة ، عندما دخلنا إلى سورية من طرابلس إلى الشام رأيت بعيني طرطوس وصيدا ، بينهما خمسمئة كيلو متر ، أنا على ارتفاع اثني عشر ألف متر رأيت مساحة تقدر بخمسمئة كيلو متر .
 أقول كلمة : الإنسان كلما ارتفع مقامه اتسعت رؤيته ، أرقى منهج أن تكون إنسانياً ، الأنبياء إنسانيون ، بني البشر ، وقف في جنازة ، فقال أصحابه : ليس مسلماً ، فقال : أليس إنساناً ؟
 الأنبياء إنسانيون ، وأرقى انتماء للداعية أن يكون إنسانياً ، هو مع الجميع ، ليس عنده إقليمية ، ولا قبلية ، ولا طائفية ، كله التغى من حياته ، أليس إنساناً ، كلما ارتقينا تتسع دائرة انتمائنا .
المذيع :
 الله يفتح عليكم يا دكتور ، دكتورنا الكريم ردك على هذه العبارات للناس ، تهتم فيها بجانب الأخلاق على حساب تهميش جانب العبادات ، مثلاً الحجاب في القلب ؟
الدكتور راتب :
 ليست صحيحة ، لو كان في القلب لقال الله في القلب مقبول ، تصور لو عندك جهاز لتحليل الدم ، هذا الجهاز أحدث جهاز في العالم ، ثمنه خمسون مليوناً ، تضع نقطة دم واحدة ، تضغط الزر ، تخرج ورقة فيها حوالي اثنين وثلاثين تحليلاً ، بكبسة زر ، إذا عندك مئة مريض يقفون بانتظام ، وكل واحد مئة دينار ، كم دخل هذه الآلة ؟ هذه الآلة العظيمة جداً ، لو أنت استوردتها ولسبب أو لآخر ما أرسل لك تعليمات التشغيل والصيانة ، ماذا تفعل بها ؟ إذا استخدمتها من دون تعليمات تعطبها ، وإن خفت عليها جمدت ثمنها ، أليست التعليمات أهم من الآلة نفسها ؟ أهم ، ما الدليل ؟

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾

[ سورة الرحمن : 1 -3]

 يا رب أيعقل أن يعلم الإنسان قبل أن يولد ؟ نعم ، هنا التقديم ليس تقديماً زمنياً ، تقديم رتبي ، أي لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ، عنده شهوات كحب المرأة واسعة جداً ، أعطاك زوجة ، وأربع زوجات لو إحداهن قصرت ، ومحارم فقط هؤلاء ، الكسب يكون كسباً مشروعاً ، تجارة ، وظيفة ، أما نهب لا يوجد نهب ، استغلال لا يوجد ، سرقة لا يوجد .

 

العبادة الشعائرية لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية :

 لذلك نحن منهجنا دقيق جداً ، نحن منهجنا ، وسامحني بهذه الكلمة : يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ، منهج كامل ، والصوم ، والصلاة ، والحج ، والزكاة ، أربع عبادات شعائرية لا تصلح ، ولا تقبل ، ولا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية .
المذيع :
 جميل دكتور ، الآن العبادة التعاملية في تعاملنا مع الناس ، الإنسان يؤاخذ عليها كثيراً لأن فيها طرفين ، فيها طرف إذا أخطأت فأنت أخطأت بحق الله ، وأخطأت بحق البشر ، لكن هل يصبح واحداً منهم أهم من الآخر ، بعض الأشخاص اهتمامه بجانب العبادة الشعائرية على حساب العبادة التعاملية ، مثلاً يصلي في الصف الأولى في المسجد ، ويصوم ، لكنه فظ مع الناس ، قد يكذب .

أنواع الذنوب :

الدكتور راتب :
 الجواب : هناك ذنب يغفر ، وذنب لا يغفر ، وذنب لا يترك ، أما الذنب الذي يغفر ما كان بينك وبين الله فقط ، فاتتك صلاة الظهر ، عند الله القضية سهلة ما دام مع الله ، الذنب فقط مع الله يغفر سريعاً ، أنا تبت إليك ، يقول له : وأنا قد قبلت .
المذيع :
 ألا يستهين الناس هكذا بالعبادات طالما القضية سهلة ؟
الدكتور راتب :
أنا أقول إذا إنسان حريص على الصلاة ، لسبب أو لآخر فاتته صلاة الظهر ، هنا خطؤه مع الله فقط ، هذا الذنب مع الله يغفر إذا معه ندم ؟

(( الندم توبة))

[أخرجه البزار عن أنس بن مالك]

 يوجد معه ندم ، أما ذنب لا يترك ما كان بينك وبين البشر ، أخ له معك مبلغ ، لا يغفر ، إلا إذا أديت هذا المبلغ ، أو سامحك .
المذيع :
 حتى لو استغفرت ربنا .
الدكتور راتب :
 أبداً ، استغفرت ربك مع الذي كان بينك وبينه فقط ، ما كان بينك وبين الله بالاستغفار يذهب ، ما كان بينك وبين العباد بالأداء أو المسامحة ، غير ذلك لا يُقبل .
 أما الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، كيف يعني ؟ لو أن إنساناً معه مرض في المعدة حاد جداً ، مكانه الوحيد المستشفى ، أخذناه إلى مصيف! إلى مقصف! هذا الذي لا يغفر إذا اتجهت إلى غير الله ، نسيت الله لا سمح الله ، واتجهت إلى غيره ، هذا ذنب لا يغفر ، هو الإشراك بالله ، الذي يغفر ما كان بينك وبين الله فقط ، والذي لا يترك ما كان بينك وبين العباد ، لا يغفر إلا بالأداء أو المسامحة ، أما الذي لا يغفر إذا اتجهت إلى غير الله ، هذا الشرك .
المذيع :
 المقصود دكتور أن الشرك لا يغفر بمعنى لو إنساناً أشرك بالله ثم مات ؟
الدكتور راتب :
 إذا مات مشركاً .
المذيع :
 أما لا يُفهم منها إذا أشرك انتهى .
الدكتور راتب :
 لو أنه قبل أن يموت بشهر ، بأسبوعين تاب إلى الله ، ما بقي عليه شيء .
المذيع :
 أسلم وحسن إسلامه .
الدكتور راتب :
 من مات مشركاً .
المذيع :
 جميل ، هذه أحياناً نقطة إشكال عند الناس ، إذاً دكتور الكفة يمكن أن تتساوى ، أن تتقن العبادات الشعائرية في العلاقة مع الله ، والعبادات التعاملية في العلاقة مع الناس ، من أتقن واحدة على حساب الأخرى لا تنفع ، لا هذه ولا تلك ، وإن أساء للناس لا تقبل ، وأخلاق عالية مع الناس وتقصير في العبادات لا يقبل .
 اليوم دكتور لأن الناس تمثل العبادات التعاملية أكثر من الشعائرية يهتم فيها أكثر ، بمعنى قد تبحث فتاة عن إنسان حينما تتزوج أن يكون ودوداً ، أن يكون جيداً ، أن يكون لطيفاً ، وقد لا يصلي ، قد يتعامل بالربا .

 

انعدام المبادئ مع الغرب هناك مصالح فقط :

الدكتور راتب :
 عندها جهل كبير جداً ، سامحني بهذه الكلمة ، أنا أخاطب فتاة يهمها من خطيبها أن يكون ودوداً ، كريماً ، مثلاً ، لا يهمها دينه ، هو الآن مضطر أن يكون كذلك حتى تتزوجه ، بعد أن يمضي على الزواج شهرين ، ثلاثة ، سنة ، يعود إلى عاداته القديمة ، فإذا لم تك أخلاق الشخص نابعة من دينه ، ليست نابعة من ذكائه ، أنت إما أن تكون ذكياً ، أو أن تكون مؤمناً ، في الحالتين أنت مقبول عند الناس ، لكن الذكاء له حدود .
 مثل بسيط : أنت تاجر ووكيل شركة عملاقة في ألمانيا ، يأتي مندوب الشركة لا تترك لوناً من ألوان الإكرام إلا وتقدمها له ، تضعه بأفضل فندق ، كل يوم تدعوه لوليمة ، تقدم أسوارة لزوجته ، أنت تربح منه أرباحاً طائلة ، الآن لو سحبوا منك الوكالة ، وشاهدته في الطريق لا تسلم عليه ، هذه علاقة منوطة بالمصلحة ، كل ذكاء الغرب من هذا النوع ، ما دام له مصلحة هو يعبد الدولار من دون الله ، إذا كان مصلحته أن يقف مع هذه الدولة لمصلحته ، لا يوجد مبادئ مع الغرب ، يوجد مصالح فقط ، وإلا يتنكر لكل مبادئه .
المذيع :
 شيخنا الكريم ، في حديث النبي عليه الصلاة والسلام :

((إِذا خَطَبَ إِليكم من تَرضَون دينه وخُلُقَه فزوجّوه ، إِلا أن تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))

[الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

 لماذا فصل في هذا الحديث كلمة الدين عن الخلق رغم أن الرسول يقول :

((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))

[أحمد رواه البزار أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

الدكتور راتب :
 كلمة الدين بالضبط تعني أن عقيدته سليمة ، الله موجود وكامل وواحد ، وأمرنا بالصلاة والصوم وحج وزكاة ، نفذ هذا الدين استقامة ، لكن طباعه سيئة جداً ، ليس عنده أخلاق ، لئيم ، فأنت تريد دينه في علاقته مع الله ، عقيدته ، صلاته ، تريد أخلاقه .

((دينه وخُلُقَه فزوجّوه))

[الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

 هذا الحديث من إعجاز النبي ، قد يأتيك شخص يصلي ، ويصوم ، وحج لبيت الله الحرام خمس مرات .
المذيع :
 اعتبرناها العبادات الشعائرية .
الدكتور راتب :
 لكن معاملته سيئة جداً .
المذيع :
 هذا ليس مكسباً .

 

التعامل في الغرب نابع من ذكاء الإنسان مما يكسبهم الدنيا فقط :

الدكتور راتب :
 هذا ليس كسباً أبداً .
المذيع :
 وقد يأتي العكس .
الدكتور راتب :
 الثاني ذكي ، أوروبا ذكية جداً ، عندها ذكاء يفوق حد الخيال .
المذيع :
 أخلاق ، وكرم ، وطيبة ، لكنه لا يملك ديناً .
الدكتور راتب :
 عندما تقتضي مصلحتهم أن يبطشوا بشعب ، في يوم واحد أمريكا قتلت بأفغانستان خمسة آلاف إنسان بقلعة ، بقصف ، وإذا إنسان بأمريكا مثلاً ما أعطوك ثمن الأكل كاملاً ، أنا سافرت لأمريكا عدة مرات ، أطلب طعاماً شرعياً ، تأتي المضيفة ، لا تكلمك وهي مرتفعة بل تنحني حتى تصبح على مستواك ، تريك وجبة الطعام ، كيف وقّع عليها المسؤول عن الوجبة الشرعية ، يوقع عليها من الوراء ، تستأذنك وتسخنها لك ، ما هذه المعاملة ؟ هناك تعامل في الغرب يفوق حد الخيال ، هذا كله نابع من ذكاء الإنسان ، الذكي يكسب الدنيا بهذه الطريقة .
المذيع :
 دكتور ، في الحديث الآخر :

((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))

[أحمد رواه البزار أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

 أي أن العرب والناس كانت تملك أخلاقاً وجاء الدين ليجعلها عبادة لله سبحانه وتعالى ، يبدو أن الفصل في هذا الحديث هو دراسة للواقع من النبي عليه الصلاة والسلام من الناس من يملك ديناً دون أخلاق ، لكن كمنهج هذا خلل دكتور .

 

أي شيء أمرت به أنت فطرت على محبته :

الدكتور راتب :
 العرب ، لو درست الأدب الجاهلي ، لم يك هناك إسلام ، الشجاعة مقدسة جداً والكرم ، أكبر قيمتين أخلاقيتين تتمتع بها العصور الجاهلية قبل الإسلام الشجاعة والكرم ، فجاء النبي بلباقة مذهلة قال :

((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))

[أحمد رواه البزار أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

يوجد شجاعة ، ويوجد كرم ، نريد طاعة لله ، نريد رحمة بالقريب ، نريد طلاقاً مشروعاً ، فالحديث فيه إعجاز يا سيدي .

((لأتمم))

[أحمد رواه البزار أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

 هذه آداب الفطرة .

(( يطبع المؤمن على الخلال كلها))

[الإمام أحمد في مسنده]

 انظر الآية ما أدقها :

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾

[ سورة الروم : 30]

 بتعبير أو بآخر : أي شيء أمرت به أنت فطرت على محبته ، والدليل :

﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات : 7]

المذيع :
 الله يفتح عليكم يا دكتور ، دكتور ما توصلنا إليه في الشق الثاني من الحلقة ، أنه يوجد أخلاق وهي العبادة التعاملية ، معاملتك مع الناس ، ويوجد دين ، وعقيدة صحيحة ، والذي هو دينك مع الناس واحدة منهم لا تكفي ، صلاة وصيام وتؤذي الناس لا تنفع ، والعكس لاتنفع.

 

على الإنسان أن يجمع بين صحة العقيدة وتطبيق المنهج :

الدكتور راتب :
 هذه بتعبير معاصر : كل منهما شرط لازم غير كاف .
المذيع :
 إذاً هذه قاعدة في الحياة ، بمعنى دكتور مثلاً لو أنا أردت أن أتخذ شريكاً مالياً لشركة أفتحها تجارياً ، سأبحث عن شخص يوجد عنده قضيتان ، هو صادق وكريم ، وبنفس الوقت هو يعرف الله ، إذا إنسان صادق وكريم ولا يعرف الله فإن نصف المعادلة غير صحيحة .
الدكتور راتب :
 لو استطاع أن يغتصب الشركة يأخذها كلها له .
المذيع :
 لأنه لا يوجد مخافة من ربنا .
الدكتور راتب :
 والعوام لهم كلمات دقيقة جداً : الذي لا يخاف الله يجب أن تخاف منه .
المذيع :
 في المقابل واحد يخاف ربنا لكن لا يلتزم بالمواعيد ، ويتأخر ، ويكذب ، وسيء ، وفظ ، هو أيضاً سيدمر المؤسسة .
الدكتور راتب :
 يجب أن تجمع بين صحة العقيدة ، وتطبيق المنهج .
المذيع :
 دكتور أعود للحديث الذي بدأنا فيه حلقتنا :

((إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها بلسانها ، فقال : لا خير فيها هي في النار))

 لهذه الدرجة دكتور ؟ هي صوّامة ، قوّامة .
الدكتور راتب :
 الإنسان عندما يقصد ألا يستقيم ، يقوم بعبادات شعائرية ، معنى ذلك أن لديه موقفاً ، أحياناً الإنسان تزل قدمه لا مانع ، أما أن يكون لديه موقف ، فقد قطف من الدين ثماره الخارجية .
المذيع :
 ما فهمت الفكرة بشكل واضح ، تقصد متعمداً ؟

 

الدين أن تكون صادقاً وورعاً بمفردك و أمام الناس :

الدكتور راتب :
 الدين عقيدة ، وقناعات ، وسلوك ، فإذا هو قناعته في الدين غير صحيحة ، لكنه شوهد جالساً مع مجتمع مسلم ، مرة كنت قادماً من بلد نفطي ، رأيت امرأة بحجاب كامل ، وتجلس في الدرجة الأولى ، خلعت حجابها كاملاً ، معنى ذلك أن هذا حجاب جغرافي ، لا علاقة له بدينها إطلاقاً ، في المكان الذي كانت فيه الحجاب إلزامي ، في الطائرة نزعت كل الثياب الفضفاضة والمانعة ، وبقيت بثياب فيها تفلت كبير جداً .
فأنت عندما تطيع جهة قوية في الدنيا ، وتأمر بالدين ، هذه الطاعة لا قيمة لها إطلاقاً عند الله عز وجل ، ما الدليل ؟ عندما تغيب هذه الرقابة يحدث تفلت ، أما الدين فأنت صادق أمام الناس ووحدك ، وورع أمام الناس ووحدك .
المذيع :
 إذاً العبادة وحدها لا تكفي ، طالما سببت أذى للناس ، فهي تحاسب عند الله ، فلم تشفع لها صلاتها ، سبحان الله!
الدكتور راتب :
 حتى لو الإنسان صلى إماماً بالناس وأطال كثيراً يحاسب .
المذيع :
 دكتورنا في الشق الثاني من الحديث قال النبي عليه الصلاة والسلام :

((فلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان وتتصدق بأسوار من إقط ولا تؤذي أحداً بلسانها ، قال : هي في الجنة))

 أدت الحد الأدنى دكتور ، تصلي فرضها .
الدكتور راتب :
 هي أدت الحد الأدنى ودخلت الجنة ، لكن ليس عندها ازدواجية ، عندها صدق ، ليس عندها نفاق ، ليس عندها عمل أفعله أمام الناس كي أكسب ودهم ، إن طلبت منهم مبلغاً أعطوني إياه ، هذه ازدواجية خطيرة جداً ، المؤمن له اتجاه واحد ، عنده قناعات يطبقها ، أما غير المؤمن قد يعمل أشياءً ، والله هناك أشياء يقوم بها غير المؤمنين للإسلام تفوق حدّ الخيال ، مصلحتهم ، هذه مصلحة ، عندما تقوم بعمل ظاهره إسلامي ، وتكسب شعبية كبيرة جداً في الانتخابات ، وقد يكون الشخص لا يصوم ، فهنا المشكلة أن الإنسان لا يرَى الله ، يرى عبد الله، لرضى الناس مشكلة كبيرة .
المذيع :
 إذاً دكتور هنا الحديث أعطانا منهجاً ، إذا أديت الفرائض ولو بحدها الأدنى ، وكففت أذاك عن الناس أنت على خير .
الدكتور راتب :
 ودخلت الجنة .
المذيع :
 من زاد على ذلك دكتور ، أي أدى الفرائض وزاد بقيام الليل والقرآن الكريم ؟

 

العمل الصالح مقدم على كل العبادات الشعائرية إلا أن تكون فرائض :

الدكتور راتب :
 يوجد مراتب في الجنة ، أنت تنجح بدرجة مقبول ، نتيجتك خمسون ، أديت الفرائض، وما أكلت مالاً حراماً ، وما كذبت ، ولا غششت ، مقبول ، إنسان فتح مستشفى ، قدمها للأمة ، فتح جامعة ، هناك أشخاص فعلوا ذلك ، فتح جامعة ، هذا ارتقى ، فنحن عندنا حد أدنى وهو القبول ، أي عندنا في الشام مقبول ، وعندنا مرتبة الشرف ، لذلك الله قال :

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾

[ سورة الأنعام : 132]

 حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، والعمل الصالح هو الذي يصلح للعرض على الله ، والعمل الصالح لا يصلح للعرض على الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
المذيع :
 هو عمل صالح يصلح للعرض على الله تعالى ، خير هذا العمل الصالح دكتور من العبادات الشعائرية والتعاملية ، بمعنى لدي متسع من الوقت ، أحاول أن أبقى مع نفسي أذكر وأسبح وهذه عبادات شعائرية ، أو أحاول أن أذهب إلى مساعدة محتاج .
الدكتور راتب :
 العمل الصالح يفوق العبادة الشعائرية ، سيدنا ابن عباس معتكف ، والاعتكاف قمة العبادة ، برمضان معتكف أمام قبر النبي ، فرأى شخصاً له حاجة ، قال له : ألك حاجة ؟ قال له : أي والله ، قال له : عند من ؟ قال له : عند فلان ، قال له : أتحب أن أكلمه لك ؟ قال له : أتمنى والله ، فخرج من معتكفه ، شخص آخر جالس قال له : يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف ؟ قال له : والله ما نسيت ، ولكن سمعت هذا القبر ، يقصد النبي الكريم ، والعهد به قريب ، قال : والله لئن أمشي مع حاجة أخ مؤمن خير لي من صيام شهر واعتكافي في مسجدي هذا .
صيام شهر واعتكاف شهر بجامع النبي الكريم ، أن تقوم بحاجة أخ مؤمن خير لك .
 أعيده مرة ثانية : يا بن عباس أنسيت أنك معتكف ؟ قال : والله ما نسيت ، ولكن سمعت هذا القبر ، يقصد النبي الكريم ، والعهد به قريب ، والله لئن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر ، وليس صيامنا نحن ، صيام النبي واعتكافه ، في مسجدي هذا .
 العمل الصالح مقدم على كل العبادات الشعائرية ، طبعاً إلا أن تكون فرائض .
المذيع :
 هذا المنهج ، وهذا الفكر أحياناً دكتور يغيب عن المسلم والمسلمة ، الإنسان يعتقد لو كانت البوصلة واضحة أن عليه أن يؤدِّي الفرائض .

 

الفقير أنت له وغيرك له أما ابنك فليس له غيرك :

الدكتور راتب :
 أعرف أنا الكثير من الناس الأغنياء ، لا يزوجون أولادهم ، حتى يكسب رزقه بنفسه ، فيزني ابنه ، ما دمت قوياً ، ومن الممكن أن تزوج كل أولادك ، والله أعرف شخصاً آخر أنا أراه قمة في الكمال ، عنده خمسة أولاد الكل زوجهم ، وضعه المادي جيد ، زوجات ، وبيوت ، وحرف ، أعطاهم الكثير ، أقول كلمة دقيقة : الآخر أنت له وغيرك له ، أما ابنك فمن له غيرك؟
المذيع :
 الآخر تقصد الفقير ، ربنا سخر له كل الناس ، هنا دكتور أذكر ومرة فضيلتك طرحتها مسبقاً ، الإنسان الذي أولوياته غير واضحة ، يساعد الآخر ، ويترك أولاده فهو مقصر، والذي يعطي أولاده ويكتفي فهو أيضاً نوعاً ما أناني .
الدكتور راتب :
 الحد الأدنى .
المذيع :
 لكن المسلم الأحب إلى الله هو الذي يبدأ بأولاده ثم يتبع بعد ذلك إلى أبناء الأمة المحتاجين .
الدكتور راتب :
 تبدأ بمن أوكلهم الله إليك أصلاً ، يكون لك عمل صالح خارج البيت ، وأولادك جائعين هذه غير واردة إطلاقاً .
المذيع :
 أشبع أولادي ، وأغلق بيتي دكتور ؟
الدكتور راتب :
 لا ، أشبعتهم ، أديت الفرض ، بقي العمل الصالح .
المذيع :
 هو الذي يرفعنا عند الله أن أطعم المحتاجين ، لكن بعد أن أطعم أولادي .
الدكتور راتب :

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر : 10]

المذيع :
 دكتور أنت تقصد بالترتيب ، أي أنا أبدأ بأولادي .

 

حجمك عند الله بحجم عملك الصالح :

الدكتور راتب :
 أعيد العبارة : الآخر أنت له وغيرك له ، أما أولادك فمن لهم غيرك ؟ يجب أن تطعمهم ، وأن تلبسهم ، وأن تسعى بتربيتهم ، ودراساتهم ، أولادك أنت مسؤول عنهم مئة بالمئة ، بعدما قدمت الذي عليك ابحث عن أعمال أخرى صالحة.
المذيع :
وهذا كما تفضلت دكتور هو الفرض ، بعدما أديت فرضك اذهب إلى النوافل ، العمل الصالح إذاً هو البوصلة بتفكرينا كمسلمين ، بتفكرينا يجب أن تكون واضحة ، أنت تبدأ بالفرائض ، ومن ثم عليك أن تزيد بالأعمال الصالحة .
 أخشى دكتور أن يفهم البعض كثرة حديثنا عن العمل الصالح أننا نزهد بالعبادات الشعائرية ، كالقرآن ، والذكر ، والتسبيح .
الدكتور راتب :
 هناك مثل أرجو أن تسامحني به : عندك أسطوانة غاز ، وعندك رأس غاز الشعلات، كلا الشيئين شرط لازم غير كافٍ ، لو لم يك عندك رأس الغاز ما الذي ستفعله بالأسطوانة ؟ ليس لها نفع إطلاقاً ، لو عندك الرأس لكن ليس عندك الأسطوانة ، انظر التكامل تكامل مذهل، بين الأسطوانة وبين رأس الغاز الشعلات تكامل مذهل ، لا الأولى تغني عن الثانية ولا الثانية تغني عن الأولى .
 والعمل الصالح والاستقامة كذلك ، أخي أنا لا أكذب ، لا أغش ، لا آكل مالاً حراماً، إذا كان عملك كله سلبيات ، ماذا قدمت أنت للشرع ؟ للأمة ؟ قدمت علماً ؟ قدمت مالاً ؟ أنجبت أولاداً نجباء علمتهم وخدموا الأمة ؟ فبطولتك ليست فقط بالاستقامة ، الاستقامة طالعها سلبي ، كلها فيها لا ، أما العمل الصالح قدمت من مالك ، من علمك ، من حكمتك أنت كبير العائلة ، أصلحت بين متخاصمين ، أنت لك كلمة على الاثنين ، ما تركت مشكلة في العائلة الكبيرة .
 الكلمة الدقيقة : أنت حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، بل إن علة وجودك في الدنيا العمل الصالح .
المذيع :
 نلخص دكتور المنهج العظيم الذي ، الله يجزيك الخير شيخنا ، أشرت إليه : أن البداية مع الله في القلب السليم ، ثم بأداء الفرائض بالعبادات ، ثم في الأعمال الصالحة ، وتكون بالنوافل من السنن ، والقرآن ، والقيام ، وتكون بمساعدة الناس وتكثر من ذلك .
الدكتور راتب :
 هناك تعبير آخر : مثلث ، أول مقطع من الأعلى العقيدة ، إن صحت صح العمل ، الثاني مساحة العبادات ، صلاة ، وصوم ، وحج ، وزكاة ، الثالثة المعاملات ، أنت عقيدتك سليمة ، الله خالق ومسير ، رب العالمين ، بعد العقيدة أديت الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، المعاملة ، لا يوجد غش ببضاعتك ، لا احتيال ، لا كذب ، الثالثة المعاملات ، لا يكفي يوجد منطقة رابعة ، الأذواق ، لا يعقل أن تنبه زوجتك عند بيت أهلها الساعة الثانية ليلاً ببوق السيارة من تحت المبنى ، أيقظت خمسين أسرة ، هذه قلة ذوق .
 أنا عندي بحث في موسوعتي : الذوق في الإسلام ، بحث لطيف جداً ، نفصله ، الذوق في الإسلام ، إذاً عندي عقيدة ، ثم عبادة ، ثم معاملة ، ثم ذوق .
المذيع :
 أكرمك الله دكتور على هذا الكلام الطيب ، نفعنا الله بعلمكم دكتور ، وجزاكم عنا كل خير ، نختم حلقتنا بالدعاء ، ونسأل الله القبول .

الدعاء :

الدكتور راتب :
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك ، اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، احقن دماء المسلمين في كل مكان ، واحقن دماءهم في الشام .

خاتمة و توديع :

المذيع :
 الحمد لله رب العالمين ، جزاكم الله عنا كل خير ، فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي ، نفعنا الله بعلمكم .
 سبحانك اللهم وبحمدك ، نشهد أن لا إله إلا أنت ، نستغفرك ونتوب إليك .
 والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور