وضع داكن
29-03-2024
Logo
حياة المسلم 1- إذاعة حياة إف إم- الحلقة : 044 - فإنه يراك.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأتم الصلاة وخير التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم مستمعينا الكرام في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم مع الدكتور محمد راتب النابلسي، وباسمكم نرحب بفضيلة العلّامة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، حياكم الله دكتور.
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم، ونفع بكم.
المذيع:
 أكرمكم الله، ورفع من قدركم في الدنيا والآخرة.
 سيدي الكريم حينما روى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة سيدنا جبريل حينما جاءه على شكل رجل شديد بياض الثياب، فجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما الإحسان؟ فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم:

(( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))

[ البخاري عن عمر ]

 هذا هو عنوان حلقتنا فإنه يراك، كيف لنا شيخنا أن نحقق مخافة الله عز وجل ومراقبة الله في أفعالنا وفي أقوالنا وفي ألفاظنا وفي كل شيء يصدر عنا؟ وأبدأ معكم بشرح هذا الحديث، وشرح مصطلح ومعنى كلمة الإحسان.

ضعف الإحساس بمعية الله يسرب المعاصي والآثام :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألوِيَتِه، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
أخي الكريم؛ بارك الله بك، ونفع بك.
الإنسان من مثل بسيط يأخذ المعاني الكثيرة، إنسان يقود مركبته، والإشارة حمراء، والشرطي واقف، ويوجد شرطي على دراجة، وضابط بسيارة، وهو موطن عادي ليس له أية ميزة، فإذا تجاوز هذه الإشارة علم واضع قانون السير يطوله من خلال هذا الشرطي، وقدرته تطوله من خلال حجز المركبة، وقد تسحب منه الإجازة، أو يغرم بمبلغ كبير، لأن هذا السائق موقن يقيناً قطعياً أن واضع القانون علمه يطوله، وقدرته تطوله لا يمكن أن يعصيه، إلا بحالات نادرة قبل اختراع الأشياء الكهربائية في الإشارات الساعة الثالثة ليلاً، علم واضع القانون لا يطوله، أو إذا كان أقوى من واضع القانون مثلاً، لكن حينما تعلم أن واضع هذا القانون يطولك علمه، وتطولك قدرته، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه، القرآن الكريم:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق: 12 ]

 خالق السماوات والأرض علمه يطولك، وقدرته تطولك، أنت مع إنسان أقوى منك، مع إنسان من بني البشر، من جلدتك، لأنه أقوى منك، ولأن علمه يطولك، ولأن قدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق: 12 ]

 أنا هذا إيماني، الذي عنده حد أدنى من الإيمان أن علم الله يطوله وأن قدرته تطوله لا يمكن أن يعصيه.
المذيع:
 لكن الواقع أننا نعصي دكتور.
الدكتور راتب :
 بغفلة، الغفلة أخطر مرض يصيب النفس، الغفلة عن الله ألا يرى أن الله معه، أفضل إيمان المرء أن تؤمن أن الله معك، قال تعالى:

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾

[ سورة الحديد: 4 ]

 حينما يضعف الإحساس بمعية الله تتسرب المعاصي والآثام.
المذيع:
 كيف يمكن أن نعزز خوفنا من الله عز وجل في قلوبنا؟

طلب الجنة من دون عمل ذنب من الذنوب :

الدكتور راتب :
أرجو الإجابة أن تكون واضحة، لو أن إنساناً جلس ينتظر الطبيب، وجد عنده عشرين مريضاً، وكل مريض يدفع مثلاً مئة دينار، ضرب مئة، عشرة ألف دينار يومياً، جاء لعند الطبيب قال له: علمني كيف أكتب وصفة طبية؟ قال له: هذا صعب جداً، يجب أن يكون معك شهادة ثانوية بتفوق، تدخل كلية الطب، عندك سنة علوم عامة، وسنة تشريح وصفي، وسنة فيزيولوجيا، وسنة علم الأمراض، وسنة علم الأدوية، سبع سنوات دراسة، ثم تتخرج وتخضع لدورات، وتعمل بورد، ثم تكتب وصفة، فالوصفة محصلة الدراسة كلها، فالإنسان يريد شيئاً كبيراً بثمن بخس؟! هذا شيء في منتهى الغباء، أنت ممكن أن تقول للدولة: امنحوني دكتوراه؟ قدم طلب استدعاء يرجى أن أحصل على دكتوراه، وأنت أمي، الدكتوراه تحتاج إلى شهادة ابتدائية، إعدادية، ثانوية، لسانس، دبلوم عامة، دبلوم خاصة، ماجستير، ثم تأخذ دكتوراه بأطروحة فيها موضوعات جديدة، فأنت عندما تشاهد القضية سهلة بسيطة هذا نوع من الغباء، وطلب الجنة من دون عمل ذنب من الذنوب.
المذيع:
 ألا يعد من باب الرجاء وحسن الظن بالله؟
الدكتور راتب :
 الرجاء يقدم شيئاً، قال تعالى:

﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾

[سورة التغابن: 16]

 أدّ الذي عليك، ثم اطلب من الله عز وجل.
المذيع:
 تؤدي عملاً وترجو الله أن يقبله، لكن دون تقديم عمل هذا لا يعد أمراً مقبولاً..
الدكتور راتب :
 حتى الدعاء سيدي، سيدنا عمر عندما رأى جملاً أجرب، سأل صاحبه: يا أخا العرب ما تفعل به؟ قال: أدعو الله أن يشفيه، قال: يا أخي هلا جعلت مع الدعاء قطراناً. حتى الدعاء يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
المذيع:
 كيف يمكن للمسلم أن يفهم هذا النص الشرعي:

((..أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))

[ البخاري عن عمر ]

الكون يشف عن وجود الله و وحدانيته و كماله :

الدكتور راتب :
سيدي أنت عندك معرفة حسية، هذا لاقط، هذه ساعة، هذه طاولة، هذا مصحف، معرفة حسية، أنا سوف أسميها اليقين الحسي، وأنت تتعامل مع اليقين الحسي كل يوم، الوقت ظلام، الوقت ضحى، الساعة الثالثة، السرير مهيأ، الغرفة نظيفة، تتعامل مع اليقين الحسي آلاف المرات يومياً، لكن عندما تشاهد دخاناً وراء الجدار، أنت عندك عقل تقول: لا دخان بلا نار، تحكم على وجود النار خلف الجدار مع أنك لا تراها، هذا اسمه يقين عقلي، اليقين الحسي شيء ظهرت عينه وآثاره معاً، أدوات اليقين به الحواس الخمس واستطالاتها، شيء غابت عينه وبقيت آثاره، رأيت الدخان ما رأيت النار، رأيت آثار الأقدام، ولم تر الذي يمشي على هذا الرمل، الأقدام تدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، والماء يدل على الغدير، أفسماءٌ ذات أبرج، وأرضٌ ذات فجاج ألا تدلان على الحكيم الخبير؟
 عندك أثر، والأثر هو الكون، والكون هو الثابت الأول، الكون يشف عن الله عز وجل موجوداً، وواحداً، وكاملاً، أي شيء في الكون يشف عن وجود الله، وعن وحدانيته، وعن كماله.
المذيع:
 كثيراً ما يستشعر الإنسان رقابة الله عز وجل فينعكس ذلك على استقامته في حياته وفي عبادته وأحياناً على خشوعه في العبادات لكن سرعان ما يزول ذلك، ما الذي يحصل معنا؟

المؤمن بين ساعة تألق مع الله وساعة فتور :

الدكتور راتب :
 والله يوجد كلام دقيق أتمنى أن يفهم كما أريد لا كما يتمنى المستمع، الصحابة الكرام شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا عنده فهم في جنة، فإذا ذهبوا إلى بيوتهم هذا الحال ذهب عنهم، فقال أحدهم: نكون عندك ونحن والجنة كهاتين، فإذا عدنا إلى بيوتنا وعافسنا الأهل ننسى، ما صواب ذلك؟ فسيدنا الصديق من أدبه الجم قال: أنا كذلك يا أخي، انطلق بنا إلى رسول الله، فانطلقا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وحدثاه بهذا الحال، اسمع قول النبي الكريم، معنى نبي أي اتصاله بالله دائم، الرسول معه رسالة، النبي له اتصال بالله دائم، جميع المؤمنين ساعة وساعة، قد يكون الاتصال ثلاثاً وعشرين ساعة في اليوم والفتور ساعة وليس معصية، وهناك إنسان ثلاث وعشرون ساعة فتوراً وساعة تألقاً، يتفاوت المؤمنون بالساعة والساعة، لأنك من بني البشر و أنت مؤمن فأنت ساعة وساعة، لكن أنا أتمنى ألا يفهم من كلامي أن ساعة معصية وساعة طاعة، ساعة تألق مع الله وساعة فتور.
المذيع:
 ما المقصود بساعة تألق وساعة فتور؟

الاتصال بالله أساس الدين كله :

الدكتور راتب :
 متصل بالله، صار هناك اتصال محكم، صار خشوع بالصلاة، صار بكاء، صار شعور بالسعادة لا يوصف، أنت مع الجميل، مع الكريم، مع العظيم، مع الغني، مع الكامل، مع الرحيم، هو أساس الدين كله اتصال بالله، هو الأساس أن الإنسان حينما تنعقد مع الله صلته يشتق من الله كمالاً، مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً.
 الحقيقة يوجد إنسان عمله فيه رحمة، وإنسان رحيم، الفرق كبير جداً، إنسان عمله فيه حكمة، وهناك إنسان حكيم، ممكن أنت أن تقلد الحكماء، والعقلاء، والرحماء، ممكن ليس صعباً، لكن أن تكون الرحمة نابعة من قلبك، لا تستطيع أن تشاهد إنساناً يعذب، أنا أريد أن تتخلق بأخلاق الله، إنسان قد يعبد الله بالظاهر، لكن هو بعيد عن أن يتخلق بأخلاق الله، لذلك له ساعة فيها غفلة، ومع الغفلة يوجد خطأ كبير، الإنسان عندما يكون له صلة بالله مستمرة أو متنامية أو لعلها ساعات طويلة تألق، وساعات قليلة فتور، يشتق من الله هذه الكمالات، الحقيقة أن الكمال هو اشتقاق كمال من الله، لذلك:

﴿ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾

[ سورة الأعراف: 180 ]

 هذه باء الاستعانة، أي أقبل على الله كي تشتق منه الكمال الذي تقبل به عليه، لذلك:

(( إن كنتم تحبون رحمتي فارحموا خلقي ))

[ الديلمي عن أبي بكر]

 تحب أن يرحمك الله ارحم من دونك.
المذيع:
 تحدثنا عن فكرة الإحسان، ومراقبة الله عز وجل، كيف يمكن لنا أن نحقق هذه الرقابة الداخلية؟ كثيراً ما يخلو الإنسان بنفسه وهنا لا يكون شاهداً عليه إلا الله عز وجل، كيف لنا أن نعزز هذه الرقابة الداخلية؟

كيفية تعزيز الرقابة الداخلية :

الدكتور راتب :
 هذه متعلقة بمعرفة الله عز وجل، كلما ازدادت المعرفة ازداد الخشوع، وكلما نمت المعرفة بالله ازدادت الطاعة له.
المذيع:
 هي الفكرة بالمعرفة والاتصال بالخالق.
الدكتور راتب :
 أصل الدين معرفة الله عز وجل، إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في معصية الآمر، والمرحلة المكية في الإسلام هي أهم مرحلة، الآيات المكية كلها عن الإيمان بالله واليوم الآخر، والتشريع جاء في المدينة، فإذا ألغينا من حياتنا المرحلة المكية وقعنا في خطأ كبير.
المذيع:
 إذاً النقطة الرئيسة أن يعرف الإنسان خالقه، ويجعل الله عز وجل عظيماً في قلبه فلا يجرؤ على معصيته.

من عرف الله و استقام على أمره لا يمكن أن يعصيه :

الدكتور راتب :
 أن يعرف هذا الذي أمره بالصلاة من هو؟ هو الله عز وجل، الذي أمره بالاستقامة من هو؟ هو الله عز وجل، سيدنا عمر رأى راعياً، فقال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟!
 أقول أنا: هذا الراعي الأمي، وضع يده على جوهر الدين، في اللحظة التي تقول: أين الله؟ انتهى كل شيء، مثلاً لو أن مريضاً جاء للطبيب، عالجه طلب منه اثني عشر تحليلاً، والحقيقة يحتاج المريض فقط لتحليل واحد، لكن يوجد اتفاق مع المحلل تجري التحليل على أول واحد، وتضع نسباً طبيعية على الباقي، والمبلغ بيني وبينك، هذه من يكشفها؟ الله عز وجل، الإنسان عندما يغلط يحجب عن الله عز وجل، لا ممكن أن تقبل على الله بعمل فيه خطأ، بابتزاز أموال الناس، بغشهم، بالضحك عليهم، بإيهامهم، باستغلال ضعفهم، مليون مليون معصية تأتي من القوي للضعيف، ومن الخبير للجاهل.
المذيع:
 كثيراً ما يشجع العلماء الناس على الخشوع في الصلاة، فيتخيل كأن الجنة على يمينه، والنار عن شماله، وأنه يقف بين يدي الله عز وجل، كيف يمكن أن تعبد الله كأنك تراه رغم أننا لا نتمكن من رؤيته، كيف للإنسان أن يصل إلى هذه الحالة الإيمانية؟

من يطلب ودّ الله يتفضل الله عليه بنفحات من نفحاته العلية :

الدكتور راتب :
الجواب: هناك نفحات أنا مهمتي أن أتعرض لها فقط، الخشوع ليس بيدي، والبكاء ليس بيدي، والإحسان بالقرب ليس بيدي، أنا مطلوب مني أن أقدم أسباب الخشوع، أن أصلي وأنا مرتاح، أن أتقن صلاتي، أتقن القراءة، أتقن الوضوء، أن أصلي ليس بغرفة الجلوس، الأخبار في التلفاز، والأولاد يبكون، هذه ليست صلاة، في غرفة أخرى تشعر بقرب من الله، تشعر بخشوع، أنا حينما أقدم الأسباب هذا الذي طلب مني، أما نوع الخشوع، نوع الإقبال فليس بيدي، إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، أنا أتعرض لهذه النفحات، الذي أنت تقصده كما أظن الخشوع في الصلاة يعني البكاء والتأثر، والصلة بالله هذه أنت لا تملكها، ولا أنا، يملكها الله، والله بحكمة بالغة جداً يتفضل على بعض المصلين من حين لآخر بحالات من التألق في الصلاة، الفرض أدّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك، دخل وقت العصر توضأت وضوءاً سابغاً، ووقفت، وصليت بخشوع، وكنت راكعاً ركوعاً مطمئناً، وكذلك السجود هذا الذي عليّ، أدّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك، لكن ظني بالله لا يمكن لعبد مؤمن مستقيم يطلب ود الله، يقدم الاستقامة والحسنات أمامه في الصلاة إلا ويتفضل الله عليه بنفحات من نفحاته العلية.
المذيع:
 عندما نتأمل الحديث:

(( .. أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))

[ البخاري عن عمر ]

 كيف يمكن أن ينعكس على سلوكنا وعلى معاملاتنا اليومية؟

من كان مع الله كان الله معه تأييداً و نصراً و توفيقاً :

الدكتور راتب :
 لا تبتعد، أنت مع إنسان مثلك، زارك إنسان في العيد، والإنسان يلبس في بيته ثياباً مبتذلة لا يمكن أن تقابله بها، تلبس ثيابك المعقولة، فالإنسان عندما يكون إحساسه أن الله معه، قال تعالى:

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾

[ سورة الحديد: 4 ]

 وإذا كان الإنسان مع الله فالله معه تأييداً، ونصراً، وتوفيقاً، ودعماً، وما إلى ذلك.
المذيع:
 لماذا سميت هذه المرتبة مرتبة الإحسان؟

الإحسان أن ترى أن الله معك :

الدكتور راتب :
 نحن نفهمها من المراتب التي قبلها، عندنا إسلام، هذا الإسلام خضوع الجوارح لمنهج الله، ما أكلت مالاً حراماً، ما كذبت، ما غششت، ما حلفت يميناً كاذباً في المحكمة، دخلت إلى البيت غضضت بصري عن امرأة لا تحل لي، ما جلست في مكان فيه غيبة ونميمة، هذا هو الإسلام، خضوع الجوارح لمنهج الله، هذا الإسلام، قال تعالى:

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ﴾

[ سورة الحجرات: 14 ]

الإسلام أول شيء، أنت حينما تنعقد الصلة مع الله، أنت مصدق لما في القرآن، وعندك إقبال على الله، هذا الإقبال هو الإيمان، فالإيمان اتجاه إلى الله، أما التقوى أي الإحسان فهي المرتبة الثالثة، الإحسان أنك ترى الحقيقة، أنت أحياناً تجد مادة بقارورة مكتوب عليها: كلورات الصوديوم، أنت من اللصاقة عرفتها، ولكن علماء الكيمياء يعرفون المادة من دون لصاقة، فأنت حينما تنتقل من مرتبة الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، الإحسان أن ترى الله كأنه معك، أن ترى كأن الوعد والوعيد بين يديك، هذه الرؤية قلبية، وهي نوع من الحدس، يوجد يقين حسي، ويقين عقلي، ويقين إشراقي، الإنسان إذا أقبل على الله قذف الله في قلبه النور، الدليل قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾

[ سورة الحديد: 28 ]

 فأنت تمشي في الليل، والطريق مخيف، فيه حفرات، وأكمات، وأفاع، وحشرات، و مفاجآت، معك مصباح منير، هذه التقوى أن تنظر بنور الله، والنور الإلهي إذا قذف في قلب المؤمن يرى به الحق حقاً، والباطل باطلاً، وهذه أعظم مرتبة.
المذيع:
 معنا اتصال أختي أم محمد تفضلي...
السائل:
 بالنسبة لموضوع الخشوع أنا منذ فترة قريبة الحمد لله منّ الله عليّ بعمرة، ورجعت منها، كان لي عمرات كثيرة يمكن هذه الثامنة، لكن كنت وأنا أنظر إلى الكعبة، أو في الروضة الشريفة أبحث عن الخشوع الذي كنت أجده في أول مرة ذهبت بها إلى العمرة و لم أجده، لازلت منذ أن عدت وإلى الآن أنأ أفكر ما هو السبب؟ كانت العمرة فيها بعض المشاكل والأمور الصعبة، ما هو السبب؟
 معنا اتصال أختي إيمان تفضلي...
السائل:
 أنا منذ فترة أدعو الله عز وجل دعاء خاصاً بي، وأشعر شعوراً غريباً أنه لا يوجد أحد في الكون يدعو الله إلا أنا، لأنني أشعر أن الله عز وجل يراني، لدرجة أنني ممكن أن أجلس أربعاً وعشرين ساعة وأنا أدعو الله عز وجل من كثرة السرور، هل هذا هو الإحسان الذي تقول عنه؟

الدعاء إيمان بوجود الله و قدرته و محبته :

الدكتور راتب :
 هذه الحالة طيبة جداً، الإنسان حينما يدعو الله، ماذا يعني أنه يدعوه؟ يعني أنه مؤمن بوجوده، مؤمن بعلمه، يسمع صوته، مؤمن بقدرته، مؤمن بمحبته، فهذا الدعاء وحده فيه كل هذه الشروط، لذلك قال تعالى:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾

[سورة الفرقان: 77]

الصلاة دعاء، الصوم دعاء، الذكر دعاء، الدعاء هو الأصل، الإنسان عندما يكون مع الله دائماً، هذا معنى الصلاة تامة مستمرة، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾

[ سورة المعارج: 23]

 هل معقول أن يصلي الإنسان أربعاً وعشرين ساعة؟ يوجد خمس صلوات، الدعاء نوع من الصلاة، غير مقيدة بحركات.
المذيع:
 الأخت إيمان سؤالها هل هذه مرتبة الإحسان؟
الدكتور راتب :
 لا الإحسان رؤيا، والدعاء كلام تدعو الله عز وجل، كنت أنت تخضع خضوعاً مادياً لمنهج الله، إسلام، ثم اتصلت بالله، إيمان، ثم رأيت حقيقة الدين، حقيقة الدعاء، حقيقة الإحسان، حقيقة الدار الآخرة.
المذيع:
 أخي حمزة تفضل...
السائل:
 أنا غداً إن شاء الله سوف أذهب عمرة أريد نصيحة من الدكتور لكسب الوقت كاملاً لله.

نصيحة لكسب الوقت في العمرة :

الدكتور راتب :
 أنا بالعادة أول شيء أعمله في العمرة، أصلي فَرَضَاً في الحرم النبوي ثم أعود إلى الفندق، الساعة الثامنة تعب الناس، ممكن أن تجلس أمام الحضرة النبوية للظهر، ومن دون ازدحام، أنصحك بهذا، أما بعد الصلاة فهناك ازدحام غير معقول، علماء كثر يفعلون هذا، إذا أنت صليت الفجر في الجامع، وذهبت إلى الفندق ارتحت ساعة، وتناولت طعام الإفطار، تأتي الساعة الثامنة إلى الظهر أمام الحجرة النبوية، تستطيع أن تناجي النبي صلى الله عليه وسلم، تقرأ القرآن، تحس نفسك مرتاحاً جداً، أما وقت الصلوات فأصلي في الحرم، لكن بعد الصلاة يوجد ازدحام، أنت ابتعد عن الازدحام، الازدحام له آثار سلبية كبيرة.
المذيع:
 كيف يمكن أن نحقق الخشوع عند الكعبة، أيضاً أختنا أم محمد طرحت نقطة تصيب غالبيتنا أول عمرة شعرت بخشوع شديد حينما رأت الكعبة لأول مرة، في العمرة الثانية كأن شيئاً لم يكن، ما الذي يحصل؟

الإقبال والتألق والبكاء والخشوع هو ملك الله عز وجل :

الدكتور راتب :
أولاً: الله عز وجل كلفنا أن نقوم بأعمال معينة، فإذا أديناها هذا الذي نملكه، أما الإقبال، والتألق، والبكاء، والخشوع، فهذا لا أملكه، لكني آخذ بأسبابه، هو ملك الله عز وجل، أسباب هذا العمل الصالح، قال تعالى:

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر: 10]

 أنت عندما تقدم عملاً صالحاً بين يدي الله، الصلاة لها مكافأة، يقول لك: الثواب، ما الثواب؟ هذا العمل رفع إلى الله، وجاءك الثواب، ثاب رجع، يرجع عليك من الله حالة اسمها السكينة، هذه الحالة مسعدة جداً، أكبر عطاء إلهي، تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، فالثواب يعني أنت عملت عملاً صالحاً، هذا العمل رفع إلى الله، وعاد لك منه الثواب سكينة، ترى في قلب المؤمن سكينة والله لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.
المذيع:
 كيف يميز الإنسان هل الله غاضب عليّ وحرمني من لذة مناجاته أم لا؟

من خطب ودّ الله يلقي في روعه أنه يحبه :

الدكتور راتب :
 من تمام ربوبية الله عز وجل أنه يلقي في قلبك أنه يحبك، عفواً ابن جاء بجلائه الكامل، كله علامات تامة، وفيه ثناء على أخلاقه، الأب ألا يعانقه؟ ألا يحضنه؟ ألا يثني عليه؟ ألا يأخذ له هدية؟ شيء طبيعي جداً، فأنت حينما تخطب ود الله شيء طبيعي جداً أن يلقي الله في روعك أنه يحبك، من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، يوجد شيء من الله يلقي في روعك أنه يحبك.
المذيع:
 إذا أنا ذهبت للعمرة، وأديت العبادات كاملة، وحاولت أن أجتهد، وأن أمكث في المسجد، وأن أدعو، فعلت ما عليّ..

التجلي والخشوع هما نتيجة لمن أخذ بالأسباب كاملة :

الدكتور راتب :
 أقسم لك بالله من سابع المستحيلات أن تكون كما ذكرت، ولا يأتيك التجلي من الله سكينة وقرباً.
المذيع:
 إذا لم يأت التجلي معنى هذا أن الخلل فيّ أنا؟
الدكتور راتب :
 عنده انشغال في الدنيا، يريد أن يحضر أكبر كمية من البضاعة حتى يبيعها، فكل فكره بالبضاعة وأسعارها، وكيف أمشيها بالطائرة، أو أن له أصدقاء في المدينة من سهرة لسهرة، ومن بيت إلى بيت.
المذيع:
 التجلي والخشوع هما نتيجة لمن أخذ بالأسباب كاملةً، من لم تتحقق له هذه النتيجة فليراجع الأسباب هناك معصية تحجبك عن الله، هنالك انشغال.
 أختي وفاء اتصال جديد تفضلي..
السائل:
 معنى الإحسان رائع جدا،ً ،لو أننا نسقطه على حياتنا العملية لتغيرت، لو أننا ننظر للموضوع من قصة سيدنا يوسف عليه السلام، كيف الله عز وجل سير الأقدار لتخدم سيدنا يوسف، لكي يخرج من قرية، وهو إنسان بسيط ليصبح عزيز مصر، ويجري كل الأقدار من رؤيا الملك، وخروج أخوته من القرية، وذهابهم إلى مصر، لو أننا نسقط هذا على حياتنا العملية، والله جاء لنا بهذه القصص من أجل أن نعيشها، ويكون لنا ما كان لأنبيائه عليهم السلام، قال تعالى:

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾

[ سورة القصص: 14]

 وعن سيدنا موسى:

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة القصص: 14]

 أي إنسان محسن كان حقاً على الله أن يجزيه كما أكرم أولياءه وأنبياءه.
 الأخت أم يحيى تفضلي اتصال الأخير...
السائل:
 كيف يطهر الإنسان نفسه من الشح؟

كيفية تطهير النفس من الشّح :


الدكتور راتب :

(( .. وإنما الكرم بالتكرم ))

[الطبراني عن أبي الدرداء ]

 يقلد الكرماء تقليداً، هذا التقليد إذا استمر يصبح طبعاً، أن تتصنع التكرم:

(( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الكرم بالتكرم ))

[الطبراني عن أبي الدرداء ]

 أول مرحلة هي التقليد، ثم تترسخ معالم هذه الأخلاق في الإنسان.
المذيع:
 إن لم تر الله فإنه يراك، هل لها أن تنعكس على يقين الإنسان في معاملاته اليومية كالرزق.

أعظم إيمان المرء أن يشعر أن الله معه :

الدكتور راتب :
 أعظم إيمان المرء أن يشعر أن الله معه، أكبر ثمرة للإيمان أن الله معك، و إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
المذيع:
 حينما نقرأ في تاريخ علماء الأمة و مجاهديها حينما واجهوا الباطل، من أين لهم ذلك القلب الذي لا يخاف البطش ولا يخاف من شيء؟ هل وصلوا إلى مرتبة الإحسان كانوا يرون نور الله عز وجل ولا يرون الدنيا؟

الثمرة الأولى للإيمان أن يشعر الإنسان أن الله يراه :

الدكتور راتب :
 هذه التي نتحدث عنها دائماً أنت عندما ترى أن الله بيده كل شيء، ترى وليس فكرة، الأفكار سهلة جداً، أن تعيش الفكرة شيء، وأن تتلفظ بها شيء آخر، بل وأن تشرحها شيء ثالث، أن تعيش أنك مع الله، أن الله يراك، أن رزقك بيده، صحتك بيده، من فوقك بيده، هذا الشعور هو الثمرة الأولى للإيمان، لذلك لا تخف أحداً، لكن لا يوجد وقاحة، هناك أدب لكن لا يوجد خوف، قال تعالى:

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾

[سورة طه : 46]

المذيع:
 سيدي نختم بالدعاء..

الدعاء :

الدكتور راتب:
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، اللهم صن وجوهنا باليسار، و لا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، و نبتلى بحمد من أعطى، و ذم من منع، و أنت من فوقهم ولي العطاء، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين، واحقن دماء المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم في الشام، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين، الفاتحة.

خاتمة و توديع :

المذيع :
 نور الله قلبكم بالإيمان، وجعله مجلس علم خالصاً لوجه الكريم، وفي ميزان حسناتكم، بارك الله بكم فضيلة العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، حديثنا انتهى عن الإحسان:

(( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ))

[ البخاري عن عمر ]

 وكيف لنا أن نستشعر هذه الرقابة الداخلية، وأن نجعلها واقعاً ملموساً في حياتنا، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور