- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المتعة في الدنيا واقتناص اللذة فيها هو الهدف الأول لأهل الكفر:
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس التاسع من سورة الشعراء.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قصة سيدنا هود، يقول الله عز وجل:
المعاصي حجاب بين الإنسان وخالقه:
المشكلة أن الذي يقطع الإنسان عن الله عز وجل هي المعاصي والذنوب، والمعاصي والذنوب لها بحث طويل، ما الذي جعل هذا الإنسان يؤثر الدنيا على الآخرة؟ هو أنه لم يذق طعم القرب، المعاصي التي تلبس بها جعلت بينه وبين الله حجاباً، المعاصي كما قيل بريد الكفر، المعاصي حجاب بينك وبين الخالق، المعاصي تجعل صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض، فالحديث عن المعاصي حديث دقيق، أي من السذاجة أن تظن أن المعاصي كلها من نوع واحد، المعاصي متفاوتة، والعصاة متفاوتون، إذا فهمت فهماً دقيقاً ماذا تعني المعصية، وما درجات المعصية، وما حالات العصاة، وقفت موقفاً معتدلاً، وموقفاً علمياً، لأن كل إنسانٍ إذا وجدته قد ارتكب معصية فكفّرته فقد وقعت في حرج كبير، ما الذي تقع به؟ أنك ترى أن الناس كلهم كفار، وأن الناس كلهم بعيدون عن طريق الحق، وأنه لا جدوى منهم، بهذا تبتعد عنهم ابتعاد الزاهد والمتكبر، لكنك إذا عرفت أن للمعاصي أنواعاً منوعة، هناك درجات في المعصية، وهناك درجات في العصاة، هذا البحث نقف عنده قليلاً فلعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا به.
قبل كل شيء حينما يفتح إنسان محلاً تجارياً، أو محلاً لإصلاح السيارات، وحينما يعتقد أن كل عطبٍ يصيب السيارة هو بسبب نقص في الوقود فقط، ليس عنده إلا تفسير واحد، فإذا جاءه صاحب سيارة يشكو له أنها توقفت، يقول له: من قلة الوقود، هذا تفسير واحد لتوقف السيارة، أما أحياناً يكون المستودع قد عبئ حتى القمة، ومع ذلك تقف السيارة، إذاً هناك أسباب كثيرة لتوقف السيارة، لا يمكن أن نفسر كل أنواع التوقف بحالة واحدة، أو بصفة واحدة، فهذا الموضوع دقيقٌ جداً، وينبغي أن نقف عنده قليلاً.
هذه المعصية الإنسان إذا رأى معصيةً فشعر أنه فوق هذا المستوى، أي عيّر أخاه بها، ربما عافى الله سبحانه وتعالى أخاه وابتلاه، انظر سيدنا يوسف ماذا قال:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
حتى موقف المؤمن من إنسان عاصٍ هناك موقف فيه تكبر، وهناك موقف فيه أدب.
أنواع العصاة أمام المعاصي:
1 ـ العصاة الجهّال:
لذلك العلماء قسموا العصاة، أو قسموا حالات العصاة أمام المعاصي إلى أنواع كثيرة.
أول نوع من العصاة هؤلاء هم الجهال، ينطلقون إلى المعاصي كما ينطلق الجائع إلى الطعام، لا يفرقون بين طعام حلال، أو طعام حرام، طعام طيب، وطعام سيئ، طعام يجوز أكله، طعام لا يجوز أكله، إنسان جائع ينطلق إلى طعامه من دون أي اعتبارٍ آخر، قال العلماء: هؤلاء هم الجهال، وهؤلاء يشبهون في انطلاقهم إلى الشهوات، وإلى المعاصي، الحيوانات، الحيوان ركّب من شهوة فقط، فحيثما وجد بغيته من طعام، أو شراب، أو لذة انطلق إليها وكفى، فالذي ينطق إلى المعصية من دون توقف، من دون تبصر، من دون سؤال، من دون تأمل، من دون أن يسأل نفسه، هل هذه معصية؟ ما نوع هذه المعصية؟ هل ترضي الله؟ هل يرضي الله أن أعصيه أم لا يرضيه؟ هذا الذي لا يعبأ، ولا يفكر في خالقه، ولا في نوع عمله، ولا في مؤدى معصيته، هذا إنسان مستواه في مستوى البهيمة.
بالمناسبة هناك موضوع دقيق جداً، الإنسان ما الذي يحركه؟ أنت تتحرك نحو أشياء ترغب بها أو تحبها، ما الذي يجعلك تتحرك نحوها؟ هو شيء واحد، هو أنك تملك تصوراً في ذهنك حول هذا الشيء، إذا تصورت أن أخذ هذا المال بشكل غير مشروع يُعد ذكاءً، ويُعد مكسباً، ويُعد غنيمةً، ويُعد مردوداً كبيراً بجهد يسير، إذا تصورت هذا فعلة هذه المعصية هذا التصور الفاسد، فالإنسان دائماً الذي يدفعه إلى السرقة، أو يدفعه إلى أكل المال الحرام، أو إلى كسب أموال بالباطل، أو إلى أكل أموال الناس بالباطل، سوء تصوره للمال، المال له طريق مشروع نأخذه، وهناك طريق غير مشروع، إذاً الموضوع هو أن الذي يجعلك تتحرك حركة صحيحة صحة التصور، والذي يجعلك تتحرك تحركاً مغلوطاً خطيراً هو سوء التصور، أضرب على هذا مثلاً، يوجد في السيارة مصباح أحمر اللون، إذا تألق معنى ذلك أن الزيت في المحرك قد قلّ عن المستوى الضروري، يجب أن تقف فوراً، وأن تضيف الزيت إلى المحرك، إذا تصورت أن هذا المصباح عندما يتألق إنما يتألق من أجل أن يسليك في الطريق، هذا التصور ينتهي بك إلى إتلاف محرك السيارة، الذي يملك تصوراً صحيحاً لسبب تألق هذا المصباح الأحمر هو الذي يصون محركه، والذي لا يملك هذا التصور الصحيح هو الذي يتلفه. إذاً ما الذي يجعلك تنطلق نحو الأهداف الصحيحة وفق الوسائل الصحيحة؟ أن تملك تصورات علمية.
ما هو العلم؟ العلم علاقة ثابتة بين شيئين، مقطوع بصحتها، عليها دليل، تطابق الواقع، أي شيء خالف الواقع يسميه العلماء هو الجهل، الجهل ما خالف الواقع، إذاً كل تصوراتك من أجل ألا تكون موصوفة بالجهل يجب أن تكون واقعية الآن بكسب المال، بإنفاق المال، بالنظر في الطريق، في علاقتك مع الجار، أحياناً تكون علاقتك معه أنت أقوى منه، فتشعر أن قوتك تدعوك إلى أن تأخذ ما ليس لك، وأن هذا من قبيل المكانة العليا في الحي، أنت إنسان قوي، وها قد أخذت شيئاً ليس لك، هذا التصور المغلوط يدفعك إلى المعصية، والمعصية تستوجب المعاقبة، إذاً الذي يدفعك ويحركك نحو العمل الصحيح التصور الصحيح، في كسب المال، في إنفاق المال، في علاقاتك بالنساء، علاقاتك بالجيران، علاقاتك بالزبائن، علاقاتك بكل إنسان، فالجهل تصور مخالف للواقع، الحقيقة العلمية التي هي علاقة بين شيئين يجب أن تكون قطعية، فإن لم تكن قطعية فهذا هو الشك، والشك خمسون بخمسين، والوهم ثلاثون بسبعين، والظن سبعون بثلاثين، أي أنت إذا كنت لست متأكداً، الحقيقة لما الإنسان يكون متردداً في قبول فكرة هذا التردد يمنعه من أن يأخذ بها، يجب أن تكون تصوراتك للأشياء أولاً: مطابقة للواقع، ثانياً: مقطوع بصحتها، ثالثاً: توافق المنطق، رابعاً: عليها دليل، إذا أردت أن تجعل كل تفكيرك، ومعارفك، ومعتقداتك، وقيمك من هذا النوع، فإن هذا الموقف العلمي يقودك شيئاً فشيئاً إلى التصرف الصحيح، ومن هنا فسر العلماء قوله تعالى:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
لو أنك اطلعت على ما في الجراثيم من أمراض خطيرة، واطلعت على طرق العدوى، إذا اطلعت على هذه المعلومات اطلاعاً صحيحاً، فإن هذا يدفعك إلى أن تنظف الأشياء تنظيفاً تاماً، وأن تعقمها، فالسلوك الصحيح أساسه معتقد صحيح، الآن عندنا قاعدة، العقيدة الصحيحة لا بد من أن تثمر عملاً صحيحاً، والعقيدة الزائغة لا بد من أن تثمر عملاً منحرفاً، فهناك علاقة ترابطية بين صحة المعتقد وبين صحة العمل، هذه علاقة ترابطية، أي خلل في العقيدة ينتج عنه خلل في السلوك، أي خلل في السلوك أساسه خلل في العقيدة:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
هو نفسه.
﴿
فالعصاة من الدرجة الأولى هؤلاء مشهدهم للمعصية مشهد الشهوة الحيوانية، هؤلاء ينطلقون إلى المعاصي من دون قيد أو شرط، من دون توقف، من دون تريث، من دون تأمل، من دون مراجعة، من دون معاتبة، من دون محاسبة، هؤلاء هم أخطر نوع من العصاة لا يزال الله عز وجل يُمدهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، من هنا تأتي بعض المصائب، مصائب قصمٍ، أي هذا أعماله كلها سيئة، يعيش ليقتنص الملذات، يعيش ليأكل، يعيش ليستمتع، بشكل صحيح أو غير صحيح، مقبول أو غير مقبول، من شيء مشروع أو غير مشروع، هذه الدرجة الأولى.
2 ـ الطبيعيّون:
الدرجة الثانية من العصاة: هؤلاء بعدوا عن الدين، ورأوا أن الإنسان له طبيعة خاصة، إن فعل هذا فهو يفعل هذا تلبية لحاجاته النفسية، إنه بحاجة إلى المرأة، فإذا غازل امرأةً مثلاً هذا ميل طبيعي، وحالة صحية، هؤلاء الذين يبحثون عن قواعد النفس البشرية بعيداً عن أوامر الدين، بعيداً عن نواهيه، ربما ينصحون بعض المرضى باتخاذ صديقات، بعض علماء النفس، بعض أطباء النفس ينصحون بعض مرضاهم باتخاذ صديقات، هم في مفهوماتهم، وفي تصوراتهم بعيدون عن أوامر الدين، وعن نواهيه، إنما ينطلقون من أن هذا الإنسان كائن يعيش ليأكل، ويعيش ليستمتع، فهذا شيء طبيعي من طبيعته، ولا شيء عليه، هؤلاء الذين غفلوا عن حقيقة الدين، وعن حقيقة الحياة، وعن جوهر الدين، هؤلاء ينطلقون إلى اقتناص الملذات بدافع من أنها شيء طبيعي لابد منه يحقق توازناً في الحياة النفسية، هذا نوع آخر من العصاة، نمط غربي، أي ليس عنده قيود، كل شيء مباح، مادام هو ناجح بعمله، ودخله كبير، تجارته رائجة، معمله نشيط، إنتاجه جيد، صادق في أقواله، انتهى الأمر، أما ارتكب هذه المعصية، أو تلك، هذا النموذج الغربي، نموذج يؤمن بالمادة، يؤمن بالإنجاز، أما علاقته بالآخرة، علاقته بالموت، علاقته بالله عز وجل فهي علاقة سيئة جداً، أو تكاد هذه العلاقة أن تكون معدومة.
مرة التقى رجلٌ بإنسان غربي قال له: أنا لا يعنيني إلا ثلاثة أشياء، منزل أكبر، وسيارة أكبر، وزوجة أجمل، هذا كل مطالبه بالحياة، هؤلاء الطبيعيون، الصنف الأول الحيوانيون، حيوان أمام قطعة لحم، لا يخطر أبداً بباله أن هذه القطعة له أم ليست له، يأكلها، أم لا يأكلها، هذا خارج اهتمامه كلياً.
النمط الثاني: الطبيعيون، يعصون وكأن المعصية جزء متمم لكيان الإنسان.
3 ـ الجبريُّون:
وهناك من يعصي ويعتقد اعتقاداً خطيراً جداً أن الله أجبره على هذه المعصية، أخي كله مكتوب، كاسات معدودة بأماكن محدودة، لا تعترض تطرد، هكذا قدر الله عليه.
هذه عقيدة خطيرة جداً أن الله عز وجل أجبر عباده على المعصية فهو يعصي وكأنه لم يفعل شيئاً، هكذا قدر الله عليّ يقول لك، يعصي المعصية وهو مكلف بالطاعة، مكلف بأن ينتهي عن هذه المعصية بنص القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعلماء بلغوه، وسمع خطبًا، وحضر مجالس علم، وعرف كل شيء، ويقول لك بعد هذا: إن الله قدر عليه هذه المعصية، هذا كلام مرفوض، هذه عقيدة أهل الجبر، أهل الجبر، أو الجبريون يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى أجبر عباده على المعصية، وأن الإنسان شأنه مع القدر كشأن ريشة في مهب الريح، وكلما ارتكب معصية يعزوها إلى الله عز وجل، وبأن الله قدرها عليه، وهو ما فعل أكثر من أن نفذ أمر الله في هذه المعصية، أي عصى الله ونفذ حكمه، لذلك سيدنا عمر لمَا جاءه رجل شارب خمر سأله: لمَ شربت الخمر؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليّ ذلك، فقال رَضِي اللَّه عَنْه: أقيموا عليه الحد مرتين، مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله، وقال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، الصنف الأول: الحيوانيون، بهيمة، والإنسان بلا علم، وبلا معرفة بالله عز وجل، شأنه كشأن البهيمة، ولو أردتم مني دليلاً فهذا هو الدليل:
﴿
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
هذا أول مستوى، مشهد الإنسان الحيواني، الذي لا يعنيه إلا قضاء شهوته، من أي طريق، بأي أسلوب، من أي جهة، يريد المال والمتعة بأي طريق.
الثاني: إنسان مثقف، يرى أن المعصية شيء طبيعي جداً، شيء من كيان الإنسان، هذه حاجة الله أودعها بالإنسان، يفعل الموبقات، وكأنه ما فعل شيئاً، هو الأصل أن يكون إنتاجه جيداً، وكلامه صادقاً في معاملته، هذا نوع من المعاصي هؤلاء ينكرون الأديان كلها، ولكن آمنوا بشيء معين من بعض القيم.
أما الصنف الثالث فهو صنف يرتكب المعصية ويعتقد أن الله أجبر عبده على هذه المعصية، لذلك قال الإمام الحسن رَضِي اللَّه عَنْه: من حمل ذنبه على الله فقد فجر، أي هناك ذنبان، ألم يقل سيدنا عمر: أقيموا عليه الحد مرتين؟ مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، لا يكفي أنه فعل هذه المعصية، بل عزا هذه المعصية إلى الله عز وجل، ما من عقيدة أخطر في الحياة من أن ترتكب المعصية، وأن تظن أن هذه المعصية إنما أجبرك الله عليها، والرد القاطع بآية محكمة:
﴿
فمن تكلم بهذا الكلام فهو بنص القرآن مشرك،
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) ﴾
على كلّ هذا الحديث تحدثنا فيه كثيراً، وعولج في دروس كثيرة جداً، عقيدة أهل الجبر أنهم يعصون الله عز وجل لأن الله قدّر عليهم هذه المعاصي، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
أيعقل أن يأمرك الله بشيء وينهاك عن شيء ثم يجبرك على أن تفعل هذا الذي نهاك عنه.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياكَ إياك أن تبتل بالماء
* * *
4 ـ القدريُّون:
وصنف آخر من العصاة هؤلاء يعزون المعصية إلى فعلهم هم، هذا الذي يؤمن أنه خلق فعله، وأن الله لا علاقة له بالمعصية، وأنه قد يقع في الكون شيء لم يشأه الله عز وجل، هذه أيضاً عقيدة القدرية وهي عقيدةٌ غير صحيحة، هذا الذي يعتقد أن الله خلق فعله، أي هو الذي أجبره على المعصية، هؤلاء الجبريون، وهؤلاء الذين يعتقدون أنهم خلقوا أفعالهم، وأن الله لا شأن له بهم، هؤلاء هم القدريون، على كل هؤلاء الأصناف الأربع من العصاة منحرفون في عقيدتهم، منحرفون في سلوكهم.
موقف أهل الإيمان الصحيح من المعصية:
الرأي الأول: كل شيء وقع أراده الله وكل شيء أراده الله وقع:
لكن أهل الإيمان ما رأيهم في المعصية؟ رأي أهل الإيمان في المعصية أن كل شيء وقع أراده الله، وأن كل شيء أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة، والحكمة متعلقة بالخير المطلق، أي هذا الذي وقع أراده الله لحكمة بالغة، قد نعرفها، وربما لا نعرفها، لا نقول نحن: إن الله أجبر عباده على هذه المعصية، إذا كان أجبرهم لمَ يحاسبهم؟ وما ذنبهم؟ كما لا نقول: إن هؤلاء العصاة خلقوا أفعالهم، وكأنهم مستقلون عن الله عز وجل، وكأن شيئاً يقع في الكون من دون مشيئة الله، هذه عقيدة زائغة، وتلك عقيدة زائغة، ولكن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن كل شيء وقع أراده الله، لأنه لا يقع شيء في ملكه إلا إذا أراده الله، وأن كل شيء أراده الله وقع يجب أن يقع، لأن الكون ملكه، والدليل:
﴿
لا يقع شيء إلا بإذن الله، ومشيئة الله، وإرادة الله، وعلم الله، وقضاء الله، وقدر الله، لكن هذا الشيء لمَ وقع؟ هنا السؤال، مادام وقع فقد أراده الله، مادام الله قد أراد شيئاً فلابد من أن يقع، لماذا وقع؟ نقول: الإنسان أحياناً قد يريد شيئاً بدافع من قوة قاهرة، وقد يريد شيئاً بدافع من إغراء شديد، وقد يفعل شيئاً لأنه جاهل، لكن هذه الأشياء الثلاث لا تليق بالله عز وجل، إرادته متعلقة بالحكمة المطلقة، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، والدليل:
﴿
يجب أن تعتقد أن هذا الذي وقع خير، لكن هناك خير مطلق، وخير نسبي، حينما يصاب الإنسان بالتهاب الزائدة الدودية الخير له أن ينقل إلى المستشفى، وأن يوضع في غرفة العمليات، وأن يخدر، وأن يشق بطنه، وأن يخرج الدم، ويأتي الجراح فيستأصل هذه الزائدة، هذا خير في حق هذا المريض، لذلك كل شيء يقع يعتقد أهل السنة والجماعة أنه خير، خير في حق من وقع في حقهم، وهذا يؤكد قول الإمام الغزالي رَضِي اللَّه عَنْه:
الرأي الثاني: لا حول عن معصية الله إلا به سبحانه:
هناك نظرة أخرى للمعصية، نظرة أهل التوحيد، أهل التوحيد يقولون: إن القرآن كله جمع في الفاتحة، وإن الفاتحة كلها جمعت في إياك نعبد وإياك نستعين، أي يا رب لا حول عن معصيتك إلا بك، ولا قوة على طاعتك إلا بك، فهذا الذي يقول: أنا مستقيم، هذا وقع في الشرك وهو لا يدري، ماذا تفعل لو أن الله ضعف مقاومتك؟ ماذا تفعل لو جعل الله مقاومتك للذنوب هشة؟ تنهار، هذا يؤكده سيدنا يوسف:
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
أهل التوحيد يرون أنه لا حول عن معصيته إلا به، ولا قوة على طاعته إلا به، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: لا حول ولا قوة إلا بالله، أهل التوحيد إذا أطاعوا يرون أن هذه الطاعة بتوفيق الله، وبكرم الله، وبحفظ الله، وإذا خالفوا يرون أن هذه المخالفة محض عدالة الله ومحض مخالفتهم هم بسببهم، أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن أن النبي المكرم سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ماذا قال؟ قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا
هناك افتقار لله عز وجل، هذا رأي أهل التوحيد في الذنوب.
الرأي الثالث: الإنسان بين التوفيق والخذلان:
هناك رأي آخر في الذنوب أن الإنسان بين حالتين، بين حالة التوفيق، وحالة الخذلان، فإذا وكلك إلى نفسك خذلك، وإذا عاملك بما هو في حقك خير فقد وفقك، فأنت بين أن تتكل على الله فيوفقك، وبين أن تتكل على نفسك فيخذلك، جرب، قل: أنا، قل كلمة أنا فقط، أنا بهذه القضية خبير، تجد نفسك غلطت غلطة كبيرة، أنا لا أفعل هذه المعصية تزل قدمك وتفعلها، إذا قلت: أنا، وظننت أنك قوي الإرادة، ذو شخصية قوية، تعرف الحق من الباطل، إذا اعتمدت على ذاتك، إذا اعتمدت على علمك، إذا اعتمدت على قوة إرادتك، إذا اعتمدت على حزمك، حينما تعتمد على ذاتك وقعت في الشرك وأنت لا تدري، لذلك يكون التأديب أن يكلك الله إلى نفسك فتقع المعصية، فالمعصية تقع ممن اتكل على نفسه في طاعة ربه، فإذا به يكتشف فجأةً أن هذه المقاومة قد تلاشت، وأن هذه الاستقامة التامة قد تبعثرت، لماذا؟ لأنك اعتمدت على نفسك، اتكلت عليها فوكلك الله إليها، فضعفت مقاومتك وأصبحت هشة، فحينما يقع الإنسان في مثل هذه الحالة عليه أن يعود إلى ربه، وأن يستعين به، وأن يتذلل له، لئلا يقع في شرك من نوع خفي، وهو الاعتماد على الذات، يقول لك: نعتمد على ذاتنا، من أنت؟ أنت عبد صغير، لا تقوى على شيء.
أحياناً الطالب في الامتحان يعتمد على قدرته الفائقة في هذه المادة فإذا هو في هذه المادة يأخذ علاماتٍ متدنية، وفي المواد التي يخاف منها، ويتكل على الله فيها يتفوق فيها، أصحاب المصالح، أصحاب المهن العالية، الأطباء، المحامون، المهندسون، المدرسون، إذا قال: أنا، وكله الله إلى نفسه، إذا قال: يا ربي إني تبرأت من حولي وقوتي والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين، الطبيب قبل أن يشخص المرض عليه أن يستعين بالله، المدرس قبل أن يلقي الدرس، المحامي قبل أن يقدم المذكرة، أصحاب المهن، أصحاب الحرف، في المجال التعليمي، وفي المجال الصناعي، إذا قلت: أنا، فقد اتكلت على نفسك، عندئذٍ يكلك الله إياها فتظهر الأخطاء، والمعاصي، والمخالفات.
الكون مظهر لأسماء الله الحسنى:
شيء آخر هو أن هذا الكون مظهر لأسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، مظهر، من أسمائه الله سبحانه وتعالى له ذات، وله أسماء حسنى، وله صفات فضلى، وله أفعال، وله مفاعيل، الزلزال مفعول فعله الله سبحانه وتعالى، فهناك انسجام بين ذاته، وبين أسمائه، وبين صفاته، وبين أفعاله، وبين مفعولاته، فالله عز وجل رحمن رحيم، إذاً يجب أن تكون أفعاله فيها رحمة، المؤمن يعتقد أن كل أفعال الله فيها أسماؤه كلها، من هنا فسر بعض المفسرين أن الله إذا تحدث عن ذاته أفرد، وإذا تحدث عن أفعاله استخدم ضمير الجمع:
﴿
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
قد يكون الحديث عن ذات الله فالحديث بضمير المفرد، وقد يكون الحديث عن أفعال الله فالحديث بضمير الجمع، لأن ضمير الجمع يعني أن كل أسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى في هذا الفعل، وهكذا يجب أن تعتقد، لذلك إذا تصورت أن الله سبحانه وتعالى لا ينزل على عباده قرآناً، ولا يبعث رسولاً، فأنت عطلت أسماء الرحمة فيه، أسماء الرحمة، والعدل، والإنصاف، واللطف، والحرص على إسعاد عباده، هذا كله أنت عطلته، لذلك من عطل الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب فقد عطل بعضاً من أسماء الله الحسنى، إذا قال لك شخص: يا أخي و الله لا يوجد عدالة في الحياة، وذكر لك قصصاً لا حصر لها من الظلم، هذا ماذا فعل؟ هذا عطل اسم الحق، فلذلك الإنسان أثناء حديثه، تفكيره، تصوره، قراءته، كتابته، ينبغي أن يكون منسجماً مع عقيدته، من أسماء الله أنه رحيم، من أسماء الله أنه عظيم، أنه قدير، أنه غني، أنه سميع، أنه مجيب، أنه الحق، ولابد للحق من أن يُظهر الحق، ولابد للحق من أن يُحق الحق، لذلك ماذا قال الله عز وجل؟
﴿
إذا قلت: إن الله ﴿مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ أنت ما عرفت الله:
﴿
إذا نفيت اليوم الآخر، ونفيت يوم الجزاء، ويوم الدينونة، ويوم الحساب، ويوم الفصل، أنت بهذا تنفي إحقاق الحق، وإذا نفيت إحقاق الحق نفيت اسم الحق عن الله عز وجل، إذاً لابد من أن تؤمن بأسماء الله كلها الحسنى، وصفاته الفضلى كلها، وأن الله عز وجل لا يدع عباده من دون أمر ونهي، ولا من دون ثواب وعقاب، إذا قلت: أنت، وأنت لا تدري.
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
إذا قلت: فلان غارق بالمعاصي، والله يعطيه، وفلان مستقيم على أمر الله، والله حرمه، وسبحان الله !! أيضاً يقول: سبحان الله، هذا تسبيح ليس في مكانه الصحيح، الله عز وجل في آيات كثيرة يقول:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
بعض المعاصي تزيد في إيمان المؤمن:
الحقيقة أن هناك رأيًا دقيقًا، لكنه يحتاج إلى دقة في الفهم، هو أن بعض المعاصي تزيد إيمان المؤمن، كيف؟ سمع مؤمن أن الله عز وجل يقول:
﴿
وسمع أيضاً أنه:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
لو أن إنساناً مثلاً زلت قدمه، ارتكب معصية، فشعر بالحجاب، ومع الحجاب الضيق الشديد، ومع الضيق الشديد المعيشة الضنك، عندئذٍ يزداد إيماناً بمصداقية هذا الكتاب، أحياناً الإنسان تكون قضية له منها موقف متردد، فيأتي الذنب أحياناً ليؤكد له أن هذا كلام الله، وأن كل خروج عن كلام الله يستوجب الشقاء في الدنيا والآخرة، أحياناً إنسان يغلط، يفعل شيئاً يأتي الرد من الله سريعاً، هذا الرد يجعل إيمانه بهذه الآية يصل إلى أعمق أعماق نفسه، هذا نوع أيضاً من أنواع الذنوب، لذلك قيل: إن أهل الدنيا في جحيم قبل الجحيم، وإن أهل الإيمان في نعيم قبل النعيم، ولما ربنا عز وجل قال حدث عن الجنة وقال:
الأصل رحمة المذنبين وعدم الاستعلاء عليهم:
شيءٌ آخر ؛ أحياناً قبل أن يذنب الإنسان، أو ينظر إلى العصاة وكأنهم مِن سقطِ المتاع، وكأنهم لا شأن لهم عند الله سبحانه وتعالى، أما إذا زلت قدمه مرةً، وإذا وقع غُلب على أمره فزلت قدمه عندئذٍ يرحم المذنبين، هذا المذنب يجب أن ترحمه، يجب ألا تستعلي عليه، يجب أن تأخذ بيده، فهناك استقامة تورث كبراً واستعلاءً وتجبراً على عباد الله عز وجل، فربنا عز وجل يعالج الإنسان، تزل قدمه أحياناً، فينكسر لله عز وجل، ويعرف أن هناك مذنبين متألمين جداً من ذنوبهم، ويحتاجون إلى أن تأخذ بيدهم، هذا معنى دقيق جداً.
علاقة المعصية بالذل والانكسار:
شيء آخر ؛ الذنب أحياناً كما قال ابن عطاء الله السكندري: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، الإنسان إذا كان له أخطاء، ثم تاب منها، هذه الأخطاء تورثه تواضعاً لله عز وجل، وتورثه رحمةً بالمخطئين، قبل التوبة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
كما كنت مقصراً، ومسيئاً، والله سبحانه وتعالى صبر عليك، وحلم عليك، حتى حملك على التوبة، فصرت مستقيماً، ارحم هؤلاء المقصرين، لا تيئس منهم، لا تعرض عنهم، لا تستعلي عليهم، من هنا ورد:
حالات المسلم مع المذنب التعيير والتكبر والغيبة:
أنت أمام إنسان مذنب لك ثلاث حالات مرضية، إن قلت في نفسك: لماذا يذنب؟ هذه دناءة، عيرته، إذاً تستحق أن تبتلى بهذا الذنب من قِبل الله عز وجل، هذا موقف متعجرف، موقف فيه تجبر، فيه تكبر، من عيره ابتلي به، ومن ذكره فقد اغتابه، أينما جلس: فلان فعل كذا، فضحته، فهذه غيبة، وإن قلت: والله نعما فعل، هذه الكلمة فقط، شاركته في الإثم، ماذا ينبغي أن تقول؟ يجب أن يكون لك موقف واحد، أن تقول: أرجو الله أن يتوب عليه، وأن يعافيني من هذا الذنب، هذا موقف العبودية، لذلك الإنسان أحياناً لا يرحم المذنب يتجبر عليه، أغلب الظن أن الله عز وجل يضعف مقاومته، وتزل قدمه، ويقترف الذنب نفسه، فالإنسان إذا كان مستقيماً يكون متواضعاً مع استقامته حتى الله عز وجل يحفظ له نعمة الاستقامة، وينطلق من قوله تعالى: إياك نعبد، وإياك نستعين، هذا معنى الرحمة.
إذا رأيت إنساناً مقصراً، مرتكباً بعض المعاصي، لا تستعلِ عليه، خذ بيده، لعل الله عز وجل يجعل توبته على يديك، إذا استعليت عليه، واحتقرت عمله، وازوررت عنه، واشمأززت منه، وتكبرت عليه، هذا يزداد عنك بعداً.
سيدنا عمر بلغه أن أحد من يعرفه وصل إلى الشام، وبدأ يعاقر الخمر، ماذا فعل سيدنا عمر؟ كتب له كتاباً قال له: أحمد الله إليك، غافر الذنب، قابل التوبة، شديد العقاب، ذي الطول، كلام رقيق، عرفه برحمة الله، وبأنه يقبل التوبة عن عباده، فهذا الإنسان العاصي الذي يعاقر الخمر ما زال يقرأ كتاب سيدنا عمر حتى بكى وتاب، فلما بلغ سيدنا عمر ما حصل لهذا المذنب قال: هكذا افعلوا بأخيكم، إذا رأيت أخاك واقعاً بمعصية لا تكن عوناً للشيطان عليه، كن عوناً له على الشيطان، استره، وخذ بيده، وعاونه، ولو كان واقعاً بمعصية عاونه فلعله يميل إليك، هذا موقف الرحمة، إذا الإنسان لم يرحم المقصرين يوشك أن تزل قدمه مثلهم، إذا لم يرحمهم، واستعلى عليهم، واحتقرهم، يوشك أن تزل قدمه مثلهم، إذا كنت في هذا الحال، انتقلت إلى حال آخر هو حال العجز والضعف، هذا حال صحي.
معاني مَن عرف نفسَه عرف ربّه:
لذلك قال: من عرف نفسه عرف ربه، من عرف ضعفه عرف ربه القوي، من عرف فقره عرف ربه الغني، من عرف جهله عرف ربه العليم، فكلما ازددت بنفسك معرفةً ازددت معرفة بالله عز وجل،
المعنى الآخر ؛ من عرف نفسه عرف الآيات الدالة على عظمة الله في نفسه، عرف ربه، كيف الله عز وجل خلق الجنين، كيف تلقحت البويضة؟ كيف تمت الانقسامات؟ كيف كانت نطفة، ثم علقه، ثم مضغة، ثم عظام، ثم لحم.
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا
من عرف نفسه عرف ربه لها ثلاثة معان.
والمعنى الثالث: أنت قبل أن تقول: أنا أعرف الله، هل عرفت نفسك؟ هذا معنى النفي، ومعنى الأولوية، ومعنى الضد.
باب الذل والانكسار أسرع الأبواب إلى الله:
على كلّ مرتبة العجز والضعف مرتبة صحية في علم التوحيد، بقي مرحلة الذل والانكسار، أحد العارفين قال: طرقت أبواب الله كلها فوجدت ازدحاماً على كل أبوابه، باب العمل الصالح، باب الدعوة إلى الله، باب تصنيف الكتب النافعة، هذه الأبواب عليها ازدحام شديد، إلا أن هناك باباً لا يوجد عليه ازدحام، باب الذل والانكسار، لذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي: أنا مع المنكسرة قلوبهم، الحزانى في كنف الله، إن الله يحب كل قلب حزين، الحزانى معرضون للرحمة، هذا باب الذل والانكسار أسرع الأبواب إلى الله، ليس فيه ازدحام، ليس فيه طوابير كثيرة، أسرع باب إلى الله وهو من أخف هذه الأبواب، باب الذل والانكسار، أي هو باب العبودية، والعبودية كما تعلمون غاية الخلق، أي اللهم اجعلني عبدك، قال النبي الكريم هذه الكلمة وهو في سدرة المنتهى، فكلما علا مقامك ازداد تحققك بعبوديتك لله عز وجل، هذا الموضوع عن الذنوب، أي القسم الحيواني، والقسم الطبيعي، وأهل الجبر، وأهل القدرية، هؤلاء يفهمون الذنوب فهماً منحرفاً، ثم تأتي مراحل أخرى أي أهل التوحيد، أهل التوفيق والخذلان، أهل الحكمة، أهل الرحمة، هذا كله من معانٍ دقيقة جداً متعلقة بالذنب، على كل كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث شهير، ولكن الناس يفهمونه فهماً مغلوطاً، حديث خطير في معناه الظاهري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. ))
معناه الظاهري أسرع إلى الذنب، أما المعنى الحقيقي فيعني لو لم تكونوا على درجة عالية من الحساسية، والإرهاف، تحسون بذنوبكم لذهب الله بكم، أي هنا الإحساس بالذنب، الذي لا يحس بذنبه إنسان ميت، هناك إنسان يغتاب، ثم يذهب وينام طوال الليل مرتاحاً، يأكل مالاً حرام، يؤذي الناس، مرتاح، لم يفعل شيئاً، هذا ميت، قال الله عز وجل:
﴿
ميت، أما هذا الذي يغتاب أخاه فلا ينام الليل، هذا الذي ينظر إلى امرأة نظرة أزيد من النظرة الأولى، يشعر بانقطاعه عن الله عز وجل، هذه علامة صحية، هذا في خير، لو لم تذنبوا أي لو لم تحسوا بذنوبكم لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون، أي إذا غلط يشعر أنه في خطأ كبير، أحدنا إذا كان عنده ابن، وارتكب غلطاً، حينما ارتكب هذا الغلط علا وجهه حمرة، وشعر بالخجل، وأطرق بصره إلى الأرض، واستحيا أن ينظر إلى أبيه، هذا الأب يضربه؟ ليس معقولاً أن يضربه، هذا شعر بذنبه، هناك ابن يتكلم كلمة قاسية، أو نابية، يقول لأبيه: ماذا قلت؟ هذا يحتاج إلى ضرب، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون، بمعنى يحسون بذنوبهم.
المؤمن مذنب توّاب كلما زلّت قدمه عاد إلى الله بسرعة:
ملخص الدرس: هذا الذي تسره حسنته، وتسوءه سيئته، فهو مؤمن ورب الكعبة، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه خَطَبَ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ:
(( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَامِي فِيكُمْ فَقَالَ: َمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ.))
أنت مؤمن، إذا غلطت غلطة، وشعرت بانقطاع، لذلك قال أحد العارفين: شاب مؤمن عنده، سمع منه أن لكل سيئة عقاباً، ارتكب معصية، فشعر بالجفوة، فبعد أيام كان ينتظر العقاب من الله عز وجل على حسب كلام شيخه، مضى أسبوع، وأسبوعان، ولم يحدث معه شي، جسمه صحيح، في الصلاة ناجى ربه قال: يا رب لقد عصيتك ولم تعاقبني؟ قال: فوقع في قلبه أن عبدي قد عاقبتك ولم تدرِ، ألم أحرمك لذة مناجاتي؟ أي ألا تكفي هذه؟ إذا ارتكب الإنسان مخالفة فانقطع عن الله عز وجل أسبوعاً أو أسبوعين، الصلاة شكلية، انقباض، ضيق، ألا يكفيك هذا العقاب؟ من عنده حساسية بالغة كل غلطة يرتكبها يحس بانقطاع عن الله عز وجل، هذه علامة صحية، وقد ورد:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
والحمد لله رب العالمين