- السيرة / ٠1السيرة النبوية
- /
- ٠1هدي النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة :
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة أكمل هدي في وقتها، وفي قدرها، وفي نصابها، ومن تجب عليه، ومصرفها، وقد راعى فيها صلى الله عليه وسلم مصلحة أرباب الأموال، ومصلحة المساكين معاًً، وجعلها الله سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه، وقَيّد النعمة بها على الأغنياء، فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاته؛ بل يحفظُهُ عليه، و ينميه له، ويدفع عنه الآفات، ويجعلها سوراً عليه، وحصناً له، وحارساً له.
الْأَصْنافُ الّتي تجب فِيهَا الزّكاة :
ثم إنه صلى الله عليه وسلم جعلها في أربعة أصناف من المال و هي أكثر الأموال دوراناً بين الخلق، وحاجتهم إليها ضرورية؛ بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، الزروع والثمار، الجوهران اللذان بهما قوام العالم وهما الذهب والفضة، أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
أربعة أصناف من المال.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أوجبها مرة كل عام، وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها، الزروع والثمار عند نضجها، والأموال كل عام، وهذا أعدل ما يكون، إذ وجوبها كل شهر أو كل جمعة؛ يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة يضر بالفقراء والمساكين، لذلك جعلها كل عام مرة.
نِصابُ الزّكاة :
ثم إنه صلى الله عليه وسلم - وقد أوتي الحكمة - فاوت بين مقادير الزكاة بحسب سعي أرباب الأموال في تحصيلها وسهولة ذلك؛ فأوجب الخمس فيما صادفه الإنسان مجموعاً محصلاً من الأموال؛ مال جاهز - كنز؛ لقي الإنسان كنزاً ليس هناك جهد، ولا تعب، ولا حفر - الكنز زكاته الخمس ، وهو الركاز، ولم يعتبر له حولاً؛ بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به.
وأوجب نصف الخمس - وهو العشر - فيما كانت مشقة تحصيله، وتعبه، وكلفته فوق ذلك، وذلك في الثمار والزروع التي يباشر حرث أرضها وسقيها وبذرها - ويتولى الله سقيها - إذا تولى الله عز وجل سقي الزروع نصف الخمس – أي العشر - يتولى الله سقيها من عنده بلا كلفة من العبد، ولا شراء ماء ولا إثارة بئر ودولاب، الأرض البعل إنتاج زكاتها نصف الخمس – العشر-.
وأوجب نصف العشر- بدأ بالخمس، نصف الخمس، العشر، نصف العشر- وأوجب نصف العشر فيما يتولى العبد سقيه بالكلفة والدوالي والنواضح وغيرها، الآن نصف نصف العشر - اثنان ونصف بالمئة - و أوجب نصف ذلك وهو ربع العشر فيما كان النماء فيه موقوفاً على عمل متصل برب المال – أي تجارة - عمل يومي، وفتح محلات، وشراء بضاعة، وبيع، وجهد، وتحصيل ديون، وشحن البضاعة؛ مادام هناك جهد يومي؛ ربع العشر؛ بدأ بالخمس – الركاز- من دون جهد إطلاقاً، نصف الخمس للأراضي البعلية، نصف العشر للأراضي المسقية، ربع العشر لأعمال التجارة؛ لذلك من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن نمو الزرع والثمار أظهر و أكثر من نمو التجارة - أي الإنسان يزرع أحياناً خمسة غرامات بذر بندورة يأتيه خمسة أطنان؛ كم ضعف؟ مليون ضعف؛ خمسة غرامات يزرعون في بيت بلاستيكي- نصف دونم - يعطون خمسة طن، طبعاً الطن ألف كيلو غرام، والغرام واحد من ألف من الكيلو غرام؛ فألف ألف ، فكل غرام يعطي طناً تقريباً، أي ألف ضعف، ولما كان نماء الزراعة أظهر كانت زكاة الزروع أعلى.
وظهور النمو فيما يسقى بالسماء، والأنهار أكثر، أما فيما يسقى بالآبار - الآن هناك بئر، و محرك، و وقود، و إصلاح المحرك، و صيانة المحرك - مادام هناك مصروف فنصف العشر، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل للمال الذي يحتمل أن تواسي به الآخرين نصاباً؛ لذلك لا زكاة فيما دون النصاب - أي دون الأربعين ألفاً على تقييم الذهب ودون العشرة آلاف على تقييم الفضة لا زكاة فيه- والدين يستغرق المال أحياناً، معك مئة ألف عليك مئتا ألف فالدين يستغرق المال.
تولي الله عز وجل بنفسه توزيع أموال الزكاة :
اقتضت حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن جعل في الأموال قدراً يحتمل المواساة، ولا يجحف بها، ويكفي المساكين، ولا يحتاجون معه إلى شيء، ففرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، فوقع الظلم من الطائفتين الغني يمنع ما وجب عليه والآخذ يأخذ ما لا يستحقه فتولّد من بين الطائفتين ضرر عظيم على المساكين، وفاقة شديدة؛ لذلك قد يلجؤون إلى الحيل، وقد يلجأ الغني إلى الحيل في عدم دفع زكاة ماله؛ لذلك تولى ربنا جل جلاله بنفسه تقسيم الصدقة، وجزأها ثمانية أجزاء، يجمعها صنفين من الناس؛ أحدهما من يأخذ لحاجة، فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها، وكثرتها، وقلتها، وهم: الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب وابن السبيل، والثاني: من يأخذ لمنفعته؛ وهم: العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة؛ أي الله عز وجل تولى بنفسه توزيع أموال الزكاة؛ فجزأها ثمانية أجزاء.
تَفريق الزّكاة علَى الْمستَحقّينَ من أَهْل الْبلد :
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل فاقة وفقراً؛ أعطاه الزكاة؛ قال: وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب:
((لا حظ في الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب))
وكان يأخذها من أهلها، ويضعها في حقها، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال - أي هذا المال جمع في هذه البلدة، ففقراء هذه البلدة أولى بزكاة أموال أغنيائهم من بلدة ثانية؛ الغني ربح من هنا، فالفقير اشترى وأربح الغني؛ فالفقير أولى بزكاة المال من بلدة ثانية - هذا من هدي النبي عليه الصلاة والسلام - وما فضل عنهم حمل إلى بلد آخر- لذلك كان عليه الصلاة والسلام يبعث سعاته إلى البوادي، ولم يكن يبعثهم إلى القرى؛ لأن كل قرية فيها فقراء؛ فالقرى تكفي نفسها، أما البوادي فليس حولهم أحد، بل أمر معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن، ويعطيها فقراءهم ولم يأمره بحملها إليه.
ولم يكن من هديه أخذ الزكاة من الخيل، و الرقيق، ولا البغال، ولا الحمير، و لا الخضروات، ولا المباطخ و المقاتي و الفواكه؛ أي أنواع الخضروات التي لاتكال ولا تدخر؛ إلا العنب والرطب، العنب يصير زبيباًً، والرطب يخزن، فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة، ولم يفرق بين ما يبس وما لم ييبس.
دعاؤه صلّى اللّه عَلَيه وسلّم لجابي الزّكاة و النّهي عن الْأَخذ مِنْ كَرائِمِ الْأَمْوَالِ :
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الرجل بالزكاة؛ دعا له فتارة يقول:
((اللهم بارك فيه وفي إبله))
وتارة يقول:
((اللهم صلِّ عليه))
يريد هنا الدعاء له.
ولم يكن من هديه أخذ كرائم الأموال في الزكاة بل وسط المال، ولهذا نهى معاذاً عن أن يأخذ كرائم أموالهم؛ أي هناك ناقة جيدة جداً،هذه دعها لصاحبها، خذ ناقة من أوسط النوق - ناقة عادية - قال له:
((وإياك و كرائم أموالهم))
التصرف في الصدقة :
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى المتصدق أن يشتري صدقته، وكان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة؛ أي المتصدق أعطى الزكاة لفقير، ثم اشتراها منه؛ ينشأ هنا خجل، قد يشتريها منه بثمن بخس، نهى الغني أن يشتري صدقته من الفقير، لكنه سمح للغني أن يأكل من صدقته، أي إذا الغني أعطى فقيراً، وبعد حين الغني زار الفقير، وضيفه، مسموح له أن يأكل - وهو يعلم أن هذا المال أصله من عنده لكنه انقلب من زكاة إلى ضيافة - إذاً كان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة تأليفاً لقلوب الفقراء إذا أهداها إليه الفقير، وأكل عليه الصلاة والسلام من لحم تصدق به على بريرة وقال:
((هو عليها صدقة، ولنا منها هدية))
المال اختلفت صفته.
وكان صلى الله عليه وسلم يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة، كما جهز جيشاً؛ فنفذت الإبل؛ فأمر عبد الله بن عمر أن يأخذ من قلائص الصدقة، وكان إذا عراه أمر استسلف الصدقة من أربابها، كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين، إذاً: يجوز أن تدفع الزكاة مقدماً إذا كان لدينا حاجة ماسة؛ يدفع الواحد مبلغاً على حساب الزكاة، لعام أو لعامين قادمين، هذا من هديه صلى الله عليه وسلم.
هديه صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر :
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر أنه فرضها على المسلم، وعلى من يمونه من صغير و كبير، ذكر أو أنثى، حر أو عبد؛ صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب.
وروي عنه:
((أو صاعاً من دقيق، أو نصف صاع من بر))
والمعروف أن عمر رضي الله عنه جعل نصف صاع من بر مكان الصاع من هذه الأشياء، وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك.
و فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار مرسلة و مسندة يقوي بعضها بعضاً؛ أي قوم هذا الشيء، ودفع مالاً مقابله، و إن كان العلماء لا يزالون يؤكدون أن إنفاق المال أفضل من إنفاق ثمنه؛ هناك سبب: أن الفقير أحياناً عليه دين، تعطيه خمسة آلاف، يسدها ديناً، فيبقى أولاده جياعاً، أما إذا أعطيت الفقير الطعام؛ فهذا الطعام وصل إلى أفواه أولاده حتماً.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص صدقة الفطر على المساكين فقط، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية - أي زكاة الفطر ليس لها علاقة بالعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، هذه للفقراء والمساكين -.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم - وقد جعل هذه الزكاة على كل المسلمين حتى الفقراء منهم - أن يذوق الفقير طعم الإنفاق كل عام مرة.
هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ صَدَقةِ التَّطَوُّعِ :
وكان عليه الصلاة والسلام أعظم الناس صدقة مما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى، تعطيه مبلغاً؛ هذا المبلغ كثير عليه؛ يكفيه نصف المبلغ؛ هناك شخص لا يسخو أن يدفع - زكاته ضخمة؛ يرى أن المبلغ ضخم جداً، والفقير لا يستحق هذا المبلغ- كان عليه الصلاة والسلام لا يستكثر شيئاً أعطاه لله تعالى، ولا يستقِلّه وكان لا يسأله أحد شيئاً عنده إلا أعطاه؛ قليلاً كان أو كثيراً، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ ما يأخذه - سروره صلى الله عليه وسلم بما يعطي أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه - وكان أجود الناس بالخير؛ يمينه كالريح المرسلة، و كان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان ينوع في أصناف عطائه و صدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية؛ وتارة بشراء الشيء، ثم يعطي البائع الثمن والسلعة جميعاً؛ كما فعل ببعير جابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه، وأفضل، و أكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه؛ أحياناً شخص فقير جداً؛ باعك حاجة، أنت أعطيته ثلاثة أضعاف ثمنها؛ أي أحببت أن تجبر خاطره، الشخص ينزعج ليست قضية بيع وشراء هذه قضية جبر خاطر، قضية مواساة؛ تجد طفلاً صغيراً يبيع أفضل من أن يتسول، و أحسن من أن يتعلم السرقة، إنه يعمل ؛ لا تساومه كثيراً - يظل يفاصله حتى لا يبقي له ربحاً إطلاقاً؛ يعد ذلك شطارة - هذا الطفل أحب أن يبيع؛ يجب أن يرى كرماً من المشترين، لا أن يرى شحاً.
الزكاة تطهر نفس الفقير من الحقد والغني من الشح :
وكان عليه الصلاة والسلام يقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها؛ تلطفاً وتنوعاً في دروب الصدقة والإحسان، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه، وبحاله، وبقوله:
((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق))
فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة، ويحض عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل الشحيح دعا حاله إلى البذل والعطاء، وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه لا يملك نفسه من السماحة والندى، وكان هديه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقة والمعروف؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أشرح الخلق صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً؛ فإن للصدقة وفعل المعروف تأثيراً عجيباً في شرح الصدر.
الحقيقة إذا أنفق الإنسان من ماله، وعمل أعمالاً صالحة؛ تجد معنوياته عالية جداً، وقلبه ممتلئ يقيناً، و وجهه مشرق، هناك تألق، التألق سببه العمل الصالح، وأساساً الزكاة من معانيها النماء، والطهر؛ تطهر نفس الفقير من الحقد، والغني من الشح، والمال من تعلق حق الغير به، وتنمي نفس الفقير فيشعر بأهميته في المجتمع، تنمي نفس الغني فيشعر بعمله الطيب، تنمي المال بطريقتين: بطريقة مألوفة و بطريقة العناية الإلهية.