- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠9العقيدة والإعجاز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مقدمة:
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الرابع والعشرين من دروس العقيدة والإعجاز، ولازلنا في مقومات التكليف، وانتقلنا من الكون إلى العقل، ثم إلى الفطرة، ثم إلى الشهوة، وتدرجنا في الشهوة في موضوعات كثيرة، ثم انتقلنا إلى شهوة المال، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
لابد من التفوق في الدنيا من أجل إظهار الإسلام:
لكن في هذا الدرس أيها الأخوة، أردت أن أربط هذه الشهوة بواقع المسلمين، وكنت أقول دائماً: ما لم تكن متفوقاً في دنياك فلا يحترم دينك، أنا لا أدعو إلى التنافس على حطام الدنيا، ولكن كيف تقنع الآخر ؟ الله عز وجل جعل هذه الأمة وسطاً بينه وبين بقية الأمم، وأذكركم مرة ثانية أن الأمة الإسلامية إذا كان فيها تخلف، ونسب الفقر عالية جداً، ونسب البطالة عالية جداً، ونسب الأمية عالية جداً، ونسب العنوسة عالية جداً، معظم هذه الدول تستورد ولا تصدر، بأسها بينها، سلمها لأعدائها، كيف تقنع العالم أن منهجنا صحيح ؟ أؤكد لكم ولا أبالغ ما دمنا بهذا الوضع من التخلف فلا يمكن أن نقنع أحداً بهذا الدين العظيم، ومن قال لك: إنك إذا أسلمت، واستقمت حلت كل المشكلات، يجب أن تحمل رسالة، لأن الله عز وجل قال:
﴿ وَالْعَصْرِ (1)إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
جواب القسم:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
أي إنسان خاسر لأن مضي الزمن يستهلكه:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ (3)﴾
من هذه الكلمة يتضح أن الدعوة إلى الله فرض عين، فرض عين على كل مسلم، في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، ومن خلال تجارب كثيرة وخبرات متراكمة أؤكد لكم أن المتألق في عمله، الأول في اختصاصه، الذي يعتني بصحته، يعتني بمعلوماته، يعتني بتصرفاته، يضبط نفسه، ثم يتكلم في الدين يكون كلامه مسموعاً، أما إذا كان مهملاً في عمله أو في صحته أو في شؤونه الخاصة أو في بيته فلن يستطيع أن يقنع أحداً بالدين.
لذلك الحقائق التي أكرمنا الله بها هي موقوفة على ما لم نتفوق في دنيانا حتى نستطيع أن نقنع الآخر من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ))
كم من طالب مسلم ذهب إلى بلاد بعيدة ليدرس ؟ طالب من الهند استطاع أن يكتشف البريد السريع( الهوت ميل ) وفي أول عام جاءه عشرة ملايين مشترك، هذا الأمر دفع بيل غيت صاحب مايكروسوفت إلى أن يشتريه منه، عرض عليه خمسين مليون دولار، فطلب خمسمئة مليون، خلال عامين تم التفاوض على أربعمئة مليون، قبضها، وأنفق ثلاثمئة مليون لحل مشكلات المسلمين في الهند، والآن رصيده مئة مليون.
أنا أدعوكم إلى التفوق، الدنيا كما ترى نأكل ونشرب وننام، إن كنت كذلك فأنت واحد من ستة آلاف مليون، لا تقدم ولا تؤخر عندما لا تكون متفوقاً، لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى تفوق، الدعوة إلى الله تحتاج إلى انضباط، أن تكون أولا، فإن كنت طبيباً فكن الطبيب الأول، وإن كنت محاميا فأنت المحامي الأول، وإن كنت مهندساً فالمهندس الأول، وإن كنت تاجرا فالتاجر الأول، هذا شيء سهل جداً، لكن يحتاج إلى تخطيط.
أيها الأخوة، والخبر مؤلم جداً، أن كل مئة شاب ثلاثة يعرفون أهدافهم، ويتحركون نحوها، ثلاثة بالمئة فقط، هدف واضح، أنت الآن ماذا تريد أن تكون حينما تتخرج من الجامعة ؟ تحب أن تكون عالماً؟ تحب أن تكون طبيباً؟ تحب أن تكون تاجراً كبيراً؟ صناعياً؟ فكر.
هناك كلمة قرأتها قبل أربعين عاماً ولا أنساها: " إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام، إذا كان صادراً حقاً عن إرادة و إيمان ".
أقول لك بشكل واضح: اطلب ما شئت من الله إن كان الطلب صادقاً، وقدمت الثمن، وهو السعي:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾
لا بد من أن تصل إلى هدفك، هذه حقيقة.
أنت علاقتك مع الله، علاقتك مع الذي بيده كل شيء، قال لك: عبدي اطلب تعطَ، لا أكلفك إلا أن تطلب بصدق، اطلب بصدق، وأنا أعطيك، خلاف ما يقال: الظروف صعبة، الدخل قليل، الضغوط عالية، وعود الله عز وجل فوق الزمان والمكان، وعود الله عز وجل فوق كل المعطيات، وعود الله عز وجل فوق كل الظروف.
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾
علاقة المال بوضع المسلمين:
درسنا اليوم علاقة المال بوضع المسلمين.
هذا هو حال المسلمين للأسف الشديد:
واللهِ زرت بلدًا في إفريقيا، وهو بلدٌ مسلم، واللهِ كاد قلبي يعتصر من الألم، أغنى بلد في إفريقيا، البلد الأول في الماس، واليورانيوم، والذهب، وفي خام الألمنيوم، وأغنى بلد من حيث التربة والأمطار، معدلات الأمطار في الليلة الواحدة أربعمئة مليمتر، وإنتاج زراعي غزير، ومع ذلك هو أفقر بلد في إفريقيا، أغنى بلد من حيث الثروات، وأفقر بلد، لأن فيه الجهل، والحديث في هذا طويل.
حينما أرى المسلمين فقراء، وهم يتربعون على ثروات مذهلة، ويحتلون أخطر موقع في العالم، وعندهم كل الثروات، ومع ذلك فقراء، لأن فيهم تقصيراً كبيراً جداً، هذا البلد الذي شوه صورة نبينا عليه الصلاة والسلام- والآن أعادوا نشر الصور- كم عدد سكانه ؟ خمسة ملايين، كم يطعمون؟ خمسين مليوناً في العالم، خمسون مليوناً يأكلون من إنتاج هذا البلد، وهناك شركة في اليابان عدد عمالها أربعون ألفاً أرباحها تساوي الدخل القومي لأكبر بلد عربي، كل أنواع الإنتاج؛ إنتاج الشعب، والصناعيين، والتجار، وإنتاج المرافق العامة، والثروات، مجموع الدخل إجمالاً يساوي الدخل القومي.
1 – المال عصبُ الحياة:
فيا أيها الأخوة، علاقة المال بعصرنا، المال عصب الحياة، والمال قوة، بالمال تحل المشكلات، وهناك مقولة يسمعوننا إياها كثيراً، أن الكثافة السكانية عبءٌ، من قال لك: إنها عبءٌ؟ اليابان فيها أكبر كثافة سكانية في العالم، وتايوان وكوريا الجنوبية، والهند واليابان، وهي أغنى بلاد العالم، اليد العاملة إما أن تكون ورقة رابحة وإما ورقة خاسرة، إن أطلقتها وعلمتها تغدو ورقة رابحة كبيرة جداً، والآن من مسلَّمات الاقتصاد أن الموارد البشرية هي أعلى موارد اقتصادية في العالم، فاليابان ما عندهم أي مادة أولية، وهي أغنى البلاد، عندهم جهد بشري فقط، أغنى البلاد في العالم ما عندهم ولا مادة أولية.
أيها الأخوة، أحياناً هناك ظروف صعبة جداً، ظروف القهر الاقتصادي، والحصار الاقتصادي، ومنع التصدير لبعض الدول، في مثل هذه الظروف يغدو كسب المال عبادة، كسب المال وحل مشكلات المسلمين، وهناك فقراء، وطلاب أذكياء جداً يحتاجون إلى من يرعاهم لينالوا أعلى الدرجات.
2 – مجالات الخير بالمال كثيرة منوَّعة:
كنت في مهرجان القرآن الكريم العام الماضي، وبلغني أن حافظًا لكتاب الله يعطى مبلغاً يقترب من مليون ليرة أو أكثر، قلت: ماذا يفعل هذا الشاب بهذا المبلغ ؟ كنت أتمنى أن يمنح هذا الشاب منحة دراسية حتى الدكتوراه، الأمة قوية بعلمائها، المستشفيات بأطبائها، الجامعة بأساتذتها، وأتمنى أن يكون المال في هذه الظروف الصعبة جزءًا من تقربنا إلى ربنا.
أحيانا ترى إنساناً صناعياً عنده ثمانية آلاف عامل، فتح ثمانية آلاف بيت، والبيت فيه خمسة أشخاص، زوج وزوجة وثلاثة أولاد، الحد الأدنى، ثمانية آلاف ضرب خمسة تساوي أربعين ألف شخص، كلّ إنسان يأكل عن طريق هذا المعمل، أليس هذا ربحاً ؟ ربح كبير، أنا أتمنى لا تقول لي ظروفي صعبة مع الدعاء كل شيء يسهل.
مرة ثانية: " إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام، إذا كان صادراً حقاً عن إرادة و إيمان".
إنسان في بلد أتقن البرمجيات، قال لي: والله أرباحنا برقم لا يصدق، يبيع الدول الكبرى برامج، وهيأ يدًا عاملة، ثم قال: أعطي الموظف مئة ألف في الشهر، هذا الإنسان إذا تكلم في الدين يسمع له، لأنه متفوق، وهيأ فرص عمل بدخل كبير، ويبيع الدول الكبرى برامج، فإذا تكلم في الدين يصغى إليه.
الهند أيها الأخوة من سنتين أو ثلاث دخْلها من البرمجيات ثلاثة وثمانون مليار دولار، برمجيات لا نفط، ولا حديد صلب، ولا نحاس .
الذي أتمنى أن يكون واضحاً في هذا اللقاء الطيب أنك حينما توحّد الله، وتقول: الله خلقني للجنة، والجنة تحتاج إلى عمل، ابحث عن عمل تتقرب به إلى الله، قل: يا رب هيئ لي عملاً صالحاً يرضيك.
والله أحد أخواننا الأطباء أقسم لي بالله أنه عالج ثمانية عشر ألف مريض مجاناً مدى الحياة، يعطيهم بطاقة، طبيب معه رسالة، يحتاج أن يقدم للمسلمين خيراً، وأطباء آخرون أسسوا جمعية، كل إنسان درس في بلاد بعيدة، ومعه بورد يعلّم إخوانه الأطباء الذين لم يتح لهم أن يسافروا، يعطونهم أحدث الخبرات حتى يرتفع مستوى الطب في القطر.
بصراحة قد تقول لي: أنا أصلي، لكن الفرق بينك وبين غير المصلي يجب أن يكون فرقاً صارخاً كبيراً، في المنطلقات، والأهداف، والتصورات، والسلوك، فإذا لم يكن بينكما فرق يلفت النظر يحدث صدمة فلن تكون مؤمناً.
حينما تحمل همَّ المسلمين ٍتكون عند الله مقرباً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به ))
فالمال قوة، حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي.
نحن مع الأسف الشديد الغني يجمع الأموال لينفقها على ملذاته، ليتباهى بها، ليكسر قلوب العباد بمركبته وبيته، برفاهيته وأسفاره، أما المؤمن فيجمع المال لينفقه في سبيل الله.
كأن هذا الدرس علاقة المال بالدار الآخرة، المال قوة، المال تحل به المشكلات، المال قوام الحياة، يمكن أن تكسبه حلالاً، وأن تنفقه حلالاً، يمكن أن تؤسس جامعة، وقد زرت جامعة الطلاب فيها بالآلاف، والأقساط مجانية، المواصلات للطالبات من البيت، وفوقها معاش شهري، خرّجت هذه الجامعة آلاف الطلاب والطالبات، وتعينوا موظفين، والبنات تعينّ وتزوجن، هيأ للفتاة عملا وهن محجبات بغير اختلاط، هذا عمل بالمال طبعاً، وهناك خبرات عند المسلمين تلفت النظر، مشروع تعليمي، مشروع خدمي، مشروع ميتم، مشروع صحي، إذا كنت غنيا فمن الممكن أن تصل بالمال إلى أعلى درجة في الجنة.
(( لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَار ))
أيها الأخوة، أريد أن أستثير حماسكم، أريد أن أجعل الواحد منكم بطلاً، والقضية سهلة جداً، اعتقد معي أن الشيء الذي لا تستطيع أن تفعله هو الشيء الذي لا تريد أن تفعله، أما إذا أردت، والله إيماني لو أن واحداً منكم من أسرة فقيرة لا يملك شيئاً من حطام الدنيا إذا صدق قد يملك ملياراً، إذا صدق، وأراد بهذا المال أن يحل به مشكلات المسلمين، وهناك قصص لا تعد ولا تحصى عن أناس جمعوا أموالاً طائلة أنفقوها في الحق، وفي الخير، وفي حل مشكلات المسلمين، وحملوا همَّ أمتهم.
3 – المال ميدان معركة بين الحق والباطل:
اليوم العلاقة في فريق، نحن فريق المؤمنين فريق في الأرض، وهناك فريق آخر، والطرف الآخر يتناقض مع المؤمنين، وهذا من حكمة الله عز وجل، لحكمة بالغة أراد أن يكون الطرفان معاً في الأرض، مؤمن وغير مؤمن، خير وشر، مستغِل ومُستَغل، ظالم ومظلوم، منتج ومستهلك، هذه الاثنينية، أراد الله أن نكون معاً، ومن نتائج هذا الجمع بين الفريقين معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، هذا قدرنا.
كنت أقول دائماً: ليست البطولة أن يكون هناك باطل، هناك باطل، الباطل قديم، وكان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام باطل، لكن البطولة ألا ينفرد في الساحة، أحياناً تستمع إلى أعمال الأغنياء المؤمنين والله تذوب شوقاً لأنْ تكون مثلهم، إنفاق منضبط معتدل، فهذه الأموال الطائلة تحل بها المشكلات، تفتح ميتماً، أو معهداً، أو مستشفى، أو تزوج مئة شاب، وتنشئ بيوتاً للشباب، أو تبني مصحّا، هذا كله ممكن، فلذلك حينما تنوي أن تجمع المال لحل مشكلات المسلمين فالله عز وجل يفتح عليك أبواب الرزق.
لا يكن همُّك دنيويًّا:
لا أتمنى أن يكون هدفُ الأخ أن يتزوج فقط، هدفه أن يسكن في بيت، فإذا تزوج وسكن في بيت انتهت كل مشكلاته، لكن أقول لكم: عندما يسكن في بيت يملكه طبعاً يتزوج، بعد أن تحققت هذه الأهداف المادية المحدودة يبدأ شقاؤه، يشعر بتفاهته.
تصور رجلاً قال له ملِك: اطلب مني ما تريد، فكر الرجل مليًّا، جمع وطرح وقسم وضرب، قال له: قلم رصاص، ثمنه عشرون قرشًا فقط، الإله العظيم خلقك لجنة عرضها السموات والأرض ليس لك طلب عنده إلا أن تتزوج، وبيت فقط ؟
﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ (38)﴾
قبِلت أنت ؟
﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
نريد طموحًا.
مرة أخ من إخواننا الكرام لا يملك من الدنيا شيئاً، طلب من أخ أن يقرضه عشرين ألف ليرة، اشترى دراجة نارية بثلاث عجلات، وبدأ يبيع عليها، ويوزع أكياس النايلون في الريف، العام القادم رد المبلغ، ودفع زكاة ماله.
بعض كبار التجار والصناعيين بدؤوا من الصفر، لكن فكر بخدمة الخلق، فكر إذا كان معك مال أن تحل مشكلات الناس، بمشروع خيري، صحي، اجتماعي، تؤسس عملاً، تؤسس دعوة، تنشئ مسجداً، أو معهداً، ولا تقل: لا أملك شيئاً، الرجال العظام ما كان معهم شيء، ولو قرأتَ تاريخ المتفوقين تندهش، لأن معظمهم بدؤوا من الصفر، لكن لهم قلباً كبيراً، وأهدافاً كبيرة، ونيات كبيرة، وهناك آلاف الشواهد لأناس بدؤوا من لا شيء، من الصفر، بدأ حياة كلها حرمان، كلها بعدٌ عن الدين، ثم صار علَمًا كبيرا من أعلام الأمة.
مرة التقيت بإنسان قال لي: أنا أَصلُ عملي عتال بسوق الخضرة، الآن عنده أسطول من البرادات لنقل الفواكه من بلد إلى بلد، وهو أكبر تاجر فواكه في بلد ضخم، قال: لكن ما فاتني فرض صلاة في حياتي، ولا عرفت الحرام، له أعمال كبيرة، وبنى جوامع في إفريقيا، وأسس معاهد.
لا ترض أن تكون شخصاً عادياً من عامة الناس، لا ترضَ أن تكون شخصًا هدفك أن تشتري بيتاً، هدفك تتزوج، أنت واحد من ستة آلاف مليون جاؤوا إلى الدنيا، وغادروها، ولم يعلم بهم أحد، كن شيئاً مذكوراً، كن إنساناً يشار لك بالبنان، لا من باب الكِبر، بل من باب الخير.
أنواع العبادة:
أيها الأخوة، الحديث ذو شجون، كما يقولون، كنت أقول: هناك عبادة، هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سادة أبدية.
1 ـ عبادة الهوية:
لكن كنت أقول: إن هناك عبادة أخرى هي عبادة الهوية، أنت من؟ أنت قوي، العبادة الأولى إحقاق الحق، أنت غني العبادة الأولى إنفاق المال، والعالِم عبادته الأولى تعليم العلم، والمرأة عبادتها الأولى رعاية زوجها وأولادها، هذه عبادة سميناها اصطلاحاً عبادة الهوية.
2 ـ عبادة الظرف:
لكن هناك عبادة الظرف، المسلمون يمرون بظروف صعبة، من أرقى العبادات أن تحل مشكلات المسلمين، أن تقدم لهم فرص عمل، أن تقدم لهم منحًا دراسية، الله عز وجل وزع الذكاء والغباء بالتساوي على كل شعوب الأرض، بأي أمة عدد الأذكياء والعباقرة يساوي عدد الأغبياء، في أعلى أمة متقدمة تقدماً مادياً، الآن هناك مفاجآت وإنجازات في الكومبيوتر كلها من عمل المسلمين، وفي الصناعة، والمسلمون كأفراد أقوياء جداً كأفراد أما كمجموع فهم ضعاف، هذه عبادة الظرف واضحة.
3 ـ عبادة العصر:
عبادة العصر، إذا أراد الطرف الآخر إفقارنا، بسياسة اسمها الإفقار، ونقل الثروات من أمة إلى أمة، ففي أول حرب وثاني حرب وثالث حرب نقل بضع آلاف من المليارت من بلادنا إلى بلاد الغرب، ثمن أسلحة... هذه سياسة إفقار، أنا أقول: إذا أراد الطرف الآخر إفقارنا فالعبادة كأمة وليس كفرد هي استصلاح الأراضي، وتطوير الزراعة، وتطوير الصناعة، وتطوير الإنتاج، وحلّ مشكلات الأمة.
قد ترى سدًا للماء بجانب أرضٍ مساحتها خمسة آلاف، وهي أرض صالحة للزراعة، الآن هناك حرب بين عقلين فيما يسمى تنازعَ البقاء، إنسان خامل كسول، ينام إلى الظهر، يؤجل كل شيء، يسوّف كل شيء، لا يتقن عمله، ليس له محل في الحياة، التنافس الآن مذهل.
كان سابقاً من الممكن أن تعيش وحدك، وأن تنجو من قوة القوي ببعدك عنه، هذا كلام دقيق، قبل خمسين سنة كان يمكن أن تنجو من قوة القوي ببعدك عنه، الآن لا مجال لذلك، القوي معك، وأنت معه شئت أم أبيت، وبينكما تداخل بالتواصل الإعلامي والفضائي، الأرض أصبحت كلها سطح مكتب، فأيّ حدث في العالم تراه بعد دقائق، وتتفاعل معه، ويؤثر على حياتك، بل أحيانا تصريح يرفع السعر، والآن العالم مجتمَع واحد، فأيّ خلل في مكان ينعكس على مكان آخر.
الشباب هم المستقبل:
أنا أقول: أنتم شباب الأمة، أنتم المستقبل، وكم يمتلئ قلبي غبطة حينما أرى أن معظم الحضور من الشباب، لأن الشباب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( ريح الجنة في الشباب ))
الشباب هم المستقبل، وهذه الأمة كبَت، ولكل جواد كبوة، ولكل حسام نبوة، ولكل عالم هفوة، فقد كبا جواد هذه الأمة، والمعوّل الآن على الشباب ليعادَ إلى هذه الأمة ماضيها المجيد، نحن من شدة الاتهامات المستمرة صدقنا أننا متخلفون، صدقنا أننا لا نملك إمكانيات التطور، هذه حرب ثقافية خطيرة جداً، نحن متهمون، ومع ضعف الوعي نصدق ذلك.
نحن أمة عظيمة أيها الأخوة، لأن الله عز وجل في قرآنه الكريم الذي يتلى إلى يوم القيامة يقول:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه ِ﴾
هناك حرب في بلد آسيوي، وفي أرض واسعة جداً كلها مزروعة بالألغام، الأمة القوية ساقت جنود بلد إسلامي ضعيف إلى هذه الأرض، كم مات منهم ؟ أربعة آلاف جندي ماتوا بالألغام، هم طهروا الأرض من الألغام، يقول الضابط: ولا جنديا بريطانيًا مات، دفعهم إلى هذه الأرض دون أن يعلموا ما فيها، فانفجرت الأرض، وتطهرت، ودخل الجيش البريطاني، إنهم وحوش.
من يومين استمعت إلى خبر من شدة غرابته ما صدقته، رئيس وزراء أستراليا فيما أذكر، أو رئيس المجلس النيابي عندهم قدم اعتذارا للسكان الأصليين، اعتذاراً رسمياً، قال: نحن قتلنا شبابكم، نحن شردناكم، نحن أفقرناكم، لأول مرة أسمع اعتذارًا من جهة غربية للشعب الأصلي، أخذ أبناءهم، الجيل الحالي كله لا يعرف حنان الأم أبداً، أخذ الأبناء من آبائهم وأمهاتهم، ووضعهم في أماكن بعيدة، والإنسان من دون دين وحش كاسر، ومع ذلك اعترفوا، وقدموا اعتذاراً، ووضعوا لوحات في السماء ( نتأسف ) يجب أن تكون قوياً.
ماليزيا مثال رائع لبلدٍ مسلم متقدِّم:
سافرت إلى بلد إسلامي في آسيا، وكنت في وفد رسمي، استقبلنا السفير، قال لنا السفير: ماليزيا بلد صغير، هذا البلد مجموع صادراته للعالم تفوق صادرات العالم العربي بأكمله بما فيها النفط، قلت: كم مليوناً ؟ قال: ثلاثة وعشرون مليونًا، كانوا في الغابات قبل خمس وعشرين سنة، لا تاريخ لهم، الآن الشعب مجموع صادراته لأوربا تفوق صادرات الوطن العربي بأكمله بما فيها النفط.
الشيء المألوف أن تزور بلداً غربياً متقدماً جداً، تشده بالحضارة والأبنية والطرقات، تزور بلداً إسلامياً تحس أنك منه، وهو منك، لكن فيه تخلفاً، وهذا البلد بالذات فيه إحساس عجيب، كأنك في أرقى بلد أوربي، وهو مسلم، كله مساجد، والنساء محجبات، مرة جاءهم من يتدخل في شؤونهم، فقالت له وزيرة بالضبط: ضع حذاءك في فمك، ولا تنطق إلا بما يعنيك، لأن ستين بالمئة من صادراتهم إلى دولة قوية، ما عندهم ثروات، عندهم زيت النخيل فقط، أكثر صادراتهم أشياء كومبيوترية، وسيارات، وهو بلدٌ مسلم عملاق في الشرق، هذا البلد يحترم كثيراً، وتجربة ماليزيا الاقتصادية تحدث صدمة بالإنسان.
أنا أتمنى أنني أردت أن أربط شهوة المال في هذا الدرس بالعمل الأخروي، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، يجب أن نقتبس من بلاد إسلامية خبراتها في النمو، وأذكر أن نسب الطلاق ارتفعت هناك، فأسسوا مدرستين، لا يعقد عقد قران بين شاب وشابة إلا إذا كان الشاب والشابة قد التحقا بهاتين المدرستين، ونجحا فيهما، والدوام فيها ستة أشهر، حقوق الزوجة، حقوق الزوج، الآداب، فهبطت نسب الطلاق من ثمانين بالمئة إلى عشرة بالمئة، لانتشار الوعي، وكلّ شيء له حلّ، ففكر أن تحلّ مشكلة، وأن ترسم هدفاً كبيرًا.
مرة هناك قرية حدودية ذهب إليها موجه تربوي، زار مدرسة في قرية حدودية، وهناك سؤال تقليدي: قم يا بني، يقف الطالب، حينما تكبر ماذا تحب أن تكون؟ هناك إجابات تقليدية: ضابط، أستاذ، طيار، ما شاء الله، طبيب، وقف طالب صغير قال له الموجِّه: أنت حينما تكبر ماذا تحب أن تكون؟ قال له: أريد أن أكون مهرِّباً.
يا أيها الأخوة، الحياة معقدة جداً، والأرض أصبحت سطح مكتب، ولن نستطيع أن نعيش وحدنا، والأقوياء عندهم إمكانيات أن يتدخلوا في كل شؤوننا، لكن ما الذي يمنعهم؟ قوتنا وتماسكنا ووعينا، والأمل بالشباب بعد الله عز وجل، وريح الجنة بالشباب.
همة وطموحُ الشباب قوة وضمان:
تصور أن سيدنا الصديق يمشي، وسيدنا زيد شاب في السابعة عشرة من عمره يركب على الناقة، وهو قائد الجيش، الصدِّيق أحد جنوده، سيدنا الصديق وعمر وعثمان وعلي جنود عنده، قال له: يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن، قال: والله ما ركبتُ، ولا نزلتَ، وما علي أن تغبرّ قدماي ساعة في سبيل الله.
سيدنا أسامة قائد الجيش ريح الجنة في الشباب، دخلت مرة إلى مسجد في بلد إسلامي، بارك الله برواده، لكن كلهم ما فوق سن الثمانين، بالتعبير الطريف: العداد قالب، والدولاب ماسح.
الظاهرة في بلدنا الطيب أنك تدخل إلى أي جامع كله شباب، فالمستقبل أنتم، والله قد يُجري الله عز وجل على أيديكم الخير.
مرة كنت في قرية إزرع، جاء إنسان فهمس في أذني، أن هذه البلدة بلدة ابن قيم الجوزية، ابن القيم هنا؟! ابن القيم ترك أربعمئة مؤلَّف، يعد العالم الأول، عندما كان طفلاً في الابتدائي هل يخطر في بال واحد أن هذا الطفل سيكون ابن قيم الجوزية، عظماء الأرض كانوا طلاباً صغاراً، أين الطموح؟ درسنا اليوم ربطنا المال بأهداف الأمة.
الموضوع العلمي: الغشاء الأمنيوسي عند الجنين:
1 ـ الجنين محاطٌ بثلاثة أغشية:
إلى الموضوع العلمي، درسنا عقيدة وإعجاز، الموضوع العلمي هذا الجنين في رحم أمه مغلف بأغشية ثلاثة، القرآن أشار إليها فقال:
﴿ ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ (6)﴾
2 ـ السائل الأمنيوسي:
أول غشاء يلي الجنين اسمه الغشاء الأمنيوسي، هذا غشاء مغلق، ليس له فتحة، ولأنه مغلق فهو ممتلئ بسائل اسم السائل الأمنيوسي، هذا السائل بين الغشاء والجنين، حجم السائل لتر ونصف، مَن يصدق منكم جميعاً أنه لولا هذا السائل لما كان هذا الدرس، ولما كان في دمشق ولا سوريا إنسان يعيش، لولا هذا السائل لما ولد مولود.
وظيفة السائل الأمنيوسي:
1 ـ تغذية الجنين:
وهذا السائل له وظائف كثيرة، أول وظيفة أنه يغذي الجنين، هذا السائل فيه مواد زلالية، مواد سكرية، أملاح غير عضوية، هذه تغذي الجنين.
2 ـ حماية الجنين من الصدمات:
الوظيفة الثانية، وهي أخطر الوظائف، هذا السائل يحمي الجنين من الصدمات، فهو تماماً كالدماغ، الدماغ أيضاً بينه وبين الجمجمة سائل، والمركبة الفضائية بين قمرة الرواد والغلاف الخارجي سائل، فلو أن ضربة وجهت إلى بطن المرأة الحامل، واعتبرنا هذه الضربة قوتها أربعة كيلو وجِّهت إلى بطنها
وجود سائل يمتص هذه الضربة يوزعها على كامل سطح الجنين، أربعة كيلو بالسنتمتر، أما السائل الأمنيوسي فيوزّع الصدمة على كامل سطح الجنين، فيصبح الوضع خمسة عشر بالألف بالغرام، ما مِن مشكلة، من أربعة كيلو على السنتمتر المربع إلى خمسة عشر بالألف من الغرام.
هذا المبدأ قلدته مراكب الفضاء، هذا المبدأ موجود في الدماغ، الدماغ محاط بسائل بينه وبين الجمجمة، فأيّ ضربة على الرأس يقول لك: كسرت رأسه، يتلقى الضربة، فيوزّع الرأسُ قوة الضربة عن طريق السائل على كامل الدماغ على واحد بالألف من الغرام.
3 ـ تسهيلُ حركة الجنين في بطن أمه:
شيء آخر، بهذا السائل يسمح للجنين بالحركة السهلة، وفي جميع الآلات الزيت يسهل الحركة، المحرك بلا زيت يحترق، الزيت روح المحرك، والسائل أيضاً يسهل حركة الجنين في رحم الأم، وأحيانا قد يكون الباب صعب الفتح، بنقطة زيت يفتح، إذاً: فهذا السائل يسمح بحركة حرة خفيفة للجنين في رحم الأم.
4 ـ منعُ التصاق الجنين برحم الأم:
هذا السائل يمنع التصاق الجنين برحم الأم، فلولا السائل لالتصق الجنين برحم أمه، لكنه في نمو مستمر، وقد تنمو الخلايا مع بعضها بعضاً فتشكل جزءاً متصلاً، فالسائل من خصائصه أنه يمنع التصاق جسم الجنين بجدار الأم.
بالمناسبة الجهاز الهضمي للجنين ممتلئ بمادة شحمية سوداء تمنع التصاق الأمعاء في أثناء النمو، والأمعاء إما أن تكون أنبوباً فالولادة سليمة، أو أن تكون شريطاً فالطفل يموت، وقد تنمو الأمعاء ملتصقة، أما هذا السائل والشحم في الجهاز الهضمي فمهمتهما أن يمنعا التصاق الجنين بالغشاء الأمنيوسي.
5 ـ جهاز تبريد وتسخين:
هذا السائل جهاز تكييف، حرارته ثماني عشرة درجة، في البرد والصقيع، وفي موجة الصقيع الشديدة جداً، أو موجة حر لا تحتمل، الجنين معه تكييف حار وبارد في آن واحد، وحرارة السائل ثابتة، هذه وظائف السائل.
6 ـ مساعدة الجنين في الخروج عند الولادة :
قبل الولادة يتمزق الغشاء الأمنيوسي من الأسفل ينطلق السائل صار المجرى مزيتًا بالسائل، فانطلاق الجنين عبر الممر الضيق صار سهلاً، فهو يسهل الولادة.
7 ـ تعقيم مجرى الولادة :
وهذا السائل أيضاً له ميزة يعقم المجرى، يعقم ويطهر.
خاتمة:
نعود إلى خصائص السائل الأمنيوسي بالترتيب: يعقم ويطهر، ويسهّل الولادة، والجو مكيف، ويسهّل الحركة، ويمنع التصاق الجنين بجدار الرحم، وفيه مادة مغذية.
ثماني وظائف، هو مغذٍّ، ومحرك، ومكيف، ومعقم، ومسهل.
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (11)﴾
أيها الأخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو حينما نقف على بعض الحقائق العلمية في خلق الإنسان لا تملك إلا أن يقشعر جلدك لعظمة الله عز وجل، وأن الموضوعات العلمية في خلق الإنسان تجعلك تقف أمام عظمة الله، بل إن هذه الحقائق تعد أقصر طريق إلى الله، وأوسع باب ندخل منه على الله.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾