الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ وصلنا في الدرس الماضي إلى موضوع معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، فمع الدرس السادس والثلاثين من دروس العقيدة نتابع موضوع معجزات النبي عليه الصلاة والسلام.
قلنا في الدرس الماضي: إن القرآن الكريم من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وهو معجزة خالدة مستمرة، وتحدثنا عن بعض وجوه إعجازه، فكيف أن الله سبحانه وتعالى صانه وحفظه فقال في مُحكم تنزيله:
فالباطل لا يمكن أن يتطرق إلى كتاب الله لا من حيث أخباره عن الأمم السابقة، ولا من حيث تنبؤاته لما سيكون، ولا من حيث الحقائق العلمية التي جاء بها، ولا من حيث التشريعات التي أوردها، كل ما في القرآن الكريم لا يمكن أن يكون باطلاً، والباطل هو الشيء الذي يُنقَض، يبطل، يُلغى، يسقط، أي هناك نظريات كثيرة أصبحت باطلــة، كان يُظنّ أن الأرض في العصور السابقة محمولة على قرن ثور، هذه نظرية باطلة، كان يُظنّ أن الأرض مُسطحة مُنبسطة لكنها كروية، فنظرية أن الأرض منبسطة باطلة، كان يُظنّ أن في جوف الأرض مائعاً نارياً، يتجه العلماء اليوم إلى أن هناك طبقات مستعرة ولكنها ليست مائعة، أي كلما تقدّم العلم كشف زيف بعض النظريات السابقة، فهذه النظريات التي جاء بها الإنسان باطلة، لا يمكن لا الآن ولا في المستقبل أن يكون في كتاب الله حقيقة يُثبت العلم خطأها أو يُثبت نقيضها، لأن الله عزّ وجل قال: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ بالعكس كلما تقدّم العلم كلما التقى مع الدين، أحياناً لقصــور العلم ولافتقاره إلى الوسائل الفعّالة لضبط الحقائق قد نجد أن هناك بُعداً أو تناقضاً بين نظرية علمية قاصرة وبين حقيقة جاء بها القرآن، كلما تقدّم العلم وجدنا أن العلم يؤيد ما جاء به القرآن، إذاً: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ ومعنى: ﴿وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ الزمان مهما امتدّ، مهما تقدّم العلم، مهما تطورت الآلة، مهما ازدادت المكتشفات، لن تستطيع هذه كلها أن تنقُض شيئاً في كتاب الله، هذا تحدثنا عنه في الدرس الماضي.
شيء آخر في هذا الدرس، أو وجه آخر من وجوه إعجازه كما قال بعض العلماء، سلطانه العجيب في الهداية، أي حينما تقرأ كتاب الله عزّ وجل تشعر وكأن هذا الكلام ليس كلام البشر، كلام خالق الكون، كلام الذي خلق السماوات والأرض، كلام من رفع السماء بغير عمد، كلام من بيده أمرك، مصيرك، رزقك، حياتك، تحس أن هذا الكلام كلام الخالق، هذا انطباع أولي، لذلك تُليت بعض آيات القرآن على بعض العلماء الأجانب فقالوا: هذا الكلام من فوق، هكذا عبّروا، أي قائل هذا الكلام يرى الكون كله، فقال العلماء: سلطان القرآن العجيب في هدايته للإنسان، وفي تأثيره المعنوي على عقول الناس، وفي الخشية التي تُحدِثها تلاوته في قلوب سامعيه، القرآن الكريم إذا كان الإنسان صافياً أو بعيداً عن أثقال المادة وعن زيف الحضارة، إذا قرأ كلام الله عزّ وجل يخشع قلبه، أي يُقارب أن يبكي، يُحسّ أنه يذوب، يقشعر جلده من خشية الله، يجل قلبه، قال تعالى:
تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بالله عزّ وجل، فهذا التأثير وهذا السلطان العجيب الذي إذا قرأت القرآن شعرت به من إعجاز القرآن الكريم.
الحقيقة ببعض الأعمال العظيمة هناك سرّ لا نعرف ما هو، الأثر واضح أما طبيعة هذا السر لا نعرفه، لو أن إنساناً قرأ كتاباً آخر، كتاباً من صنع بشر، مهما كان هناك تأنق لفظي، مهما كان هناك سجع في اللفظ، فواصل دقيقة، صور، تشابيه، استعارات، انتقاء الكلمات، موسيقى داخلية، موسيقى خارجية، تُحسّ أن هذا كلام البشر، ولكنك إذا تلوت كتاب الله عزّ وجل تشعر أنه كلام الخالق، فلذلك وسلطانه العجيب هذا كان هو السر في تجمّع مختلف الشعوب والأمم حوله، أي كلام البشر تقرؤه مرة، مرتين، ثلاثاً، تُحسّ بأنك انتهيت منه، أَحَطْت به، فهمت معانيه، يمكن لو أنك كُلّفت أن تقرأه مرة خامسة لشعرت بالضجر والضيق، تقول: دائماً أقرأ هذا الكتاب مللت منه، نفسي تعافه، ما هو السر؟ أنك لو قرأت كلام الله آلاف المرات تُحسّ أنه كلما قرأته مرة كان عليك جديداً، لا تبلى جِدته، لا يَخْلق على كثرة الترداد، تقول: هذه الآية أقرؤها آلاف المرات، وكلما قرأتها اقشعّر جلدي، قال الله:
يوجد سلطان عجيب، نحن عرفنا الأثر ولم ندرك سرّ التأثير، سيدنا جعفر قرأ القرآن على النجاشي، ومن حوله القسيسون والرهبان، أخذت الخشية تتغشاهم فأجهشوا جميعاً بالبكاء، فلما فرغ جعفر من قراءته ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ أرسل النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين عالماً من علماء النصارى إلى رسول الله، فلما قرأ عليهم سورة يس بكوا جميعاً وآمنوا جميعاً، هكذا تروي السير، فربنا عزّ وجل ذكر هذه الحادثة فقال:
النجاشي بكى أرسل سبعين عالماً من علماء النصارى إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقرأ عليهم النبي عليه الصلاة والسلام سورة يس فبكوا جميعاً وآمنوا، والله سبحانه وتعالى أثبت هذه الحادثة في كتابه العزيز فقال: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ جاء في الصحيحين عن جُبير بن مُطعم رضي الله عنه قال:
[ متفق عليه ]
وأنا أصدق أن هناك أشخاصاً كثيرين سمعوا القرآن يُتلى فآمنوا، بكوا فآمنوا، ما زدت عن أن قلت هناك تأثير لا ندري كنهه، ولا ندري سره، ولكن ندري وجوده، هناك تأثير، لكن من انطمست فطرته بالشهوات، وغاص بالملذات الحسية إلى قمة رأسه، وطغى وبغى، هذا قلبه ميت، لكن من كان بعيداً عن نزوات الشهوة، وعن أوحال المادة، وقرأ كلام الله عزّ وجل ربما قال وهو صادق في قوله: إن أجمل ساعات حياتي حينما يتلو كتاب الله، لأن رحمة الله تتنزل على قلبه، إذا أردت أن تُحدّث ربك فصلِّ وإذا أردت أن يُحدّثك ربك فاقرأ القرآن، أي إذا إنسان له مكانته، عالم شهير، دمث الأخلاق، لطيف المعشر، ثقافته واسعة، حاضر البديهة، إذا جلست معه تستمتع استمتاعاً لا حدود له يقول لك: والله ما شعرنا بالوقت، فهذا إنسان صغير جداً فكيف لو سمعت الله يُحدّثك؟ أتحبّ أن أجلس معك في بيتك؟ صعق سيدنا موسى، كيف ذلك يا رب؟ قال: أما عَلِمت أني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني.
من وجوه إعجازه أيضاً أن ما في كتاب الله من حِكم وأحكام، وعظــات وأخلاق، ومبادئ وعقائد، وتشريعات وأخبار عما مضى، وعما هو آت، ومعارف جزئية، وعلوم كلية، بلغت كلها مبلغاً لا يرقى إلى الإتيان بمثله الإنسان، في تماسكها، وترابطها، وموافقتها للحق والمصلحة وسعادة الناس جميعاً، ومازال على تعاقب العصور بهذا المستوى، رغم تقدم العصور، وتطور المعارف وتجربة مختلف المبادئ والقوانين والأنظمة الوضعية والإنسانية، ولم يزل كذلك أبد الدهر، مع كل هذه الكمالات فقد أُنزل على رجل أُميّ لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، ولم يسبق له دراسة ولا قراءة، ولا تعلّم على يد أحد، ولا علّمه أحد، وفي أمة أميّة لا تعرف شيئاُ من هذه العلوم والمعارف التي جاءت فيه، أي هذا أكبر دليل على أن هذا الكلام من عند الله، قال الله تعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام في معرض الحديث عن أهل الكتاب في سورة العنكبوت:
﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾
﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد.
من حكم الله البليغة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أُميّاً، لماذا؟ لو أنه درس، لو أنه تعلّم، لو أنه استوعب ثقافة عصره ثم جاءه الوحي لاختلط على الناس الوحي بالثقافة، يا محمد قل لنا هذه من عند ربك أم من عندك؟ لكان أكثر سؤال يتوارد عليه طوال حياته هذا السؤال، هذا الذي تقوله أمِن عندك أم من عند ربك؟ لحكمة بالغة مَنع عنه ثقافة العصر، قطعه عن معلومات البشر، لم يُعلِّمه أحد، لم يدرس، لم يقرأ، لم يكتب، جعله أُميّاً ليكون كل علمه من عند الله.
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
ليكون كل علمه وكل أقواله إنما هي وحيٌ يوحى، لذلك قال علماء الأصول: القرآن وحي متلو، والسنة وحي غير متلو، أكثر العلماء على أن الأحاديث الشريفة إن هي إلا وحي يُوحى، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام أُمياً لئلا يختلط وحي السماء بثقافات البشر.
4- إعجازه في البلاغة والفصاحة:
من وجوه إعجاز القرآن الكريم بلاغته وفصاحته، أي أعلى كتاب في اللغة العربية من حيث الفصاحة والبلاغة هو كتاب الله عزّ وجل، أعلى كتاب، أي الفصاحة في كلماته، والبلاغة في تراكيبه، انتقاء الكلمات أعلى مستوى، تأليف الكلمات في جمل من أرقى بُنية، تناسب الألفاظ مع المعاني، تناسب المعاني مع مقتضى الحال، يُعدّ أعلى مستوى في اللغة العربية، أي الحديث عن إعجازه اللغوي وإعجازه البياني حديث طويل، أُلّفت فيه المجلدات، فماذا نفعل في هذه الدقائق أو ماذا نفعل في هذه الساعات؟ مجلدات بأكملها أُلِّفت حول إعجاز القرآن، أي مثلاً بذل المال وبذل النفس في القرآن الكريم جاء بهذا الترتيب، قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
في أكثر من ثمانية عشر موطناً فيما أذكر ورد بذل المال مقدماً على بذل النفس، لأن بذل المال أهون من بذل النفس، إلا في موطن واحد ورد فيه بذل النفس مُقدماً على بذل المال، قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
لأن هنا بيعاً قطعياً، وفي البيع القطعي يُقدم الأهم على المهم، بينما في البذل يُقدّم الأيسر على الأعسر، حكمة بالغة، في مواطن كثيرة وردت كلمة غفور رحيم، إذا اجتمع اسم المغفرة والرحمة فاسم الغفور مقدمٌ على اسم الرحيم، لماذا؟ لأن درء المفاسد مُقدّم على جلب المنافع، الغفور مقدمٌ على الرحيم، لذلك ورد في الترتيب كما يلي، إلا في آية واحدة جاءت فيها كلمة رحيم غفور، طبعاً هذه آية وحيدة ورد فيها اسم الرحيم قبل اسم الغفور:
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)﴾
لماذا؟ لأنه في آيات أخرى حيثما وردت كلمة العلم وردت معها كلمة الرحمة، لأن العلم من غير رحمة طامة كبرى، كما هو الحال في هذا العصر، حينما تقدم العالم الغربي تقدّماً مذهلاً في العلوم، ولم يرافق هذا التقدم تقدّماً في القيم أصبح هؤلاء كالوحوش الكاسرة، أرادوا أن يأكلوا الشعوب كلها، أن يعيشوا على أنقاض الشعوب، يُسببون للشعوب متاعب لا حصر لها من أجل أن يرتفع مستوى معيشتهم، فربنا عزّ وجل قال:
﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)﴾
﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)﴾
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)﴾
في أكثر الآيات تأتي كلمة الرحمة مع العلم، لأن العلم من دون رحمة سلاح مدمر، العلم من دون رحمة جعل القنبلة النووية، هذه القنبلة الذَّرية أُلقيت في الحرب العالمية الثانية، كانت في البدايات قنبلة متواضعة جداً، ثلاثمئة ألف إنسان ماتوا في ثوانٍ، هذا هو العلم من دون رحمة، الآن يقولون لك: هناك حرب جرثومية، هناك حرب كيميائية، مواد تصيب الإنسان بالشلل، مواد كيميائية تصيبه بالهوس، تصيبه بالخَوَر، تجعله يهذي، علماء كبار في المخابر يصنعون مواد كيماوية تُسبّب الحرب الجرثومية أو الحرب الكيمائية، علم من دون رحمة، يقول لك: قنبلة انشطارية، تنفجر وهي في السماء، فيها كرات حديدية صغيرة، مئات الكرات فيها، كل كرة تقتل إنساناً، تنفجر، تنشطر، هناك قنابل عنقودية، هناك قنابل تلفزيونية، هناك قنابل حارقة، النابالم، في دائرة قطرها خمسين متراً كل شيء يصبح كالفحم، أليس هذا علماً كله أم جهلاً؟ هذا كله علم من دون رحمة، هناك قنابل تُبيد البكتريات في الأرض، تصبح الأرض غير صالحة للزراعة، هذا أليس علماً؟ ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ ، ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ ، ﴿كِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً﴾ فربنا عز وجل في أكثر الآيات اجتمعت الرحمة مع العلم، وفي عصرنا هذا انفرد العلم من دون الرحمة، فكان الذي ترون، قسوة البشر الآن ليس لها حدود، من علامات آخر الزمان أن تنعدم الرحمة من قلوب الناس، لا يرحمك، مهما كنت ضعيفاً، قد يتلذذ بشقائك، قد يتلذذ بأن يُقضى عليك، هكذا العالم الغربي يخلق في العالم مشاكل، ويبيع هذه البلاد أسلحة، طبعاً من أجل أن يفنى بنو البشر.
الحكمة من التقديم والتأخير بالكلمات في القرآن الكريم:
ربنا عز وجل لماذا ذكر الله كلمة رحيم غفور؟ لماذا ذكر كلمة رحيم قبل الغفور؟ لأن الآية: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ هناك شواهد أخرى حول هذا الموضوع كثيرة، يوجد:
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)﴾
السمع والأبصار، دائماً السمع مقدم على البصر في أكثر الآيات، لأن تخلّق السمع يكون قبل تخلّق البصر، هناك ترتيب زمني، وقد يكون هناك ترتيب من حيث الأهمية، السمع يؤمن لك دائرة الأمان أوسع من دائرة البصر، يمكن سائق سيارة لا يرى شيئاً أمامه، لكن هناك صوت في المحرك خطير، يقول لك: يوجد صوت، دائرة السمع أوسع من دائرة البصر، قد تكون أنت تجلس في غرفة الجلوس تسمع شيئاً في غرفة أخرى، تقول: لعل هناك شيئاً، هناك طفل وقع أو هناك حاجة كُسرت أو هناك باب انفتح، فالسمع يُؤمِّن لك ضماناً أو يُؤمِّن لك أمناً بدائرة أوسع من دائرة البصر، فقُدّم السمع على البصر إما تقديماً رتبياً، رتبته أعلى من رتبة البصر، إلا في آية واحدة، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)﴾
غريب، هذه الآية لأن سرعة انتشار الصورة أي الضوء أسرع بكثير من سرعة انتقال الصوت، سرعة الصوت ثلاثمئة وثلاثون متراً بالثانية، لكن سرعة الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر بالثانية، فترى أنت البرق وبعد حين تسمع صوت الرعد، معنى هذا انتقال الصوت إليك كان بطيئاً جداً، ﴿رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾ .
﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)﴾
الله بدأ بالتجارة، لأنه لا لهو من دون تجارة، اللهو يحتاج إلى أموال طائلة، إذا دخل رجل إلى صالة فيها قمار يجب أن يكون معه ملاييـــن، ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ﴾ هنا قُدِّم اللهو على التجارة، لأنك إذا تركت الصلاة لعلة اللهو هذا أشدّ إثماً وتفريطاً من تركها لعلة التجارة، فتقديم الكلمات شيء مذهل.
أنواع الإعجاز في القرآن لا تُعدّ ولا تحصى:
يوجد بهذا الموضوع موضوع دقيق جداً، سيدنا يوسف ربنا عز وجل وصف نظام إدارته بحرفين، قال تعالى:
﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)﴾
لأن الفاء للترتيب على التعقيب، فور وصولهم دخلوا عليه، وفور دخولهم عليه عرفهم، إذاً حينما دخلوا عليه عوملوا كمواطنين عاديين، ما إن وصلوا حتى دخلوا، متى عرفهم أنهم إخوته؟ بعد أن دخلوا ﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ﴾ فمن استعمال الفاءين تبين أن هناك أبواب هذا النبي الكريم مُفتحة لكل الناس.
يوجد عندنا الأقارب جاء ترتيبها في كتاب الله بشكل عجيب، ربنا عزّ وجل في سورة آل عمران يقول:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
الله عزّ وجل بدأ بالنساء، وثنّى بالبنين، ثم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ثم الخيل المسومة، ثم الأنعام، ثم الحرث، طبعاً الموضوع طويل، سنأخذ أول واحدة فقط، لماذا بدأ بالنساء؟ لأنَّ الآية في موطن المتعة،
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ لذلك قال النبي الكريم:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ. ))
(( عن أبي هريرة سُئِلَ النَّبيُّ عليه السَّلامُ عن خَيرِ النِّساءِ، فقال: التي تُطيعُ إذا أَمَر، وتَسُرُّ إذا نَظَر، تحفَظُه في نَفْسِها ومالِه. ))
[ الفتح السماوي : حكم المحدث: إسناده حسن ]
هناك آية ثانية:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
المحبة الحسية المرأة في الدرجة الأولى، المحبة القلبية الأب، لأن حبه لابنه سبق حبّ ابنه له من باب الوفاء، فربنا عزّ وجل الاعتزاز الاجتماعي بدأ بالأب، قال: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾ الأب، أبوة، بنوة، أخوة، ترتيــب الأقارب، الزوجة، العشيرة، ثم المال ثم التجارة ثم المساكن، المسكن ليس قبل التجارة، المسكن لا يجلب المال، المسكن نفقة استهلاكية، أما التجارة فتجلب المال: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ .
هناك آية ثالثة:
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)﴾
بدأ بالابن:
﴿ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)﴾
في موطن دفع الفدية أغلى شيء الابن، هناك آية رابعة:
﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾
في موطن الاستنجاد والاستغاثة الأخ، لأن الأب كبير والابن صغير، أما الذي يعينك فأخوك، هنا بدأ بالأخ، وهنا بدأ بالابن، وهنا بدأ بالأب، وهنا بدأ بالزوجة، هذا ترتيب دقيق جداً، هذا الترتيب يعجز عنه البشر، كأن الله عزّ وجل عليم بما في النفوس، خبير، قال:
﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)﴾
فالقرآن الكريم من حيث الإعجاز واللهِ لا درس ولا درسان، ولا سنة ولا سنتان، ولا العمر يمكن أن يفي بحقّ هذا الموضوع، يوجد إعجاز تشريعي يا إخوان، يوجد إعجاز بياني، يوجد إعجاز لغوي، يوجد إعجاز حسابي، يوجد إعجاز رياضي، يوجد إعجاز تشريعي، أي الأصح من ذلك دروس التفسير من خلال شرح الآيات الكريمة يبدو لكم بعض إعجاز القرآن الكريــم.
وفي درس آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم.
الملف مدقق