- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠28برنامج الإسلام والحياة - قناة سوريا الفضائية
أعزائي المؤمنين، إخوتي المشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإنسان هو المخلوق الأول رتبةً، لقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾
فالإنسان قبل حمل الأمانة إذاً أصبح عند الله مخلوقاً أولاً، والأمانة أيها الإخوة نفسها التي بين جنبيه، إن عرفها بربها، وحملها على طاعته سعد في الدنيا والآخرة، وإن غفل عن ربه، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه شقي في الدنيا والآخرة، فالناس رجلان، لا غير، إنسان عرف الله، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، وإنسان تفلت من منهج الله، لأنه غفل عنه، فشقي في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الأحباب، قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
الفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، والتفوق كل التفوق، والعقل كل العقل في أن تعرف الله، وأن تحمل نفسك على طاعته، وأن تتقرب إليه بالأعمال الصالحة، عندئذ تسعد في دنياك وفي أخراك، والله سبحانه وتعالى كلفنا حمل هذه الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض، ولكن ما كلفنا حمل الأمانة إلا وقد أعطانا مقوماتها.
أولا: مقومات حمل الأمانة أن هذا الكون الذي ينطق كله بوجود الله، وينطق بوحدانيته، وينطق بكماله، وقد جعل الله الكون مظهراً لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، فحيثما نظرت تجد آيةً دالةً على عظمته.
فمثلاً: أقرب نجم ملتهب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، فكم يقطع في الدقيقة ؟ وكم يقطع في الساعة ؟ وكم يقطع في اليوم ؟ وكم يقطع في السنة ؟ هذه المسافة التي بيننا وبين الأرض لو أردنا أن نقطعها بمركبة أرضية لاحتجنا إلى خمسين مليون عام لنقطع المسافة بمركبة أرضية بيننا وبين أقرب نجم ملتهب إلى الأرض.
كم هي المسافة بيننا وبين نجم القطب ؟ أربعة آلاف سنة ضوئية، كم هي المسافة بيننا وبين مجرة المرأة المسلسلة ؟ مليونا سنة ضوئية، بل إن علماء الفلك اكتشفوا قبل سنوات أن هناك مجرات تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية، ماذا قال الله عز وجل ؟ قال تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)﴾
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
بل إن صياغة هذه الآية تعني أن العلماء وحدهم، ولا أحد سواهم يخشى الله.
أيها الإخوة الأحباب، لو أن عالمَ فلك قرأ هذه الآية، ودقق في كلماتها لوجد أن كلمة ( موقع ) لا تعني أن صاحب الموقع في الموقع، فهذه المجرة التي تبعد عنا عشرين مليار سنة ضوئية كانت في هذا الموقع قبل عشرين مليار سنة ضوئية، وسرعتها تقترب من سرعة الضوء، مئتان وأربعون ألف كيلو متر في الثانية، أين هي الآن ؟ هذا عالم الفلك لو دقق في كلمات الآية لخر ساجداً لله عز وجل، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
ذلكم الله رب العالمين.
أهذا الإله العظيم يعصى ؟ أهذا الإله العظيم تخترق منهياته ؟
شيء آخر أيها الإخوة، بين الأرض والشمس مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، يقطعها الضوء في ثمانية دقائق، والأرض أصغر من الشمس بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أو أن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي إن الشمس تتسع في جوفها لمليون وثلاثمئة ألف أرض، انظروا إلى حجم الأرض، وإلى حجم الشمس، وإلى المسافة بينهما، والآن دققوا فيما سأقول: إن في برج العقرب نجماً صغيراً أحمر اللون متألقاً، اسمه قلب العقرب، يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، قال تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾
هذا الكون ما جعله الله بهذا الإعجاز إلا كي نعرف الله منه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
في القرآن الكريم أيها الإخوة ألف وثلاثمئة آية كونية، لابد من أن يكون لهذه الآيات أهدافاً عظيمة جداً، إنها سبيل معرفة الله عز وجل، فأنت في الكون تعرفه، وبالشرع تعبده، ويقول الله عز وجل:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾
في الإنسان غدة صغيرة جداً، هي ملكة الغدد، اسمها الغدة النخامية، لا يزيد وزنها على نصف غرام فقط، هذه الغدة مرتبطة بمئة وخمسين ألف عصب، إنها ملكة الغدد فعلاً، تفرز تسع هرمونات، لو أن هرموناً من هذه الهرمونات لم يفرز بالحجم المناسب والكمية المناسبة لأصبحت حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، إن هذه الغدة تفرز هرمون النمو، وهذا الهرمون مؤلف من مئة وثمانية وثمانين حمضًا أمينيًّا، وذرات الكون كما يقول بعض العلماء لا تكفي لصنع ذرة من حمض أميني صدفةً، هذا الهرمون مؤلف من مئة وثمانية وثمانين حمضًا أمينيًّا، يجب أن يكون في الدم بنسبة عشرة ميكروغرامات في كل لتر، إن نقصت هذه النسبة تقزّم الإنسان، وإن ارتفعت تعمْلَق الإنسان، قال تعالى:
﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ﴾
وهذه الغدة التي هي ملكة الغدد، والتي تحكم كل الغدد الصماء في الجسم تفرز هرموناً آخر اسمه هرمون الكظر.
الدماغ أيها الإخوة ملك الجهاز العصبي، والغدة النخامية ملكة الجهاز الهرموني، لو أن إنساناً شاهد أفعى في بستان تنطبع صورة الأفعى على شبكية العين إحساساً، وتنتقل هذه الصورة إلى الدماغ إدراكاً، يدرك الخطر بحسب المفهومات التي تلقاها في مدرسته، ومن خلال تجاربه، ومن خلال مسموعاته، فالدماغ ـ وهو ملك الجهاز العصبي ـ يدرك الخطر، فيعطي أمراً لملكة الجهاز الهرموني أن تتصرف، ملكة الجهاز الهرموني تتصل بالكظر، الغدة التي فوق الكلية، ماذا يفعل الكظر ليواجه هذا الخطر ؟ يفرز هرموناً يسرع ضربات القلب، فالخائف تزداد ضربات قلبه، ثم يفرز هرموناً يسرع وجيب الرئتين، فالخائف تخفق رئتيه أكثر من ذي قبل، ثم إن هذا الكظر يفرز هرموناً ثالثاً يضيق لمعة الأوعية المحيطية في الجسم، كي يوفر الدم إلى العضلات، فالخائف تراه مصفر اللون، ثم إن هذا الكظر يفرز هرموناً يأمر الكبد أن يطرح كمية من السكر إضافية، إذاً لو فحصنا دم الخائف لوجدنا نسب السكر مرتفعة، ثم إن هذا الكظر يفرز هرموناً خامساً كي يزيد من هرمون التجلط، لئلا يسيل الدم كله إثر ضربة واحدة، هذا كله يتم في ثوانٍ، قال تعالى:
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)﴾
إذاً أول مقوم من مقومات الأمانة، أي من مقومات حمل الأمانة هذا الكون بسماواته وأرضه، بخلق الإنسان، بخلق الحيوان، بخلق النبات، ينطق كله بوحدانية الله وبكمال الله.
فالكون أيها الإخوة أحد مقومات حمل الأمانة، ثم إن الله سبحانه وتعالى أودع فينا العقل كأداة للمعرفة، وكمناط للمسؤولية، فللعقل مبادئ ثلاثة:
أول هذه المبادئ: مبدأ السببية، فالعقل لا يفهم شيئاً من دون سبب.
وثاني هذه المبادئ: مبدأ الغاية، والعقل لا يفهم شيئاً من دون غاية، هكذا برمج، وهكذا تعد خصائصه.
ثم مبدأ الهوية: العقل لا يقبل التناقض، ومن حكمة الله البالغة أن مبادئ العقل تتوافق مع قوانين الكون، فإذا أعمل الإنسان عقله في الكون فلابد أن يصل إلى الله عز وجل إلا قلة قليلة ركبت رؤوسها، وتجاوزت خصائصها.
أيها الإخوة الأحباب، الدين في الأصل نقل، ولأن أخطر ما في النقل صحته، تعدّ صحة النقل أخطر شيء في الدين، لذلك مهمة العقل مع النقل أن يتحقق من صحة النقل أولاً، وأن يفهم النقل ثانياً، هذه مهمة العقل، أما أن يكون العقل وحده مقياساً للمعرفة فهذا لا يقره القرآن الكريم، ذلك أن العين مهما دقت رؤيتها فهي بحاجة إلى نور يتوسط بينها وبين المرئي، كذلك العقل مهما كان متفوقاً فلابد من وحي إلهي يعينه على معرفة الحقيقة العظمى.
أيها الإخوة الكرام، العقل أداة معرفة الله، ومناط التكليف.
شيء آخر من مقومات التكليف: إنها الفطرة، الإنسان جُبِل جبلّةً راقيةً جداً، هذه الجبلّة تعرف ذاتها بذاتها، تعرف خطأها بنفسها، قال تعالى:
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
أي إنها إذا اتقت ألهمت أنها متقية، وإن فجرت ألهمت أنها فاجرة، فالإنسان بحكم فطرته يعرف ما إذا كان على صواب، أو إذا كان على خطأ، لكن الشيء الذي يلفت النظر أن هذا الدين العظيم دين الله عز وجل متوافق توافقاً تاماً مع فطرة الإنسان، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
فلذلك الإنسان حينما يخرج عن مبادئ الدين يشعر بالكآبة والضيق، يشعر بالذنب، تضيق نفسه، قال بعضهم: إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين.
بالعقل تعرف الله، وبالفطرة تكشف خطأك، وهذا من فضل الله علينا، كل مولود يولد على الفطرة، بمعنى أن الإنسان فطره الله عز وجل على حب الكمال، فهو لا يسعد، ولا يستريح، ولا يطمئن، ولا يهدأ إلا إذا كان على منهج الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
فتوافق الفطرة مع مبادئ الدين توافق تامٌّ، لكن لحكمة بالغةٍ بَالغةٍ جعل الله بعض أوامر الدين، أو بعض التكاليف متناقضاً مع الطبع، لا مع الفطرة، فالإنسان يميل إلى أخذ المال، والتكليف يأمره أن يدفعه، والإنسان يميل إلى إطلاق البصر، والتكليف يأمره أن يغض البصر، والإنسان يميل إلى النوم، والتكليف يأمره أن يستيقظ، والإنسان يميل إلى أن يخوض في قصص الآخرين، والتكليف يأمره أن يصمت.
أيها الإخوة الكرام، التكليف يتناقض مع الطبع، ليكون هذا التناقض ثمناً للجنة، قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)﴾
إذاً حينما أخالف الهوى أدفع ثمن الجنة، لأن الإنسان في الأصل خُلق لجنة عرضها السماوات والأرض، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾
فالإنسان حينما يستقيم على أمر الله يتفق مع فطرته، ترتاح نفسه، يطمئن قلبه، يشعر بسعادة لو وزعت على أهل بلد لكفتهم.
أيها الإخوة الأحباب، المقوم الآخر من مقومات التكليف:حرية الاختيار، فالإنسان جعله الله حراً في اختياره، قال تعالى:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
فالإنسان جعله الله حراً ليثمن عمله، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطَع مكَرهاً.
أيها الإخوة الأحباب، لمجرد أن تلغي الاختيار، وأن تؤمن بالجبر فقد فسدت عقيدتك، أنت حينما تؤمن بالجبر، وبأن الإنسان مسيَّر، وليس في حياته اختيار إطلاقاً، معنى ذلك أنك ألغيت التكليف، وألغيت حمل الأمانة، وألغيت الثواب، وألغيت العقاب، وألغيت النار، وألغيت الجنة، الإنسان لا شك أنه مخير، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
جيء برجل شارب خمر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: يا أمير المؤمنين، إن الله قدر علي ذلك، فقال هذا الصحابي الجليل، الخليفة الراشد: أقيموا عليه الحد مرتين، مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، أنت مخير.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إيّاك أن تبتل بالماء
أيعقل أن نبني حائطين على عرض كتف إنسان، وهو يمشي بين الحائطين نقول له: الزم اليمين، هذا لا معنى له، لمجرد وجود الأمر والنهي في القرآن والسنة معنى ذلك أن الإنسان مخير، والإنسان لا يكسب ثواب الجنة، ولا يستحق النار إلا لأنه مخير، ولا يكرم المؤمن، ولا يسفه غير المؤمن إلا لأنهما مخيران.
أيها الإخوة الكرام، الاختيار من مقومات التكليف.
شيء آخر من المقومات: هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان، هذه الشهوات كما قال الله عز وجل:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ﴾
هذه الشهوات ما أودعها الله فينا إلا لنرقى بها مرتين، مرةً صابرين، ومرةً شاكرين إلى رب الأرض والسماوات، إن هذه الشهوات سلماً نرقى بها، أو دركات نهوي بها، إنها حيادية، كالوقود السائل في المركبة، إذا وضع في مستودعاته المحكمة، وسال في الأنابيب المحكمة، وانفجر في المكان المناسب، وفي الوقت المناسب ولد حركةً نافعة، أما إذا خرج عن مساره، وأصاب المركبةَ شرارةٌ أحرقت المركبة ومَن فيها، فالشهوات حيادية، ترقى بها مرةً إذا سلكت بها الجانب المشروع، وتهوي بها إلى دركات النار إذا سلكت بها الجانب غير المشروع.
أيها الإخوة الأحباب، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾
بالمعنى المخالف أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عز وجل لا شيء عليه، ليس في الإسلام حرمان، ولكن في الإسلام تنظيم.
أيها الأخ الكريم، أنت إذا كنت تسير في مكان مترامي الأطراف، ورأيت لوحة كتب عليها: حقل ألغام، هل تحقد على واضع هذه اللوحة، أم تثني عليه ؟ إن هذه اللوحة ليست قيداً لحريتك، ولكنها ضمان لسلامتك، أنت حينما تفهم أحكام الدين على أنها ضمان لسلامتنا تقبل عليها، وتسعد بالأخذ بها، وتشكر المولى جل جلاله على أنه شرعها لك، إذاً الشهوات حيادية نرقى بها شاكرين إن أخذناها بالوجه المطلوب، ونهوي بها هالكين إن سلكنا بها الوجه المحرم، هي حيادية، ويمكن أن تتحرك من خلال الشهوات مئة وثمانين درجة، لكن زاوية معينة مسموح بها أن تسلك بها هذه الشهوة، فالشهوات ما أودعها الله فينا إلا لأنها قوى محركة، إلا لأنها سلم نرقى بها إلى أعلى عليين، أما إذا تحركنا من دون منهج نسير عليه هوينا بها إلى أسفل السافلين.
أيها الإخوة الكرام، شيء آخر متعلق بمقومات التكليف: إنها القوة، لقد أودع الله فينا قوةً من أجل أن نحقق من خلالها اختيارنا، ومن أجل أن تكشف عن طويتنا، ومن أجل أن نأخذ أبعادنا:
﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
لقد أعطانا الله قوة نحقق بها ذواتنا، نحقق بها اختيارنا، يمكن أن نأخذ بها أبعادنا، لكن الله سبحانه وتعالى في أي لحظة يسلبها منا، وإذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لب لبه، وهذه القوى التي أودعها الله فينا أودعها فينا كي يمتحننا، أنت ممتحن مرتين، ممتحن فيما أعطاك، ممتحن فيما زوى عنك، وفي بعض أدعية النبي عليه الصلاة و السلام، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:
(( اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ ))
أيها الإخوة الأحباب، هذه مقومات التكليف.
بقي المقوم الأخطر: إنه الشرع، فالحسن ما حسنه الشرع، والقيبح ما قبحه الشرع، إذا كان العقل ميزاناً، وإذا كانت الفكرة ميزاناً فالشرع ميزان على ميزاني العقل والفطرة، بل إن ميزان العقل لا يصح إلا إذا توافق مع الشرع:
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)﴾
وإن ميزان الفطرة لا يستقيم إلا إذا توافق مع الشرع، بل إن الحق دائرة تخترقها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، وأنا أؤكد على النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، هناك نقل غير صحيح، أو هناك فهم لنقل غير صحيح، وهناك العقل الصريح، والعقل الصريح هو العقل الذي يعدّ قائداً لا مقوداً، ما العقل الذي يقابله ؟ العقل التبريري، الإنسان إذا أراد شهوة، ومعه عقل يستخدم هذا العقل كي يغطي انحرافه، إذاً النقل الصحيح، والعقل الصريح، والفطرة السليمة، والإنسان أحياناً تطمس فطرته فلا يستفيد منها، ثم إن هذه الفطرة أيضاً تحتاج إلى واقع موضوعي، الواقع الموضوعي الحقيقي، والنقل الصحيح، والعقل الصريح، و لفطرة السليمة، هذه خطوط أربعة تتقاطع في دائرة الحق، إذاً الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، ولا يعد الخطأ في العقيدة أيها الإخوة خطأ بسيطاً، إنه خطأ جسيم، ذلك أن الخطأ في العقيدة خطأ في الميزان، و الخطأ في الميزان قلما يصحح، بينما الخطأ في السلوك خطأ في الوزن، والخطأ في الوزن قلما يتكرر، فإذا أردنا أن نعرف حقيقة وجودنا، وغاية وجودنا، ونعرف الرسالة التي أنيطت بنا ينبغي أن نتعرف إلى الله، لأن معرفة الله حاجة عليا في الإنسان، والإنسان لا يؤكد إنسانيته إلا إذا عرف أنه المخلوق الأول، وقد خلقه الله عز وجل لجنة عرضها السماوات و الأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها الإخوة الأحباب، إلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.