- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠28برنامج الإسلام والحياة - قناة سوريا الفضائية
أعزائي المؤمنين، إخوتي المشاهدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في القرآن الكريم سورة لو تدبرها الناس لكفتهم، كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، إنها سورة العصر، يقول الله عز وجل:
﴿وَالْعَصْرِ (1)﴾
يقسم ربنا جل جلاله بالعصر، والعصر عند بعض المفسرين مطلق الزمن، الزمن لو حرّكنا نقطة لرسمت خطاً، لو حركنا خطاً لرسم سطحاً، لو حرّكنا سطحاً لكان حجماً، لو حرّكنا حجماً لكان زمناً.
قال بعض العلماء: الزمن هو البعد الرابع للأشياء، الأشياء المادية لها طول، وعرض، وارتفاع، أو عمق، فإذا تحركت كان لها بعد رابع، هو الزمن.
أيها الإخوة، أحد كبار علماء الفيزياء جاء بحقيقة، مفادها أن الأشياء إذا سارت بسرعة الضوء أصبحت ضوءاً، سرعة الضوء التقريبية ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، فالأجسام المادية لها طول وعرض وعمق أو ارتفاع، إذا تحركت بسرعة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، أي سرعة الضوء أصبحت ضوءاً، أي أصبحت كتلتها صفراً، وحجمها لا نهائي، يبنى على هذه الحقيقة أننا لو افترضنا أننا سبقنا الضوء، عندئذ يتراجع الزمن، لو أننا ركبنا مركبةً افتراضاً، وكانت سرعتها أسرع من الضوء، ينبغي أن نرى معركة بدر، ومعركة القادسية، ومعركة اليرموك، إذا سبقنا الضوء تراجع الزمن، فإذا قصرنا عن الضوء تراخى الزمن، هذه الحقيقة سماها العلماء النسبية، وقد جاء بها علم كبير من علماء الفيزياء.
نحن نريد أن نقرأ القرآن، وقد قلت لكم من قبل: إن النبي عليه الصلاة والسلام أحجم لحكمة أرادها الله عن تفسير الآيات الكونية في القرآن، كنت أقول: لو فسرها تفسيراً بسيطاً يفهمه من حوله لأنكرنا عليه، ولو فسرها تفسيراً عميقاً نفهمه نحن لأنكر عليه من حوله، لذلك تركت هذه الآيات التي تقترب من ألف وثلاثمئة آية لتكون إعجازاً علمياً في القرآن الكريم، فكلما تقدم العلم كشف عن جانب من إعجاز القرآن الكريم.
الله عز وجل يقول:
﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾
يخاطب الله العرب في هذا القرآن، والعرب يعدون السنة القمرية،
﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾
القمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، لو أخذنا مركز الأرض ومركز القمر، ووصلنا بينهما بخط، ما هو هذا الخط ؟ القمر يدور حول الأرض دورةً كل شهر، لو أخذنا مركز الأرض ومركز القمر، ووصلنا بينهما بخط لكان هذا الخط نصف قطر الدائرة التي هي مسار القمر حول الأرض، بحساب بسيط يتقنه طالب الثانوي، لو ضربنا هذا الرقم باثنين أصبح القطر قطر هذه الدائرة، لو ضربنا في (ب) 3.14 لعرفنا المحيط، بحساب بسيط نعرف محيط الدائرة التي هي مسار الأرض حول القمر، فالقمر يقطع رحلةً شهرية حول الأرض، فإذا حسبنا كم يقطع القمر في هذه الرحلة من الكيلو مترات، وضربنا هذا العدد في اثني عشر لعرفنا كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في عام، لو ضربناه بألف لعرفنا كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام، لأن الآية تقول:
﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾
الآن اليوم كم ثانية ؟ ستين ضرب ستين، ضرب أربع وعشرين، ستون ثانية تساوي دقيقة، وستون دقيقة تساوي ساعة، واليوم أربع وعشرون ساعة، الآن الشيء الذي لا يصدق أننا لو قسمنا الرقم الذي نتج عن حساب نصف قطر الدائرة التي هي مسار القمر حول الأرض مضروباً باثنين ثم مضروباً 3.14، ثم مضروباً باثني عشر ثم بألف، كم يقطع القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام، هذه المسافة لو قسمناها على الزمن ثواني اليوم لكانت النتيجة التي لا تصدق، إنها سرعة الضوء، ليست التقريبية، ولكن الدقيقة تسعمئة وتسعة وتسعين ألف وسبعمئة واثنين وخمسين كيلو متر في الثانية، أي إنما يقطعه القمر في رحلته حول الأرض في ألف عام يقطعه الضوء في يوم واحد، إنها سرعة الضوء الدقيقة لا التقريبية.
لكن قد يقول قائل: هناك آية تتحدث عن أن الملائكة يعرجون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، لم يقل الله عز وجل في هذه الآية مما تعدون، هذه سرعة الملائكة، لكن سرعة الضوء واضحة جداً في هذه الآية:
﴿وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ َأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)﴾
أيها الإخوة الأحباب، أنا لا أبالغ إذا قلت لكم: إن أخطر شيء في حياة الإنسان هو الزمن، لأنه زمن، لأنه بضعة أيام، لأنه كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، لأنه ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم، أنا فجر جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، إنك أيها الإنسان بأدق تعاريفك بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك.
أيها الإخوة الأحباب، الإنسان الموفق في حياته لا يعد زمنه عداً تصاعدياً، يعد عمره عداً تنازلياً، أنت إذا سافرت إلى مدينة حمص مثلاً، ترى لوحات المرور تتناقص مئة كيلو، متر ستون، أربعون، عشرون، حمص ترحب بكم، فينبغي أن نعد عمرنا عداً تنازلياً، كم بقي ؟ هذا سؤال دقيق جداً، هل بقي بقدر ما مضى ؟
يا إخوتنا الأحباب، مركب في أعماق الإنسان أن الوقت أسلم من المال، بدليل أن الإنسان إذا أصابه مرض عضال، واقتضى عملية جراحية عالية الثمن تكلفه ثمن بيته الذي لا يملك غيره، لا يتردد ثانيةً واحدة في بيع البيت، وإجراء العملية، متوهماً أن هذه العملية الجراحية قد تمد في أجله بضع سنوات، إذاً باع كل ما يملك من أجل الزمن، إذاً لو رأيت إنساناً يأتي بمئة ألف ليرة، ويحرقها أمامك، ماذا تحكم عليه ؟ تحكم عليه بالسفه، والسفيه يحجر على تصرفاته.
بربك أيها الأخ الكريم، إذا كان الوقت أثمن من المال، وإتلاف المال يوصف صاحبه بالسفه، ويحجر على تصرفاته، فكيف بإتلاف الوقت ؟ إن أثمن شيء نملكه هو الزمن، الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه.
أيها الإخوة الأحباب، لبعض الخلفاء الأمويين، وهو سيدنا عمر بن عبد العزيز كلمة رائعة يقول: " الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما "، لو أن واحداً منا أخذ صورة له قبل عشرين عاماً، له وجه، له ملامح غير الملامح التي هي الآن، معنى هذا من فعل الزمن، من فعل التقدم في السن، الليل والنهار يعملان فيك، لذلك ترد على هذا التغيير القسري من قبل الزمن، أن تعمل في الزمن عملاً تنتفع فيه بعد مضي الزمن، الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيها.
ثم يقول: " والليل والنهار يأخذان منك فخذ منهما "، يأخذان من نشاطك، ومن صحتك، ومن قوامك، ومن شكل وجهك، ومن حالتك العامة، ومن حالة أجهزتك، الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما، لذلك كان عليه الصلاة والسلام حينما يستيقظ يقول:
(( الحَمْدُ للهِ الَّذِي رَدَّ إِلَيَّ رُوحِي ))
فكم من إنسان ينام، ولا يستيقظ، ثم يقول عليه الصلاة والسلام:
(( الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَأَِذنَ لِي بِذِكْرِهِ ))
أنت حينما تملك الصحة، وتملك الفراغ، وتملك القوة والشعور بالأمن، هذه نعم كبرى ينبغي أن تستغلها، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ))
أيها الإخوة الأحباب، يقول الله عز وجل:
﴿وَالْعَصْرِ (1)﴾
يقسم بالزمن، أي بمطلق الزمن لهذا المخلوق الأول، الذي هو في حقيقته زمن، يقول تعالى:
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
جواب القسم أن الإنسان في خسارة، ما هي هذه الخسارة ؟ من أدق تعريف هذه الخسارة أن مضي الوقت وحده يستهلك الإنسان، مضي الليل والنهار، مضي الأسابيع، مضي الشهور، مضي العقود، مضي الأحقاب يستهلك الإنسان.
هو كائن متحرك إلى نقطة ثابتة، فكل دقيقة تقربه من هدفه، فالإحساس بالزمن إحساس مهم جداً في حياة الإنسان، إن الإنسان لفي خسر، الله عز وجل يقول:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
الإنسان عمِّر عمراً كافياً كي يعرف الله، وعمِّر عمراً كافياً كي يتوب إليه، وقد يصطلح معه، فالإنسان يتمتع بنعمة الحياة، ونعمة الحياة تعني أنه بإمكانك أن تتوب، بإمكانك أن تستغفر، بإمكانك أن تطلب العلم، بإمكانك أن تحسن، بإمكانك أن تؤدي ما عليك من حقوق ، بإمكانك أن تلبي طلب الآخرة، هذا وأنت حي، فإذا انتهت حياة الإنسان انتهت هذه الفرصة الذهبية.
إذاً الحياة نعمة، وقد يكون الإنسان مريضاً، فالصحة نعمة كبرى، بإمكانك أن تتحرك، أن تعمل الصالحات، وقد تكون حريتك نعمة، هناك أناس مقيدون، فأنت حر، تذهب إلى أي مكان تشاء، وهناك عقل، وهذه نعمة.
فنعمة الصحة، ونعمة الحياة، ونعمة الحرية، ونعمة العقل نعم كبرى، قد لا ننتبه إليها.
أيها الإخوة الكرام،
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
ما هو النذير ؟ قالوا: القرآن هو النذير، وقالوا: النبي عليه الصلاة والسلام هو النذير، وقالوا: سن الأربعين، الإنسان إذا دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة، الميزان مالَ بعد الأربعين، وقيل: سن الستين، وقيل: شيب الشعر هو النذير.
ورد في بعض الآثار: أن عبدي قد كبرت سنك، وانحنى ظهرك، وشاب شعرك، فاستحي مني، فأنا أستحي منك.
إلى متى أنت في اللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
***
تعصي الإله وأنت تظهر حـبه ذاك لعمري في القياس شنيـع
لو كان حبك صادقاً لأطعتــه إن المـــحب لمن يحب يطيع
الخسارة الحقيقية أن تخسر الآخرة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾
﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
فنحن في بضعة أيام محسوبة علينا الفاصلة، حركاتنا، سكناتنا، رضانا، غضبنا، صلاتنا، قطيعتنا، كل شيء تفعله مسجل عليك.
جاء أعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله عظني، ولا تطل، تلا عليه قوله تعالى: } وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ {، فتبسم عليه الصلاة والسلام فقال: فَقُهَ الرجل، لم يقل: فَقِهَ، قال: فَقُهَ، أي أصبح فقيهاً، آية واحدة كفت هذا الأعرابي.
أيها الإخوة الأحباب،
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
مضي الزمن وحده يحقق له هذه الخسارة، لأن مضي الزمن وحده يستهلكه، لأن مضي الزمن وحده يقربه من أجله، لأن مضي الزمن وحده يجعله ضعيف الإمكانات، إذاً المؤمن ينتبه إلى قيمة الوقت، والوقت له إدارة، والموفقون في الحياة وأعلام أهل الأرض أحد أسباب نجاحهم أنهم عرفوا كيف يديرون أوقاتهم، الله عز وجل يقول:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
هو خاسر خسارةً محققة، لأن مضي الزمن يستهلكه، ولكن رحمة الله بنا تجلت في أن الله يقول:
﴿ إِلَّا﴾
هناك أعمال أربعة إن فعلتها فلا تعد خاسراً، لذلك أنا مضطر أن أوضح لأخوتي الكرام المشاهدين ما الفرق بين إنفاق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، وبين إنفاق الوقت إنفاقاً استثمارياً ؟ نأكل، ونشرب، ونستمتع بالحياة، ونسمر، هذا استهلاك للوقت من دون معاصٍ، لا أقول: إنسان يعصي الله حينما يعيش حياةً عادية من دون رسالة، وبلا هدف، وبلا عمل صالح، وبلا انضباط، هذا مستهلك للوقت، ينفق الوقت إنفاقاً استهلاكياً، والوقت رأس مال الإنسان، وأي تاجر أنفق رأس ماله خسر، لكن الإنفاق الذي يسعده هو الإنفاق الاستثماري، أي أن يفعل في الوقت فعلاً ينفعه بعد مضي الوقت، هنا النقطة، فالله عز وجل يقول:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾
لأن مضي الزمن يستهلكه إلا إذا فعل في هذا الزمن المحدود عملاً ينفعه بعد مضي الزمن، قال تعالى:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
لذلك ورد في بعض الأدعية: " لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قرباً "، مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، فإذا مضى الزمن مضي ساذجاً تافهاً لا معنى فيه، لذلك قالوا: أتفه أعمار الإنسان عمره الزمني، والعمر الحقيقي هو مجموع العمل الصالح الذي مكنك الله منه في الدنيا، لذلك الاستثناء:
﴿ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
حينما تقطتع في الدنيا وقتاً كي تعرف الله، وكي تعرف حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة وجودك، كي تعرف أن الله موجود، وأنه واحد، وأنه كامل، وتعرف أن الله خالق، ومربٍّ، ومسيِّر، كي تعرف أن الأمر كله بيده، قال تعالى:
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
حينما تعلم أن الله موجود، وهو معك أينما كنت، معك بعلمه إذا كنت مستقيماً، معك بتوفيقه، ومعك بالنصر والتأييد، والتوفيق والحفظ، إذاً لابد من أن تقتطع وقتاً لمعرفة الله، العمل الذي يأكل كل وقت فراغك خسارةٌ محققة، أنت مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، فحينما تؤمن أنت بإيمانك، أو بالوقت الذي تنفقه من أجل إيمانك تستثمر الوقت ولا تستهلكه، قال تعالى:
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، لا إيمان كإيمان إبليس الذي قال:
﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (81)﴾
﴿مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (75)﴾
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾
ثم إن إبليس غارق في المعاصي والآثام، الإيمان الذي يحملك على طاعة الله هو الإيمان المطلوب في هذه الآية.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
طبعاً كيف تؤمن ؟ من خلال خلقه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
إذاً تفكرك في خلق السماوات والأرض يعرفك بالله عز وجل التفكر في خلق السماوات والأرض أقصر طريق إلى الله، وأوسع باب تدخل منه على الله، التفكر في خلق السماوات والأرض أحد أسباب الإيمان الكبرى، يمكن أن تعرفه من كلامه، من قرآنه الكريم، إذا تدبرت آيات القرآن الكريم، قرأتها، وفهمتها، وتدبرتها، وطبقتها فأنت قد عرفت الله سبحانه وتعالى.
ويمكن أن تعرفه من أفعاله، لكن أحياناً لأن ما كل أفعاله تتجلى لك حكمتها، لذلك تقرأ قوله تعالى:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216﴾
يعني ينبغي أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
يعني لا يسمحون لأعمالهم ومشاغلهم، ومشكلاتهم واهتماماتهم أن تلغي إيمانهم، أو أن تلغي عملهم للآخرة، أو أن تلغي سعيهم إلى السلامة والسعادة، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ﴾
أيها الإخوة الأحباب، العمل الذي ترتزق منه إذا كان في الأصل مشروعاً، وسلكت به الطرق المشروعة، وأردت من خلاله كفاية نفسك وأهلك، ونفع الناس، ولم يشغلك عن فريضة، ولا عن واجب، ولا عن طاعة، ولا عن طلب علم، وكنت مخلصاً في أدائه انقلب هذا العمل إلى عبادة، لذلك المؤمن عاداته عبادات، بينما غير المؤمن عبادته الصرفة سيئات.
أيها الإخوة،
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ينبغي أن تؤمن، ينبغي أن تطلب العلم من مظانه،
(( ابن عمر، دينك، دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذي استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))
إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
لابد من الدليل، ولابد من التعليل، ولا بد من أن تجري مراجعة لما تعتقد، هل هذه العقيدة فاسدة أم مغلوطة ؟ ينبغي أن تبحث عن الحقيقة، والبحث عن الحقيقة يلبي حاجة الإنسان.
أيها الإخوة،
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
العمل الصالح هو مجموع حركتك في الحياة، إتقان عملك عمل صالح، إخلاصك في عملك عمل صالح، أداؤك الواجبات عمل صالح، أداء الحقوق عمل صالح، تربية أولادك تربية صحيحة عمل صالح، أن تكون زوجاً مثالياً عمل صالح، أن تكون جاراً مثالياً عمل صالح، أن تؤدي ما أمرك الله به عمل صالح.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾
الحق له دوائر، إذا توسعت ضيقت دوائر الباطل، أما إذا لم يتوسع ضيقت عليه دوائر الباطل، فلذلك الدعوة إلى الله في الأصل فرض عين على كل مسلم، في حدود ما تعرف، ومع من تعرف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ::
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً... ))
والله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾
فإن لم تدعُ إلى الله على بصيرة في حدود ما تعرف، ومع من تعرف فلست متبعاً لرسول الله e، فإن لم تكن متبعاً لرسول الله فأنت لا تحب الله، بدليل هذه الآية:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
﴿ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
أن تؤمن بالله موجوداً، واحداً، وكاملاً، خالقاً، ومربياً، ومسيراً ، صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الفضلى، أن تؤمن بالله، وأن تعمل صالحاً يرضاه، والعمل الصالح الذي يرضاه الله عز وجل كما قال الفضيل بن عياض: أن يكون خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
الحياة فيها ابتلاءات، وفيها مصائب، ينبغي أن تصبر تأكيداً، أن تصبر على طاعة الله، لأن الأمر التكليفي ذو كلفة، يحتاج إلى جهد، وينبغي أن تصبر عن الشهوة، وعن شيء حرمه الله عز وجل، وينبغي أن تصبر على قضاء الله وقدره، ينبغي أن تصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى قضاء الله وقدره.
فحينما يمضي اليوم في معرفة بالله، وطاعة له، ودعوة إليه، وصبر على كل أولئك فأنت قد استثمرت الوقت، ولم تستهلكه، عندئذ تكون قد نجوت من الخسارة المحققة، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: " لو تدبّر الناس هذه السورة لكفتهم ".
وقد أثر عن الصحابة الكرام أنهم إذا التقوا لا يتفرقون إلا إذا تلوا هذه السورة:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾
أيها الإخوة الأحباب، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تترجم هذه المعاني الدقيقة التي تنطوي عليها السورة الكريمة إلى سلوك يومي، وإلى موعظة بالغة، فالإنسان كما قلت: بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى.