الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
معنى كلمة الساعة في القرآن الكريم:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والخمسين من دروس العقيدة.
أنهينا في الدرس الماضي وجوب الإيمان باليوم الآخر، وأسماء اليوم الآخر الواردة في القرآن الكريم، والآن إلى موضوع جديد هو مقدمات اليوم الآخر.
فالحديث عن اليوم الآخر يستدعي الكلام عن أمور تجري قبل هذا اليوم كمقدمات له، ونقتصر على عرض أهم هذه الأمور مما ثبت باليقين، ونعني باليقين اليقين الإخباري، وأعلى نصّ يقيني إخباري هو القرآن الكريم، فكل فكرة مُدعّمة بآية قرآنية تُعدّ دليلاً قطعي الثبوت وقطعي الدلالة على ما يذهب إليه مُؤلِّف الكتاب.
فالساعة، آثارها في الكون، ووقتها، وأماراتها، فالحياة الثانية بوضعها الكامل، وأنظمتها التامة لا تكون إلا بعد انتهاء سلسلة هذه الحياة الأولى، فلابد من أن تنتهي حتى تبدأ الثانية، وقد جاء التعبير القرآني عن وقت انتهاء هذه الحياة الأولى بلفظ الساعة، فكلمة الساعة إذا وردت في القرآن الكريم فتعني ساعةَ انتهاء الحياة الأولى، ومتى انتهت الحياة الأولى بدأت الحياة الآخرة، يقول الله عزّ وجل:
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)﴾
كلمة: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ لابد من هذا المعنى كي يستقيم الابتلاء، توضيح هذه الفكرة أن رجلاً له محل تجاري، وفي هذا المحل موظف، لو أن صاحب المحل دخل أول الداخلين وخرج آخر الخارجين، وقبع وراء مكتبه، ووراء مكان وضع النقود، ثم سُئل هذا السؤال: هل هذا الموظف الذي عندك أمين أم خائن؟ لا يعرف، أما إذا تغافل عنه، خرج من المحل، وبقيت عينه على ما يجري في المحل لابد من أجل الامتحان من بعض التغافل، لا أقول الغفلة، أقول: التغافل، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
لا تحسبنه غافلاً لأنه قد يبدو غافلاً، يُمدّ الكافر بالأموال، والبنين، والقوة، والصحة، والجمال، والذكاء، والعشيرة، والأهل، والزوجة، والمكانة، هذا الإمداد يُوهِم الغافلين، يُوهِم السُّذج، يوهم ضيقي الأفق أن الله غافل، هذا ليس غفلة إنما هو تغافل، والتغافل من أجل أن يتحقق الابتلاء، إذاً ربنا عزّ وجل قال: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ لو أنك أشهرت على إنسان سلاحاً وأمرته أن يفعل هذا الشيء ولو لم يفعله لاستخدمت معه هذا السلاح الفعّال، إنه يفعله، هل فَعَله عن قناعة؟ فعله مُكرهاً، أما إذا لم يكن هناك ضغط مباشر عليه وفعل هذا الشيء طواعية يكون هذا الفعل مَكرُمة، وهذا الترك مكرُمة، لذلك: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾ أدق ما في الآية: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ لأن الابتلاء لا يكون إلا بالتغافل، كما ورد في القرآن الكريم.
أسئلة مطروحة لابد من الإجابة عليها:
1- إذا انتهى نظام الحياة في الدنيا هل يبقى الكون بما فيه على وضعه؟
هناك مجموعة أسئلة.
السؤال الأول: إذا انتهى نظام هذه الحياة الأولى فهل ستبقى الأرض والشمس والكواكب والنجوم على أوضاعها؟ الجواب: يأتينا الجواب من الله عز وجل، هذه الأرض قارة آسيا، إفريقيا، أوروبا، أمريكا، أستراليا، القطبين، البحار، الشمس، القمر، اليوم، السنة، الأسبوع، هذا النظام الشمسي وهذه الأرض مع قمرها، وهذه السماوات مع مجراتها هل تبقى هي هي بعد قيام الساعة أو بعد انتهاء الحياة الأولى؟ يأتينا الجواب من الله رب العالمين فيقول:
﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)﴾
﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)﴾
هذا سؤال مهم، هذا النظام، هذه الأرض، هذه اليابسة، هذه البحار، هذه الجبال، هذه المجرات، هذه الكواكب، كلها سوف تنتهي وظيفتها، فمِن شروط أو مِن لوازم انتهاء الحياة انتهاء النظام الذي هي عليه الحياة في الدنيا.
2 ـ متى ينتهي نظام الحياة الأولى أي متى الساعة؟
السؤال الثاني: متى ينتهي نظام الحياة الأولى؟ أي متى الساعة؟ ويأتينا الجواب الرباني مُبَيِّناً لنا أن وقتها من أمور الغيب، كنت قد حدثتكم من قبل أن الإمام مالك رأى في المنام مَلَك الموت، قال: يا ملك الموت كم بقي لي من عمري؟ فأشار ملك الموت كما جاء في الرؤيا، هكذا، فازداد الإمام مالك قلقاً، يا تُرى خمس سنوات أم خمسة أشهر؟ السنة مؤنث العدد يجب أن يأتي مُعاكساً للمعدود، السنوات السنة مؤنث تقول: خمس سنوات، والشهر مذكر تقول: خمسة أشهر، يا ترى خمس سنوات أم خمسة أشهر أم خمسة أسابيع أم خمسة أيام أم خمس ساعات أم خمس دقائق أم خمس ثوانٍ؟ فملك الموت هكذا أشار، الإمام ابن سيرين كان مِن المفسرين للأحلام، ذهب إليه إمام دار الهجرة الإمام مالك فقصّ عليه المنام، فقال: يا إمام، إن ملك الموت يقول لك: إن سؤالك من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله، فالسؤال الثاني: متى الساعة؟ يأتينا الجواب رباني مبيناً أن وقتها من أمور الغيب، التي لا يعلمها إلا الله، وقد أخفاه الله عن عباده لحكمة يعلمها، فلا سبيل إلى معرفته، قال تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)﴾
لذلك في بعض المحاضرات التي أُلقيت في بعض الأقطار العربية عن الإعجاز الرياضي للقرآن الكريم المُحاضر شطح شطحة خرج بها عن نص القرآن، مِن إجراء حسابات معقدة تبيّن له متى بالضبط يوم القيامة، فحينما قال هذه المعلومة انسحب من القاعة معظم المشاهدين الحضور، لأن أن يعلم الإنسان متى يوم القيامة بالتحديد والتفصيل فهذا مناقض لما ورد في الكتاب الكريم، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ معنى: ﴿أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أي متى وقت رسوّها؟ وكأن الحياة شُبِّهت بالسفينة، وانتهاء الرحلة هو عند الشاطئ، وعند الشاطئ ترسو السفينة وتستقر، هذه صورة بلاغية، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ كأن الحياة الدنيا سفينة، وعندما تنتهي الحياة الدنيا تستقر هذه السفينة على شاطئ الدار الآخرة وترسو، ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ ويبدو أنه من رحمة الله عزّ وجل علينا أنه أخفى عنا ساعة النهاية، لو أن الإنسان يعلم متى يموت لشُلَّت حركته، ولأصبحت أيامه المتبقية أياماً مِن نوع خاص لا تُحتمل، لذلك الإنسان يعيش في الأمل.
3- ما دلالات قُرب وقوع الساعة؟
الشيء الثاني حين الحديث عن الساعة قلنا: هناك مجموعة نقاط، الساعة، آثارها في الكون، وقتها، أماراتها، فقُربُ الساعة الله سبحانه وتعالى يبين أنها قريبة، سيدنا عليّ يقول: كلّ متوقع آتٍ، وكل آتٍ قريب.
الآن بدأنا بالشتاء، البيوت تستعد لاستقبال هذا الفصل، تضع الفرش المتعلق بهذا الفصل، تضع وسائل التدفئة، ما هي إلا أزمان يسيرة حتى يأتي الصيف، فكل واحد منا استقبل كم شتاء؟ واستقبل كم صيف؟ واستقبل كم ربيع؟ واستقبل كم خريف؟ وهكذا، قال تعالى:
﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)﴾
﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ ما دمت أنت متحركاً، والنهاية ثابتة، فكل زمن يمضي اقتراب مِن هذه النهاية، شيء بديهي، واللهُ سبحانه وتعالى يقول:
﴿ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)﴾
كلمة على هامش الموضوع-ما من شيء والله الذي لا إله إلا هو-ما من شيء أثقل وأثمن في حياتك من الوقت، بالوقت ترقى إلى الله.
شيء آخر؛ إذا أردت التعامل مع ما في الحياة الدنيا يجب أن تُميّز بين ما يتصل منها بالآخرة، وبين ما لا يتصل، يوجد عندنا مقياس قال بعض العلماء: كل ما لا يدخل معك إلى القبر فهو من الدنيا، كل شيء يقف على شفير القبر من الدنيا، الأولاد من الدنيا يقفون على شفير القبر إلا إذا ابتغيت في تربيتهم وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك يقف رجلان جثيا بين يدي الله يوم القيامة، فقال الله عزّ وجل لأحدهما: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ فقال هذا العبد: يا ربّ لم أنفق منه شيئاً على أحدٍ مخافة الفقر على أولادي من بعدي، قال: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك مِن بعدك قد أنزلتُه بهم، وأما الثاني فقال: أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ فقال: يا ربّ لقد أنفقتُه على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خير حافظاً وأنت أرحم الراحمين، فيقول الله عزّ وجل: عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك.
فلذلك موضوع الساعة موضوع انتهاءِ الحياة، ثم الإنسان أحياناً يقول: متى الساعة؟ هناك سؤال أخطر متى ساعتي؟ هناك ساعة عامة تنتهي بها الحياة وهناك ساعة خاصة ينتهي بها الإنسان، والإنسان العاقل هو الذي يفكر دائماً في ساعته هو، وفي آية أخرى يقول الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ وقلت لكم: من قبل أنه من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت.
وقد جاء في كلام النبي عليه الصلاة والسلام ما يُشبه هذه المعاني فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أنس بن مالك: بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْنِ. قالَ: وضَمَّ السَّبَّابَةَ والْوُسْطَى. ))
الفرق بينهما قليل،
(( قال شعبة راوي الحديث: بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةُ كَهاتَيْنِ. قالَ شُعْبَةُ: وسَمِعْتُ قَتادَةَ يقولُ في قَصَصِهِ: كَفَضْلِ إحْداهُما علَى الأُخْرَى ، فلا أدْرِي أذَكَرَهُ عن أنَسٍ، أوْ قالَهُ قَتادَةُ. ))
أي كزيادة طول الأصبع الوسطى على السبابة وفي هذا إشارة إلى نسبة ما بقي من عمر الدنيا بالنظر إلى ما انصرم منها، وذلك على وجه التقريب.
أيضاً هذه الحقيقة هناك تطبيق عملي خاص بكل واحد منها، سؤال مزعج، سؤال خطير، سؤال لابد من طرحه، ليسأل أحدنا مثل هذا السؤال: هل بقي بقدرِ ما مضى؟ أي من بلغ الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة.
إخوة لنا أعزاء محبون كانوا معنا في الأسبوع الماضي واليوم تحت أطباق الثرى، لي صديق مؤمن خرج من بلده إلى بلد عربي ليعمل في التدريس الجامعي، مضى على خروجه عشرون يوماً، وقد وافته المنية هناك، وسنّه لا تزيد عن أربعين عاماً، حينما كان في الصيف هنا خطط لمشاريع تحتاج إلى عشرين سنة تقريباً، هل بقي بقدر ما مضى؟ سؤال، هل بقي بقدر ما مضى؟ ومن دخل في الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة، سبحان الله! الموت منوع، يأتي بعد مرض عضال، أو يأتي بعد مرض طويل، يقول لك: ثلاث عشرة سنة بهذا المرض، ثم وافته المنية، وقد يأتي من دون مرض، هناك حوادث كثيرة، آوى إلى فراشه، حان وقت الصلاة تفقدوه فإذا قد فارق الحياة، آوى إلى فراشه في منتصف الليل لمست يد زوجته يده فرأتها باردة، فاستيقظت فإذا هو ميت، وهو إلى جانبها، هذا شيء فمِن حكمة الله عزّ وجل أنَّ الموت إما أن يأتي بعد مرض طويل، أو مرضٍ خطير، وإما أن يأتي بلا مقدمات، والآية الدقيقة:
﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)﴾
حدثني أخ عن والده فقال: أصيب والدي بمرض خطير، فأخذ احتياطات مذهلة، نفّذ تعليمات الأطباء بدقة متناهية، حرص على أن ينجو من هذا المرض بكل وسيلة، وافته المنية بحادث سيارة، هو يظن الموت في هذا المرض، فاتّقاه بشكل مُبالغ فيه، مثل شخص يهرب من إنسان فإذا هو أمامه.
والقصة التي ذكرتها لكم كثيراً، أعيدها على سبيل الفائدة، هي قصة رمزية، أن سيدنا سليمان كان عنده رجل أمامه، من المقربين له، ودخل ملَك الموت، فجعل ملك الموت يُحِدّ النظر إلى هذا الرجل، فلما عَلِم هذا الرجل أن هذا ملك الموت فزِعَ قلبه، وارتعدت فرائصه، وألحّ على سيدنا سليمان أن يأخذه إلى أقصى الدنيا، وسيدنا سليمان أوتي بساط الريح كما تروي الكتب، فأركَبَه بساطَ الريح، ونقله إلى أقاصي الهند، وبعد أيام وافته المنية هناك، سيدنا سليمان التقى مع ملَك الموت ثانيةً، قال له: عجِبت لك لماذا كنتَ تُحِدّ النظر إليه؟ قال: واللهِ أنا الذي أعجب، أنا معي أوامر بقبض روحه في الهند، فلما رأيته عندك ازداد عجبي، لماذا هنا هذا؟ هذا مكان وفاته هناك في الهند، ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ .
الحكمة الإلهية من إخبار النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوع أشراط الساعة:
قال: أما أمارات الساعة، أيْ علاماتها، أي علامات قُربها ودنو ميعادها، علاماتها كثيرة.
بادئ ذي بدء هناك علامات كبرى، وعلامات صغرى، وهناك علامات موضوعة، من وضع بعض الوضّاعين، موضوع قيام الساعة وأشراط الساعة موضوع كثير منوع فيه إضافات ليست منه، على كل كلمة لطيفة في هذا الموضوع، الأحاديث الصحيحة في أشراط الساعة ليست صريحة، والأحاديث الصريحة في أشراطها ليست صحيحة، إذا كان هناك أسماء مدن، وتفصيلات، وحوادث، ما دام هناك تصريحات دقيقة جداً فأغلب الظن أن هذا الحديث غير صحيح، وأما الحديث الصحيح ففيه إشاراتٌ كبرى، لذلك لن نخوض في موضوع أشراط الساعة كما ورد في الكتب التي تعتمد على الحديث الضعيف، أو الحديث الموضوع، ونبقى في الإشارات والعلامات الكبرى، على كل يوجد هناك موعظة، قال ربنا عزّ وجل:
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)﴾
معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أخبرنا عن أشراط الساعة كان في هذا الإخبار دليل قطعي على نبوته، لأن هذا في علم الله، وقد أطلع الله عزّ وجل نبيه الكريم على بعض ما سيكون.
إذاً أولاً تمكيناً للإيمان في قلوب المؤمنين، وتنبيهاً للضالين حتى يؤمنوا، وحُجة على الجاحدين المعاندين، وبخاصة إذا مرت على الناس عصور بَعُدوا فيها عن عصر الرسالة المُحمديّة، أي هناك حكمة بالغة من أن الله عز وجل أطْلع نبيَّه الكريم على بعض أشراط الساعة، وبعض علاماتها.
علامات الساعة أو أشراطها:
1- نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:
فمن علامات الساعة أو من أشراطها نزول سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام، له عودة، أي في آخر الزمان كما ورد: تمتلئ الأرض جوراً وظلماً فيأتي أخي عيسى فيملؤها قسطاً وعدلاً، وقد ثبت نزول سيدنا عيسى بدلائل من القرآن الكريم، ودلائل من الحديث الشريف الصحيح المتواتر، فمن الآيات القرآنية الدالة على نزول سيدنا عيسى في آخر الزمان وقبل قيام الساعة قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)﴾
أي هو لم يمت بعد، بل رفعه الله إليه، وما قتلوه يقيناً:
﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)﴾
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)﴾
﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)﴾
وفاة نوم لا وفاة موت، الوفاة نوعان؛ وفاة نوم ووفاة موت، أما وفاة الموت فلها آية تشير إليها:
﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)﴾
أمّا:
﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ هذه وفاة نوم،
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ ،
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ أي سيعود إلى الأرض، وسيؤمن به أهل الكتاب على أنه نبي من الأنبياء، من أُولي العزم الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، ففي صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب، هنا جاء الضبط المُسَيَّب، والصواب: المُسَيِّب، وقد قال هذا التابعي الجليل: سيب الله من سيبني، مُسيِّب وليس مسيَّباً، هنا يوجد خطأ مطبعي،
(( وعن سعيد بن المسيب عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيـَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا". ))
[ أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ للبخاري ]
الآية الثانية التي تشير إلى عودته عليه السلام قوله تعالى في سورة الزخرف:
﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)﴾
﴿لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ أي من علامات قيام الساعة مجيء سيدنا عيسى عليه السلام، ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ .
الآية الثالثة في سورة آل عمران:
﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)﴾
ومعنى كهلاً أيْ لم يبلغ بعد الكهولة.
2- كثرة الجهل وقلة العلم وتبدّل القيم وإسناد الأمر إلى غير أهله:
ومِن أشراط الساعة أيضاً كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( عن أنس بن مالك: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ. ))
أحيانًا الإنسان يجد معظمَ مَن يراهم في الطريق نساءً، أينما دخل، أينما تحرك معظم من يراهم من النساء.
وهناك حديث آخر عن أشراط الساعة،
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قَالَ؟ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. ))
أيضاً مِن علامات قيام الساعة أن يكون المعروف منكراً والمنكر معروفًا، كيف بكم إذا أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً؟ قالوا: أَوَ كائنٌ هذا يا رسول الله؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ وهذا أيضاً من دلائل ومن أمارات ومن علامات ومن أشراط، انظر هذه مرادفات، الدلائل والأمارات والعلامات والأشراط كلها تؤدي إلى معنى واحد، الشيء الذي يأتي قبل شيء آخر.
3- عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً:
من علامات قيام الساعة كما روى الإمام مسلم في صحيحه،
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا. ))
هذا الحديث فيه إعجاز علمي، لأنك إذا ذهبت إلى بلاد الغرب، وسألت أكابر علماء الجيولوجيا عن تاريخ الجزيرة العربية قبل آلاف السنين، لقالوا لك: كانت مروجاً وأنهاراً، الذي نعلمه من التاريخ القريب أن بادية الشام كان المرء يقطعها كلّها تحت ظلال الأشجار، وما نشوء تدمر في وسط البادية إلا دليل على أن هذه العاصمة لدولة عظيمة كانت وسط الجنان والبساتين، والكشوفات الأثرية في الربع الخالي من الجزيرة العربية تؤكد أن هناك مدناً ذات مجد وازدهار طوتها يد الزمن -إن صح التعبير-وغطتها الرمال، وما قامت هذه المدن إلا بسبب الخصوبة التي كانت منتشرة في الربع الخالي من الجزيرة العربية، كيف عرف هذا النبي الكريم؟ الآن الكشوف لها أسباب، المستحاثات، الحفريات، التنقيب على الآثار، بعض الصور من سفن الفضاء، هذا الذي يدل على أن هذه الأراضي القاحلة الصحراوية كانت مروجاً وأنهاراً، سمعت أن بعض العلماء الأجانب الملحدين حينما تأكدوا أن هذا القول قيل قبل ألف وخمسمئة عام أعلن إسلامه، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا)) ثم إنّ بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام منقطعة النظير ((حَتَّى تَعُودَ)) أيْ كانت، كلام فيه إيجاز،((حَتَّى تَعُودَ)) أيْ كانت.
ومن علامات قيام الساعة كما ورد في صحيح البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم:
(( لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا اليَهُودَ، حتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وراءَهُ اليَهُودِيُّ: يا مُسْلِمُ، هذا يَهُودِيٌّ وَرائي فاقْتُلْهُ. ))
أيضاً هذه من علامات قيام الساعة.
على كل أنا لا أحبّ أن أُكثِر الحديث عن أشراط الساعة كما قلت قبل قليل لكثرة الأحاديث الموضوعة في هذا الموضوع، لكن هذه الآيات كلها قطعية الثبوت، وهذه الأحاديث كلها من صحيحي البخاري ومسلم، وهذان الكتابان أصحُ كتابين بعد كتاب الله عزّ وجل.
وفي درس قادم إن شاء الله نتحدث عن البرزخ، تحدثنا عن قيام الساعة، وكيف أن هذه الساعة ساعة نهاية الحياة الدنيا، وقد أشرت إلى أن أخطر منها ساعة انتهاء حياة الإنسان، هناك ساعة عامة وساعة خاصة.
الملف مدقق