الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القرآن الكريم من معجزات النبي محمد عليه الصلاة والسلام:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس العقيدة.
تحدثنا في الدروس السابقة عن بعض معجزات الأنبياء عليهـم الصلاة والسلام، تحدثنا عن معجزات سيدنا عيسى، وعن معجزات سيدنا موسى، وعن معجزات سيدنا صالح، والآن ننتقل إلى معجزات النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن أعظم معجزة أيّده الله بها هي معجزة القرآن، الملاحظ أن المعجزات التي أيّد الله بها أنبياءه السابقين كانت معجزات مادية أي تنقضي في أزمانها، فكون العصا انقلبت ثعباناً هذا الشيء رأوه رؤية في عهد سيدنا موسى وانقضى، وكون البحر قد انشقّ فصار طريقاً يبساً هذه المعجزة انتهت، رآها من رآها وانتهت، وأن سيدنا عيسى أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى، هذه المعجزات انتهت، إذاً هذه المعجزات طبيعتها مادية وانقضت، وبقيت خبراً، إما أن تصدّقه أو ألا تصدّقه، ولكن القرآن الكريم بما أنه خبر صادق من أعلى مستوى لذلك ثبتت بالقرآن الكريم ثبتت معجزات الأنبياء السابقين، من دون القرآن الكريم هي أخبار، لك أن تصدقها ولك ألا تصدقها، لكن القرآن الكريم معجزة من نوع آخر، لا تنقضي بحياة النبي، لا تنقضي بانقضاء حياة النبي، ولا تُحصر بأناس شاهدوها، بينما القرآن الكريم معجزة مستمرة إلى نهاية الحياة، العالم ابن رشد قال: إن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية، ولا كدلالة إحياء الموتى، وإبراء المرضى، فإن تلك المعجزات وإن كانت أفعالاً لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء، وفيها ما يُقنع الناس من العامة، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة وأهداف الوحي ومعنى الشريعة.
الفكرة دقيقة جداً تُوضح بالمثل التالي: لو أن رجلين طبيبيــن أرادا أن يُثبتا لك أنهما طبيبان حاذقان، فالأول طار في السماء ليؤكد لك أنه طبيب، والثاني شفى مريضاً ذا مرض مستعصٍ، أي المعجزات أقرب إلى الإقناع؟ الثاني، فالأولى منقطعة الصلة بمهمة الطبيب، أما الثاني فمتصلة الصلة بمهمة الطبيب.
لذلك الإبراء دليل قطعي على الطب، ومعرفة السطوح دليل قطعي على معرفة الهندسة، وصُنع الأبواب دليل قطعي على صنعة النجارة، ولو أن شخصين ادّعيا الطب فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أطير في الجو، وقال الآخر: دليلي أني أشفي الأمراض، وأُذهب الأسقام، لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفي من المرض قاطعاً.
فكون العصا أصبحت حية، والبحر أصبح طريقاً، والميت شُفي وعوفي وعاد حياً، هذه أعمال خارقة للعادة، ولا يمكن أن يفعلها إلا نبي، لكن ليس هناك علاقة سبب بنتيجة أو علاقة دلالة على النبوة بقدر ما أن القرآن الكريم ذو علاقة وشيجة ومتينة بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، أي الله سبحانه وتعالى أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً ومعه نظام كامل هذا القرآن، دستور شامل، هذا القرآن فيه تشريع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أشار إلى هذه الفكرة في كتابه القسطاس المستقيم فقال: ولذلك اختار الله لخاتمة الرسالات السماوية العامة للناس أجمعين المعجزة التي تدخل في صميم كتاب الرسالة نفسها، وجعل هذا الكتاب الذي يطّلع عليه الأجيال في كل زمن، ويتلونه في كل عصر هو البرهان العظيم الذي يلامسون وجوه إعجازه فيستدلون بها على أمرين.
أي أنت بعد مضي ألف وخمسمئة عام أو وأربعمئة عام على بعثة النبي عليه الصلاة والسلام تفتح القرآن، تقرأ آية، ترى أن الناس لو اجتمعوا لا يستطيعون أن يصيغوا منهجاً للزوج كهذا المنهج، ولا منهجاً للقاضي كهذا المنهج، ولا منهجاً لمن بيده الأمر كهذا المنهـج، منهج صحي، منهج اجتماعي، منهج اقتصادي، منهج دولي، منهج في الحرب، منهج في السلم، منهج في العلاقات الشخصية، في الأحوال الشخصية، فهذه المعجزة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام هي بين ظهرانينا.
دلائل وعبر من القرآن الكريم على إعجازه:
أنا تأثرت قبل أيام حينما ذكرت لكم أن النحلة لا تنطلق لجني الرحيق قبل أن تستقر في خلية، هذه حقيقة مستنبطة من واقع النحل، لكن الله عزّ وجل يقول:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)﴾
لو قال: وكلي من كل الثمرات، الواو تشمل مطلق العطف، أما "ثم" للترتيب مع التراخي: ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا﴾ أي النحلة تقطع طريقاً طوله خمسون كيلو متراً في ذهابها لجني الرحيــق، من دلهّا على مكان الأزهار؟ من ألهمها طريق العودة؟ أسئلة كثيرة، ربنا عزّ وجل أشار إلى هذه الأسئلة.
العنكبوت:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)﴾
والعلم كشف أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت، والنحلة هناك ذكور وإناث، أما التي تصنع الشمع وتجني الرحيق وتصنع العسل فهي الأنثى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي﴾ ياء المؤنثة المخاطبة، أي أدلة كثيرة جداً، أي بالكون هل هناك كلمة تصلح أن يوصف بها الكون كله؟ ربنا عزّ وجل قال:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)﴾
أي كل كوكب في السماء له مسار دائري يرجع إلى المكان الذي انطلق منه، يقول لك: مذنب هالي، أي كل سبعين سنة يعود إلى مكانه الذي انطلق منه، ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ﴾ فالآن تأتي بعد قليل ما معنى أنه معجزة؟ أنه:
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾
فحينما نجد أمامنا كتاباً معجزاً فيه نظام دقيق، فيه حلّ أمثل لكل مشكلاتنا نستنبط من هذا الكتاب شيئين، أن هذا الكتاب هو كلام الله حقاً وصدقاً وليس بكلام بشر، ونستنبط أيضاً أن الذي جاء به هو نبي مرسل من عند الله، لأن هذا الذي بلّغه إلينا لا يُعقل أن يفعله هو.
وجوه إعجاز القرآن الكريم:
1- تحدي العالم أن يأتوا بمثله:
نُلفت النظر كما قلت قبل قليل إلى أن معجزات الأنبياء السابقين المادية لولا القرآن الكريم لم نعلم بها بطريق يقيني ثابت، فالذي يّعرفنا بها بيقين إنما هو القرآن نفسه، فمتى ثبت القرآن ثبتت هي أي هذه المعجزات.
أولاً: الله سبحانه وتعالى تحدّى الناس جميعاً أن يأتوا بمثله أو بمثل ســـورة منه، فما استطاع واحد منهم أو جماعة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا هذا أن يُعارضه بكتاب مثله، مثلاً لو اطّلعتم على كتب المواريث، الحقيقة هناك كتب تعدّ آلاف الصفحات، لو كلفنا لجنة من كبار العلماء أن تضغط هذه المجلدات والمؤلفات إلى صفحتين، مستحيل، المواريث كلها مأخوذة من صفحتين، كل هذه الاستنباطات الفرعية، كل هذه الأحكام التفصيلية، كل الأحوال التي يتوفى عنها الإنسان مردّها صفحتان من كتاب الله، فهل بالإمكان أن تضغط المؤلفات كلها والتفريعات كلها والاستنباطات كلها بصفحتين؟ في صفحتين نظّم الله المواريث كلها وبشكل عادل، قال لي أحد المطّلعين على علم المواريث: لو أنك حللت مئة ألف مسألة في المواريث، بكل الأحوال لكان نصيب الولد الذكر أكبر نصيب، هذا شيء منطقي، الوريث الأول، تحس أن هناك علاقة بين هذا النظام وبين المُعطيات في حياة المتوفى، أقرب الناس له الذين يرعونه والذين ملزمون هم بنفقته، بالإنفاق عليه هم الذين يرثونه، شيء دقيق جداً لا الوقت يسمح ولا الإمكانات تسمح أن تكتشفوا عظمة التشريع من بحث المواريث فقط، آيات معدودة.
إذاً القرآن تحدّى الناس جميعاً أن يأتوا بمثله أو بمثل سورة منه على الرغم من وجود أعداء كثيرين للإسلام في عصور التاريخ، ومنهم دول كبرى، وهم يتمنون لو يستطيعون معارضة القرآن لاشتروا ذلك بالقناطير المقنطرة من أنفس ما يملكون، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)﴾
وقال تعالى معلناً عَجز الإنس والجن عن معارضته في سورة الإسراء:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
2- إعجازه من حيث الصياغة اللغوية:
العرب كانت تقول مثلاً: القتل أنفى للقتل، وتَعُدّ هذه العبارة من أعلى بيان، أي أعلى مستوى في البلاغة هذا الكلام، القتل أنفى للقتل، ربنا عزّ وجل قال:
﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)﴾
حول هذه الآية هناك سبع عشرة خصيصة لهذه الصياغة، قال الله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ أي الحياة تتأتى من قتل القاتل، أولاً: إذا عَلِم القاتل أنه لابد من أن يُقتل فربما أحجم عن القتل، فوفر حياته وحياة المقتول، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ ما دام القاتل لابد من أن يُقتل إذاً وفرنا حياتين، حياة القاتل نفسه وحياة المقتول، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ حياة للقاتل، حياة للمقتول، حياة للمجتمع، طبعاً الآن لا يحضرني هذه السبعة عشرة خصيصة لهذه الآية، إن شاء الله في وقت آخر أُلقيها على مسامعكم.
أمثلة على الصياغة اللغوية في القرآن الكريم:
مثلاً ربنا عز وجل قال:
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾
العلماء وقفوا عند هذه الآية كلمة ﴿دَابَّةٍ﴾ لأنها نكرة هي قرآن، دابة لم يقل: الدابة، أي دابة هذه؟ إذا قلنا: الدابة، صار هناك شيء معرفة، أي الدابة التي حدثتك عنها هذه على الله رزقها، إما أن تكون "أل" للعهد الذكري أو للجنس، أي أية "أل" إذا وضعت على كلمة دابة قصرتها على دابة معينة، لكن: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ هذا التنكير يفيد الشمول، هنا التنكير يعني كل أنواع الدواب، أي النمل، الغنم، الماعز، الجمال، الفيلة، الكلاب، البشر، الآن النّمال بمعنى نملة نملة، ليس فقط النمال على الله رزقها، نملة نملة على الله رزقها، جاءت من، هذه المن لاستغراق أفراد النوع فرداً فردا، هذاّ استنبطناه من كلمة: ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ دابة نكرة تشمل أنواع الدواب، ومن لاستغراق أفراد النوع فرداً فرداً، لو ربنا عزّ وجل قال: الدواب على الله رزقها، هذه العبارة لا تعني أن رزقها على الله حصراً أي عليه وعلى غيره لكن: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلا﴾ النفي والاستثناء جعلا الرزق قاصراً على الله عزّ وجل، لو قلنا: ما من دابة إلا الله يرزقها، هناك معنى مهم ذهب، ليس على وجه الإلزام، لو قلنا: ما من دابة إلا الله يرزقها، ليس على وجه الإلزام، أما على فتفيد الإلزام، إذاً: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ أي كل أنواع الدواب ونستغرق أفراد كل نوع والرزق محصور بالله عز وجل وعلى وجه الإلزام، فالله سبحانه وتعالى ألزم نفسه برزق الدواب كلها، هذا القرآن، والله لو كان هناك وقت لو درست آيةً آية صياغتها اللغوية تجد العجب العجاب، لا يستطيع بشر أن يفعل هذا، هذا الشيء فوق طاقة البشر مثلاً:
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)﴾
لماذا الهدى جاءت معه على والضلال جاءت معه في؟ هذا سؤال، لأن المهتدي وضعه النفسي يشبه إنساناً واقفاً على رأس تلة، والأشياء كلها أمامه مبسوطة واضحة، المهتدي يشبه إنساناً وقف على قمة قاسيون يقول لك: هذه المزة، هذه برزة، هذا حي الميدان، هذه المرجة، هذا طريق الصالحية، يقول لك أشياء هكذا ببساطة لأنه يراها رأي العيــن، الشام كلها أمامه منبسطة، فربنا عزّ وجل قال:
﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى﴾ على للاستعلاء،
﴿أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ الضّال ليس على ضلال، في، إنسان يغرق في مياه المجاري، جالس ضمن هذه المياه يخبط، هذه في للظرفية، فالضال في، أما المهتدي على، من هذا القبيل هناك شيء لا يُعدّ ولا يحصى، لو تتبعتم صياغة القرآن لا يمكن لبشر، هذا فوق طاقة البشر، الإنسان يراعي نقطة يغفل عن نقاط، الكتّاب، الأدباء، الشعراء يراعون قضية ويغفلون عن قضايا كثيرة، النبي عليه الصلاة والسلام مع أن كلامه ليس في مستوى القرآن، ومع ذلك شيء معجز، قال:
(( عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُم عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ. ))
أي صوموا جميعاً، ليس إذا رأيتموه، لو قال: إذا رأيتموه، لا يصح الصيام إلا إذا رأيت الهلال، لرؤيته، أي إذا رآه واحد منكم صوموا جميعاً، صياغة دقيقة جداً، إذا أكرم الله الإنسان، وكشف له أوجه الإعجاز في كتاب الله فهذه نعمة كبرى.
للقرآن وجوه إعجاز كثيرة ففيه ما لا يتناهى من الأعاجيب، أي الفضل لله عزّ وجل كل يوم يكشف للإنسان في القرآن أشياء ما كان يعرفها من قبل، أحياناً حرف الجر يعطي معنى دقيقاً جداً، قال تعالى:
﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)﴾
فاء فاء، لماذا لم يقل: فدخلوا عليه وعرفهم؟ لماذا لم يقل: ودخلوا عليه فعرفهم؟ لماذا لم يقل: ودخلوا عليه وعرفهم؟ لماذا لم يعمل واوين أو واو وفاء أو فاء وواو؟ فاءان، فهذه فيها إشارة عظيمة جداً، هم إخوته بمجرد أن حضروا حاضرة مصر دخلوا عليه، أي لا يوجد عنده روتين معقد، بعد أن دخلوا عليه عرفهم، إذاً لو قيل له: هؤلاء إخوتك على الباب لكان رأساً أدخلهم، يتجاوزون القواعد، لكن متى عرفهم؟ بعد أن دخلوا عليه، إذاً دخلوا عليه كأناس عاديين، دخلوا عليه سريعاً فعرفهم بعد أن دخلوا عليه، من استعمال الفاءين، أنا أضرب لكم بعض الأمثلة لكن والله الذي لا إله إلا هو ما من آية في كتاب الله لو محصّت فيها ودققت لوجدت العجب العجاب.
الإعجاز في القرآن لا يُعدّ ولا يُحصى:
البارحة مرت معنا آية بالعفيف كيف جمعت القرآن والسنّة والإجماع والقياس؟ قال الله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾
إذا تنازعتم في حالة طارئة جديدة ابحثوا عن العلة المشتركة، مثلاً: هناك بعض المشروبات تُسْكِر هذه ليست خمراً، هل هي محرّمة؟ طبعاً، علة التحريم السكْر فأي شيء أسكَر فهو محرّم بالقياس، فالقياس مصدر شرعي كبير، هل الحشيش محرم؟ طبعاً محرّم، يُذهب العقل، باب القياس باب رائع جداً، ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ إجماع العلماء هنا في الآية معناها العلماء، أي القرآن والسنة وإجماع العلماء والقياس في آية واحدة.
﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)﴾
إذاً سبيل المؤمنين هو الإجماع وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالةٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ. ))
[ رواه ابن ماجه، والطبراني، وغيره. وحكم جمع من أهل العلم بأنه ضعيف الإسناد، وكل طرقه لا تخلو من مقال وحسنه بعض العلماء المعاصرين بمجموع طرقه. ]
فلذلك وجوه الإعجاز كثيرة، إذ فيه ما لا يتناهى من الأعاجيب، وفيه ما لا يحصى من المعجزات الجزئية التي يُنتبه إليها في كل عصر، كلما تقدم الناس في ميادين العلم والتجربة ونُظم الحياة.
إن شاء الله في الدرس القادم نذكر بعض ألوان من إعجاز هذا القرآن، هناك إعجاز بياني، هناك إعجاز بلاغي، هناك إعجاز تشريعي، هناك إعجاز تاريخي، هناك إعجاز غيبي، هناك إعجاز علمي، هناك إعجاز حسابي، القرآن الكريم كما أحصاه المحصون، كلمة يوم وردت حصراً ثلاثمئة وخمس وستين مرة، أي صدفة؟ كلمة شهر وردت اثنتي عشرة مرة حصراً، القرآن الكريم عدد كلمات الجنة يساوي عدد كلمات النار، كلمات الجن ككلمات الإنس، كلمات الدنيا ككلمات الآخرة، كلمات الملائكة ككلمات الشياطين، كيف جاءت هذه بأعداد متوافقة تماماً؟ شيء لا يُصدق، هذا إعجاز حسابي، وهناك إعجاز رياضي وهكذا.
إن شاء الله في درس قادم نحاول أن نقف على بعض من ألوان الإعجاز من أجل أن نعلم أن هذا القرآن كلام الله، وأن الذي جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد قلت لكم في مقدمة دروس الرسالة إن الإيمان بالرسل أولاً الإيمان بفحوى الرسالة، فحوى الرسالة يُنبئك أن الذي جاء بهذا الكلام هو رسول الله.
الملف مدقق