- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (041)سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اختلاف الناس في الكتاب أمرٌ قديمٌ:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس العاشر من سورة فصِّلت، ومع الآية الخامسة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)﴾
بعد أن قال الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)﴾
أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن للنبي عليه الصلاة والسلام أن اختلاف الناس في الكتاب أمرٌ قديم، لست يا محمد وحدك ممن اختُلِف في الكتاب الذي جئت به، لكن اختلاف الناس على الكتب السماويَّة أمرٌ قديم، وهذا شأن الناس، فالمؤمنون الصادقون ينادون من مكانٍ قريب، يفهمون كلام الله عزَّ وجل، يدركون مراميه؛ والمنحرفون الضالون الشاردون ينادون من مكانٍ بعيد، يفهمون كلام الله عزَّ وجل على خلاف ما أُنْزِل، إما أن يطعنوا فيه- كما قلت في الدرس الماضي - وإما أن يزوَّروا بعض حقائقه، ويؤوِّلوه تأويلاً ما أنزل الله به من سلطان.
أراد الله سبحانه وتعالى أن يسلِّي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يخفِّف عنه وطأة التكذيب والاختلاف، فقال له: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ أي من قبلك ﴿فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ أيضاً.
معركة الحق والباطل معركة قديمة ومستمرة:
الإنسان حينما يدرك أن معركة الحق مع الباطل قديمةٌ قديمة، ومستمرَّةٌ وأبديَّة يَخِفُّ عليه الأمر، أي يجب أن تفهم أن كل خلافٍ بين أهل الحق والباطل هذا الخلاف لابدَّ منه، خلافٌ قديمٌ كان ويكون وسيبقى، لأن الناس رجلان؛ مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن يتعاطف مع الحق، ويؤيِّد الحق، وينصر الحق، ويفرح بالحق، ويُسَر للحق، غير المؤمن يحقد، ويُكذِّب، ويسخر، ويبحث عن المثالب، يتوهَّم المثالب، فهذا الكلام أيضاً موجَّه لكل مؤمن.
إذا أنت استقمت على أمر الله، والذين حولك هجموا عليك عندما استقمت، وندَّدوا بك، وانتقصوا من استقامتك، وشوَّهوا سمعتك، وطعنوا في نواياك هذا أمر طبيعي جداً، لأن معركة الحق مع الباطل معركةٌ قديمة، ومعركةٌ مستمرَّة، أهل الحق يتعاطفون مع الحق، وأهل الباطل يتعاطفون مع الباطل، فلذلك أراد ربنا عزَّ وجل أن يسلِّي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يخفِّف عنه وطأة التكذيب، وأن يُبعد عنه الألم المُمِض الذي ألمَّ بقلب النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه يعلم علم اليقين أنه على الحق المبين، بينما كفَّار مكة يشكِّكون في هذا الكتاب، ويستهزئون به، ويشكِّكون في مصداقيّته، فلذلك قال ربنا عزَّ وجل:
الإنسان حمل الأمانة باختياره:
أما هذه الآية:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ
هذه الآية أو هذه الكلمات وردت مرَّاتٍ عديدة في أكثر من آيةٍ في كتاب الله
ما هي الكلمة التي سبقت من ربِّك؟ هنا السؤال.
إذا فهمنا هذه الآية فهماً دقيقاً ربَّما فهمنا أكثر الآيات التي وردت فيها هذه الكلمات، ربنا سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلْق جميعاً، خلق السماوات والأرض، وعرض على السماوات والأرض والجبال حمل الأمانة.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
الإنسان حمل الأمانة، هذه الأمانة تؤهِّله ليكون أعلى المخلوقات جميعاً، وأسعد المخلوقات جميعاً، إذا حمل الأمانة، وقام بواجب الأمانة كما ينبغي فهو أسعد المخلوقات وأرقاها قاطبةً من دون استثناء، الأمانة نفسه التي بين جنبيه، أوكل الله للإنسان تزكية نفسه، وتهذيبها، وتعريفها بربها، وحَمْلَهَا على طاعته، فمن زكَّى نفسه سعد في الدنيا والآخرة، ومن أشقى نفسه - دسَّاها- شقي في الدنيا والآخرة.
النقطة الدقيقة أن هذه الأمانة من لوازمها حرية الاختيار، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أن الله أجبر عباده على المعصية لبطل العقاب، الإنسان مخيَّر، هذا الاختيار أثمن ما يملكه الإنسان، قال تعالى:
﴿
أنتم في الدنيا تتمتَّعون بحريَّة الاختيار، وحريَّة الاختيار هي التي تُثمِّن أعمالكم، هي التي ترقى بكم، هي التي تجعلكم تستحقون الجنَّة، هي التي تجعلكم تستحقون النعيم الأبدي، هذه الحريَّة -حرية الاختيار - من لوازم حمل الأمانة.
مقومات التكليف:
ربنا عزَّ وجل خلق الإنسان في الدنيا أعطاه مقوِّمات التكليف، الكون، كل ما في الكون ينطق بوجود الله ووحدانيَّته وكماله، أعطاه عقلاً، جهازًا استشاريًا، قوة إدراكيَّة إذا سأله يجيبه، أي سؤالٍ يُطرح على العقل يأتيك بالجواب المُقْنِع، هذا اللهم إذا كان العقل عند صاحبه قائداً للحقيقة، أما إذا استخدمه مبرِّراً للخطأ، استخدمه استخداما معكوسا عندئذٍ يشقى بالعقل.
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)﴾
فالعقل أيضاً من لوازم التكليف، الكون من لوازم التكليف، الفطرة من لوازم التكليف، الشرع الذي جاء به الأنبياء من لوازم التكليف، الشهوة التي أودعها الله في الإنسان من لوازم التكليف، حرية الاختيار من لوازم التكليف، القوة التي بها تُحقِّق اختيارك من لوازن التكليف، هذا كلُّه من لوازم التكليف، فلذلك هذه الكلمة هو أنك أيها الإنسان مكلَّف، ومع التكليف أنت حُر، لذلك لك أن تفعل في الدنيا ما تشاء.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
﴿
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ
فمن لوازم التكليف، من لوازم وجودك في الدنيا أنك مخيَّر، فالله عزَّ وجل أعطاك الاختيار وأعطاك عمراً محدَّداً، إذاً الحساب يوم القيامة، الفصل هناك، الحكم بيـن النـاس، من هم على حق؟ من هم على باطل؟ يوم القيامة، هذا يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم الدينونة، يوم.
﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا
أنت في الدنيا في امتحان:
إذاً لولا أن الله سبحانه وتعالى خلقك ليسعدك، وأعطاك فرصةً هي العمر كي تتعرَّف فيه إلى الله عزَّ وجل، وكي تسمو بنفسك، وتزكيها، لولا هذه الأمانة التي حمَّلك الله إيَّاها، ولولا هذا التكليف الذي كلَّفك به، ولولا أنك مخيَّر، ولولا أنه أعطاك عمراً محدَّداً لقضي الأمر سريعاً، الكافر يُقصم، والمؤمن يُكافَأ.
تصوَّر طالباً في مدرسة، وفي عام دراسي تسعة أشهر، وهناك امتحان بشهر حزيران، طبعاً لا يوجد في النظام في أثناء العام الدراسي أن نرسِّب طالباً، ولا أن ننجحه، النظام الداخلي في الثانويَّة أن يقضي الطالب على مقاعد الدراسة تسعة أشهر يتلقَّى العلوم من أساتذته ويدرس، لكن متى الامتحان؟ في الخامس من حزيران، هذا الامتحان يكشف الطالب المجتهد من الكسول، الجاد من المهمل، الذي كان ينتبه من الذي كان يتلهَّى، لكن أن نعمل كل يوم امتحان فهذا مستحيل، نظام الله نظَّمه، قانون الله قنَّنه، سُنَّة الله سنَّها،
الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليرحمهم لا ليعذِّبهم:
هناك معنى آخر أرجو الله سبحانه وتعالى أن يمكنني من توضيحه، ودائماً المثل يوضِّح: في النظام الداخلي للتعليم الثانوي أن كل طالب يغيب خمسة عشرَ يوماً يُفصل من الثانوية، لو أن المدير حريص على طلابه حرصاً بالغاً، رحيم بهم، حريص على مستقبلهم، فهل هي القضيَّة قضيَّة تنفيذ قرار؟ لو غاب ثلاثون طالبًا بقرار واحد فصلهم كلهم؟ ليست هذه هي المهمَّة، القصد أن يتعلَّم هؤلاء، أن يتربَّى هؤلاء، لو أن الأمر أمر تنفيذ قرار يُفْصَل هؤلاء جميعاً، أي أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليرحمهم، ليسعدهم لا ليعذِّبهم، لو كان القصد أن يعذِّبهم لأهلكهم فور المعاصي، ارتكب معصية قصمه، وانتهى الأمر، لو كان القصد أن الله خلقهم ليعذِّبهم، أو ليقمعهم إذا عصوا فالقضيَّة صارت سهلة، إلا أن الله عزَّ وجل خلق الخلق ليرحمهم، خلق الخلق ليسعدهم، خلق الخلق ليدلَّهم عليه، خلق الخلق ليهديهم إليه، لذلك الإنسان يخطئ مرَّة، ومرَّتين، وثلاثا، وخمساً، وعشراً، ومئة، الله عزَّ وجل يغفر له، ويرحمه، ويقبله.
الشيء الذي يؤكِّد هذا المعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق، ومعه صحابته وهم أحبُّ الخلق إلى الله، منعهم من العمرة عام الحُديبيَّة، لماذا؟ لأن هناك رجالاً مؤمنون ونساء مؤمنات لا يعلمونهم، فلو فتحوا مكَّة، وحاربوا قريشًا لقتلوهم، والله سبحانه وتعالى يعلم فيهم الخير، وهذه الآية تؤكِّد هذا المعنى، ليس القصد أن يعذَّب الله سبحانه وتعالى عباده، أن يقيم عليهم ميزان العدالة فقط، ربنا سبحانه وتعالى يحب أن يرحمهم، يحب أن يهديهم إلى سواء السبيل، فلذلك الآية الكريمة:
﴿
أي خلقهم ليرحمهم، وهذه الآية أصل في العقيدة، يجب أن تعتقد أيها الأخ الكريم أن الله سبحانه وتعالى ما خلقنا إلا ليرحمنا، وما خلقنا إلا ليسعدنا، وما خلقنا إلا لينجِّينا من كرب الدنيا والآخرة، لذلك تأتي المحاولات العلاجيَّة من الله عزَّ وجل.
الإنسان مخير:
إذاً لو أن الله خلقنا ليعذِّبنا فلمجرَّد أن نعصي الله عزَّ وجل يقصمنا وانتهى الأمر، أحياناً الإنسان يقول لك: لماذا لا يتدخَّل الله عزَّ وجل؟ هو خلقنا، أعطانا حرية الاختيار، وربنا سبحانه وتعالى يريد أن يأخذ كل منا أبعاده، أي أن يحقِّق في الدنيا نواياه، أن تكون الدنيا ترجمةً لما ينطوي عليه الإنسان من حبّ للحق، أو حبّ للباطل، فكل إنسان له وجهة، كل إنسان له سلوك في الحياة، إذاً:
الإنسان الرحيم لو ارتكب هذا الشخص التابع له غلطاً يستدعي العقاب والبتر والقصم يعطيه فرصة، وفرصة، وفرصة، يذكِّره، ينبهه، يبيِّن له، يتوعَّده، يعده من أجل أن يعود إلى الصواب من دون أن يُسحَق، من دون أن يصاب بالأذى، إذاً:
هناك مثل آخر ممكن يوضِّح هذه النقطة، وهو مثل دقيق: لو أن صيدليًا طلب موظَّفًا ليعمل في صيدليته، وأراد أن يمتحنه، وضع له مجموعة أدوية، وقال له: ضع كل نوع من هذه الأدوية في خزانته المُناسبة، طبعاً هناك خزانة للسموم، خزانة للمنشِّطات، للفيتامينات.. إلخ، فهذا صاحب الصيدليَّة الآن في طور امتحان هذا الموظف، فتناول الموظف الدواء الذي هو فيتامينات ووضعه مع السموم، لماذا سمح له صاحب الصيدليَّة أن يتوجَّه إلى خزانة السموم ويضع هذا الدواء في هذه الخزانة؟ هذا الموقف موقف امتحان، لو منعه لما ظهر، لابدَّ من أن يمتحنه، لابدَّ من أن يُمْسِك الدواء المتعلِّق باستطباب معيَّن، ويتوجَّه به نحو خزانة ليست له، فنحن الآن في طور الاختيار، نحن مخيَّرون، من لوازم التخيير أن يُسمح لنا أن نفعل ما اخترناه، ولكن هذا ليس على حساب أحد، أي عندما يختار إنسان أن يوقع الأذى بإنسان، الله عزَّ وجل يوجِّهه إلى من يستحقُّ هذا الأذى، الظالم عدل الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه.
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)﴾
الإنسان في امتحان مستمر:
الإنسان إما أنه يُعطى الدنيا ليُمتحن بها، يُعطى المال ليُمتحن به، يُعطى القوة ليمتحن بها، يعطى العلم ليُمتحن به، فأنت في امتحانٍ مستمر.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾
﴿
يجب أن تؤمن أيها الأخ الكريم أنّك ما دمت في الدنيا، ما دام القلب ينبض، وما دامت الرئتان تتحرَّكان، وما دام الفم ينطق فأنت في امتحان، تُمتحن في كل شيء؛ تمتحن بالزوجة الصالحة، هناك من يفسد الزوجة الصالحة، تُمتحن بالزوجة السيِّئة، تُمتحن بالولد البار، تمتحن بالولد العاق، تمتحن بالدَخل الوفير، تمتحن بالدخل القليل، تمتحن بالصحَّة، تمتحن بالمرض، تمتحن بالفراغ، تمتحن بالانشغال، هل يشغلك عملك عن طاعة الله عزَّ وجل؟ تمتحن بنعمة الأمن، تمتحن ببليَّة الخوف، فأنت ممتحن دائماً، أنت في الدنيا في طور الامتحان، كيف أن صاحب الصيدليَّة وضع الأدوية على الطاولة، وقال لهذا الموظف الذي يمتحنه: ضع كل دواءٍ في مكانه المناسب لأختبر خبرتك بالأدوية، فهو يراقب، وقد يُخطئ، وينبغي أن يُكشف على حقيقته، قد يمسك بالدواء المتعلِّق بالفيتامينات يضعه مع السموم، يراقبه إلى أن يضعه في هذه الخزانة يقول له: أنت أخطأت، هنا حصل الامتحان.
خلاصة معاني: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ:
إذاً: هذه الكلمة التي سبقت من الله، المعنى الأول: أن الله خلقنا ليرحمنا لا ليعذِّبنا، فلهذا يعطينا فرصاً تلو الفُرَص، فرصة أولى، ثانية، ثالثة، رابعة، خامسة، وهذا شأن الرحيم، الرحيم يعمل وعيدًا، لكن لأدنى اعتذار يقول له: أعطيناك فرصة ثانية، فرصة ثالثة، فرصة رابعة، فرصة خامسة.
جاء إلى سيدنا عمر رجل سارق فقال: "والله يا أمير المؤمنين هذه أول مرَّة، قال له:
ربنا عزَّ وجل يعطي فرصًا كثيرة، هذا
المنقطع عن الله أَمْيَلُ للتشكيك في الحق:
دائماً المنقطع عن الله عزَّ وجل أَمْيَل للتشكيك بالحق، أما في علاقاته الدنيويَّة فدائماً على اليقين، يطلب عقدًا، يطلب توثيقًا، يطلب دليلًا، في علاقاته الماليَّة وعلاقاته الاجتماعيَّة لا يقبل بالظن، يطلب الدليل اليقيني، أما في أمور عقيدته الخطيرة، في أخطر شيء يتعلَّق فيه الإنسان فيبقى على الظن، يقول لك: لا نعرف، من مات ورجع فقال لنا ماذا حدث معه؟ دائماً في أمور العقيدة هو أميل للظن والشك والتردُّد، مع أن هذا ليس هو الإيمان.
﴿
﴿ كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)﴾
قلت لكم مرَّةً: هناك علم اليقين، وهناك حقُّ اليقين، وهناك عين اليقين.
علم اليقين هو الاستنتاج القَطْعي، وحق اليقين أن ترى بعينك هذا الاستنتاج، وعين اليقين أن تلمس بأحاسيسك هذا الاستنتاج، أنت قد تقول: لا دخَّان بلا نار، عقلك حكم أن وراء هذا الجدار ناراً، والدليل وجود الدخان، والقاعدة: لا دخَّان بلا نار، أما حينما التفتّ حول الجدار، ورأيت النار بأم عينك، دخلت في شيءٍ آخر هو حقّ اليقين، أما إذا لَمَسَت يدك النار، وشعرت بألم الحرق عندئذٍ دخلت في حالةٍ ثالثة هي عين اليقين، فأنت بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين.
أما الشك، والريْب، والتردُّد، أضعف الأشياء هو الوهم، ثم الشك، ثم الظن، ثم غلبة الظن، لكن في العقيدة لا يُقبل إلا القَطْعُ، أي مئة في المئة، هذه عقيدة، دين، عن محمد بن سيرين:
(( إنَّ هذا العِلمَ دِينٌ، فانظُروا عمَّن تأخُذون دينَكم. ))
ابن عمر، دينك دينكَ، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا.
تساهل الإنسان في أمر دينه والبحث والسؤال في أمور دنياه:
سألني أخ كريم عن موضوع بالفقه فقلت له: هذا موضوع خلافي، بعض العلماء تشدَّدوا، وبعضهم تساهلوا، فرآها فرصة رائعة جداً كي ينجو من تعذيب ضميره، قال لي: ما القول في إنسان التقى بعالمٍ متساهل، وسأله عن هذا الموضوع فأفتى له بالتساهل، فهل عليه إثم؟ فألهمني الله جواباً على السريع، قلت له: ما قولك لو أن لك بيتاً أردت أن تبيعه، جمعتك الصدَف بدلّال أعطاك له ثمناً، هل تبيعه رأساً أم تسأل دلاّلا ثانيًا، وثالثًا، ورابعًا، وخامسًا، وتمتحن الأسعار، وتمضي في جولة في السوق، وتطلب بيتاً مشابهاً لبيتك؟ لماذا في أمر بيع البيت لا يكفيك دلال واحد، ولا مشترٍ واحد، تتقصَّى الحقيقة من كل جوانبها؟ أتكون هذه الدار أغلى عليك من الدار الآخرة؟ لماذا في أمر الدين نقبل الظن، والتردُّد، والشك، يقول لك: شيءٌ يحيِّر، لا أحد يعرف شيئاً مثلاً، كلهم يدَّعي أنهم على حق، وأنت أين موقعك من هؤلاء؟ الإنسان يجب ألا ينام الليل قبل أن يعرف الحقيقة المطلقة،
حالة الكافر حالة شك:
جِئتُ لا أَعلَــــــــــــــــــمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَسـتُ أَدري
لَستُ أَدري وَلِماذا لَســـــتُ أَدري لَستُ أَدري
* * *
أي حياة الكافر ليس يدري، لكن حينما يرى الحقيقة الناصعة عندئذٍ يعضُّ أصابعه ندماً، كان من الممكن أن يدري، وبإمكانه أن يدري.
أحياناً هناك سؤال، الإنسان وصل إلى القمر، هل تعرفون ما معنى أنه وصل للقمر؟ أي علم البشريَّة منذ فجر التاريخ حتى الآن هذا العلم تراكم وتراكم وتراكمَ، الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والحاسوب، والعدسات، وعلم الطب، والفسيولوجيا، علم البشرية المتراكم منذ فجر التاريخ هذا العلم تراكم وسمح للإنسان أن يصل بمركبةٍ إلى القمر.
الإنسان غاص في أعماق البحار، أي صنع غوَّاصات تقاوم ضغوطًا هائلة، الغواصات العاديَّة بعد مئتي متر تتحطَّم، صنع غوَّاصات أبحاث يمكن أن تصل إلى خليج مريانا في المحيط الهادي على عمق اثني عشر ألف متر ليرى الأسماك، والحياة في أعماق البحار، وصل إلى القمر، وغاص لأعماق البحار، ونقل الصورة، ونقل الصوت، أي لا يغيب عنكم ما وصل إليه الإنسان من تقدُّم علمي، أتصوَّر أن الإنسان يوم القيامة إذا وقف بين يدي الله عزَّ وجل يمكن أن يقال لهذا الإنسان: لو استعملت من عقلك واحد بالمليون مما استعملته لدنياك لعرفتني، تجد كل اختراع شيئاً يعجز عنه البشر مجتمعين، هناك إنجازات علمية كبيرة جداً، هل من السهل أن تضرب على حرف ضربة بنصف الثانية تكون في اليابان؟ التلكس مثلاً، هل الفاكس سهل؟ نقل الصورة، نقل صورة ملوَّنة، الهاتف التلفزيوني سهل؟ توجد أشياء كثيرة جداً، لو أن الإنسان استخدم واحداً بالمليون من عقله في معرفة الله لعرف الله.
قضية الإنسان مع الإيمان قضية وقت فقط:
الإنسان تُقام عليه الحجَّة، في أمور دنياه صاحٍ، واعٍ، سريع البديهة، يتفحَّص، يسلك الأسلوب العلمي، يتحقَّق في أمور دنياه، لماذا في أمر الآخرة تترك الأمر على عواهنه؟ لا تتحقَّق من كلام خطيب يلقي خطبة، قد يكون كلامًا خطيرًا جداً يضعك أمام مسؤولياتك، فتجده يقول: الله يعفو عنَّا، وهو مقيم على مخالفاتٍ لا ترضي الله عزَّ وجل.
فلذلك دائماً أقول لكم أيها الإخوة: قضيَّتك مع الإيمان قضية وقت فقط، لأن الإنسان حينما يأتيه ملك الموت تُكْشَف له الحقائق.
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
لكن هذا الكشف لا ينفعك إطلاقاً، هذا جاء بعد فوات الأوان، جاء في الوقت غير المناسب، ولو كان الإنسان كافراً كفرعون عند الموت يؤمن كما آمن فرعون.
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا
ما قيمة الإيمان عند الموت؟ لا شيء، ما قيمة الإيمان بعد فوات الأوان؟ لا شيء، فنحن مطالبون أن نؤمن، ونحن في مقتبل حياتنا، نحن مطالبون أن نؤمن ونحن أصحَّاء.
(( عن عبد الله بن عباس قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه: اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك. ))
حينما تؤمن بالله تنفع نفسك:
الآن:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
نقطة دقيقة جداً جداً، أي أنت حينما تؤمن بالله تنفع نفسك، حينما تعرف منهج الله عزَّ وجل تُسعد نفسك، تنجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة،
نفي الله العظيم الظلم عن نفسه:
لا تستطيع أن تُثْبِت عدالة الله بالدليل المادي:
أما أن تقول: الزلزال الفلاني، والفيضان الفلاني، والشعب الفلاني يموت من الجوع، والشعب الفلاني مُستغَل من قِبَل الشعب الفلاني، والحرب الأهليَّة في المكان الفلاني، لا تستطيع أن تُثْبِت عدالة الله بالدليل المادي إلا إذا كان لك علمٌ كعلم الله، وهذا مستحيل، لكن الله أخبرك أنه لا يظلم مثقال ذرَّة، انتهى الأمر، أي لا تسلك طريق معرفة الله من خلال الحوادث، هذه ألغام قد تنفجر، اسلك سبيل معرفة الله من خلال الكون، الكون أسلم، طريق آمن، اعرف الله من خلال الكون، وصدِّقه حينما يقول لك:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾
فالله له حكمة، لا ينبغي أن تتعرَّف إلى الله من خلال أفعاله، هذه قد تلتبس عليك، اعرف الله من خلال خلقه، هذا طريق آمن، أما إذا رأيت في الأفعال ما يوقعك في اللبس فاقرأ هذه الآيات:
العقل محدود:
لا بأس أن نعيد هذه الفقرة مرَّةً ثانية لأهميَّتها وخطورتها.
الإنسان أيها الإخوة أعطاه الله عقلاً، وبثَّ الله آياته في الكون، فبإمكانه أن يوقن بشكلٍ قطعيٍ بوجود الله وكماله ووحدانيَّته بالعقل، وإذا قرأ القرآن بإمكانه أن يوقن من خلال عقله فقط أن هذا الكلام كلام الله، عن طريق إعجازه، وبإمكانه أن يوقن أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هو رسول الله من خلال هذا الكتاب، هناك أدلَّةٌ عقليَّة، يقينيَّة، قطعيَّةٌ، ثابتةٌ لا مجال للشك فيها.
فالعقل يكفي كي تؤمن به وبكتابه وبنبيِّه، لكن العقل يبقى جهازاً محدوداً، أنت عندك بقاليَّة، تشتري ميزانًا بخمسمئة ألف، حسَّاساً ودقيقاً جداً، فيه ذاكرات، أحدث ما صُنِع للموازين، ومع ذلك هذا الميزان يزن حتى خمسين كيلو، الصانع صمَّمه هكذا، فمادام الوزن أقلّ من خمسين يعطيك نتائج بارعة وباهرة، أما لو سوَّلت لك نفسك أن تزين به سيَّارتك لكسَّرت الميزان وحطَّمته، وعندئذٍ لا ينبغي أن تتهم الصانع، أن يا أخي ما هذا الميزان، فهو لم يعمل؟ أنت كلَّفته ما لا يطيق، كلَّفته بمهمَّةٍ لم يُصمَّم لها، فعقلك إذا وجَّهته لموضوعات ضمن اختصاصه يعطيك نتائج باهرة، أي إذا فكَّرت في الكون فالله عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
الله أمرنا أن نفكِّر في الكون، هذا من مهمَّته، قال لك:
﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)﴾
مهمة العقل، اقرأ وتدبَّر.
﴿
تفكَّر بالنبي الكريم، بمعجزاته، بأخباره، بأخلاقه، بما جاء به من سنةٍ نبويَّةٍ محكمةٍ رائعةٍ مدهشة.. إلخ، لكن لو كلَّفت العقل ليبحث في ذات الله فإنك تحطِّمه، لأنه لم يصمَّم ليبحث في ذات الله، قيل:
الموضوعات الغيبية أساسها التصديق بالنص الصحيح لا بالعقل:
تماماً كما لو أننا اشترينا ميزانا ثمنه نصف مليون ليرة حسَّاس جداً، وزنا فيه السيارة فحطَّمناه، تماماً كما لو وضعت ورقة دخينة رقيقة في فرن صهر الحديد، وسألت: ما الذي حدث لها؟ هذه من الوهج تبخَّرت، فعندما توجِّه عقلك لمعرفة ذات الله، ذات الله الشيء الذي يعجز عنه عقلك أخبرك الله به في القرآن، ارتح، لو وجَّهت عقلك إلى البحث في الماضي السحيق الله قال:
﴿
ما كانوا معي في ذلك الوقت، لو وجَّهت عقلك للبحث في المستقبل البعيد فقلت: أنا أريد دليلاً قطعياً على الجنَّة، الجنة، والنار، والصراط، والميزان، هذه أخبارٌ قطعيَّة الثبوت جاءت في كتاب الله، لكن لا يستطيع عقلك أن يثبتها بالمادَّة، مستحيل، إلا بالتصديق.
أيها الأخ الكريم؛ يجب بادئ ذي بدء أن تفرِّق بين ما ينبغي أن تُعمل عقلك به وبين ما ينبغي أن تصدِّقه، وأكبر غلط حينما تنقل موضوعًا من الذي ينبغي أن تصدِّقه إلى حقل العقل فتقع في متاهات كبيرة.
أنا عندي قاعدة: هذا الموضوع إخباري انتهى الأمر، لست مكلَّفاً أن تصدِّقه إلا بعد أن تؤمن بالله وكتابه ورسوله، إذا آمنت بالله وبكتابه وبرسوله الآن أنت مكلَّف أن تصدِّقه، فإن لم تصدِّقه فارجع إلى إيمانك ففيه خلل، لذلك عندنا أخبار في القرآن هذه ليست خاضعة إلا للتصديق؛ الله عزَّ وجل أخبرك عن الجن، هل عندك دليل مادي على وجودهم؟ لا، أخبرك عن الملائكة، أخبرك عن مستقبل العالم، أخبرك عن يوم القيامة، أخبرك عن حال أهل النار، عن حال أهل الجنَّة، عن الصراط، عن الميزان، عن يوم تُنشر الصحف، هذه كلُّها موضوعات إخباريَّة لا تخضع لمناقشة العقل.
والماضي السحيق؛ كيف خلق آدم، وكيف خلق حواء، وكيف أخرجهما من الجنَّة هذا موضوع إخباري لا يخضع لسيطرة العقل.
وذاته العالية العظيمة الكاملة هذا موضوع إخباري لا يخضع لسيطرة العقل.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كيف يعلم؟ هذا ليس عملك، أخبرك أنه يعلم وانتهى الأمر، فنحن يجب أن نفرِّق بادئ ذي بدء بين الموضوعات العقلانيَّة التي ينبغي أن يعمل بها العقل، والموضوعات الإخباريَّة التي ينبغي أن يصدِّقها العقل، لكن أنت لست مكلَّفًا أن تصدِّق إلا بعد أن تؤمن، فأنت اجعل همَّك الأول أن تؤمن بالله، بوجوده وكماله ووحدانيَّته، وأن تؤمن بكتابه المُعجز، وبنبيِّه المرسَل.
الآن أي موضوعٍ لا يخضع لعقلك أخبرك الله عنه، يا أخي أنا عندي هذا الميزان، وعندي هذه المركبة، نريد أن نعرف وزنها؟ اسأل الصانع، وأساساً وزنها مكتوب عليه ألف ومئتان وثمانية وثلاثون كيلو بلوحة مثبَّتة على المركبة، انتهى الأمر، هذا وزنها، أنت تستخدم الميزان للبقاليَّة ضمن خمسين كيلو، أما هذه المركبة فتأخذ وزنها من المعمل، أما أن تحاول أن توزن المركبة بهذا الميزان تكسره، تحطِّمه، عندئذ لا ينبغي أن تتهم العقل: يا أخي العقل قاصر، لا ليس قاصراً، هو يعطيك أرقى النتائج إذا أعملته في الحقل المخصَّص له.
من لوازم الإيمان بالله الإيمان بعدالته المُطلقة:
إذاً الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ
مرَّة - هذه القصَّة أحب أن أذكرها لأنها واضحة جداً في دلالتها- استوقفني إنسان، اثنان تخاصما في سوق تجاري، واحد أطلق على الثاني النار فأصاب صاحب محل تجاري بريء، مدَّ رأسه ليعرف من أين إطلاق النار فجاءته رصاصة في عنقه فجعلته مشلولاً فوراً، فقال لي أحدهم: ما ذنب هذا الإنسان؟ جاء ليفتح محلَّه التجاري فإذا بهذه الرصاصة تجعله مشلولاً، قلت: الله أعلم، أما ربنا عزَّ وجل:
هذا الكلام تمَّ في الساعة الثامنة مساءً، في صبيحة اليوم الثاني هو نفسه الشخص الذي فتح محلَّه التجاري ومدَّ رأسه فجاءت رصاصة جعلته مشلولاً، فإذا نظر الرجل ببساطة للأمر يجد أنه ما فعل شيئًاً، جاء ليفتح محلَّه التجاري، وأودت به هذه الرصاصة، وجعلته مشلولاً، لو عرفنا ماذا فعل مع أولاد أخيه قبل يوم، وكيف أنه أصرَّ على أن يأكل أموالهم بالباطل، وأنه أبى أن يسمع لنصيحة العلم فأنت لا تعرف، لو عرفت من قصة خمسة فصول فهناك خمسة آخرين، عرفت ستة بقي أربعة، سبعة بقي ثلاثة، ثمانية بقي اثنان، تسعة بقي واحد، قد يكون السر كامناً في آخر فصل، لأنك لا تعرف، فأنت عشرات الآيات، بل بضع عشرات تؤكِّد لك أن الله لا يظلم:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
﴿ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ
يوجد خيط في النواة بين فلقتيها.
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
يوجد رأس مؤنف مدبَّب في نواة التمرة، لا يظلمون مقدار قطمير:
﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
غشاء رقيق شيء لا يُذكر لا قيمة له، في هذا المستوى.
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
من لوازم إيمانك بالله أن تؤمن بعدالته المُطلقة، أما إذا رأيت شيئاً لا تعرف تفسيره أوكله لله عزَّ وجل، هكذا المؤمن.
فلدينا موضوعات في العقيدة موضوعات عقلانيَّة تخضع للعقل، وهناك موضوعات إخباريَّة، فالشيء الذي يعجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به، فإن لم تصدِّقه فجدِّد إيمانك بالله، وجدِّد إيمانك بالكتاب، وإيمانك بالرسول، إذا أنت سمحت لعقلك أن ينتقد خبرًا يقينيًا جاء في كتاب الله فمشكلتك مع نفسك، عندئذٍ جدِّد إيمانك بالله أولاً، وإيمانك بالكتاب ثانياً، وإيمانك بالنبي ثالثاً.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين