- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (041)سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تذكيرٌ بما سبق:
مع الدرس الثامن من سورة فصِّلت، ومع الآية السابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)﴾
أيها الإخوة؛ أولاً: حينما ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين آمنوا بالله، واستقاموا على أمره،
ثم يبيِّن ربنا سبحانه وتعالى لنا أن طريق إيمان هؤلاء، وجوهر دعوة هؤلاء هو معرفتهم بالله عزَّ وجل، إذا عرفت الله استقمت على أمره، وإذا عرفت الله دعوت إليه، وطريق معرفة الله عزَّ وجل آياته، لأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، ولكن خلق الكون ليكون الكون مظهراً لأسماء الله الحسنى وصفاته الفُضلى، فإذا أردت أن تعرف عظمة الله عزَّ وجل، علم الله، رحمة الله، خبرة الله، قدرة الله، إن أردت أن تعرف أسماء الله عزَّ وجل فهذا الكون ينطق، كل شيءٍ في الكون ينطق بوجود الله، وبكمال الله، وبوحدانيَّة الله، لذلك ربنا في سوره الكريمة كلَّما بيَّن حقيقةً بيَّن سببها، أي إذا أردت أن تؤمن، ومن ثَمَّ أن تدعو فعليك بهذه الآيات، لأنك إن فكَّرت فيها بدت لك عظمة الله عزَّ وجل.
وكنت أقول دائماً: إن الكون أوسع بابٍ وأقصر طريق، إذا أردت أن تقف وجهاً إلى وجه أمام عظمة الله عزَّ وجل، أمام قدرة الله، أمام علم الله، أمام رحمة الله، أمام لطف الله، فدونك الكون، حسبك الكون معجزة.
إذاً سياق هذه الآيات، الآيات مترابطة، ولو لم يبد لكم أدوات ربط ظاهرة، في اللغة أدوات ربط ظاهرة، لأنه كذا وكذا كان كذا وكذا، وانطلاقاً من كذا نقول كذا، هذه أدوات ربط ظاهرة، ولكن مقاطع القرآن الكريم مترابطة أدقَّ الترابط، مترابطة ومتناسقة أدقَّ التناسق.
إذاً بعد أن بيَّن لنا الفئة الأولى التي آمنت، وكانت استقامتها علامة إيمانها، والفئة الثانية التي دعت، وكان عملها الصالح علامة صدقها في دعوتها، بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والدعوة إليه أساسه معرفة الله.
النظر في الكون طريق لمعرفة الله:
طريق معرفة الله هذه الآيات الكونيَّة جاءت
الحكمة من وجود الليل والنهار:
لماذا هناك ليل وهناك نهار؟ لأن هناك مصدرًا للضوء وهو الشمس، لو أن الشمس انطفأت لما كان هناك ليلٌ ولا نهار، إذا لم يكن هناك نهار فليس هناك ليل، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، مصدر الحرارة، والطاقة، والضوء، والدفء هي الشمس، إذاً كلمة الليل تشير من طرفٍ خفي إلى الشمس، هذه الشمس وهذه الأرض، لو أن هناك شمسًا وهناك أرضًا، لولا هذه الدورة لما كان ليلٌ ونهار، لو أن الأرض دارت هكذا على محورٍ موازٍ لمستوى دورانها حول الشمس، لو دارت الأرض هكذا لما كان ليل ولا نهار، نصفها المُقابل للشمس نهارٌ أبدي سرمدي، ونصفها الآخر ليلٌ أبدي سرمدي، لأن المحور ليس موازياً لمستوي دورانها حول الشمس كان الليل والنهار،
تناسب الليل والنهار دليل على عظمة الخالق:
لو أن الأرض تدور كل ساعة دورة حول نفسها، لكان الليل نصف ساعة واحدة، لا نستريح، ما إن نغلق المحلات، ونأتي إلى البيت، حتى يبدأ نهارٌ جديد، لو أن الأرض تدور حول نفسها كل خمسين ساعة دورة، صار الليل خمساً وعشرين ساعة، فالإنسان إذا نام في وقت مبكِّر جداً، واستيقظ الساعة الثانية عشرة يحتار ماذا يفعل؟ الناس كلهم نائمون، لو كان الليل أطول من حاجة الإنسان للنوم أو أقلّ لاختلف نظام الأرض، لكن سبحان الله! طاقتك للعمل ثماني ساعات، وحاجتك للنوم ثماني ساعات، وهناك ثماني ساعات بين ذهاب وإياب، وطعام وشراب، وجلوس مع الأهل، يوجد تناسق تام بين سرعة دورة الأرض حول نفسها وبين جسم الإنسان، هذا يؤكِّد أن الذي خلق الأرض بهذا الحجم، وجعل سرعتها بهذه السرعة هو الذي خلق الإنسان، لو أن حجم الأرض كحجم القمر لكان وزن الإنسان على الأرض سُدس وزنه الحقيقي، أي أن الذي وزنه ستين كيلو سيزن عشرة كيلو، والوزن الخفيف أحياناً يكون مزعجًا جداً، أي حركة صرنا في الهواء، فوزنك يتناسب مع حجم الأرض، لأن حجم الأرض يؤكِّد مستوى الجاذبيَّة، فوزنك له علاقة بحجم الأرض، وطول الليل له علاقة بسرعة الدوران حول نفسها.
الفصول الأربعة:
لو أن المحور هكذا عمودي على مستوى الدوران لا يوجد فصول، وإذا انعدمت الفصول انعدم النبات، النبات أحد أسبابه الفصول، التأمُّل يضعنا أمام آياتٍ دالَّةٍ على عظمته، وزنك متعلِّق بحجم الأرض، طول الليل والنهار المتناسب أشدّ التناسب مع حاجتك للنوم والعمل متعلِّقٌ بسرعة دورة الأرض حول نفسها، ميل المحور يجعل الفصول الأربعة، لو كان هكذا نصف الكرة الأرضيَّة عند خط استوائها صيف أبدي، وفي طرفيها شتاءٌ أبدي، أما بهذا الميل فالشمس إذاً عموديَّةٌ على قسمها الشمالي، فإذا أصبحت في هذا المكان أصبحت عموديَّةً على قسمها الجنوبي، إذاً تبدَّل الصيف والشتاء والربيع والخريف عبر مناطق الأرض، والإنسان بإمكانه إذا ذهب إلى قارة أمريكا، بإمكانه وهو في شمال أمريكا أن يُعاين الثلوج المُتراكمة، فإذا ركب الطائرة، وطار إلى جنوب أمريكا يرى الناس يسبحون في البحار، هناك صيف، إذا كان الآن عندنا شتاء في نصف الكرة الجنوبي صيف، وحينما يكون عندهم الشتاء يكون عندنا الصيف، إذاً لولا ميل هذا المحور ميلاً دقيقاً جداً لما كانت الفصول الأربعة، إذاً من دورة الأرض حول نفسها، وبمحورٍ غير موازٍ لمستوي دورانها حول الشمس يتشكَّل الليل والنهار، ومن سرعة دورانها حول نفسها يتحدَّد طول الليل والنهار، وميل محورها على العمود على مستوي دورانها يشكِّل الفصول الأربعة، قال:
الشمس والقمر من آيات الله الدالة على عظمته:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)﴾
برج العقرب فيه نجوم كثيرة، من هذه النجوم قلب العقرب، هذا النجم الصغير يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿
كيف تطيعه؟ لابدَّ من أن تعرفه، مثل بسيط جداً: أنت الآن في حياتك الوظيفيَّة تندفع إلى تنفيذ الأمر بحسب نوع التوقيع، قد يأمرك وأنت في الجيش عريف، وهناك رقيب، وهناك ملازم، وهناك عقيد، أما قائد الفرقة إذا أعطاك أمرا فإنّ استجابتك له تختلف، هذا منطق الحياة، كلَّما عظُم الآمر عظُم الأمر، وعظمةُ الأمر من عظمة الآمر، فإذا عرفت عظمة الآمر صار التطبيق سهلاً.
لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
مرَّة قلت في بعض الدروس، وأعيد هذا كثيراً: إن بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئيَّة - اليوم احسبها بالآلة الحاسبة - كم تبلغ مسافة أربع سنوات ضوئَّية بالكيلو متر؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، أي بين الأرض والقمر ثانية ضوئيَّة واحدة، في الدقيقة ضرب ستين، في الساعة ضرب ستين، في اليوم ضرب أربع وعشرين ساعة، في السنة ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، الثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربع وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين، هذا ما يقطعه الضوء في سنة واحدة، هذا النجم الملتهب يبعد عنَّا أربع سنوات ضوئيَّة، لو قسَّمت هذا الرقم على مئة كيلو متر وهو سرعة المركبة الأرضيَّة، وقسَّمته على أربع وعشرين ساعة- على يوم- ثم على ثلاثمئة وخمسة وستين لفوجئت أن هذه المسافة تحتاج أن تصل إلى هذا الكوكب الملتهب إلى خمسين مليون عام، كل التاريخ الميلادي إلى اليوم ألف وتسعمئة وأربعة وتسعون، كل التاريخ الميلادي وليس الهجري، تحتاج إلى خمسين مليون عام من أجل أن تصل إلى أقرب نجم ملتهب للأرض، هذا أربع سنوات ضوئيَّة، إذاً أربعة آلاف سنة ضوئية؟ خمسون مليوناً ضرب ألف، خمسون ألف مليون سنة ضوئية نجم القطب، المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيَّة، مليون ضرب خمسين مليون؟ أحدث مجرَّة تبعد عنَّا ستة عشرَ ألف مليون سنة ضوئيَّة، اسمعوا الآية الكريمة:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)﴾
هذه المسافات بين النجوم.
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
من معاني (لو) أنّها أداة حَض، يقول لك أحدهم: لو تذهب معي، أي اذهب معي، لو تأكل معنا، أي كُلْ معنا،
عبادة الله وفق الشرع لا وفق الهوى:
لا أريد أن أطيل عليكم، إلا أن مركز الثقل في هذه الآية:
﴿ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)﴾
أي هناك من يدَّعي أنه إذا عبد الشمس فهو يتقرَّب إلى الله بأعظم مخلوقاته -كان هذا قديماً- إذا عبدنا البقر نتقرَّب إلى الله بأنفع مخلوقاته لنا.
﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
فهذا الردُّ عليهم، أي أنت ينبغي أن تعبد الله أنت لا وفق مزاجك، ولا وفق تصوُّرك، ولا وفق هوى نفسك، إذا أردت أن تعبد الله فينبغي أن تعبده وفق ما أمرك به أن تعبده، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
إذاً: ربنا عزَّ وجل يقول: يجب أن تعبدني وفق ما آمرك به لا وفق ما يتراءى لك أنت.
الكافر يقف عند النعمة والمؤمن يقف عند المنعِم:
وأبقى فيَّ قوَّته، هذه الطعوم التي خلقها الله لنا تفيد أجسامنا، يقول لك: فيه كالسيوم، وفيه فيتامين، وفيه آزوت، وفيه منغنيز، هذه المياه معدنيَّة، وهذه الفواكه فيها الأملاح الفلانيَّة، وهذه مضادَّات حيويَّة، وهذه فيتامينات، أبقى فيَّ قوَّته.
وأذهب عني أذاه؛ هذه الفضلات خرجت، ولو بقيت لكانت حياة الإنسان جحيماً، إذاً: لو قرأتم أدعية النبي عليه الصلاة والسلام لوجدتم هذا المعنى، حتى إذا دخل بيته كان يقول:
(( عن أنس بن مالك: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا أوى إلى فراشِه قال: الحمدُ للهِ الَّذي أطعَمنا وسقانا وكفانا فكم ممَّن لا كافيَ له ولا مُؤويَ. ))
النقطة الدقيقة في هذا الدرس أن المؤمن ينتقل من الكون إلى المكوِّن، ومن النظام إلى المنظِّم، ومن التسيير إلى المسيِّير، ومن الوجود إلى الموجد، ومن النعمة إلى المُنعم، لا يقف عند الوجود، لذلك جاء في الفاتحة:
لا خلاف بين الناس في النعمةِ ولكن الخلاف في المنعِم:
الخلاف ليس على النعمة، لكن الخلاف إلى من تُعزَى هذه النعمة، ﴿الحَمْدً للهِ﴾ الحمد ليس فيه خلاف، هناك نعمةٌ تستحق الحمد، ولكن لمن؟ لله، الحمد لله رب العالمين، ليس هناك خلافٌ على النعمة، بل الخلاف على مصدر هذه النعمة، إنه الله سبحانه وتعالى، إذاً:
النبي عليه الصلاة والسلام يردّ كل النعم إلى ربّه:
كل النعم التي تساق إليك في الأعم الأغلب تساق على يد إنسان، فالشرك أن تراها من هذا الإنسان، والتوحيد أن تراها من الله عزَّ وجل، لذلك بعد أن فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكَّة، وانتهى من معركة حُنَيْن، أذكر هذه القصَّة لكلمة واحدة قالها النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه أحد صحابته وهو سيدنا سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم- أي هم غاضبون- قال: أين أنت منهم يا سعد؟ قال: ما أنا إلا من قومي، فقال عليه الصلاة والسلام: اجمع لي قومك، فجمع الأنصار، وقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: عن أبي سعيد الخدري:
(( مَّا أعْطى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعْطى من تلك العَطايا في قُرَيشٍ وقَبائِلِ العَرَبِ، ولم يكُنْ في الأنْصارِ منها شَيءٌ، وَجَدَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ في أنْفُسِهم حتى كَثُرَت فيهم القالةُ حتى قال قائِلُهم: لَقِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَومَه فدَخَلَ عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحَيَّ قد وَجَدوا عليكَ في أنْفُسِهم؛ لِمَا صَنَعتَ في هذا الفَيءِ الَّذي أَصَبتَ؛ قَسَمتَ في قَومِك، وأعْطَيتَ عَطايا عِظامًا في قَبائِلِ العَرَبِ، ولم يَكُ في هذا الحَيِّ من الأنْصارِ شَيءٌ، قال: فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي، وما أنا؟! قال: فاجْمَعْ لي قَومَك في هذه الحَظيرةِ، قال: فخَرَجَ سَعدٌ، فجَمَعَ الأنْصارَ في تلك الحَظيرةِ، قال: فجاءَ رِجالٌ من المُهاجِرينَ، فتَرَكَهم فدَخَلوا، وجاءَ آخَرون، فرَدَّهم، فلمَّا اجتَمَعوا أتاهُ سَعدٌ، فقال: قد اجتَمَعَ لكَ هذا الحَيُّ من الأنْصارِ، قال: فأَتاهُم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بالَّذي هو له أهْلٌ، ثُمَّ قال:
طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت، وفي هذا المكان كان في قمة انتصاره، الجزيرة العربيَّة من أقصاها إلى أقصاها دانت له، مكَّة والمدينة وجميع القبائل دانت له بالخضوع بعد معركة حُنين، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام كغيره كان بإمكانه أن يُلغي وجودهم، وبإمكانه أن يهدر كرامتهم، إذا قال عنهم: منافقون، انتهوا، وبإمكانه أن يهملهم، وبإمكانه أن يعاتبهم، ويذكِّرهم بفضله عليهم، لم يلغِ وجودهم، ولم يهدر كرامتهم، ولم يهملهم، ولم يعاتبهم، ولم يُذَكِّرهم بفضله عليهم، بل جمعهم، وذكَّرهم بفضلهم عليه فقال:
يكون أحدنا ذا علم قليل فيتكلّم بكلمتين، فتدمع عين السامع، فيقول: أنا هديته، لي فضل عليه! أي فضل هذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد البشر قال:
قلت مرَّةً تعليقاً على هذه القصَّة في خطبة: كان الله في عون كُتَّاب السيرة، أين يضعون هذه القصَّة؟ مع حلم النبي أم مع رحمته؟ أم مع وفائه أم مع حكمته؟ شيء يحيِّر، حكمة أم رحمة أم حلم أم وفاء؟ هذا هو النبي اللهمَّ صلّ عليه.
ذكَّرني هذا بقصَّة أخرى، عندما أرسل أحد أصحابه، وهو حاطب بن أبي بلتعة، كتاباً إلى قريش قبيل فتح مكَّة يقول فيه:
(( بَعَثَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ وأَبَا مَرْثَدٍ الغَنَوِيَّ، وكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فإنَّ بهَا امْرَأَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، معهَا صَحِيفَةٌ مِن حَاطِبِ بنِ أبِي بَلْتَعَةَ إلى المُشْرِكِينَ، قَالَ: فأدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ علَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: قُلْنَا: أيْنَ الكِتَابُ الذي معكِ؟ قَالَتْ: ما مَعِي كِتَابٌ، فأنَخْنَا بهَا، فَابْتَغَيْنَا في رَحْلِهَا فَما وجَدْنَا شيئًا، قَالَ صَاحِبَايَ: ما نَرَى كِتَابًا، قَالَ: قُلتُ: لقَدْ عَلِمْتُ ما كَذَبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والذي يُحْلَفُ به، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ الجِدَّ مِنِّي أهْوَتْ بيَدِهَا إلى حُجْزَتِهَا، وهي مُحْتَجِزَةٌ بكِسَاءٍ، فأخْرَجَتِ الكِتَابَ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا به إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقَالَ:
وعلَّق كُتَّاب السيرة على هذه الحادثة بأن عمر نظر إلى الذنب فرآه خيانةً عُظمى، لكن النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى صاحب الذنب فرآه قد وقع، وتعثَّر في لحظة ضعفٍ طارئة، فأراد النبي أن يعينه على نفسه، وأن ينهضه، وأنهضه، وحَسُنَ إسلامه، وأرسله مندوباً شخصياً لبعض الملوك في المستقبل، لذلك النبي كما قال بعض الشعراء:
وأجـمل منك لم ترَ قط عينــي وأكمل منك لم تلد النســاءُ
خُلِقــت مبرَّأً من كـــل عـيـبٍ كأنَّك قد خُلقت كما تـشـاءُ
* * *
موطن الشاهد في هذه الآية أي المؤمن ينتقل من الكون للمكوِّن، من النظام للمنظِّم، من التسيير للمسيِّير، من الوجود للموجد، من النعمة إلى المُنعم، كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً أول ما يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:
(( إذا قام أحدُكم عن فراشِه، ثم رَجَع إليه، فلْيَنْفُضْه بصَنِفَةِ إزارِه، ثلاثَ مَرَّاتٍ، فإنه لا يَدْرِي ما خَلَفَه عليه بعدَه، وإذا اضْطَجَع فلْيَقُلْ: باسْمِكَ ربي وضعتُ جَنْبِي، وبك أَرْفَعُه، فإن أَمْسَكْتَ نفسي فارْحَمْها، وإن أَرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ به عبادَك الصالحينَ. فإذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ: الحمدُ للهِ الذي عافانِي في جَسَدِي، ورَدَّ عَلَيَّ رُوحِي، وأَذِنَ لي بذِكْرِه. ))
أي استيقظ، هناك إنسان ينام لا يستيقظ.
تطبيق عملي للآية:
إذاً الآن كتطبيقٍ لهذه الآية: أية نعمةٍ ساقها الله إليك على يد إنسان لا تنسَ المنعم، بل حتى أن بعض المؤمنين إذا استفادوا من جهازٍ دقيق يقول: لولا أن عقل الإنسان قد مُكِّنَ من اختراعه لما اخترعه هذا الإنسان، فهذا من نعمة الله أيضاً، فالمؤمن دائماً يصل إلى الله حتى من خلال جهاز اخترعه إنسان، القرود ما اخترعوا هذا الجهاز، لو القضيَّة قضية ذكاء، هناك حيواناتٌ عاشت آلاف السنين وما اخترعت شيئاً، معنى هذا أن الإنسان مهيَّأ ليبدع، فهذا من ثمار عقل الإنسان، إذاً هذا الذي يعظِّم كل من اخترع أو اكتشف، الحقيقة التعظيم لله عزَّ وجل، والدليل قوله تعالى حينما حدَّثنا عن الدواب قال:
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾
فهذا الذي لم يكن يعلمه من نزلت عليهم هذه الآيات، الآن ظهرت الطائرات وغيرها، هذه أيضاً من إلهام الله عزَّ وجل، بل إن الحدس الإبداعي قفزة في المجهول، إشراقة، هكذا يقول العلماء، إذاً: الملخَّص هنا أن الإنسان عليه أن يرى المنعم، وذكرت قصة النبي عليه الصلاة والسلام مع الأنصار من أجل كلمة واحدة وهي:
استكبار الإنسان عن عبادة ربه لضعف تفكيره أو جهله:
قال:
﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)﴾
إن استكبروا، أي الإنسان أحياناً لضعف تفكيره أو لجهله يستكبر عن عبادة ربِّه، أحد إخواننا الكرام كان طبيباً لامعاً جداً توفَّاه الله عزَّ وجل، فذهبت لتشييع جنازته، وجدت أشخاصا مهمِّين جداً يقفون خارج المسجد لا يصلون، لا صلاة الجنازة ولا صلاة الظهر، فعجبت وقلت: يا رب، أهؤلاء يرون أنهم أكبر من أن يصلوا؟ يستكبرون عن عبادة الله أم ماذا؟ ربنا عزَّ وجل يقول في الحديث القدسي:
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،
الملائكة طائعون غير مستكبرين:
لو أن كل الناس كفروا الله عزَّ وجل لا ينقص ملكه شيء،
الاستدلال على البعث وهو غيب بالأرض المحسوسة:
﴿
الأرض في الشتاء يابسة، الأشجار حطب، معظم الأشجار تتعرَّى في الشتاء، ويتوقَّف النسُغ الصاعد والنازل، فلو أمسكت غصناً وكسرته لوجدته حطباً، خشبٌ يابس لا حياة فيه، الأرض كذلك، والأشجار كذلك،
النبات دليل على عظمة الله:
قال:
﴿
بعض أنواع نباتات الزينة الغرام الواحد فيه سبعون ألف بذرة، وكل بذرة لها رشيم، ولها محفظة غذاء، ولها جُذَير، ولها غشاء، الغذاء يكفي البذرة حتى ينشأ لها جُذَيْر ليمتص الغذاء من التربة، قال:
الله عزَّ وجل جعل البذرة كأنها مبرمجة برنامجاً دقيقاً جداً، هذه البذرة تعطيك إنتاجاً مبكِّراً أسعاره غالية، هذه تعطيك إنتاجاً مديداً، هذه تعطي إنتاجاً غزيراً، هذه تعطي إنتاجاً من نوع معيَّن، فهذا علم قائم بذاته، أي ظاهرة النبات من أعظم الآيات الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل، وهذه البذور تتزواج أحياناً فتنتج بذوراً هجينة، نأخذ صفات هذا النبات مع صفات هذا النبات، مع صفات هذا النبات، بعض البذور تجرى لها عملية تهجين لها ثماني مرَّات، ثماني حالات زواج بين نوعين من أنواع النبات حتى ظهرت هذه البذرة،
النتيجة الاستدلالية: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى:
هنا نحن أمام آيتين: آيةٌ دالَّةٌ على عظمة الله، وآيةٌ دالَّةٌ على اليوم الآخر،
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ
هناك نبات يعطيك الخشب، خشب الزان نبات، وخشب الحور نبات، هناك حوالي مئة نوع من الخشب، كلها لاستعمال صناعي، هناك نبات يعطيك أصبغة، نبات يعطيك مطَّاطاً، نبات يعطيك أدوية، نبات يعطيك أغذية، أحياناً الغذاء يكون بالجذر، أحياناً بالساق، أحياناً بالأوراق، أحياناً بالزهر، أحياناً بالثمار، هناك نبات مظلة، هناك نبات تزييني، هناك نبات حدودي، هناك مسابح نبات، الليف نبات، الخُلَّة نبات، السواك نبات، القطن نبات، نسيج، الأدوية نبات، المطَّاط نبات، الفلين نبات، الكاوتشوك نبات، هذا
موضوع النبات، موضوع ورق النبات، قرأت مرَّة في مقالة أن أعظم معمل صنعه الإنسان يبدو تافهاً أمام الورقة، هذه الورقة التي فيها يخضور، وفيها طاقة شمسيَّة مخزونة، وفيها يطلع النسُغ الصاعد معه ثمانية عشر معدناً، فيحدث تفاعل مع الشمس، ومع الآزوت، ومع مادة اليخضور فيرجع نسغاً نازلاً يشكِّل الجذر، والساق، والأوراق، والنبات، لا يوجد في عالم الصناعة سائل واحد يكون مرَّة صاجاً، ومرَّة خشباً، ومرَّة بلاستيك، إلخ، هذا غير معقول، هذا النسغ النازل يصنع الجذر من جديد، وينمّي الجذع، وينمي الأوراق، وينمي الثمار، وهو سائل واحد، نحن نتكلَّم أشياء من بديهيَّات العلم، من مستوى الدارس في الإعدادية، وليس أكثر، أما لو تعمَّقتم في العلم لرأيتم العجب العجاب.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين