- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (041)سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الداعية الصادق قمة المجتمع:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السابع من سورة فصِّلت، ومع الآية الثالثة والثلاثين.
أيها الإخوة، ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾
أي الذي يدعو إلى الله، ويأتي عمله مصداقاً لقوله، بدافعٍ من إيمانه واستسلامه لله عزَّ وجل، هذا الإنسان يقع في قمَّة المجتمع الإنساني، في القمَّة عند الله، قد يكون الإنسان في قمة المجتمع عند الناس، لكن هذا الإنسان يقع في قمة المجتمع الإنساني عند الله، من دعا إلى الله، وجاء عمله مصداقاً لقوله، منطلقاً من إيمانه بالله وإخلاصه له.
الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم:
لكن ربنا سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى أخطر حقيقة في الدعوة إلى الله، الناس لا يتعلَّمون بآذانهم، بل يتعلَّمون بعيونهم، فهذه الدعوة إذا رافقتها حسنةٌ ترقى بها إلى أعلى عليين، أما هذه الدعوة نفسُها، بالأفكار نفسها، بالمبادئ نفسها، بالمعطيات نفسها، بالأساليب نفسها، إذا رافقتها سيئةٌ تهوي بهذه الدعوة العظيمة إلى أسفل سافلين، فالأفكار هي هي، والمبادئ هي هي، والقيَم هي هي، والمُنطلقات هي هي، والأهداف هي هي، والوسائل هي هي، الحسنة ترفع هذه الدعوة إلى الأوْج، والسيئة تهوي بها إلى الحضيض.
فالذي ينطق لسانه بكلمة الحق ينبغي أن يحسب حساباً ألف مرَّة لسلوكه، لأن سلوكه إما أن يفرِّغ هذه الدعوة من مضمونها، ويجعلها دعوةً طارئةً زائلةً كغيرها من الدعوات، وإما أن يعطي بسلوكه لهذه الدعوة الخلود.
فلذلك أيها الإخوة؛ القضيَّة أعقد من أن يقرأ الإنسان كتاباً، يحفظ أحاديث، يحفظ تفاسير، القضيَّة أعقد بكثير، وأخطر بكثير، وأَجَل بكثير، قضية اتجاه، الناس يتعاملون مع الواقع، يتعاملون مع المُعطيات الماديَّة التي تتعامل بها أنت، إذاً من سرِّ نظم الله عزَّ وجل أنه بعد أن قال:
من أراد تحطيم مبدأ فليتعامل بخلافه:
إذا أردت أن تحطِّم مبدأً فادع إليه، ولكن تعامل مع نقيض دعوتك، تحرَّك وفق نقيض دعوتك، إذا أردت لمبدأ أن يتحطَّم، إذا أردت لمُثُلٍ أن تزول، إذا أردت لهدفٍ أن يصبح في الوحل فادع إليه، واسلك طريقاً مغايراً لهذا الهدف، قل شيئاً وافعل شيئاً، من هنا يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه:
الإمام علي كرَّم الله وجهه يعقِّب على قوله فيقول: فإذا ضيَّع العالِم علمه-ارتزق من الدين- سمعت أن أحد العلماء الكبار كان يقول:
على المؤمن ألا يعطي الكفَّار حجَّة على أن هذا الدين باطل:
أيها الإخوة الكرام؛ من أدق التفاسير التي مرَّت بي حول قوله تعالى:
﴿
الكافر لم يُبلَّغ الإسلام، فإذا التقى بمسلمٍ مقصِّر يزداد كفراً، يقول لك: هذا الدين؟ أإلى هذا تدعوني؟ إلى هذا الكذب؟ أو إلى هذا النفاق؟ أو إلى هذه القسوة؟ أو إلى ذاك التناقض؟ فالذي يَعْرض الإسلام عرضاً مشوَّهاً أو عرضاً متناقضاً، أو يعرضه عرضاً رائعاً فتفاجأ أنه لا يطبِّقه، هذا الإنسان ربما حمل وزر كفر الكافر؛ لولا دعوتك المشوَهة لما كفر بهذا الدين، لولا أنه رآك مخالفاً لما تقول لما كفر بهذا الدين، لولا أنه رأى كلامك غير منطقي، غير متماسك لما كفر بهذا الدين، فهذا الذي يستخدم المنامات أحياناً، والكرامات، والخرافات، وبعض الأشياء غير المنطقيَّة المعقولة، ويأتي بحوادث ما أنزل الله بها من سلطان، ويدعو إلى الله، هؤلاء الذين ينظرون إلى الدين على أنه دين الله عزَّ وجل ربَّما كفروا بهذا الدين، والسبب هذا الذي دعا إلى الله وهو يجهل، لذلك كان الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يقول:
انتبه ماذا تقول، قبل أن تقول الكلمة فكِّر فيها، هذا الذي أمامك يظنُّك داعية، ويظن بك ظناً حسناً أنك أنت منطقي، على واقعي، على مهذّب، على مستقيم، على ورع، على أخلاقي، على غَيْرِي، فإذا اكتشف فيك شيئاً خلاف ذلك فأول شيء يقول له الشيطان: أهذا هو الدين الذي يدعوك إليه؟ إذاً: هذا معنى قوله تعالى:
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا
نقطتان؛ أن الله يعلم، وأن الله سيعوِّض، فإذا كان إيمانك بهاتين الآيتين إيماناً يقينياً عندئذٍ تُنفق، ولا تخشى الفقر، تنفق ولا ترجو أن يعلم الناس أنك أنفقت، لأن الله يعلم، وكفى به عليماً، تستغني بعلمه عن علم الناس، وتستغني بفضله عن فضل الناس.
ابتغاء الرفعة عند الله:
إذاً أيها الإخوة؛
والله أيها الإخوة؛ لأن يسقط الإنسان من السماء - من ارتفاع أربعين ألف قدم، كان في الطائرة، واحترقت الطائرة، وكان مقعده بجانب مكان تصدُّعها فوقع، هبط أربعين ألف قدم فتكسَّرت أضلاعه- والله لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه أهون من أن يسقط من عين الله، أن يراك الله متناقضاً، أن يراك الله كاذباً، أن يراك الله نَفْعِيَّاً تسعى لمصلحتك على حساب مبادئك، أن يراك الله ظالماً، أن يراك الله قاسياً، أن يراك الله مُنافقاً،
إذاً الآية الأولى: إذا دعوْتَ إلى الله، وكان السلوك مطابقاً لدعوتك، منطلقاً من إيمانك وإخلاصك؛ أنت في قمة البشريَّة عند الله، وقد تكون لست كذلك عند الناس، هؤلاء الناس لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
(( كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ،
حاجة الناس إلى أشخاص يجسِّدون الإسلام بسلوكهم:
الآن: هذه الدعوة بمبادئها، بقيمها، بمنهجها، بتفاصيلها، بنُظمها، بأهدافها، بوسائلها، هذه الدعوة الحسنة ترفعها، وتجعلها دعوةً خالدة، والسيِّئة تُسقطها، وتجعلها دعوةً عابرة، وشتَّان بين الدعوتين، بين أن تكون دعوةً خالدةً وبين أن تكون دعوةً عابرةً، فلذلك عُظماء البشر حينما تركوا بصمات إلى أمدٍ طويل في تاريخ البشريَّة، هؤلاء أخلصوا لله عزَّ وجل.
﴿
الحسنة ترفع والسيئة تُسْقِط، الحسنة تَدْعَمَ الحق والسيئة تفرِّغ الحق من مضمونه.
مرَّةً ثانية: إذا أردت أن تحطِّم مبدأً، إذا أردت أن تجعل الناس يكفرون بشيء فادع إليه، واسلك سبيلاً آخر متناقضاً معه، وهذا ما يحصل في تاريخ البشريَّة حينما تظهر دعوات، ثم تُفَرَّغ من مضمونها، ثم تغدو عبئًا على المجتمع، ثم يرفضها الناس، يرفضونها أشدَّ الرفض، لكن الإسلام دين الله عزَّ وجل، فهذا الإسلام لا ينتشر، ولا ينمو، ولا يصبح كالطود الشامخ إلا بالرجال الذين يجسِّدون في سلوكهم مبادئه وقيمه.
لذلك أيها الإخوة؛ المُثُل لا تعيش وحدها، المُثُل لا تعيش في الكتب، ولا في الخُطَب، ولا في المقالات، ولا في الأشرطة، المُثُل تعيش مجسَّدةً في الأشخاص، الناس بحاجة إلى إنسان يجسِّد هذا الدين بسلوكه، في بيته، في عمله، الربح تحت قدمه ولا يعصي الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم، إذاً:
مثلاً: لو أنت صاحب متجر عندك صانع أو عندك موظَّف، دعوته إلى الصلاة، شيءٌ جميل، دعوة من دعوة الله عزَّ وجل، كنت بخيلاً عليه، كنت قاسياً عليه، قسوتك وبخلك يسقطان دعوتك، أما إذا رآك مُنصفاً، أباً رحيماً، خيِّراً، معطاءً، هذا الخُلُق الكريم يرفع دعوته إلى الصلاة، فقبل أن تلفظوا كلمة الحق انتبهوا إلى السلوك، أحياناً يحمل الأب أولاده على الصلاة، أو على تطبيق أوامر الدين، وهو في الوقت نفسه بخيلٌ عليهم، إذا ما ولَّت عينه يفجرون أشدَّ الفجور، لأن دعوته مع بخله لا تؤثِّر فيهم، لذلك ورد:
حدَّثني أخ ذات مرة كانت زوجته في وضعٍ في مسيس الحاجة إلى طبيب، يأتي إلى البيت في ساعةٍ متأخِّرة، قال لي: اتصلت بأول طبيب، والثاني، والثالث، حوالي عشرة أطبَّاء، بعضهم اعتذر، بعضهم لم يلبِّ، بعضهم لم يستجب على الهاتف، فقالت له القابلة: أتوافق على طبيب غير مسلم؟ قال لها: مضطر، فلمَّا اتصلوا به قال: تجدوني في الساعة الفلانيَّة بالدقيقة في المستشفى، فلمَّا وصلوا رأوه موجوداً في الوقت المناسب، عندما يلبيك غير المسلم، ويكون صادقًا معك، هذه القضيَّة تحدِث زلزلة، أن هذا المسلم هكذا يفعل، وهذا غير المسلم هكذا يفعل!! فإذا أردت أن تدعم دينك فكن مستقيماً، إذا أردت أن تؤكِّد للناس أن هذا الدين حق كن صادقاً، إذا أردت أن تؤكِّد للناس أن هذا الدين من عند الله دينٌ صافٍ إيَّاك أن تكذب، إياك أن تغش، إياك أن تخون، إياك أن تنافق، إياك أن تتناقض، إياك أن تقسو، إياك أن تزوَّر الحقائق، فلذلك:
أخطر ما في الدعوة إلى الله الحسنة والسيئة:
ما قولكم أن بعض الناس يؤمنون بالمبادئ الهدَّامة إذا رافقتها خدمات طيِّبة؟! أنت تتعامل مع الخط العريض في المجتمع، مع العوام، مع الدهْمَاء، هؤلاء يتعاملون مع الواقع لا مع الفكر، فلو جاء إنسان ضال مضل يدعو لمبدأ هدَّام، ينكر وجود الله، وقدَّم لك الخدمات، وأنكر ذاته أمامك، وأعانك ماذا يُحدِث لك؟ يحدث لك اختلال توازن، تقول: أيهما على حق؟ هذا الذي يدعو إلى ضلالة بهذه الأخلاق وهذا التفاني وهذا الذي يدعو إلى الحق بهذا التقصير وهذا الكذب؟ فالقضيَّة خطيرة جداً، أخطر ما في الدعوة إلى الله الحسنة والسيئة،
سلوك الإنسان تجسيدٌ لعقيدته:
الآن:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
قبل أن نشرح هذه الآية لابدَّ من وقفةٍ قصيرة نتحدَّث فيها عن سلوك الإنسان.
الحقيقة أيها الإخوة؛ سلوك الإنسان تجسيدٌ لعقيدته، وتجسيدٌ لمدى اتصاله بالله أو انقطاعه عنه، المؤمن يتعامل مع الله، وغير المؤمن يتعامل مع الأشخاص، فإذا تعامل الإنسان مع الأشخاص الذي ينفعه ينفعه، والذي يضرُّه يضرُّه، معاملة بالمِثل، الذي يرجو نفعه يتأدَّب معه، والذي يخشى ضُرَّه يتأدَّب معه، هذه المعاملة المباشرة بينك وبين الشخص هذه دليل ضعف الإيمان، أي التعامل في غيبة الدين بين شخصين، هذان الشخصان قد يكونان في قوة واحدة، أو قد يكون أحدهما قوياً والثاني ضعيفاً، فالقوي يأكل الضعيف، قد يكون أحدهما ذكياً والثاني أقل ذكاءً، فالذكي يحتال على أقلهم ذكاءً، قد يكون أحدهما طليق اللسان واضح الحجَّة والبيان والثاني عَيِيًّا، فطليق اللسان يستحوذ على العَيي، إذاً لو ابتعدنا عن الدين وصار تعاملاً أوضح مثل على ذلك: أنت بائع، وجاءك طفل صغير يريد شراء حاجة، لا يملك لا الخبرة ولا المعلومات، يمكن أن تعطيه أسوأ سلعة بأغلى سعر، أنت أقوى منه، وأعقل منه، وتملك خبرة أكثر منه، هو ضعيف وأنت قوي، لكن لو كان هناك إيمانٌ بالله عزَّ وجل مهما كنت قوياً، ومهما كان الطرف الآخر ضعيفاً إنك تتعامل معه من خلال ربِّك عزَّ وجل، تشعر أن الله وكيله، وأن الله سيسألك عنه، وسيحاسبك.
أحد إخواننا الكرام، ذكر لي قصَّة، أنا أقولها كثيراً فقط لوضوحها، عنده محل لف محرِّكات قال لي: قبل أن أعرف الله يأتيني محرِّك يحتاج إلى لفٍّ، أجرته خمسة آلاف، يقبل صاحب المحرِّك هذا الرقم، ويأخذ وصلاً وينطلق إلى سبيله، أفتح المحرّك، أرى فيه شريطاً مقطوعاً من الظاهر لا يكلفني إلا دقيقة في وصله بالكاوي، وأعيد المحرِّك إلى ما كان عليه، وحينما يأتي بعد سبعة أيَّام أوهم صاحب المحرِّك أنني لففته، وأُشَغِّله أمامه، وأتقاضى الخمسة آلاف ليرة، طبعاً صاحب هذا المحرِّك لا يعلم ما في داخله، الذي يعلمه أنه توقَّف عن الحركة، إذاً احترق، وصاحب المحل يعلم دقائق الأمور، هذا يعلم، وذاك لا يعلم، والاتفاق واضح خمسة آلاف، ثم قال لي هذا الأخ الكريم: بعد أن عرفت الله عزَّ وجل جاءتني عدَّة محرِّكات على هذه الشاكلة، عندما فتحتها وجدتها صالحة تحتاج إلى إصلاح طفيف، فلمَّا جاء صاحبها بعد سبعة أيام قلت له: خمساً وعشرين ليرة، صُعِق الرجل فما كان يدري أنّ المحرِّك سليم.
أردت من هذه القصَّة أن أؤكِّد لكم من دون إيمان بالله القوي يأكل الضعيف، الذكي يأكل غير الذكي، صاحب الخبرة يستحوذ على قليل الخبرة، أنت لا تعرف بأنواع الزيت، أربعة أخماس نباتي وخمس بلدي، أنت لا تعرف، والبائع يقسم لك أيمانًا مغلَّظة، فلو ألغينا الإيمان في حياتنا الحياة لا تُعاش، لأن فيها قوياً وفيها ضعيفاً، القوي يأكل الضعيف، الذكي يستحوذ على غير الذكي، صاحب الخبرة يسيطر على ضعيف الخبرة، المُنتج يأكل المستهلك، أبداً، حياةٌ من دون إيمان حياة غابة، حياة ذئاب، حياة وحوش.
والله أستمع أحياناً إلى بعض القصص التي تجري في مجتمعنا من نوع الاستغلال، من نوع الظلم أحياناً، أحياناً يوجد مهن راقية جداً، هذا المريض واثق من الطبيب، ومنحه كل ثقته، قد لا يكون هذا الطبيب في مستوى هذه الثقة، فيشير عليه بعمليَّةٍ لا جدوى منها، وليس المريض بحاجةٍ إليها، حينما أستمع والله إلى مثل هذه القصص من أشخاص لهم مهنٌ عالية، أو مهن أخرى كالتجارة والصناعة، حينما أستمع لهذه القصص وأقول: هذا مجتمع وحوش، والله أخجل من الوحوش لأنهم يأكلون حاجتهم وانتهى الأمر، حينما يجوع الوحش يأكل حاجته، لكن هذا الإنسان حينما يغيب عنه الإيمان، وحينما يغفل يريد أن يوقع الأذى بأكبر عددٍ ممكنٍ من الناس، من أجل مصلحةٍ صغيرةٍ لا تقدِّم ولا تؤخِّر.
إذاً الآن التعامل مع الناس إما أنه تعامل في ظل الإيمان، أو في غيبة الإيمان، في غيبة الإيمان تعامل وحوش، القانون قانون الغاب، الأقوى يأكل الأضعف، الأذكى يضحك على الأغبى دائماً، لكن إذا ساد الإيمان في المجتمع صار التعامل من خلال الله عزَّ وجل، قصَّاب يأتيه طفل صغير ليشتري من عنده، يراقب الله عزَّ وجل، هل أعطيته حقَّه؟ هل أعطيته البضاعة المناسبة؟
المؤمن مأمور أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن:
أما أحسن فاسم تفضيل، أي إذا كان هناك مئة أسلوب لردِّ هذه السيئة، عليك أن تختار أحسن هذه الأساليب، إذا وجد مئة أسلوب، إذا وجد ألف أسلوب حسن لردِّ هذه الإساءة، عليك أن تختار أحسنها، لذلك هذه الآية تنفي الانتقام، المنتقم هبط إلى مستوى خَصْمِهِ، ما دام قد ردَّ عليه الإساءة بإساءةٍ مثلها هبط إلى مستواه.
القرآن الكريم يؤدِّب النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام أعلى تأديب، ونحن بالتبعيَّة، أي كلَّما أساء لك مسيء ينبغي أن تردَّ على إساءته بإساءةٍ مثلها؟ ليس هذا هو الإيمان، ينبغي أن تعفو عنه، ينبغي أن تترفَّع عن الإساءة إليه، ينبغي ألا تردَّ هذه الإساءة بإساءةٍ مثلها، ينبغي أن تكون أرقى من ذلك،
الحقيقة أن هذا الكلام قد يقول عنه بعض الناس: إنه كلام خيالي، أو كلام مثالي، هو والله خيالي وواقعي في وقتٍ واحد، إذا كنت تعرف الله عزَّ وجل فوالله هو واقعي، إذا عرفت الله، وعرفت ما عنده من إكرام، وعرفت جنَّته وناره، وعرفت أن هذه الدنيا زائلة، وأنها ماضية، وأن الأعمال الصالحة هي التي تبقى عند الله عزَّ وجل، لذلك تضع نفسك تحت قدمك وتقول: سأردُّ لهذا المسيء إساءته بإحسانٍ كبير.
الإحسان والعفو عن الآخرين أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم:
لذلك تجد في المجتمع الذي يعفو، والذي يترفَّع عن أن ينتقم، والذي يرد على الإساءة بالإحسان، قد تجده عظيماً جداً في نظر الناس، وربَّما انقلب العدو إلى صديق، هذا عمير بن وهب قصَّته معروفة، انطلق من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، واتفق مع صفوان بن أميِّة إذ قال له:
أحدهم نال من النبي صلى الله عليه وسلّم أشدَّ النَيل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام من يقطع لسانه؟ أصحاب النبي تفاوتوا في فهم هذا الأمر، بعضهم فهموا أن يقطع لسانه بالموسى، أو بالسكين، أو المقص، وبعضهم قطع لسانه بالإحسان إليه، وأنت بإمكانك أن تقطع ألسنة أعدائك، بماذا؟ بالإحسان إليهم، أي انطلق انطلاقاً أنك يجب أن تكافئ المسيء بالإحسان،
الأخلاق العالية تحتاج إلى إرادة قويَّة أو إلى كمال رفيع المستوى:
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾
الآن يوجد إشارة دقيقة جداً، الأخلاق العالية تحتاج إلى شيئين؛ إما إلى إرادة قويَّة، وإما إلى كمال رفيع المستوى، فأنت بالإرادة القويَّة تضبط نفسك وهواك، وتجعل نفسك تحت قدمك، وتقف الموقف الكامل، معنى هذا أنت صاحب إرادة قويَّة، صابر، استُفززت فلم تفعل شيئاً، أو أنك على اتصالٍ بالله شديدٍ جداً نلت من حلمه الشيء الكثير، أي إما أنك نلت من الله الكمال الذي حملك على هذه المعاملة الطيِّبة، وإما أنك قهرت نفسك، وصمَّمت على الإحسان إلى من أساء من دون أن تبالي بالنتائج، إذاً إما أن تكون نفسك في مستوى هذا الأمر، إذاً:
الإنسان بين وسوسة الشيطان وإلهام الملك:
نتابع تفسير الآيات التي بدأنا بها.
أيها الإخوة؛ الآيات لها سياق، لو نُزِعَت الآية من سياقها لها معنى مستقل، أما إذا أُدْرجت في السياق لها معنىً متعلِّقٌ بالسياق، فربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾
لو جاء للإنسان وسواس من الشيطان كي ينتقم من هذا المسيء - لازلنا في السياق- لو أن وسواساً أتاه من الشيطان لينتقم من هذا المسيء ليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا الوسواس ينقطع عنه فوراً، هذا المعنى السياقي، أي الإنسان عندما يؤذى، أو تناله إساءةٌ بالغة من إنسان قد يغلي غيظاً، قد يفور كالمِرْجَل، قد يتمنَّى أن يمزِّق خصمه إرباً إرباً، يتمنَّى أن يجعله تحت الأقدام، يتمنَّى أن يسحقه، هذه مشاعر الإنسان إذا لم يعرف الله عزَّ وجل، فالمؤمن أحياناً فد تأتيه مشاعر من هذا النوع من الشيطان، أن اسحقه، دمِّره إنه عدوّك اللدود، لا ترحمه، قال:
أما الآية وحدها فالإنسان بين وسوسة الشيطان وإلهام الملك، فإذا ألقى الشيطان في نفس الإنسان وسوسةً أو أمراً، أو زيَّن له شهوةً، أو دعاه إلى معصية، أو إلى منكر، أو إلى قطيعةٍ، أو إلى هجرانٍ، أو إلى ما شاكل ذلك، عليه أن يستعيذ بالله عزَّ وجل من هذه الوساوس، أي إما أن تكون هذه الوساوس متعلِّقةً بالمسيء، أو ليس لها علاقة بالمسيء، وساوس إلى المعاصي، أو إلى الملذَّات، أو إلى المخالفات.
كيدُ الشيطان ضعيفٌ:
على كلّ الشيطان لا يملك إلا أن يوسوس وهو أضعف من أن يُسَيْطِر، ولا تنسوا أبداً هذه الآية:
﴿
الشيطان ضعيف.
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ
أنت بإمكانك أن تستعيذ بالله عزَّ وجل فتبعد عنك الشيطان مسافاتٍ طويلة،
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ: قاصمة ظهور الدجّالين والخرافيين:
أيها الإخوة؛ هذه الآية تحل محل الرقى، تحل محل الدجاجلة، محل السحرة، محل أنه مخاو، محل أنه سنفك له سحره، ولكن يحتاج إلى خروف، هذه الآية تحل محل كل الخُرافات، وكل أنواع الدجل والخزعبلات، وكل هؤلاء الذين يعيشون على مشكلات الناس، الشيطان لا يذهب إلا بالاستعاذة القلبيَّة، انتبه! لكن بعضهم يقول: استعذنا، وما حدث شيء، لا يذهب إلا بالاستعاذة القلبيَّة، يجب أن يكون قلبك حاضراً، وأن تكون خاشعاً، وأنت تستعيذ بالله، إن فعلت هذا انصرف الشيطان.
إما لوساوس متعلِّقة بالمسيء بحسب سياق الآيات، أو لوساوس متعلِّقة بالمعاصي إذا نزعنا هذه الآية من سياقها،
آيات اليوم:
الكمالُ الإلهي لا يناله إلا الصابرون:
﴿
وإنَّك لَتُلَقَّى القرآن، أي الكمال يُتلقَّى من الله عزَّ وجل، إنّ مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحبَّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً، أي ألقى عليه هذا الخُلُق، هذه من كلمة
العفو عمن أساء إليك:
عبد أساء لسيِّده إساءة بالغة فقال: يا سيدي..
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)﴾
الآية الكريمة أول مرحلة قال:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
إذا أساء لك أحد فهناك ثلاث مراحل: مرحلة تكون فيها تغلي غليانًا من الداخل، أحياناً تعض على أسنانك من شدة الألم، لكن تضبط أعصابك، هذا كاظم الغيظ.
مرحلة ثانية من الداخل أمنٌ وسلام، كأنه واحد مريض أمامك، فإذا رأى طبيب مريضًا معه مرض جلدي قبيح جداً هل يغضب منه؟ يحزن عليه، يرثي لحاله، فالمؤمن الراقي إذا أُسئ إليه يرى هذا المسيء مخطئًا، يرى هذا المسيء قليل القيمة عند الله عزَّ وجل، جاهلاً، هذه المرحلة الثانية.
أما الأرقى:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين