- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (041)سورة فصلت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المؤمن والداعية إلى الله حقيقة صفتُهما الاستقامة:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس من سورة فصِّلت، ومع الآية الثالثة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ من خلال الآية السابقة والآية اللاحقة يتضح أن هناك مؤمنًا مستقيمًا، وأن هناك داعيةً إلى الله ذا عملٍ صالح، وأنه لن يكون الإنسان مؤمناً إلا إذا استقام على أمر الله، ولن يكون داعيةً مخلصاً إلا إذا عمل صالحاً، أي جسَّد بسلوكه ما دعا إليه بلسانه.
على كلّ، بعض المفسِّرين يقولون حينما قال الله عزَّ وجل:
كل كلام سوى الدعوة إلى الله لغوٌ باطلٌ:
كأن في هذه الآية إشارةً إلى أن كل كلامٍ لغوٍ أو باطلٍ، أو كل كلامٍ يدعو إلى الرذيلة أو يدعو إلى إفساد ذات البَيْن، أو أن كل كلامٍ يدعو إلى عبادة غير الله عزَّ وجل، أو إلى أن كل كلامٍ يدعو إلى البعد عن دين الله عزَّ وجل هو كلامٌ باطلٌ لا قيمة له، لكن الكلام الحَسَن هو أن تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، وأن تدعو إليه. ففي هذه الآية إشارةٌ إلى بطلان كلامهم، وإلى تفاهة موضوعاتهم.
لا رجلَ أحسنُ قولاً من الداعية الخاضع لله:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿
طبعاً هذا استفهام تقريري، أي ليس في الأرض كلِّها رجلٌ أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.
خصائص الدعاة إلى الله:
1 ـ الاستجابة لأمر الله:
الحقيقة قبل أن تدعو إلى الله ينبغي أن تستجيب له، إذا استجبت له، وطبَّقت أمره، وانتهيت عما عنه نهى، وأردت أن تنقل هذه المعرفة للآخرين الآن ترتقي إلى مستوى الدعوة إلى الله.
2 ـ الاهتداءُ وعدمُ ابتغاءِ الدنيا:
على كل هناك آيات كثيرة في كتاب الله تبيِّن شروط هؤلاء الدعاة إلى الله الصادقين، فمن هذه الآيات:
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
فالذي يدعو إلى الله بصدق وإخلاص، لا يرجو ثواباً، ولا مديحاً مادياً ولا معنوياً،
3 ـ الصبر:
من خصائص الدعاة إلى الله الصادقين كما أشارت إليه هذه الآيات الكريمة:
﴿
فالذي لا يصبر على ابتلاء الله عزَّ وجل ليس أهلاً لأن يكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل، لابدَّ من أن يبتلى الداعية فيصبر، لابدَّ من أن يُمتحن فيصبر، لابدّ من أن تُكشف حقيقته فيصبر، إذاً: عدم طلب الأجر، والصبر علامةٌ وخصيصةٌ من خصائص الدعاة إلى الله الصادقين.
4 ـ الطاعة:
ثم إن الطاعة.
﴿
إذاً: التزام الأمر والنهي، والصبر على ابتلاء الله عزَّ وجل، والترفُّع عن الدنيا بكل أنواعها هذه خصائص الدعاة الصادقين.
5 ـ العلمُ مع التمحيص:
عنصر آخر من عناصر الدعوة إلى الله:
﴿
أي إذا شهدت للناس أسماء الله الحسنى؛ عدالته، رحمته، فهذا دليل العلم الصحيح، أما إذا كان العقل نَصِّيَّاً، أي نص دون أن تمحِّصه، دون أن تدرسه، دون أن تجعله منسجماً مع مقاصد الشريعة، نقلت ما سمعت دون تمحيص فهذا ليس علماً، إنما هو نقلٌ، وفي النقل صوابٌ وخطأ، إذاً:
6 ـ خشيةُ اللهِ وحْدَه:
ومن آيات الله الأخرى التي تصف لنا الدعاة الصادقين هي قوله تعالى حينما يتحدَّثُ عن الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل، فيقول في الآية الكريمة:
﴿
أي خشية هذا الداعية لله عزَّ وجل هي الصفة الجامعة المانعة، لأن الداعية لو خشي غير الله عزَّ وجل فتكلَّم بالباطل إرضاءً لمن خشيه، أو سكت عن الحق إرضاءً لمن خشيه، فماذا بقي من تبليغه رسالات الله عزَّ وجل ؟ إذاً: الله عزَّ وجل في كتاب الله بيَّن هؤلاء الذين يدعون إلى الله،
احذر أيها الداعيةُ أن يخالف قولُك فعلَك:
على كل هنا:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾
دعا إلى الله بلسانه، وعمل صالحاً بسلوكه، الإنسان نقَّادٌ بارع، فإذا نظر المدعوون إلى الداعي، ورأوا مسافةً بين أقواله وأفعاله لم يعبؤوا بهذه الدعوة، فتسقط من أعينهم، أما إذا تطابقت الأفعال مع الأقوال، وجاء الكلام مطابقاً للحال، وكان السلوك موافقاً للتبليغ، هذه النقطة الدقيقة جداً التي إذا توافرت في الداعية حقَّق نجاحاً كبيراً، لذلك من بعض الدعاة الصادقين من ينصح زملاءه الدعاة:
الآية الأولى:
خصيصة البيان بين الاستعمال الحسن والاستعمال السيّئ:
أي أن هذا النشاط الكلامي، وهذا النطق الذي كرَّم الله به الإنسان.
﴿ الرَّحْمَانُ(1)عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2)خَلَقَ الإِنسَانَ(3)عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)﴾
هذا الكلام، هذا الجهاز، هذه الحنجرة، هاتان الرئتان، هذا اللسان، مخارج الحروف، هذه اللغة، هذه المعلومات، هذه القدرة البيانيَّة في الإنسان هذه كيف يستخدمها؟ ما المضمون الذي يستخدمها من أجله؟ ما الأهداف التي يستخدمها من أجلها؟ فربنا عزَّ وجل يبيِّن أن البيان تلك الخصيصة التي خصَّ بها الإنسان، البيان،
آلة غالية جداً إن لم يكن مضمونها مضموناً ثميناً، عندئذٍ هذا المضمون التافه يشوِّه هذه الآلة، اللغة قوالب، فإن وضِعَ في هذه القوالب مادَّةٌ رخيصةٌ قذرةٌ سيئةٌ هذه المادة أزرت بالقالب، أما إذا عُبِّئت هذه القوالب الثمينة بمضمون ثمين فهذا شيءٌ يسمو بها، ويرقى بها، فهذه القدرة على البيان، هذه طلاقة اللسان، القدرة على البيان، البيان الذي خصَّ الله به الإنسان هذه ميزةٌ كبيرة، فإذا كان المضمون غيبةً، ونميمةً، وفسقاً، وفجوراً، وحديثاً تافهاً، ولغواً، وحديثاً عن الشهوات، أو إيقاعاً بين الإخوة، أو تأريثاً للأحقاد، كل هذه الموضوعات تزري بهذه القوة البيانيَّة التي أودعها الله بالإنسان.
اللسان طريق إلى الجنة أو طريق إلى النار:
لذلك حينما تشعر أن كلامك جزءٌ من عملك، أو أن من أعمالك كلامك،
(( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ . ))
ألم يقل عليه الصلاة والسلام: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((
ألم تقل السيدة عائشة رضي الله عنها لأختها صفيَّة: "قصيرة" فقال:
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: حَكيتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رجلًا فقال ما يسرُّني أني حكيتُ رجلًا وإنَّ لي كذا وكذا، قالت : فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ صفيَّةَ امرأةٌ وقالت بيدِها هكذا ! كأنها تعني : قصيرةٌ ، فقال : لقد مُزِجَتْ بكلمةٍ لو مُزِجَ بها ماءُ البحرِ لَمُزِجَ . ))
ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ
فبكلمة قد تُحْيي نفساً، وإنك إن أحييت نفساً أحييت نفوساً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وبكلمةٍ سيئةٍ قد تفسد نفساً، وإذا أفسدتها أفسدت جيلاً،
أيها الإخوة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))
و: إن الرجل ليتكلم بالكلمة -من رضوان الله تعالى - يرقى بها إلى أعلى عليين.
عن أبي هريرة :
(( الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ. ))
بادئ ذي بدء يجب أن تعلم أن هذا اللسان قد يقودك إلى الجنَّة، وقد يقود صاحبه إلى النار..
احفظ لسانك أيها الإنســـــانُ لا يلـدغنَّك إنـــــه ثعـبـــانُ
كم في المقابرِ من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعانُ
* * *
فقبل كل شيء أحد أكبر نشاطات الإنسان كلامه؛ كلامه في البيت، كلامه في الطريق، كلامه مع جيرانه، مع زملائه، كلامه في لهوه، كلامه في حُزنه، كلامه في فرحه، كلامه في سفره، كلامه في بَيعه وشرائه، كلامه مع أصدقائه، أحد أكبر نشاطات الإنسان كلامه فالمؤمن أبرز ما فيه أنه منضبط اللسان، كلماته موزونة، كلماته منضبطة بأمر الله ونهيه، حتى إن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يتمنَّى أن تكون له رقبةٌ كرقبة الجمل ليزين الكلمة قبل أن تخرج على لسانه بمراحل فسيحة.
تعريضٌ بالأقوال السيئة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً:
كأن الله عزَّ وجل في قوله تعالى:
الإنسان الذي أوتي طلاقة لسان هذا يحاسب حساباً خاصَّاً، كان من الممكن أن يرقى بقوَّته البيانيَّة وطلاقة لسانه إلى أعلى عليين، هذا الذي أوتي مالاً كان من الممكن أن يرقى بماله إلى أعلى عليين، هذا الذي أوتي قوّةً بإمكانه أن يزيل بها المُنكر، وأن يحقَّ بها الحق، وكان من الممكن أن يرقى بها إلى أعلى عليين، فالحظوظ التي ينالها الإنسان من الله عزَّ وجل يمكن أن ترقى به ويمكن أن تهوي به.
فأول معنى في هذه الآية كأن الله عزَّ وجل يُعَرِّض بالأقوال السيئة، اللغو، الحديث عن الدنيا، الحديث في الموضوعات السخيفة، وفي الموضوعات اليوميَّة، الحديث الفارغ، الكلام الذي لا طائل منه.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾
كأن الله يُزري بهؤلاء الذين يستخدمون هذه القدرة البيانيَّة في موضوعاتٍ لا ترضيه، فكيف إذا استخدمت اللسان في الغيبة؟ في النميمة؟ في الفحش، في البذاءة؟ في السُّباب؟ في السخريَّة؟ في التهكُّم؟ في الإفك؟ في الافتراء؟ في الإيقاع بين الناس؟ في تأريث العداوة والبغضاء بينهم؟ في شقّ الصفوف؟ كيف إذا استخدمت هذا؟ كأن هناك كلامًا يسبِّب لصاحبه هلاكاً، وهناك كلامًا يسبِّب لصاحبه خسارةً، وهناك كلاماً يرقى بصاحبه.
الكلام في المباحات؛ ما اغتاب، ولا نمّ، لكنه تحدَّث في أمور الدنيا الزائلة، في أمور لا تنتهي، في أمور لا قيمة لها، في أمور ماضية، في أمور حجمها صغير، أناسٌ كثيرون يمضون سهراتٍ طويلة في الحديث عن الدنيا، في الحديث عن طعامها وشرابها، في الحديث عن متعها المُباحة، هذا الحديث ربَّما جرَّ لصاحبه إلى ضياع الوقت، والوقت ثمين، والإنسان بضعة أيَّام، كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، لكن أشرف حديثٍ، وأشرف كلامٍ، وأشرف دعوةٍ، وأشرف نُطْقٍ أن تدعو إلى الله.
الدعوة إلى الله تضع أمام الناس عظمة الله من خلال خلقه:
كلمة (دعا) واسعة جداً، يمكن أن تدعو إلى الله عزَّ وجل إذا بيَّنت آيات الله الكونيَّة، هذه دعوةٌ إلى الله، لأنك تضع أمام الناس عظمة الله من خلال خلقه، تضعها بين أيديهم، وكأنهم يواجهون عظمة الله عزَّ وجل، فإذا بيَّنت للناس آيةً من آيات الله الكونيَّة الدالَّة على عظمته فهذه دعوةٌ إلى الله، إذا بيَّنت للناس آيةً قرآنيَّةً دقيقة المعنى، دقيقة الأسلوب، فيها حكمٌ دقيق، فيها قانونٌ يُسعد صاحبه، إذا بيّنت آيات الله القرآنية فهذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل، إذا بيَّنت سنة نبيِّ الله صلى الله عليه وسلَّم، وقد بيَّن القرآن هذه دعوة إلى الله عزَّ وجل، إذا بيَّنت الأحكام الفقهيَّة التفصيليَّة التي إذا طبَّقها الإنسان سَعِد في الدنيا والآخرة هذه دعوةٌ إلى الله عزَّ وجل، إذا قصصت على الناس قصَّة رجلٍ مؤمنٍ عظيمٍ طبَّق أمر الله فسعد في دنياه وأخراه هذه دعوة إلى الله عزَّ وجل.
كلام ربنا واسع، كلام ربنا حمَّال أوجه، أنت إن بينت للناس آيةً كونيَّةً ؛ آية في الآفاق، أو آية في أنفسهم، أو آيةً قرآنيَّةً، أو آية تكوينيَّةً، شيئاً من أفعال الله عزَّ وجل، وربطته بالموعظة والعظة، إذا بيَّنت سنة النبي، إذا بيَّنت سيرة النبي، إذا بيَّنت أحكام الفقه، إذا بيَّنت سيرة العلماء الصالحين الصادقين، كل هذه الموضوعات تُرسِّخ في الإنسان حبَّ الله، وحبَّ رسوله، وحب شرعه، ليس المطلوب أن تأخذ خطاً واحدًا، وأن تجعل كل الوقت فيه، نوِّع
أنا أعجب أيضا ممن يحضر مجالس العلم، ويستمع خلال سنوات طويلة إلى دروس تفسير، ودروس حديث، ودروس سيرة، ودروس فقه، كيف لا يستغلُّ هذه المعلومات التي حصَّلها في سنوات طويلة في الدعوة إلى الله مع أهله، مع أولاده، مع زوجته، مع إخوانه، مع أصدقائه، مع جيرانه، مع من هم دونه، مع من هم فوقه، مباشرةً، بالواسطة، بكتاب، بشريط،
الدعوة إلى الله وهداية الناس خيرٌ من الدنيا وما فيها:
هل تصدق أيها الأخ الكريم هذا الكلام كلام الصحابة الكرام كلام دقيق جداً، يقول النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب سيدنا علياً كرَّم الله وجهه، هذا كلام نسمعه كثيراً، ولكن شتَّان بين أن نسمعه وأن نردده، وبين أن نطبِّقه، قال:
(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ، قالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ: أيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا، فَقالَ: أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ؟ فقِيلَ: هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، قالَ: فأرْسَلُوا إلَيْهِ. فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛
معنى هذا أن الإنسان إذا بذل جهدًا، اعتنى بأخيه، أكرمه، زاره، تفقَّد أحواله، أعطاه شريطاً، أعطاه كتيِّباً صغيراً، فسَّر له آية كريمة، فسَّر له حديثاً شريفاً، دعاه إلى المسجد، دعاه إلى الدروس، قدَّم له هديَّة، استمال قلبه، اعتنى بأولاده حتى مال إليك هذا الإنسان، ومال إلى مسجدك، ومال إلى دروسك، وسمع الدروس، وائتمر بأمر الله، وانتهى عما نهى الله عنه، فصار إنساناً مؤمناً، والله الذي لا إله إلا هو هذه أعظم تجارة.
ألا ترى معي أن الذين يملكون الملايين؛ ترك ألف وثمانمئة مليون، ولكنه ترك معهم ملهى فيه كل المنكرات، ألا ترى أن هؤلاء الذين يملكون آلاف الملايين إذا ماتوا فقدوا كل شيء؟ وأنهم قدِموا على كل أنواع العذاب؟ وأن الذي ترك هذه الدعوة إلى الله، وتلك الهداية، واحد فقط ـيا علي، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها، أليس للإنسان أخ؟ أليس له صديق؟ أليس له جار؟ أليس له ابن؟ أليس له ابن ابن؟ ألا يوجد عنده بالمحل موظَّف؟ ألا يوجد عنده إنسان يعمل تحت إمرته يمون عليه؟ هذا الذي تنتفع بخبرته، وتنتفع بجهده، وتنتفع بعطائه ولا تنفعه بعلمك لقد خُنْتَهُ.
عندك معمل فيه ثمانون عاملاً، هؤلاء العمال هم بيدك، دخلهم بيدك، إكرامهم بيدك، ألا ينبغي أن تدلَّ هؤلاء على الله عزَّ وجل؟ أنت بوظيفتك، بعملك، بعيادتك، بمكتبك، ببيتك، بدكَّانك، ألا يوجد إنسان معك؟ واحد، اسع لهداية واحد هداية صحيحة، قال له: قل: لا إله إلا الله، قال له: أسْلِم، قال: ماذا أقول؟ قال له: والله لا أعرف ماذا تقول، يجب أن تدلَّه على الله بشكلٍ صحيح، أن تبني له أُسُسَاً فكريَّة، أُسُسَاً انفعاليَّة، أُسُسَاً سلوكيَّة، هذه هي الهداية، طبعاً فاقد الشيء لا يعطيه.
حركةُ اللسان الدعوية يلزمها العلمُ والخلق الحسنُ:
أول شيءٍ: اطلب العلم الصحيح ممن تثق بعلمه وإخلاصه، اطلب الدليل، لا تقبل شيئاً من دون دليل، اطلب التعليل، اقرأ كتاب الله، افهم كتاب الله، حاول أن تفهم هذا الكلام العظيم، اقرأ سُنَّة رسول الله، اقرأ سيرة رسول الله، اسأل عن الأحكام الفقهيَّة، اطلب العلم أولاً، إذا طلبت العلم، وسجَّلته، حفظته في كتيِّب، في شريط، في ورقة، في دفتر، كل ما ليس في القرطاس ضاع، إذا سمعت العلم وسجَّلته، لمجرَّد أن تسجِّله فقد حفظته، فإذا حفظته ملكته، فإذا ملكته نشرته، بمناسبات، بنزهات، باحتفالات، من فضل الله على هذه البلدة لا يوجد فيها احتفال وأنا أطلق هذا الكلام، لا يوجد فيها احتفال إلا وفيه إلقاء كلمات، هذه دعوة إلى الله، هل سمعتم في هذه البلدة الطيِّبة عقد قِرانٍ من دون إلقاء كلمة؟ أبداً، الآن حتى في الأحزان، في التعزيات هناك إلقاء كلمات، في النُزهات هناك إلقاء كلمات ، في الاحتفالات هناك إلقاء كلمات، مجال الدعوة إلى الله واسعٌ جداً.
فالمؤمن وأنا أقول هذا الكلمة، وأنا أعني ما أقول، في اللحظة لا في الساعة، لا في الدقيقة، في اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في القلب يعبِّر عن ذاته بالحركة نحو خدمة الخلق والدعوة إلى الحق، لك حركتان: حركة اللسان وحركة اليد، دائماً تسعى لنفع الآخرين، المؤمن يبني حياته على العطاء، أساس حياته العطاء، وأساس حياته الدلالة على الله عزَّ وجل، يرقى بالناس بلسانه وبإحسانه، إذاً هذا الكلام يعنينا جميعاً، الله عزَّ وجل ذكر هذه الآية بأسلوبٍ مشوِّق، أي:
﴿
الداعية رأسماله الأخلاق العالية؛ رحمته، تواضعه، تسامحه، أن يكون مع الناس في كل أحوالهم، لا أن يترفَّع عنهم في برجٍ عاجي، الأنبياء يمشون في الأسواق، عاشوا مع الخلق، كيف يستطيع النبي أن يدلَّ الناس على الله إلا أن يكون معهم؟ عاش معهم، فالانسحاب من المجتمع، التقوقع هذا ليس من صفات الدعاة الصادقين،
النبيُّ عليه الصلاة والسلام أولُ المَعْنِيِّين بالآية التالية:
الإمام الحسن رضي الله عنه كان إذا تلا هذه الآية:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)﴾
قال: هذا رسول الله، الآية تشير إلى أنه رسول الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرَة الله، هذا والله أحبّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.
إذاً بعض المفسِّرين فَهِم أن هذه الآية تعني رسول الله، من أحسن قولاً ممن دعا إلى الله؟ أنتم أيها الكفَّار، يخاطب الله كفار مكَّة الذين عارضتموه، وكذَّبتموه، وسفَّهتم دعوته، ودعوتم إلى أصنامكم، وإلى لهوكم، وإلى طغيانكم، وإلى ظلمكم، أنتم أم هو؟
الآية السابقة عامة لجميع المسلمين:
مفسِّرون آخرون قالوا: هذه الآية عامَّةٌ في كل من دعا إلى الله، وبعضهم وسَّعها أكثر فأكثر فقال: هذه الآية تخصُّ كل مؤمن، لأن المؤمن أحياناً يدعو إلى الله وهو ساكت، قال له: عندك بيض طازج؟ قال له: والله الذي عندي من يومين، جاري أحضره الآن، اذهب إليه، شيءٌ يلفت النظر، صدق، قد يكون بائعاً صغيراً لا يؤبه له يعلِّمك درساً في الصدق، امرأةٌ أصابها جُذام، فنهاها عمر أن تكون بين الناس لئلا تؤذيهم، فاعتزلت الناس، وقبعت في بيتها، فلمَّا مات عمر رضي الله عنه قيل لها: اخرجي، الذي نهاكِ قد مات، قالت:
لا يكن دورُك معاكساً لدور الداعية إلى الله:
لذلك أخطر شيء في الحياة أن يكون لك زِيّ إسلامي، أو وصفٌ إسلامي، أو خلفيَّةٌ أو انتماءٌ إسلامي، وأنت تؤذي الناس، هذا الإنسان له دورٌ معاكسٌ للداعية إلى الله، مُنَفِّرٌ من الله، مُبْعِدٌ عن الله، يقطع الناس عن الله، صار هناك من يدعو إلى الله، وهناك من ينفِّر من الله، هناك من يصل الناس بالله، هناك من يقطعهم عنه، هناك من يحبِّب الله إلى عباده، هناك من يبغِّض الله إلى عباده، لذلك أخطر شيء أن ترفع لافتةً إسلاميَّةً، وأن تسيئ إلى الناس،
الإسلامُ حقيقةً لا شكلاً وكلاماً:
أما:
سمعت عن أحد الفلاسفة الفرنسيين الذين أسلموا حديثاً- روجيه غارودي- قال: قبل ثلاثين عاماً في الحرب العالميَّة الثانية كُلِّف جندي مغربي أن يقتله لأنه أسير، فأعلمه هذا الجندي أنه لا يقتله، لأن إسلامه يمنعه من ذلك، بقيت هذه الحادثة في نفسه، واعتملت في فؤاده ثلاثين عاماً حتى نقلته إلى الإسلام،
إذا رأى الناس منك موقفاً شريفاً، أو تصرُّفاً حكيماً، أو تمنُّعاً عن طمعٍ مادي، أو ترفُّعاً عن مكسبٍ فيه شُبهَة، لا تعزُ هذا إلى مزاجك، ولا إلى طبعك، ولا إلى تربيتك، قل: هذا مما حرَّمه عليَّ الإسلام، دائماً أبْرِز عظمة هذا الدين في سلوكك لتكون داعيةً إلى الله، أما إذا قلت: هذه قيم روحيَّة عامة عمَّمتها، أخلاق، هذه أخلاق بلدنا، هذه أخلاق أسرتنا، أنت ضيَّعت الناس، هذه أخلاق المؤمن، هذه أخلاق الإسلام، الإسلام فعل كذا وكذا.
سمعت في بلد إسلامي أنه جاءت وزيرة زائرة، هناك موظَّف كبير لم يصافحها، فغضبت أشدَّ الغضب، فلمَّا طلبته: لمَ لمْ تصافحني؟ قال: إن ديني يمنعني من ذلك، قالت هذه الوزيرة البريطانيَّة: لو أن المسلمين أمثالك لكنَّا تحت حكمكم، بيَّن لها، لم أصافح لأن ديني يمنعني من ذلك، فعندما يقيم الإنسان شرع الله عزَّ وجل لا ينبغي أن يستحيي به، ولا ينبغي له أن يعزوه إلى عادات، تقاليد، تربية، أسرة، بلد، لا، قل: هذا هو الإسلام، لأن ديني يأمرني بذلك، لأن ديني ينهاني عن ذلك، من أجل أن تربط الحقائق بصاحب الحق، هذا معنى:
الحسنة ترفع مستوى الدعوة إلى الله:
﴿
ما علاقة هذه الآية بالتي قبلها؟ أي إذا كنت مسيئاً لا سمح الله مهما ألقيت على الناس كلاماً رائعاً، مهما ألقيت عليهم حِكَمَاً رائعةً لطيفةً، مهما تفنَّنت في شرح النصوص، مهما تفنَّنت في تحليل النصوص، مهما كانت التعليقات رائعةً كلُّها تسقط بسبب العمل السيئ، بل إن صاحب العمل السيئ يكفر الناس بأقواله كلها ولو كانت حقَّاً، ولذلك وأنت تدعو إلى الله
إذا سقط الداعية سقط معه غيرُه:
أنت داعية، كإنسان معروف بين أهلك أنك مؤمن، إنسان معروف بالصلاح، إنسان معروف بانتمائك الديني، بهويَّتك الإسلاميَّة، إنسان معروف بين مجتمعك أنك صاحب دين، إيَّاك أن تؤذي مخلوقاً، لأن هذا الأذى يُبْطل دعوتك، يجعلها في الأوحال، فقبل أن تُسيء إلى الناس، قبل أن تكذب، قبل أن تأخذ ما ليس لك فكِّر مليون مرَّة بأنك داعية، وإذا سقطت سقطت معك الدعوة، ألم يقل الإمام أبو حنيفة كرَّم الله وجهه لهذا الغلام الذي كاد يقع في حفرةٍ قال له:
أنا لا أرى غضاضةً في أن جزءاً من خيبة المسلمين، من تخلُّفهم، ومن ضعفهم أن حياتهم افتقدت المُثُلَ العُليا، لأن المثل الأعلى له دور خطير جداً، ما دوره؟ هو يعطيك الحقيقة مع البرهان عليها، يجب أن يكون في حياتك إنسان تثق بإخلاصه، بنزاهته، بورعه، بصدقه، ليس له مصالح أبداً، هذا الإنسان هو الذي يُنَمِّي فيك الخير، ينمي فيك العطاء، القدوة الحسنة.
عظمة ديننا الإسلامي بالتطبيق:
وجود النبي عليه الصلاة والسلام كان لأصحابه مثلاً أعلى، كان معهم في سرَّائهم وضرَّائهم، كان مع أصحابه في سفر، أرادوا أن يعالجوا شاةً فقال أحدهم: "عليَّ ذبحها، وقال الثاني: عليَّ سلخها، وقال الثالث: عليَّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام:
سيدنا الصديق، ركب أسامة بن زيد الناقة، وقد عيَّنه الرسول قائداً للجيش، ومشى الصّدّيق، الشيخ الوقور، خليفة المسلمين في ركابه، قال:
والله أنا دائماً أقول: لو أن صحابة رسول الله فهموا الدين كما نفهمه نحن، والله الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكَّة المكرَّمة، بقي في مكة، أما أنه وصل إلى الآفاق، إلى المشارق والمغارب بفضل هذه الأخلاق الرفيعة، والآن لا سبيل إلى أن نعود إلى ما كنا عليه إلا بتمسُّكنا، فالناس شبعوا كلاماً، ومحاضرات، وكتباً، الآن الناس بحاجة إلى مطبِّقين، إلى مُثُل عُليا، إلى أناس يطبِّقون ما يقولون، فهذه الآية دقيقة جداً، وتعني كل مؤمن.
إنْ لم تكن داعية بلسانك فكن داعية بحالك وخلقك:
أول معنى: تعني رسول الله، المعنى الثاني: تعني كل داعية، المعنى الأعم والأشمل: تعني كل مؤمن، أنت لا يوجد عندك طلاقة لسان، لم تقرأ كثيراً، لابأس، كن صادقاً، كن صادقاً في مهنتك، في حرفتك، في بيعك، في شرائك لا تكذب، لا تغشّ الناس، تصبح داعيةً وأنت لا تدري، فلان لا يكذب، فلان صاحب دين، فلان أخلاقه عالية، فلان كلمته كلمة، فلان عفيف يُؤمَّن على الروح، هذه هي الدعوة لله عزَّ وجل، بإمكانك من خلال استقامتك وعملك الصالح أن تكون داعيةً إلى الله، وبإمكانك وهذا أرقى أن تدعو إلى الله بعملك ولسانك، بين ما أن هذه الآية كانت تخصُّ النبي عليه الصلاة والسلام، إذا بها تخصُّ كل داعيةٍ، ثم هي تخصُّ كل مؤمنٍ، فإذا وفَّقك الله عزَّ وجل في كل العمر إلى هداية إنسانٍ هداية صحيحة دقيقة فقد وفِّقت إلى كل شيء، وهذه الدنيا كلها لا تلتفت إليها، لأنك تخسرها عند الموت جميعها مهما حصَّلت منها:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾
هذه الآيات إن شاء الله نعود إليها في الدرس القادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين