- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي، أو في الدرس قبل الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70) ﴾
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا
الله سبحانه وتعالى يقول:
خَلقٌ ثم موت :
خُلقنا على هذا الشرط، خُلقنا على هذه الدنيا، ولابد من أن نموت، فالموت هو مصير كل حي، فالعاقل هو الذي يعد للموت عدته، والأحمق هو الذي ينسى هذه الساعة التي وعدنا الله بها .
نسيان الموت سببٌ للطغيان :
الله كتب الموت على الجميع :
الله سبحانه وتعالى خلقنا، ثم يتوفانا، فالوفاة لابد منها، قال تعالى :
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ﴾
وقال سبحانه :
﴿
فالنبي يموت، والرسول يموت، والغني يموت، والفقير يموت، والقوي يموت، والضعيف يموت، والصحيح يموت، والمريض يموت، وكل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
الليـــل مـهما طــــال فلابــــد مــن طلــوع الفجر
والعمـر مـهما طـــــال فلابــــد مــن نـــزول القبر
***
كل ابن أنثى و إن طالت سلامتـه يوماً على آلةِ حدباءَ محــمولُ
فإذا حملت إلى القبـور جنــازة فاعلم بأنـك بـعدها مـحمـولُ
***
هذه الساعة فكر فيها، وأنا أضمن لك الاستقامة؛ لأنك إذا فكرت في ساعة رهيبة تترك كل شيء، وتوضَع تحت التراب، تحت الثرى، ويأتي الملكان ليسألانك: مَنْ ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وماذا فعلت؟ لِمَ فعلت؟ ولِمَ لم تفعل؟
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ. ))
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
لذلك:
من الناس مَن يصل إلى أرذل العمر :
قال لي أحد الإخوة الأكارم، وقد دخل على رجل توفي في بيت، ومضى عليه أيام عدة: ما من رائحة على وجه الأرض أنتن ولا أبشع من رائحة الإنسان إذا مضى عليه أيام ولم يُوسَّد في الثرى.
مَن حفِظ حدود الله في الصغر حفظه الله في الكِبَر :
سئل أحد الصالحين: "ما هذه الصحة يا سيدي؟ قال: " يا بني، حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر، من عاش تقياً عاش قوياً " .
من خلال تجاربي الشخصية؛ ألتقي أحياناً مع بعض الأشخاص، قال لي أحدهم عمره خمسة وتسعون عاماً، أجرى فحوصاً شاملة على كل أجهزته، فكانت جميع الفحوص جيدة، قال لي: وَاللَّهِ لا أعرف الحرام في حياتي؛ لا عرفت الحرام من طرف النساء، ولا من طرف المال، ما كسبت درهماً حراماً، ولا أعرف غير زوجتي، خمس وتسعون سنة أجريت له الفحوص، وأولاده ميسورو الحال، فحوصه كلها جيدة، وفي الدعاء الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ))
الأعمال الصالحة، الصدقات، غض البصر، إنفاق المال، حضور مجالس العلم، أن تجلس على ركبتيك ساعة أو أكثر ابتغاء وجه الله، لا تبتغي من مجيئك إلى هنا لا درهماً، ولا ديناراً، ولا وظيفة، ولا شيئاً، ولا بيتاً، ولا مكانة، ولا شيئاً، لا تبتغي شيئاً من الدنيا إطلاقاً، تبتغي وجه الله فقط، بذل هذا الجهد، وبذل هذا الوقت، والحرص على طاعة الله، أهكذا تكون كغيرك من الناس؟ لذلك ربنا عز وجل قال:
قبل ثلاثين أو أربعين عاماً حدثني رجل فقال: إن شخصاً وصل إلى مراتب عليّة، خرج من بيته، ولم يعد، فاتصلت زوجته بأقسام الشرطة، عُثر عليه في أحد أحياء دمشق الجنوبية تائهاً، ضائعاً، كالطفل الصغير.
بالمناسبة أنا أضمن لكم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام هكذا قال؛ قال:
(( مَن جمَع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
إذا أردت أن تتمتع بعقلك كاملاً، أن تبقى إلى آخر ثانية في حياتك، وأنت قوي الشخصية، مرغوبَ الجانب، معززاً، مُكرَّماً، مُبجَّلاً، مُحترماً من كل الناس، فتعلم القرآن الآن، فمن تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، ولا يحزن قارئ القرآن.
﴿
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ
الناس متفاضلون في الرزق :
انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض في الدنيا، فهذا إنسان له رزق محدود، قد يكون أقل من حاجته بكثير، قد يكون أقل من حاجته بقليل، قد يكون مساوياً لحاجته، قد يزيد عن حاجته قليلاً، قد يزيد عن حاجته كثيراً، قد يأتيه رزق لا يستطيع أن يحصيه، إن قارون كان من قوم موسى، فإياكم أن تظنوا أن هذه مَكرُمة ..
﴿
المفاتيح فقط ؛ سبعة رجال أشداء لا يستطيعون رفع مفاتيح خزائنه .
التفضيل في الرزق لحكمة ربانية بالغة :
إذاً:
﴿
في الدنيا يقول بسذاجة، بجهل، بعد علم، يقول:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( جلس جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنظر إلى السماء ، فإذا ملَك ينزل ، فقال له جبريل : هذا الملك ما نزل منذ خُلِق قبل الساعة ، فلما نزل قال : يا محمد أرسلني إليك ربك : أملِكا أجعلك أمْ عبدا رسولا؟ قال له جبريل: تواضع لربك يا محمد ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: بل عبدا رسولا. ))
(( عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا - أَوْ قَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا - فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ ))
من رحمة الله بنا أنه يقلّبنا بين الغنى والحاجة، بين الصحة والمرض، بين الراحة والتعب، بين الطمأنينة والقلق، بين الخوف وعدم الجزع، تقليد، كلما غفلنا جاءت المنذرات، جاءت الميقظات، لذلك "كلا ليس عطائي إكراماً، ولا حرماني امتهاناً، إن عطائي ابتلاء، وحرماني دواء"، إياك أن تظن أن العطاء إكرام، إلا في حالة واحدة، إذا أنفقت هذا المال في طاعته، كان المال ابتلاءً، فصار إكراماً.
فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
هل يسوَّي الحُرُّ نفسه مع العبد فيشرِكَه في ماله ؟!!
هؤلاء الذين أُعطوا من رزق الله، هل يعطون أموالهم لعبيدهم: ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أيساوون أنفسهم مع عبيدهم؟ لا، فكيف أنتم أيها العباد تجعلون من عدة أصنام آلهة، وتسوّونها برب العالمين، أيرضى الله ذلك؟ أيرضى أن يكون مخلوقه شريكاً له في الملك؟ لو أن أحدكم له محل له قيمة كبيرة جداً، وعنده موظف يعطيه أجراً محدوداً أيقول له: هذا المحل بيني وبينك مناصفة؟ من يفعل هذا؟
﴿
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً
الزوجة من الإنس نِعمة من الله عظيمة :
هذه نعمة كبرى من نعم الله، هذه الزوجة التي هي أم أولادك من بني البشر، إنك تفكر، وهي تفكر، تحس، وهي تحس، تدرك، وهي تدرك، لك عاطفة، ولها عاطفة، لك حاجات، ولها حاجات.
قال لي رجل: منذ خمسة عشرة عاماً لا أستطيع أن أنام الليل، لنوبات حادةٍ تصيب زوجتي، أصبح وزنها عشرات الكيلو غرامات من شدة الآلام، ماذا يفعل بها؟ فإذا كانت لك زوجة معافاة فلا تقل: أنا ربكم الأعلى.
وقد قيل: أكرموا النساء، فوالله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم، ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً، من أن أكون لئيماً غالباً.
إيّاكم أن تكفروا بنعمة الزوجة :
هذه نعمة قد تفتقدها، إذا كفر الإنسان بنعمة الزوجة قد يجد نفسه في بعض الساعات يرتكب حماقة ما بعدها حماقة، يطلقها، وتذهب إلى بيت أهلها، وتدع له خمسة أولاد في البيت، يضيق بهم ذرعاً، يحتاجون إلى طعام، إلى تنظيف، إلى حمام، إلى إعداد طعام، وهي عند بيت أهلها، ناعمة، مطمئنة، وأتاها خطيب فتزوجها، وأنت والأولاد في ضيق ما بعده ضيق، فإذا كفر الإنسان بنعمة الزوجة الصالحة، وحمّلها مالا تطيق، واستعلى عليها وتجبر، فقد يضعه الله في مأزق حرج، يغضب غضباً شديداً فيطلقها، وعندئذٍ تملك حريتها، وتأبى أن تعود، ويبحث عن بديل لها فلا يجد، أو قد يأتي البديل فيريه النجوم في الظهر، هذا البديل ليأخذ حق الأولى، فإذا كان عند الإنسان زوجة صالحة ليشكر الله على هذه نعمة .
(( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها دخلت الجنة. ))
لا تحملها مالا تطيق، لا تحملها ذنباً لم تفعله، لا تحملها أخطاء أهلها، لا ذنب لها، لا تجعل بيتك صاخباً، لا تجعل حياتك ضنكاً، الله عز وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
ومعنى المعاشرة بالمعروف لا أن تمتنع عن الإيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها، وكان أحد الصالحين له زوجة سيئة جداً، فلما قيل له: طلقها، واسترح منها، قال: وَاللَّهِ لا أطلقها فأغشّ بها المسلمين.
ليس هناك زوجة مثالية ، فارض بما قسم الله لك :
أعطها إجازة إلى بيت أهلها مدة أسبوع، واعمل بدلاً منها، اغسل الصحون، اطبخ، وامسح البيت، اكوِ الملابس، حتى تعرف قيمتها، أعطها إجازة مدة أسبوع لتعرف قيمتها، فربنا عز وجل قال:
نعمة البنين والأحفاد :
زيادة على الزوجة والبنين : وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ
إنّه لحديثٌ عظيم :
لذلك النبي الكريم عوّدنا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ ))
النبي عليه الصلاة والسلام، سيد الخلق، وحبيب الحق، دخل إلى بيته لا يجد أحيانا ما يأكله، فعَنْ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ :
﴿ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا : لَا، قَالَ : فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ. ﴾
يقول لك أحدهم اليوم: ليس عندنا شيء، وعنده أكل يكفيه ثمانية أشهر! اجمع المؤونة التي عندك، أيجب أن تأكل طبخاً كل يوم؟ لا تقل: ليس عندنا شيء، هذه الكلمة فيها سوء أدب مع الله عز وجل، إذا توفر لك الظهر قطعة جبن مع كأس من الشاي فهذه نعمة، عندك رغيف خبز وكأس من الشاي، وقطعة جبن فهذه نعمة:
أحياناً الإنسان يجد شدة في حياته، فيعيش في ضيق، ضيق ذات يد في عمله، دخله قليل، حاجاته غير موجودة، فلا يتبرم كثيراً، بل ليكن راضياً، لأن ربنا عز وجل يلون الحياة، لا تعرف النعم إلا بافتقادها، لا تعرف قيمة الحاجات إلا إذا قلَّتْ، فلذلك ليلزم الإنسان الصبر، وليلزم الشكر، وبالشكر تدوم النعم،
(( يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ ))
أحد الأشخاص كان عند بعض الملوك، فأكل الملك طعاماً فأعجبه، قال: هذا الطعام طيب، قال: يا أمير المؤمنين طيبته العافية، الإنسان يأكل أحياناً أكلاً متواضعاً جداً، رخيصاً جداً، يشتهي أن يأكل أكلة شعبية، ما دامت الصحة موفورة فهناك استمتاع بالغ في هذا الطعام.
يروى على زمان العثمانيين دخل على والي الشام موظف كبير، كان مقر الوالي بمنزله في المرجة، دخل الموظف الكبير فوجد الوالي يطل من نافذة مكتبه على صحن المنزل، مكان بائعي حلويات اليوم، وكان هناك سجن قديماً، فبقي فترةً طويلة، يلقي النظر إلى صحن البناء، انتظر الموظف إلى أن شعر هذا الوالي بحركة، فالتفت، وقال له: أنت هنا منذ وقت؟ قال له: نعم، رأى على خده دمعة، قال له: خيرًا إن شاء الله، قال له: تعال انظر، أب وأم جاءا ليتفقدا ابنهما في السجن فلم يُسْمَحْ لهما، فجلسا على الأرض، وفتحا زوادةً، وأخرجا رغيفاً وبصلاً فقط، كسراه وأكلاه، قال: وَاللَّهِ أتمنى أن أتخلى عن كل ما حولي، وأن أستطيع أكل هذا الطعام بشهيتهما، معه علل بجسمه لا يقدر على الأكل، إذا أكل الإنسان أكلة شعبية، وكانت صحته طيبة فهذه نعمة، فالإنسان دائماً عليه أن يتذكر أن الشكر يزيد النعم، وبالشكر تدوم النعم .
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
انظر هناك نقطتان، هناك دوام وزيادة، بالشكر دوام للنعم، وبالشكر زيادة في النعم
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
الله أكبر على هذه المقابلة السيئة للنعمة :
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ(73)﴾
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
المعبودات سوى الله لا تملك رزقا في الأرض ولا في السماء :
مرة تكلمت عن البكتريات، الأرقام فوق التصور، في السنتيمتر المربع أو الميليمتر المربع ألوف البلايين من كائنات دقيقة جداً، لولاها لما نبت النبات! في اليابان في المكان الذي ألقوا عليه قنبلة ذرية الأرض لا تنبت؛ لأن الكائنات الدقيقة ماتت، أبيدت، التربة فيها بكتريات فيها ديدان، فيها آلاف المخلوقات، خلقت من أجلك، مسخرة لك.
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ(73) ﴾
﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(75)﴾
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ
لماذا هذا المثلُ والتشبيه :
هذا مثل دقيق جداً، والخطاب موجَّه لمشرك، أنت تعبد صنماً، أبكمَ، أصمّ، هل ينفعك؟ هل يضرك؟ هل يسمعك؟ هل يستجيب لك؟ أما الله سبحانه وتعالى فحاضر، ناظر، رحيم، غفور، سميع، بصير، بيده كل شيء، غني، قوي، عفوٌّ، توابٌ رحيمٌ، كل هذه الدنيا من خيراته، تَدَعُ الإله وتعبد ما لا يضرك ولا ينفعك؟
هذا مثل ضربه الله لنا:
كيف كان العرب يقفون أمام الأصنام، ويعبدونها من دون الله؟ وكيف الآن تتكئ على قريب لك؟ تعتمد عليه؟ تعبده من دون الله؟ ترضيه وتعصي الله؟ كيف؟ هذا عبد عاجز، ضعيف، فقير، قد يموت، قد لا يستطيع أن يقدم لك شيئاً؛ قد يستطيع ولا يقدم لك شيئاً بدافع من لؤمه! أتعبده من دون الله؟
لا يستوي المملوك مع المالك ، فلا يستوي المخلوق مع الخالق :
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(76) ﴾
أوصاف دقيقة جداً، هذا الذي تعبده من دون الله :
فلذلك الإنسان يجب أن يضع كل ثقته بالله عز وجل، وأن يضع كل رغبته، وكل إمكاناته في طاعة الله، حتى ينجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77)﴾
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ
لا يعلم الغيب أحدٌ إلا الله :
الإنسان أحياناً يعد له الطعام ليأكله فلا يأكله، يموت قبل أن يأكله.
أول يوم من أيام العيد أسرة هيأت نفسها للسفر إلى مَصِيف على البحر، واستأجروا البيت، وبقوا يومين أو ثلاثة يعدون الأغراض، وكل أنواع الحاجات، والملبوسات، وُضِعَتْ المحافظ بالسيارة، والزوجة نزلت، والأولاد نزلوا، والزوج لم يستطع مغادرة المنزل بسبب بسيط هو أن الله توفاه، الموت قريب جداً، كل شيء جاهز.
العام الماضي كان عندنا أخ كريم من إخواننا، وكنا مدعوين معه إلى نزهة، فما تمكنا إلا أن ندفنه قبل أن نذهب إلى النزهة! الموت قريب جداً، والإنسان يقول: أنا ـ إن شاء الله على أول الصيف أغير الأثاث، هل أنت ضامن أن تصل إلى أول الصيف؟ فمن عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت.
قال لي رجل: والله قصة لا أنساها، أنا أريد أن أترك التعليم، كان مدير ثانوية خاصة، وسوف أبحث عن طريقة أعير نفسي إلى دولة عربية، ذكر لي اسم الجزائر، قال لي: هناك قرب أوربا، وفي الصيف لا آتي إلى بلدي، أُمضي أول صيفية في فرنسا، أرى معالمها، وأماكنها السياحية، ومتاحفها، وفي الصيفية الثانية في إنجلترا، والصيفية الثالثة في إيطاليا، والرابعة في سويسرا، ذكر لي خمس سنوات إعارة، قال لي: أعود ويكون معي رأسمالي، آخذ محلاً تجارياً، ويكون أولادي قد كبروا، أبيع فيه التحف، وهكذا خفيف نظيف، أجلس وأتقاعد، وكفى، والله الذي لا إله إلا هو من فمه إلى أذني، كنت عنده، وكان عندي ساعة فراغ، جلست عنده، فقال لي ذلك، الظهر انتهت ساعاتي فذهبت إلى البيت، لي عمل في المدينة مساء، وأنا في طريقي إلى البيت مشياً على الأقدام وجدت نعوته على الجدران، أول سنة في فرنسا، الثانية بإنجلترا، الثالثة بإيطاليا، الرابعة بسويسرا ... ومساء كان من أهل الآخرة.
قالوا: من جاوز الأربعين فقد دخل في أسواق الآخرة، إذا ذهب واحد إلى نزهة خمسة أيام، أول يوم في غاية السرور، ثاني يوم، ثالث يوم، رابع يوم، يفكر في الرجعة، بجمع الأغراض، يؤمِّن المواصلات، أليس كذلك؟ فاليومان الأخيران يتجه التفكير فيهما إلى العودة، إلى تأمين الركوب، إلى تأمين الحاجات، إلى تأمين جمع الأغراض، إلى إجراء الحساب، هذه في الأيام الأخيرة، فنحن إذا دخل أحدنا في الأربعين كأنه دخل في أسواق الآخرة، فيجب أن يكون أكبر همه الآخرة، كيف يعد العدة للقاء الله عز وجل.
﴿
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا
لا يعلم المولود إلا مصّ الثدي :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين