- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (016)سورة النحل
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الحادي عشر من سورة النحل، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)﴾
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَر
الإخلاص في العمل شرط لقبوله :
ربنا -سبحانه وتعالى- يصف الذين هاجروا في الله، فالهجرة في سبيل الله، كلمة فِي اللَّهِ تدل على الإخلاص في الهجرة، لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
(( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمَن كانَت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ لدنيا يُصيبُها أوِ امرأةٍ يتزوَّجُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ ))
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23) ﴾
عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بعثه إلى اليمن :
(( أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ القَلِيلُ مِنَ العَمَلِ ))
لا يستحق أحد على وجه الأرض أن تخلص له إلا الله -عز وجل-، ليس في الأرض كلها جهة تستحق أن تبيع نفسك لها، أو أن تُجَيّر قدراتك إليها، أما الله -سبحانه وتعالى- فهو أهل التقوى، وأهل المغفرة، فلذلك مَن أخلص بعمله سعد في الدنيا والآخرة، ومَن أراد بعمله الطيب دنيا يصيبها، أو مكانة يحتلها، أو منزلة يرقى إليها، أو سمعة يصيبها، فقد خسر خسراناً مبيناً، فالعمل الطيب بنيّة طيبة كالألماس، والعمل الطيب بنيِّة غير طيبة كالبلور، فَقَدَ قيمته، كقطعة ألماسٍ ثمنها مئات الألوف، فإذا كانت من البلّور فثمنها عشرات الليرات. لذلك يقول الله -عز وجل-:
الهجرة بمعناها الواسع :
الهجرة بمعناها الواسع كما قال -عليه الصلاة والسلام-:
(( وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))
إذا تركت المُنكَر فأنت مهاجر، إذا قلت: إني أخاف الله رب العالمين فأنت مهاجر، وبمعناها الضيق التاريخي: الهجرة هي الانتقال من مكة إلى المدينة، بمعناها الضيق المستمر هجْرُ بلدٍ أُجبرت فيه على معصية الله إلى بلد آخر تستطيع أن تقيم فيه شعائر الله، إذا كان باب الهجرة قد أُغلِق من مكة إلى المدينة، فباب الهجرة مفتوح بين كل بلدين يشبهان مكة والمدينة، فالهجرة بمعناها اللغوي ترك مكان إلى مكان، بمعناها الديني الواسع: هجرُ ما نهى الله عنه، بمعناها التاريخي: الانتقال من مكة إلى المدينة، بمعناها المستمر الضيق: أن تهجر بلداً أُجبِرت فيه على معصية الله لتقطن في بلد تستطيع أن تقيم فيه شعائر الله.
الحكمة من تقدير الأذى على المؤمنين :
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)﴾
فالمؤمن ثابت على إيمانه، وعلى حُسن ظنه بالله، وعلى استقامته، وعلى عمله الطيب، في كل الأحوال. عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( عَجِبْتُ لأمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، وَكَانَ خَيْرًا. ))
الآية الكريمة :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾
الإنسان عندما يتحمل الشدة في سبيل الله، لأنه قال: لا إله إلا الله، أو لأنه دعا إلى الله، أو لأنه آثر رضاء الله -عز وجل-، فهذه شدّةٌ لا تعدّ مصيبةً، إنما تعدّ وسيلة لمضاعفة أجره.
لذلك كان من الممكن أن يعيش المؤمن في بحبوحة ويسر، ولكن أنّى لهذه الصفات الراقية أن تظهر، أنّى لهذا الصبر أن يظهر، أنّى لهذا التوكل أن يظهر، أنّى لهذه المحبة أن تظهر، أنّى لهذا الرضا بقضاء الله أن يظهر، يقول الإمام علي رضي الله عنه: "الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين".
المصائب محكّ الرجال :
إذاً: من الخير العميم أن يُبتَلى الإنسان فيصبر .
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : الأنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ. ))
سيارة لها محرك جبّار بثمانين حصانًا مثلاً، وهذا المحرك لا تظهر قوته إلا إذا كان الصعود حاداً، هل تبدو قوة هذا المحرك في منحدر، أو في سهل، لا، أيّ محرك آخر يجري في السهل، وينطلق في أقصى سرعته في المُنحدَر، ولكن الصعود الحادّ به تُمتحَن قوة المحركات.
فلذلك المصائب مِحَكُّ الرجال، الإنسان يوطّن نفسه، قد يُبتلَى بشدّةٍ في ماله، قد يُبتَلى في مصيبته في ماله، في أولاده، في نفسه، بخوفٍ بقلقٍ، بحزنٍ، هذا من باب مضاعفة الأجر، لأن هذا الإيمان العالي، هذه النفس المُحِبّة لا تبدو إلا في الظروف الصعبة.
كيف تمتحن صديقاً عزيزاً عليك؟ إذا كنت تكرمه دائماً، فكل مَن عاملك وأكرمته يحبك، ولكن الصديق الوفي:
إن الصديق الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك
أردت من هذا الكلام أن أوضّح هذه الفكرة:
يا أخي الكريم، إذا أصابتك مصيبةٌ وأنت مستقيمٌ على أمر الله فلها تفسير واحد، إنها مصيبة ترقية، لا بد من أن ترقى من درجة إلى درجة، عن طريق هذه المصيبة، صبرك عليها يرفعك عند الله، استسلامك لأمر الله يرفعك عند الله، تفويضك لله يرفعك عند الله ، توكُّلك على الله يرفعك عند الله، رضاك بقضاء الله يرفعك عند الله، فمصيبة العُصاة مصيبة ردعٍ، ومصيبة المؤمنين مُصيبة رفعٍ، وشتّان بين الرّدع والرّفع، الله -سبحانه وتعالى- يسوق الشدائد للعصاة ليردعهم عن معصيتهم، ولكنه إذا ساق الشدائد للمؤمنين فليُثيبَهم أجرهم بأحسن ما صبروا.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ
أجر المهاجر في الله :
نعوذ بالله من الهجرة فيلا سبيل الشيطان :
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ
لكن لإغراءٍ مادي طفيف تنتقل إلى بلد آخر، فيه المعصية على قارعة الطريق، لا ترى مَن يذكر اسم الله -عز وجل-، المادة كل شيء، الشهوات مُستعِرة، الفِتن يقِظة، الانحرافات مُيسّرة، هذا البلد من أقام فيه فقد برِئت منه ذمة الله، من ترك بلداً تُقام فيه شعائر الله، ويُذكَر فيه اسم الله كثيراً، تُقام فيه مجالس العلم، له دخلٌ معقول، يسكن مع أهله، إذا انتقل إلى بلد يُكفَر فيه جِهاراً، تُرتكَب فيه المعاصي جِهاراً، ابتغاء نفعٍ من الدنيا، ابتغاء حطام الدنيا، فهذه هجرة في سبيل الشيطان، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ ؟ قَالَ : لَا تتراءى نَارَاهُمَا. ))
لا تعدل الدنيا عند الله جناح بعوضة :
(( أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ) قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ))
الدنيا كلها أصغر من أن تكون ثواباً للمؤمن، لكن ربنا -عز وجل- يقول:
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
ثلاث دوائر: الدائرة الأولى دائرة المرئيات، أنت لك دائرة مرئيات، قد تعرف بلدك دمشق، وبعض المدن الأخرى، دائرة المرئيات محدودة، سافرت إلى حلب، سافرت إلى بيروت، سافرت إلى عمان، سافرت إلى بلد أجنبي، هذه المرئيات محدودة، لكن الحديث القدسي يقول:
(( الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِر ))
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))
الدنيا سجن، ضيّقة جداً، لو أنه أكل أكلاً زائداً عن حاجته لاضطُرّ إلى تخفيف وزنه، وأُصِيب بأمراض وبيلة، لو أنه استمتع بشيء استماعاً مبالَغاً فيه لَدفع الثمن بالغاً، هذه الدنيا مُصمّمة لتكون مزرعة الآخرة، هذه الدنيا مصممة لتكون إعداداً لحياة أبدية.
فلذلك:
(( واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه -وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟ ))
المخيط إبرة، اغمسها في البحر المتوسط، واسحبها، بماذا رجعت؟ ما الماء الذي حمله المَخِيط؟ أقلّ من قطرة، أقلّ من نصف قطرة، أقلّ من عِشْر قطرة، قِس، انسبْ هذا الذي حمله المخيط إلى مياه البحر كله، هذه الدنيا، وتلك الآخرة، فربنا -عز وجل- أحياناً يشفق علينا فيقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) ﴾
﴿
هكذا يُنبِئك الجليل أن متاع الدنيا قليل، ألا تصدقه ؟ سنوات ويأتي ملك الموت، من أجل أن تبدأ الحياة كما تشتهي في الأربعين، والأربعون سن النذير، بعد الأربعين يوجد متاعب صحية، يوجد شعور بالضعف، يوجد انحناء بالظهر، شيب بالشعر، ضعف في البصر، ضعف بالذاكرة، طبعاً هذا لمن وصل إلى ما يبتغي، فكيف بمن لم يصل؟
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42) ﴾
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
لزوم صفتي الصبر والتوكل في المؤمن :
قال المفسرون: إن هاتين الصفتين؛ الصبر والتوكل هما أَلزمُ صفتين بالمؤمن.
الصبر للمؤمن معالجة ربانية :
وازن بين طفل في الحضانة وعالم جليل، عالم كبير، هذا العالم كم من ليلٍ سهرَ؟ كم من عمل قام به؟ كم مرة جاهد نفسه وهواه؟ كم من مجلس علمٍ جلس فيه على ركبته ساعات طويلة حتى أصبح بهذا العلم؟ أهكذا تكون الدنيا؟ لابد من أن ينقلنا الله -عز وجل- من مرتبة إلى مرتبة، من حالة إلى حالة، لا بد من معالجة، هذا الذي يبدأ طريق الإيمان يحتاج إلى معالجات طويلة، عنده شيء من الكِبر، هذا يحتاج إلى معالجة، عنده شيء من التفريط، من الإسراف، عنده اعتدادٌ قارب الشرك، اعتداد بنفسه، هذا كله يحتاج إلى معالجة، لذلك المؤمن يقلّبه الله -عز وجل-، فالذين صبروا على معالجة الله لهم نجحوا، وما مِن مصبية بلا هدف، هذه مستحيلة.
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30) ﴾
فالمصبية للمؤمن معالجة، تنقية، وترقية، ودفع، وكشف، ورفع للمؤمن، أما لغير المؤمن فالمصيبة قصم وردع، فهذه المصيبة تقتضي الصبر، إذا أهمل الإنسان أسنانه، فنُخِر بعضها، فذهب إلى الطبيب، وأراد أن يعالج هذا السّن، ألا يحتاج الطبيب إلى مُخدّر، أو إلى حفر هذا السن، قد تصل آلته إلى العصب، فيصيح المريض من شدة الألم، لكنّ العملية كلها في مصلحته، لماذا يصبر المريض؟ لأنه موقن أن ما يجري في أسنانه لمصلحته، وأن هذا الذي يفعل ما يفعل في أسنانه إنما هو طبيب عالم، خبير، إنه يؤلمه، ومع هذا يعطيه الأجر، ويشكره على عمله، كما تصبر عند طبيب الأسنان فيجب أن تصبر على الواحد الديّان، لأنه يعالجك بعلم وخبرة ورحمة.
المخاوف كثيرة فلذلك لزم الصبر :
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
لتشعر أن الدنيا كلها لا تعدل هذه الحالة.
يكفي أن تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69) ﴾
يكفي أن تقرأ قوله تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
يكفي أن تقرأ قوله تعالى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
نعمة الصبر لا يعرفها إلا من ذاقها :
نعمة الصبر والتوكل الحقيقي لا يعرفها إلا من ذاقها.
دائماً أقول لكم: قل مئة مليون، قل: مئة ألف مليون، بين أن تقولها بلسانك، وبين أن تملكها بيدك، ما أبعد الحالتين! كل واحد منا بإمكانه أن يقول: مئة ألف مليون، ولكن امتلاك هذا المبلغ شيء، وأن تلفظ هذا الرقم شيء آخر، فأن تقول: توكلت عليك يا رب، وأنت غير متوكل، وأنت تخاف من زيد أو عبيد، ترجو فلاناً أو علاناً، هذا كلام تقوله، ولكنك إذا كنت متوكلاً يقع الشيء الذي لا يُصدَّق.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) ﴾
بالمنطق؛ فرعون من ورائهم، بجيشه، ورجاله، وعتاده، والبحر من أمامهم، وهم قِلّة مُستضعفة تَهيم على وجهها.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ(62)﴾
سيدنا إبراهيم ألقوه في النار، قال تعالى:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) ﴾
سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- دخل إلى غار ثور، عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْهم قَالَ:
(( قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ))
ثم وقعت عين أحد المطاردين على عينِ أبي بكر، العينُ على العين، هو صدِّيق، لكنه دون مرتبة النبوة، فقال: يا رسول الله، لقد رأونا، قال له: يا أبا بكر، ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) ﴾
كن مع الله تر الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
ثم ضع نفسك بالذل له قبل أن النفس قهراً تضعك
وإذا أعطاك من يمنعه ثم من يعطي إذا ما منعك ؟
كنت لا شيء فأصبحت به خير شيءٍ، فلا يعرف لذة التوكل إلا من ذاق طعم التوكل.
وإذا العناية لاحظتك عيونُها لا تخشَ من بأسٍ فأنت تصانُ
وبكلّ أرضٍ قد نزلت قفارها نم فالمخاوف كلّهنَّ أمانُ
الحياة العصرية مَلْأى بالمُقلقات، في كل المجتمعات تقريباً، كشخصٍ راكب مركبته، هناك أخطار كثيرة، أن ينام السائق فيدخل فيه سائق آخر، أخطار لا تعد ولا تحصى، إذا ركب مركبته، إذا دخل إلى دكانه أخطار لا تعد ولا تحصى، فمصادر القلق لا تعد ولا تحصى، فإذا كان الأجداد بحاجة إلى التوكل قيراطًا، فنحن بحاجة إلى التوكل آلاف المرات.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43) ﴾
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
سبب نزول الآية :
جاء في أسباب نزول هذه الآية أن بعض المشركين قالوا: إن الله أجلّ وأعلى من أن يبعث رسولاً بشراً، خالق السماوات والأرض يبعث رسولاً من البشر! فقال تعالى:
الرسول بشر :
أيْ أنت رسول من البشر، والذين أُرسِلوا من قَبْلك رسل من بني البشر، لأنه لولا أن يكون الرسول من بني البشر لم تقم الحُجّة على العباد، أول كلمة تقولها: هذا ملَك، وأنا بشر، أول كلمة يقولها مَن تدعوه إلى الله، إذا دعا المَلَك البشر إلى الله قالوا: أنت مَلَك، لا تشتهي، نحن بشر نشتهي، لذلك يجب أن يكون الرسول من بني البشر، لأنه يشتهي ما يشتهون، ويُرضيه ما يرضي الناس، ويُغضِبه ما يغضبهم، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون، بشر، يجوع، يعطش، يتعب، يضنى.
لا تكون المرأة نبيا ولا رسولا :
واستنبط العلماء من هذه الآية أنه لا يمكن أن تكون المرأة نبيَّةً.
﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ﴾
بلغت المرأة مرتبة الصديقيّة، قال تعالى:
﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
هذا عن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فالمرأة بلغت أعلى مستوى لها، بلغت مرتبة الصِّدِّيقة، أما النبوة فهي في الرجال فقط، طبعاً لا لأن الرجال من نوع آخر، ولكن طبيعة المرأة لا تناسبها لتكون نبيّة، أحياناً يتلقّى الإنسان درساً من مدرِّسة، قد ينصرف ذهنه لا إلى كلامها، إلى شيء آخر، هذا مَفْسدة.
لذلك:
وجوب سؤال أهل الذكر عند عدم العلم :
هذه الآية أمر إلهي، والأمر الإلهي يقتضي الوجوب، بمعنى أن كل إنسان مُكلّفٌ أن يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم، لأن أهل الذكر هم أهل العلم.
العصمة للأنبياء :
بالمناسبة أجمع العلماء على أن العصمة للأنبياء فقط، وأمّا أهل الذكر فليسوا معصومين، ومِن الممكن لإنسان أن يكون من أهل الذكر، وقد يغلط، فالعِصمة للأنبياء، ومع ذلك فأنت أُمرت أن تسأل أهل الذكر، هناك غلط في الجزئيات أحياناً، قد يحصل سهو، يحصل نسيان، يحصل خطأ، أما الأنبياء معصومون عِصمةً تامة، لكن أهل الذكر ليسوا معصومين، ولا يمنع عدم عصمتهم من أن نسألهم، ونقتدي بهم، وأن نتعلم منهم، أما أن يدّعي إنسان بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يخطئ فهذا ادّعاء مرفوض، لأن أهل الذكر ليسوا معصومين، والله -سبحانه وتعالى- أمرنا أن نسألهم:
السؤال استعارة لعقل المسؤول :
إن كنت لا تعلم فغيرك يعلم، لذلك أنا أعجب ممن لا يسأل، وإذا سألت إنساناً فقد استعرت كل عقله، وذكائه، وخبرته في الحياة، وعلمه، وفضله، بهذا السؤال بلا مقابل، اسأل يا أخي، كم من إنسان وقع في ورطة كبيرة، سلك طريقاً شائكاً، وقع في انحراف مُهلِك، ضاع منه ماله كله، لأنه لم يسأل، اسأل كيف أقرضه هذا المبلغ؟ كيف أكتب هذا العقد؟ كيف أحدد هذه الشركة؟ كيف أحلّ هذه الشركة؟ كيف أعامل شريكي؟ اسأل يا أخي، في علاقاتك المالية، في عملك، في حرفتك، في بيتك، مع أولادك، مع زوجتك، مع جيرانك، مع من هم أعلى منك، مع من هم أدنى منك، أحياناً الإنسان يترك شيئاً هو حلال يتوهم أنه حرام فيتركه، يبقى بلا دخل، يصبر شهرًا، ثم ينتكس، اسأل أهل الذكر قبل ترك هذا العمل، اسأل أهل الذكر، هل يجوز أن أتركه بلا عمل آخر، هل أتركه فوراً أم على التراخي؟ اسأل أهل الذكر، فسؤال أهل الذكر يعني أنك استعرت منهم علمهم، وخبرتهم ، والنور الذي أودعه الله فيهم، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ))
الاستشارة لأهل الخبرة من المؤمنين، والاستخارة لله -عز وجل-، ففي كل أمر مُباح استخر الله أولاً، واستشر من تثق بدينه ثانياً.
إذاً:
فالإنسان أولاً لا يرفع الناس إلى حجم فوق حجمهم، هذا هو الشرك، كل إنسان له حجم
نصف العلم ( لا أدري ) والغلط وارد :
قال بعضهم: نصف العلم لا أدري، إذا قلت: لا أدري فأنت نصف عالم، عُرِض عليك سؤال قل: لا أدري، سأراجعه، هل من المفروض أن تعلم كل شيء؟ مَن ادّعى أنه يعلم كل شيء فلا يعلم شيئاً، فهناك أناس متبحّرون في المواريث، وهناك أناس متبحّرون في الفقه، وهناك أناس متبحّرون في التوحيد، هناك أناس متبحّرون في التفسير، هناك أناس متبحّرون في علم الحديث، هناك أناس متبحّرون في العلم بالله، وهذا أعلى مستوى، طبعاً العالم ملِمٌّ بكل فروع العلم إلماماً إلى حد ما، أمّا أن يُحاسَب على كل كلمة فهو ليس معصوماً، فإذا الإنسان وضع الناس في حجمهم الحقيقي سهُلَ التعامل معهم، أما إذا رفعهم إلى حجمٍ يفوق حجمهم عندئذ يقع في أزمات حادة في أثناء التعامل معهم، قال صلى الله عليه وسلم:
(( إنما أنا بشرٌ، أَنسى كما تنسَون، فإذا نسيتُ فذَكِّروني. ))
يمكن أن تصلي الظهر ثلاث ركعات سهواً، لماذا شُرِع سجود السهو؟ لأن البشر قد يسهون:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا أَمْلِكُ ))
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ. ))
هذا شأن البشر، ينسى، يغلط، يتسرّع أحياناً، لكن لا يمنع هذا من أن تأخذ من علمه، وأن تستفيد منه، لأن الإنسان خُلق ضعيفاً، طبيعة الإنسان ضعيف، أحياناً يُنسيه الله حتى يحجّمه، قد يزهو بعلمه فيُنسيه الله -عز وجل- حديثاً هو في أمسّ الحاجة إليه، لأنه دخل ليُلقي على الناس درساً، ولم يفتقر إلى الله افتقاراً كافياً، لم يقل قبل أن يدخل: اللهم إن أعوذ بك من حولي وقوتي، وألتجئ إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، على قدر افتقارك يكون المدد، فكلما افتقرت إلى الله أكثر كلما كان التجلي والمدد أكثر.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44) ﴾
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
الأنبياء جاؤوا بالبينات والمعجزات :
جاؤوا أقوامهم بالبينات، البينات هنا المعجزات الظاهرات، يعني أن تنقلب العصا إلى أفعى، هذا شيء يفوق طاقة البشر، هذا الكتاب من البيّنات، طبعاً فرَّق العلماء بين البيّنات وبين الزُّبر، الزبر الكتب السماوية، بينما البيّنات المعجزات الظاهرة، فالنبي غالباً أو الرسول مُزوَّد بمعجزة يؤكّد بها أنه مُرسَلٌ من عند الله، ومُزوّد بكتاب يوضح للناس طريق الخير من الشر
الذكر هو القرآن ، وفيه بيانُ كلِّ شيء :
هذا الذكر هو القرآن، فيه ذكر كل شيء، فيه ذكر الأقوام السابقة، فيه ذكر ما سيكون في قيام الساعة، فيه ذكرُ الحلال والحرام، فيه ذكر الحق والباطل، فيه ذكر الخير والشر، فيه مشاهد من يوم القيامة، فيه كل ما نحتاج، هو كتاب هداية ورشاد، كل شيء يحتاجه الإنسان في الدنيا ليهتدي إلى الله -عز وجل- يجده في هذا الكتاب، لذلك:
أحاديث النبي الصحيحة تبيان لما في القرآن :
شيء آخر، استنبط العلماء من هذه الآية أن النبي -عليه الصلاة والسلام- في كل ما قاله مِن أحاديث شريفة تنطوي تحت هذه الآية، النبي -عليه الصلاة والسلام- يبين للناس ما نُزِّل إلينا.
(( إياكم وخضراء الدمن قالوا من يا رسول الله قال المرأة الصالحة في المنبت السوء ))
الله عز وجل قال:
﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ. ))
فمن تزوج المرأة لجمالها أذلّه الله، ومن تزوجها لحسَبها زاده الله دناءة، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، فعليك بذات الدين تربت يداك، فكل أحاديث رسول الله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشكل أو بآخر هي تبيان واسع جداً، وتفصيليٌّ جداً لِما في القرآن الكريم:
﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ(45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(47) ﴾
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الْأَرْضَ
احذرْ نقمةَ الله يا مَن يمكر السيئات :
هذه الآية تقصم الظهر، ربنا -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ﴾ والعياذ بالله هذا الذي يمكر السيئات، هذا الذي يبني مجده على أنقاض الناس، هذا الذي يؤذي الناس، هذا الذي يتلذذ بمصائب الناس، هذا الذي يبثّ الخوف في قلوب الناس، بلا شيء، هذا الذي يمكر السيئات، كيف يأمن مكر الله -عز وجل-؟
للعذاب مصادر خفية على الإنسان :
للعذاب مصادر خفيّة على الإنسان، قد يذهب إلى نزهة، فيُفاجَأ بحادث قضى عليه، أو جعله مشلولاً، أو جعله مصاباً إصابة بالغة، أو جعله ذا عاهة دائمة، فهذا الذي يمكر بالناس السوء، لو يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- سيحاسبه حساباً عسيراً ماذا كان يفعل؟ مَن يعتدي على حيوان أحياناً يدفع الثمن غالياً.
سمعت عن رجل دهس كلباً تسلية لعباً، بعد أسبوع قُطِعت يداه بحادث، بعد أسبوع واحد
لذلك ربنا -عز وجل- قال: هذا الذي يمكر السيئات ألا يخاف أن يخسف الله به الأرض؟
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
المعنى الأول : مجيء العذاب والناس في مشاغلهم منهمكون :
هم في حياتهم اليومية، في محلاتهم التجارية يبيعون ويشترون، في سهراتهم، في ندواتهم، في نزهاتهم، في احتفالاتهم، في مرحهم، في فرحهم، في أوقات راحتهم، في أوقات جِدِّهم، في أوقات عملهم،
المعنى الثاني : مجيء العذاب والناس يتقلبون في النعم :
المعنى الثاني: وهم يتقلبون في النِّعَم، قد يأخذهم الله -عز وجل- أخذ عزيز مقتدر
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ
العلماء في هذه الآية لهم تفسيرات:
المعنى الأول : الخوف من المحذور :
الأول: إن الإنسان أحياناً يُصاب بالخوف، يخاف من جهة ما، يخاف، هذا الخوف يتصاعد، ويتصاعد إلى أن يقع المحذور، هذا شيء يقع، يقول لك: أخاف أن يسألوني، وأخيراً سألوه، ووقع المحذور
المعنى الثاني : النقص في الموادّ :
المعنى الثاني: التخوف النقص، نقص في المواد، نقص في الخيرات، نقص في المحاصيل، نقص في المواد الأولية، شبح مجاعة، ثم يُؤخَذون، فالتخوف إمّا أنْ يأخذهم بمصيبة يتوقعونها، أو أن يأخذهم أخذاً بطيئاً، بطيئاً، إلى أن يتلاشى الإنسان.
على كلٍّ هذا الذي يمكر السيئات لا بد من أن يخسف الله به الأرض، أو أن يأتيه العذاب من حيث لا يشعر، أو أن يأخذه وهو في قمة نشاطه، أو عمله، أو أن يأخذه على تخوّف
علاقة خاتمة الآية بصدرها :
ما علاقة آخر هذه الآية بصدرها؟ العلاقة أن الله -عز وجل- قادر دائماً وأبداً أن يأخذ هذا الإنسان بشرّ عمله، لماذا يؤخره؟ رأفة به ورحمة، يعطيه فرصة كي يتوب، قد يفعل الإنسان عملاً يستحق الهلاك، والله -سبحانه وتعالى- لا يهلكه، لماذا لا يهلكه؟ رأفةً به ورحمة، لعلّه يعود، لعله يرجع، لعله يصحو، لعله يذكر، لعله يندم، لعله يفكّر.
والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم اجزِ عنا سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله، واجزِ عنا صحابته الكرام ما هم أهله، واجزِ عنا مشايخنا ومن علمنا ومن له فضل علينا، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.