وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الممتحنة - تفسير الآية 10-11 الدين منهج كامل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

من لوازم معرفة الله أن تبحث عن أمره ونهيه وتخطب وده:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من سورة الممتحنة، ومع الآية العاشرة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)﴾

[ سورة الممتحنة ]

الله جلَّ جلاله كما ذكرت لكم من قبل يخاطب عامة الناس بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين بفروع الدين، أي يا من آمنتم بي، يا من أيقنتم بوجودي، أيقنتم بكمالي، أيقنتم بوحدانيتي، يا من عرفتم منهجي، افعلوا كذا وكذا، بعد أن تعرف الله ليس للمؤمن شغلٌ إلا أن يعرف أمره، عرفته عليك أن تتقرَّب إليه، الشيء العظيم يُقْصَد، يُبتغى، يُخطب وده، فمن لوازم أن تعرف الله أن تخطب وده، من لوازم أن تعرف الله أن تبحث عن أمره ونهيه، من لوازم أن تعرف الله أن تتقرب إليه، فالحركة الطبيعية أنك تعرف الله أولاً ثم تتقرب إليه ثانياً، ما الشيء السريع الفَعَّال في التقرب إليه؟ أن تطيعه.

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]

 

طاعة الله أكبر شيء يقرب الإنسان من ربه:


إذاً أكبر شيءٍ يقربك إليه طاعته، من هنا قال الله عزَّ وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات ]

أقربكم إلى الله أكرمكم عليه، أسعدكم به، أشدكم طاعةً له، لذلك أيها الأخوة؛ لما سيدنا عمر قال لسيدنا سعد بن أبي وقاص: "يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له" .
وطاعة الله بين يديك مبذولة، من عظمة الله، ومن كرمه، ومن سعة فضله، أن كل إنسانٍ بإمكانه أن يتقرب إليه، لكن العظماء من بني البشر ما كل إنسانٍ بإمكانه أن يدخل عليهم، وهناك أشخاص لا يمكن أن يصلوا إليه، عظماء البشر، أما ربنا جلَّ جلاله فكل إنسانٍ بإمكانه أن يتقرَّب إليه، وأن يدخل عليه، لأن العلاقة مع عباده الله جداً، يا عبادي بطاعتي تتقربون مني، فقط بالطاعة وحدها، والأمر معروف، لا توجد أوامر غير معروفة لم يعط سرها لأحد، لا.

(( عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ.  ))

[  صحيح البخاري ]

 

المؤمن الصادق الذي عرف الله يَجِلُ قلبه ويقشعرُّ:


لذلك المؤمن الصادق الذي عرف الله، والذي عرف عظمته، والذي أيقن بكل خليةٍ في جسمه، وكل قطرةٍ في دمه بوجوده، وكماله، ووحدانيته إذا قرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يَجِلُ قلبه، ويقشعرُّ جلده، ويقول: سمعاً وطاعةً يا رب، بل إن المؤمن في الصلاة حينما يقول:

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾

[ سورة الفاتحة ]

يقرأ آياتٍ من كتاب الله، وكأن هذه الآيات هي الصراط المستقيم، هي الأمر الإلهي افعل ولا تفعل، معنى ذلك أن من لوازم معرفة الله أن تُسارع إلى طاعته، أن تبحث عن أمره ونهيه، أن تبحث عن شيءٍ يقرِّبُكَ إليه، طاعته أكبر شيءٍ يقربك إليه، الأعمال الصالحة ثاني أكبر شيءٍ يقربك إليه، دوام الوجهة إليه ثالث أكبر شيءٍ يقربك إليه، الإخلاص له، العمل على خدمة عباده، هذه كلها تقربك إلى الله عزَّ وجل، لذلك المؤمن ليستعد إذا قرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ربنا عزَّ وجل يقول: يا من آمنتم بي ألم تؤمنوا بي؟ يا من آمنتم بي هذا أمري، أي تقربوا إلي بطاعتي، هذا أمري. 
 

من شعر أنه في ظلّ الله فقد سعد في الدنيا والآخرة:


لذلك أخواننا الكرام إذا قرأت القرآن ينبغي أن تقف مَلِيَّاً عند قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾

[ سورة التحريم ]

قولوا للناس حُسْنَاً، غضوا أبصاركم، كونوا صادقين، لا شيء يسعد القلب كأن يشعر الإنسان أنه في ظلّ الله، وأنه في رضاه، وأن الله وليه يدافع عنه، ويوفقه، وينصره، ويقربه.
 

الأعمال بالنيات:


الحقيقة أيها الأخوة؛ أن صلح الحديبية قد تحدثنا عنه في العام الماضي بشكلٍ مفصل حينما وردت أحداث هذا الصلح في سورة محمدٍ وسورة الفتح، وقد ذكرت لكم تفاصيل هذا الصلح، فمن بنود هذا الصلح أنه إذا جاء أحدٌ من المشركين إلى النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يرَّده النبي، أما إذا ذهب أحدٌ من المسلمين إلى المشركين فليس على قريش أن ترده إلى النبي، الصحابة الكرام رأوا في هذا الاتفاق ضعفاً في جانب المسلمين، لكن النبي أخبرهم أنه ينفِّذ أمر الله، إلا أن هذا الأمر لا ينطبق على النساء، إذا جاء إنسانٌ أسلم من عند المشركين على النبي أن يرده، والحقيقة كان هناك حكمة بالغة من أن النبي ردَّ كل من جاءه مسلماً من قِبَلِ المشركين، هؤلاء قطعوا الطريق على قريش، وأقلقوها قلقاً شديداً، لذلك جاء وفدٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام يرجو رسول الله أن يقبلهم، والقصة طويلة ومعروفة عندكم، إلا أن هذا البند من اتفاقية محمد صلى الله عليه وسلم مع قريش لا ينطبق على المرأة، لأن المرأة تحت زوجها، هو يقودها، فإن لم يكن مسلماً قادها إلى النار، لذلك قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)﴾

[ سورة الممتحنة ]

 قد تأتي امرأةٌ زوجها مشرك أو كافر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كان عليه الصلاة والسلام يستحلفُها: لعلها غاضبت زوجها فأرادت الهروب منه، لعلها أرادت المدينة، أرادت أرضاً بأرض، لعلها، لعلها، فإذا أقسمن بالله أنهُن ما جئن إلى المدينة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله كان عليه الصلاة والسلام يقبل منهن ذلك، إلا أن هذه الآية تعلمنا الشيء الكثير، المسلم بحسب محبته للحق، بحسب غيرته على الدين، بحسب حرصه على هداية الناس جميعاً، لو جاء رجل غير مسلم وقال له: أنا أسلمت، هذا المسلم طبيعي جداً أن يفرح فرحاً شديداً، وأن يعطيه روحه، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يكون ساذجاً، هذا الذي أسلم لعله أسلم من أجل امرأةٍ يتزوَّجها، لذلك كان هناك رجل اسمه مهاجر أم قيس-سماه المسلمون مهاجر أم قيس لأنه أحبّ امرأةً اسمها أم قيس-هذه المرأة التي أحبها اشترطت عليه ليتزوجها أن يهاجر إلى المدينة، فهاجر لا مرضاةً لله ورسوله، ولكن هاجر من أجل أن يتزوَّجها، فكان اسمه عند المسلمين: مُهاجر أم قيس، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:

(( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. ))

[ البخاري عن عمر بن الخطاب ]

 

العمل الكثير والقليل ينفع مع الإخلاص:


أحياناً ينضم إنسان إلى مسجد يقول لك: أنا لي مصلحة في هذا الانضمام، أنا يثق الأخوة بي، يشترون من عندي، تزداد مبيعاتي، أربح، هذا الذي انضم إلى المسجد لم ينضم لله ورسوله، انضم إليه لدنيا يصيبها، أو لامرأةٍ ينكحها، أو لمصلحةٍ يحققها، فالإخلاص الإخلاص أيها الأخوة المؤمنون، الإخلاص الإخلاص لأن العمل الكثير والقليل ينفع مع الإخلاص، ولأن العمل الكثير والقليل لا ينفع من دون إخلاص، فكلمة: ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ يقول لك: أنا أسلمت، اسأله: لماذا أسلمت؟ لا يوجد جواب، هذا الذي ينتقل من دين إلى دين لابد أن في الدين الجديد أشياء كبيرة جداً، مقنعة جداً، ثمينة جداً، أين هذه الأدلة؟ أين هذه البراهين؟ أين هذه الحجج؟ لذلك المؤمن كيس فطنٌ حذر، المؤمن ليس بالخب ولا الخب يخدعه، يقول الإمام الشافعي: ما خدعني أحدٌ مرتين، أبداً، مؤمن ساذج، بسيط، محدود، يضحكون عليه، هذا لا يليق بالمؤمن، فالمؤمن أحياناً يقول لك: أسلمت، لماذا أسلمت؟ المسلمون ضعاف، وهناك مظاهر التخلُّف متفشية في بلادهم، لماذا أسلمت؟ لابد من أن تقنعني.
 

المؤمن كيس فطن حذر:


كأن هذه الآية ننطلق منها إلى حقيقةٍ عامة: لا تقبل من إنسان أن ينضم إليك بسذاجة، بلا دليل، بلا مبرر، بلا مسوِّغ، إنسان من فرنسا أعلن إسلامه، وضَجَّت له الدنيا، واستضافه المسلمون في شتى بقاعهم، وأقاموا له الاحتفالات، ورحَّبوا به، ودعوه لإلقاء محاضرات في الجامعات، وأشادوا به، وكتبوا المقالات تلو المقالات، ثم يفاجئنا قبل حين بمقابلةٍ في مجلةٍ يقول: أنا لا أصلي، صلاتي تأمل في خلق الله، أنا لا أصوم صيامي تركٌ للمنكر، أنا أحتقر الفقهاء جميعاً كلهم أغبياء، أنا وأنا، مقالة، فهذا الذي ضحك على أكثر الناس الله جلَّ جلاله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ﴾ وقد روي أنه كان يشرب الخمر وما تركها، بل قال: إنني لست مسلماً، وهذه الدعوات التي تلقَّاها، وهذه المحاضرات التي ألقاها، وتلك الكتب التي ألَّفها، وهذه الضجة التي أحدثها، هكذا ببساطة؟! المؤمن كيسٌ فطنٌ حذر: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ أشخاص كثيرون جاؤوا من فرنسا نحن أسلمنا،  سألناه لم نجد جواباً، ثم تبين أنه ليس مسلماً، جاء لمصلحة، المؤمن كيس فطن حذر.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)﴾

[ سورة النساء ]

 

سوء الظن عصمة:


الحزم سوء الظن، احترس من الناس بسوء الظن، سوء الظن عصمة، كان عليه الصلاة والسلام يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي بِشْرَه عن أحد، أنا أقول لك: كن لطيفاً، كن دمثاً، كن باشَّ الوجه، ولكن لا تكن ساذجاً، قد يأتي بمهمةٍ لا نعرفها نحن، قد يُرسَل بمهمة ليست في صالح المسلمين والعرب، لا تكن ساذجاً، قد يأتي مستطلعاً، قد يأتي ليكشف بعض الحقائق الخفيَّة، فلذلك أنا خرجت من هذه الآية المتعلقة بحدثٍ في حياة النبي إلى قاعدة عامة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ طبعاً يقول الله عزَّ وجل: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ أي الله وحده ولا أحد سواه هو الذي يعلم الحقيقة، أنا أقول لكم هذه الحقيقة: إن تقييم الأشخاص من شأن الله تعالى، نحن لنا دلائل، نراه يصلي، نراه يغضُّ بصره، نراه لا يكذب، الصدق دليل، والصلاة دليل، وغض البصر دليل، هذه علامات، لكن الحقيقة الكاملة لا يعرفها إلا الله.
سيدنا الصديق لما ولّى سيدنا عمر بعض الصحابة وَجِلوا، سيدنا عمر شديد، قالوا له: وليت علينا عمراً؟! فقال سيدنا الصديق: "أتخوفونني بالله، والله أقول له: يا رب لقد ولَّيت عليهم أرحمهم، قال: هذا علمي به فإن بدل وغيَّر فلا علم لي بالغيب" انظر إلى التحفظ، هذا علمي به فإن بدّل وغيّر فلا علم لي بالغيب.
 

الحقيقة الكاملة لا يعرفها إلا الله عز وجل فعلى الإنسان ألا ينخدع:


أنا أردت من هذه الآية أن الإنسان لا ينخدع، هناك حوادث كثيرة، إنسان جاء من بلد إلى بلد لا ليؤمن ولا ليسلم ولكن ليستطلع، ليكن عين قومٍ آخرين علينا، كن يقظاً، كل إنسان يجب أن يكون يقظاً على مصالح أمته، على مصالح وطنه، على مصالح المسلمين، أما هذه السذاجة والبساطة فلمجرَّد أن قال: أنا مسلم. نصدقه! نرحب به أشدّ الترحيب!! نكشف له كل أوراقنا!! نطلعه على كل صغيرةٍ وكبيرة؟ لا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ أنت لك الظاهر.
 

الفيصل والضابط بين أن يكون سوء الظن عصمة وبين أن يكون إثماً:


بالمناسبة متى يكون سوء الظن إثماً؟ قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)﴾

[ سورة الحجرات ]

ومتى يكون سوء الظن عصمة؟ النبي يقول: سوء الظن عصمة، وربنا عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ الفيصل بين المعنيين أنه إذا كان هناك دلائل تثير الشك عندئذٍ يكون سوء الظن عصمة، دلائل تثير الشك، أما إذا كان هناك دلائل تثبت حسن النيَّة، فسوء الظن إثم، هناك دلائل تثبت حسن النية، لا يوجد أي شيء يثير الشك، سوء الظن إثم: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ أما هناك دلائل تثبت أن هذا الإسلام ليس صحيحاً، ما تكلم بشيءٍ يدعو أن يترك دينه لدينٍ آخر، إذا لم يكن هناك دلائل قوية يُعَدُّ سوء الظن عصمة، هذا هو الفيصل والضابط بين أن يكون سوء الظن عصمة، وبين أن يكون سوء الظن إثماً، قال تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ وقد قيل: سوء الظن عصمة، والحزم سوء الظن، واحترس من الناس بسوء الظن، وقال تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ هناك دلائل مريبة؛ سوء الظن عصمة، لا يوجد ولا دليل مريب سوء الظن إثم من الآثام.
 

المؤمن طفلٌ كبير يجمع بين طهر الأطفال وعقل الكبار:


﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ أحياناً يأتي إلى المسجد لأول مرة وله طلبٌ كبير، تسأله: منذ متى أنت في المسجد؟ يقول لك: هذا أول درس، معنى ذلك أنه جاء لمصلحة، جاء لمساعدة، جاء لمكسب، هو في واد وأنت في واد، الدين كله في واد، وهو في وادٍ آخر، لكنه جاء لمصلحة، فالمؤمن عليه أن يكون يقظاً حذراً، لا يُعدّ المؤمن ساذجاً ولا بسيطاً من النوع الذي يمكن أن تنطلي عليه حركات أهل الدنيا.
سيدنا عمر له هذه الكلمة الرائعة يقول: "لست بالخب ولا الخب يخدعني" ، أي لست من الخبث بحيث أخدع، ولا من السذاجة بحيث أُخدع، هذا هو الموقف، ثم إن الإنسان لا يُحترم في المجتمع إذا كان ساذجاً، بسيطاً، سهل المأخذ، سهل المَنال، يمكن أن تنطلي عليه الحقائق، يمكن أن يُضلل، يمكن أن يقع في الإيهام، إذا وقع في الإيهام، وضُلّل، وانطلت عليه الحقائق، وكان ساذجاً، وانطلت عليه بعض الأكاذيب لا يُعدّ هذا الإنسان مَحَطَّ إعجابٍ وتكريمٍ من الناس، الناس يعجبون بالذكي، يعجبون من دون خبث، هناك ذكاء مع خبث، هناك ذكاء شيطاني، هناك ذكاء مع مخادعة، هناك ذكاء مع أحابيل، نريد عقلاً مع الطيب، مع اليسر، مع الطهر، مع البساطة، هذا هو المؤمن، لذلك قالوا: المؤمن طفلٌ كبير، يجمع بين طهر الأطفال، وذاتية الأطفال، وبراءة الأطفال، وفطرة الأطفال وبين عقل الكبار، وإدراك الكبار، ويقظة الكبار، وحرص الكبار، أما الحقيقة الساطعة: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ وحده. 
 

الحقيقة الكاملة لا يعرفها إلا الله:


الحقيقة الكاملة لا يعرفها إلا الله، مثلاً: هذا شيء من السيرة مهم جداً، الوحي كما تعلمون جاء النبي عليه الصلاة والسلام مئات المرات، بل بضع مئات المرات لموضوعات صغيرةٍ جداً، لما أرسل حاطب بن بلتعة كتاباً إلى قريش كيف علم النبي بذلك؟ الوحي، لما ذهب إلى خيبر ليفاوضهم وأزمعوا أن يقتلوه بصخرةٍ من أعلمه؟ الوحي، لما جاء عمير بن وهب قال لصفوان: لولا ديون لا أطيق سدادها، وأطفالٌ أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه، قال: امض لما شئت، أولادك هم أولادي، وديونك عليّ بلغت ما بلغت، من الذي أعلم النبي بمقولة عمير؟ الوحي، بالسيرة هناك مئات الأمثلة عن أن الوحي نزل إلى النبي الكريم ليُعْلِمَهُ عن قضيةٍ من قضايا الدعوة، إلا أن الوحي مرةً لم ينزل، جاء قومٌ من بئر معونة طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام سبعين قارئاً ليعلموا قومهم القرآن، والنبي صدَّقهم وأرسل معهم سبعين قارئاً وفي الطريق ذبحوهم، لماذا لم يُعلِم الله عزِّ وجل نبيه الكريم بهذا؟ ليكون هذا درساً لألف عامٍ قادمة أن النبي عليه الصلاة والسلام بشر لا يعلم بذاته إلا أن يُعلمه الله تعالى، ليكون هناك فرق بين مقام الألوهية ومقام النبوة، النبي بشر إن أعلمه الله علم، وإن لم يعلمه لا يعلم قال:

(( عن أنس بن مالك: يا أُمَّ سُلَيْمٍ! أَمَا تَعْلَمِينَ إني اشتَرَطْتُ على ربي فقلتُ: إنما أنا بَشَرٌ أَرْضَى كما يَرْضَى البَشَرُ ، وأَغْضَبُ كما يَغْضَبُ البَشَرُ، فأَيُّما أحدٍ دَعَوْتُ عليه من أُمَّتِي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ أن تَجْعَلَها له طَهورًا، وزكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بها منكَ يومَ القيامةِ. ))

[ صحيح الجامع : حكم المحدث: صحيح ]

حديثٌ آخر، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عَنِ أُمِّ سَلَمَةَ   زَوْجَ النَّبِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ: إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري ]

معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع معرفة الحقيقة الكاملة، قد يكون أحد الخصمين ألحن بالحجة فيقضي له والحق مع غيره، قال: إذا فعلت هذا فإنما أقضي له بقطعة من النار، أراد النبي أن توَحِّد، أن تكون مخلصاً لله وحده، إذاً على وجه اليقين، الحقيقة الكاملة عند الله وحده.
 

نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر:


لذلك إذا كُلِف إنسان أن يزكي إنساناً ليقل: أعلمه تقياً، أعلمه ورعاً، أعلمه مؤدياً للصلوات، أعلمه دقيقاً في معاملته، نقياً في ذمَّته، والله أعلم، هذا علمي به والله أعلم، دائماً إذا أردت أن تقيِّم الأشخاص تحفَظ، تحفظ بعبارة، قل: والله أعلم، فعلها الصديق مع عمر بن الخطاب، قال: يا رب أتخوفونني بالله؟ أقول: يا رب لقد وليت عليهم أرحمهم، هذا علمي به فإذا بَدَّلَ وغَيَّر فلا علم لي بالغيب، لذلك قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾ أنتم امتحنوهن بالدلائل الظاهرة، من هنا ورد: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، رأيته يصلي معنى هذا أنه مسلم، رأيته يعلن الشهادتين معنى هذا أنه مسلم، حجّ بيت الله الحرام معنى هذا أنه مسلم، يؤدي زكاة ماله معنى هذا أنه مسلم، زوجته محجبة معنى هذا أنه مسلم، ليس في بيته منكر معنى هذا أنه مسلم- هذا كله تمثيل-هذا ليس عملك، لو قال لك أحدهم: هذا كله تمثيل، نقول له: ورد: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، إذا لم يكن هناك أدلة صار سوء ظن، وسوء الظن إثم، أما إذا كان هناك أدلة يصلي ودخله مشبوه، معنى هذا أن صلاته لغايةٍ في نفس يعقوب، قال: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ لأن الرجل غير المرأة، الرجل آمر، مسيطر، الأمر بيده، له القِوامة، فلو أن امرأته لم تكن كافرةً على شاكلته كانت مسلمة، ربما ضغط عليها، ربما أجبرها على معصية الله، لذلك لا يصح أن تكون مؤمنةٌ تحت كافر أبداً.
 

افتراق الدين يفرِّق بين الزوجين:


لذلك: ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ افتراق الدين يفرِّق بين الزوجين، ولا سيما إذا كانت امرأة لأنها مقودة وليست قائدة، زوجها قيّمٌ عليها، زوجها هو الذي يأمرها.
﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ انظر إلى عدالة الإسلام، هذا الكافر الذي تزوَّج كافرةً ودفع لها مهراً، فإذا بهذه المرأة تسلم، ثم تنتقل إلى بلاد المسلمين، إلى دار الإسلام مهاجرةً وامتُحنت فنجحت وانضمت إلى المسلمين، هذا الكافر كافر لكنه أنفق على زوجته ثم فقد زوجته صار هناك ظلم.
 

الدين لا يقوم على الظلم أبداً:


إخواننا الكرام؛ بالمناسبة لا يمكن لدينٍ أن يقوم على ظلم أبداً، سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسل عبد الله بن رواحة، أرسله ليأخذ من ثمار خيبر بحسب اتفاقٍ جرى بين النبي وبين أهل خيبر، أرادوا أن يرشوه، فتلطفوا معه-لو قدر المحصول بأقل من ثلاثين بالمئة أعطوه النصف فوفروا-فقال هذا الصحابي الجليل الشاعر عبد الله بن رواحة: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليّ، وأنا أكرهكم كما أكره القردة والخنازير، ومع ذلك لا أحكم إلا بالحق، ولن أظلمكم.
قال رجل لسيدنا عمر: أتحبني؟ قال: لا والله لا أحبك، قال له: هل يمنعك بغضك لي من أن تعطيني حقي؟ قال: لا والله حقك إليك، لا تخف ، هذا الإيمان.
 إنسان هاجر إلى المدينة، في الطريق نُصِب له كمين من المشركين عاهدهم ألا يقاتلهم فأطلقوه، فلما قدم إلى النبي قصّ عليه ما جرى، فرح له النبي، وبعد سنواتٍ أزمع النبي أن يغزو المشركين، نسي هذا الصحابي وخرج مع النبي، قال: ارجع أنت ألم تعاهدهم؟ هذا دين، أي يجب أن تعامل الكافر بالعدل، والدليل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[ سورة المائدة]

أي يحملنكم: ﴿شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ الشنآن هو البغض. 
 

الإسلام دين العدل والإنصاف:


من هم أعداء المؤمنين التقليديّون؟ الكفار، المشركون، المنافقون، ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ إياكم أن تظلموا الكفار، ﴿اعْدِلُوا﴾ أمر إلهي، مع هؤلاء، قال: ﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ إن عدلتم مع هؤلاء يزدادون قرباً مني، ويزدادون قرباً منكم، ويزدادون قرباً من الحق، إذا المسلم كان منصفاً مع الكافر، أعطاه حقه بالتمام والكمال، من أدراك لعل إعطاءه حقه بالتمام والكمال يكون سبب إيمانه، من أدراك؟ من أدراك أن هذا الكافر حينما يرى مسلماً وقَّافاً عند الحق، فصل العداوة والبغضاء عن الحقوق، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن عبد الله بن عباس: واتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّها ليس بينَها وبينَ اللهِ حِجابٌ. ))

[ صحيح البخاري: تخريج المسند لشعيب :حكم المحدث: صحيح ]

اتقوا دعوة المظلوم فإن دعوته تصعد إلى الله كالشرارة، هذا الإيمان، نحن لا يوجد عندنا إنسان مسلم، نقول: هذا لا يوجد فيه دين اظلمه، كُلْ من ماله، لا تعبأ بحقِّه، هذا ضد الإسلام يا أخي؟ لا، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ هذا الإسلام، هذا الصحابي الذي قال: والله لن أظلمكم، قال أحد زعماء خيبر: بهذا غلبتمونا.
 

من حقّ الزوج الكافر أن يسترجع مهر زوجته التي تركها لإسلامها:


الله عزَّ وجل لا ينصر إلا أهل الحق، ولو أن أهل الحق انحرفوا عنهم لخذلهم.

﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)﴾

[ سورة الحاقة ]

يا رسول الله مَثِّل بهم كما مثَّلوا بعمك؟ قال: والله لا أُمثل بهم فيمثل الله بي ولو كنت نبياً، هذا الدين، هل عندك استعداد أن تكون وقَّافاً عند الأمر والنهي هكذا؟ لذلك هذا الكافر الذي كفر بالله، وناصب المؤمنين العداء، زوجته هاجرت إلى دار الإسلام، هو تزوجها وأنفق عليها مهراً، الآن ظُلِم، لذلك قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا﴾ من حقّ هذا الزوج الكافر أن يسترجع مهر زوجته التي تركها.
 

من تركت زوجها الكافر وانتقلت إلى دار الإسلام يسمح لها أن تتزوج من مسلم:


﴿وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ لك أن تتزوَّجها، هذه بلا زوج، تركت زوجها الكافر وانتقلت إلى دار الإسلام، نعوِّض على زوجها بالمهر الذي دفعه ليتزوج غيرها، ونسمح لها أن تتزوج من مسلم، طبعاً: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ والأجر هنا ما معناه؟ المهر فقط، لا كما يُستنبط أنه شيءٌ آخر، الأجر هنا هو المهر: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ .
 

من كفرت كفراً بواحاً على المسلم تطليقها:


الحكم الجديد الثاني: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ أي إذا امرأةٌ كفرت كفراً بواحاً لا تمسك بعصمتها، لا تبقها عندك، لماذا؟ لأنها ستربِّي أولادك على الكفر، القضية لها مضاعفات، سوف تفسد عليك أسرتك: ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾ أي لك أن تطالب بتعويضٍ عما أنفقت على الزوجة الكافرة، وللزوج الكافر أن يطلب بتعويضٍ عما فقد من زوجته المؤمنة، هذا حق: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .
 

الشريعة عدلٌ كلها رحمةٌ كلها مصلحةٌ كلها:


أيها الأخوة؛ يستنبط من هذه الآيات أن الولاء والبراء والإيمان والكفر شيء والحقوق المادية شيءٌ آخر، توضّح لكم ذلك؟ مؤمنة، كافرة، كافر، مؤمن شيء، وأن هذا الزوج الكافر الذي دفع مهر زوجته ثم تركته إلى ديار الإسلام يجب أن نعوِّضَ عليه ما أنفق على زوجته التي تركته، هذا هو حكم الله، من هنا قال بعض العلماء: "الشريعة عدلٌ كلها، الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة مصلحةٌ كلها، فأية قضيةٍ خرجت من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الرحمة إلى خلافها، فليست من الشريعة ولو أُدخلت عليها بألف تأويلٍ وتأويل" .
الشريعة عدلٌ كلها، الشريعة رحمةٌ كلها، الشريعة مصلحةٌ كلها، زوج السيدة زينب، صهر النبي عليه الصلاة والسلام بقي مشركاً، وجاء ليقاتل النبي وأصحابه، ووقع أسيراً، فلما رآه النبي قال: "والله ما ذممناه صهراً" ، أما هنا فهو أسير، وهو في مجلسه يأتي أخوه من مكة المكرمة يحمل قلادةً أرسلتها السيدة زينب زوجته بنت النبي لتفدي زوجها من بين يدي النبي، فبكى النبي، وقال لأصحابه: "إن شئتم أطلقوا لها أسيرها" ، انظر إلى هذا التواضع، وضع نفسه مع صحابته، إن شئتم أطلقتم لها أسيرها، أطلقه أصحاب النبي، وعاد إلى زوجته، فلما نزلت هذه الآية طلب منه أن يطلقها وأن يرسلها، وأرسلها إلى النبي: ﴿لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ ثم إن هذا الرجل تاجَرَ بأموال قريش، ووقع أسيراً في الطريق إلى الشام بيد أصحاب النبي واقتادوه وبضاعته إلى المدينة، عرضوا عليه أن يسلم، فإذا أسلم كل هذه الأموال غنيمةٌ للمسلمين، ماذا قال أبو العاص؟ والله قال كلمة رائعة جداً، قال: "والله ما كنت لأبدأ إسلامي بهذا" ، بيده أموال قريش، هو تاجر، ألقي القبض عليه، مشرك، وقع أسيراً، لو نطق بالشهادتين لصار مسلماً، وهذه الأموال كلها غنائم، قال: والله ما أبدأ إسلامي بهذا، ثم أمر النبي أن يطلق سراحه ثانيةً، وعاد إلى مكة، وأدَّى جميع الحقوق، وبعد ذلك أعلن إسلامه، وعاد إلى المدينة ليتزوَّج زينب ثانيةً، هذا هو الإسلام، أما أروع كلمة قالها: "والله ما كنت لأبدأ إسلامي بهذا" ، بأكل أموال الناس.
 

الإسلام لا ينتشر إلا بالعدل:


لو أنّ أبا العاص حينما عرض عليه أصحاب النبي أن يُسلم فأسلم، وضمّ هذا المال كله إلى المسلمين، بربكم هؤلاء كفار مكة المشركون هل يصدِّقون أنه أسلم حباً لله أم يتهمونه أنه أسلم ليأكل أموالهم؟ قال: والله ما أبدأ إسلامي بهذا، لذلك هذه الشريعة لا تقوم إلا على العدل، والعدل مع غير المسلمين، لأن الإسلام لا ينتشر إلا بالعدل، فإذا بُنِي على الظلم الإسلام لا ينتشر.
سيدنا خالد لما أخذ الجزية من أهل حمص، ثم ارتأى أن يتركها لحكمةٍ عسكرية ماذا فعل؟ ردّ لهم الجزية، قال: أنا أخذتها لأحميكم، أما وقد انسحبت من أرضكم فلابد من ردِّها.
أهل سمرقند فتحت بلادهم ودخلها المسلمون وحكموها، ثم نُمِي إليهم أن دخول جيش المسلمين لم يكن وفق قواعد الدين، فأرسلوا سرّاً وفداً إلى عمر بن عبد العزيز يعرضون عليه أن بلدهم لم تفتح وفق قواعد الدين، قواعد الدين تقول: لابد من عرض الإسلام على هؤلاء، فإن قبلوه فهم منا ونحن منهم، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فإن رفضوه يُعرض عليهم دفع الجزية، أن يبقوا على دينهم السماوي، وأن تؤخذ منهم الجزية نظير إعفائهم من الخدمة الإلزامية-بدل نقدي-لأن جيش المسلمين لا يمكن أن يكون فيه إنسان لا يؤمن بعقيدته، يبدو أن هذا الجيش الإسلامي قاتلهم مباشرةً دون أن يعرض عليهم، هذا الوفد جاء سرّاً إلى عمر بن عبد العزيز وأطلعه على الخبر، هكذا تروي الكتب أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب على قصاصة قصيرة لقائد الجيش أن أخرج من سمرقند، جيش عرمرم دخل مدينة، واحتلها، وأقام فيها، واستقر، وخضعت له بكل ما فيها، يمكن أن يخرج هذا الجيش بورقة صغيرة؟ لم يصدقوا ذلك، ظنوا أن هذا الخليفة العظيم يداعبهم، فلما وصلوا إلى قائد الجيش أعطوه الورقة، فَقَبَّلَهَا وأعطى أمراً بالانسحاب، قالوا: لا، لا، ابق نحن أسلمنا، هذا الدين الذي بورقةٍ قصيرة يأمر الخليفة جيشاً كبيراً أن ينسحب من بلدةٍ دخلها حرباً، أنتم على حق ونحن مسلمون حقاً وحقيقةً، هذا الدين، الدين يبنى على العدل، لا تنسوا هذه المقولة: "الشريعة عدلٌ كلها"، لو صليت مليون ركعة وتظلم الناس فلست مسلماً، لا الصلاة تنفعك، ولا الصيام، ولا الصيام النفل، ولا ثماني عشرة عمرة، وثلاث عشرة حجة، لا يعملون شيئاً، ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مُخلط، ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد حجةِ الإسلام.
 

الدين منهج كامل:


لذلك أيها الأخوة؛ موضوع الدين موضوع كبير جداً، الدين منهج كامل، أهم ما فيه العدل، أهم ما فيه الرحمة، الإنصاف، أن تحلّ مشكلات الناس، لا أن تؤدي العبادات وأن تبني مجدك على أنقاضهم، لا أن تقوم بالعبادات وأن تخدعهم، لا أن تقومك بالعبادات وأن تضلَّهم، لا: 

﴿ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ(11)﴾

[ سورة الممتحنة ]

أي إذا نِلْتُم من غنائم الكفار ولكم عند الكفار مبلغ لكم أن تقتطعوه من الغنائم قبل التوزيع، هناك مسلم له زوجة كافرة تركها لأنها كافرة، له عندها مهر، يمكن أن يأخذ المهر قبل توزيع الغنائم، هذا معنى الآية.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)﴾

[ سورة الممتحنة ]

هذه الآيات إن شاء الله نشرحها في الدرس القادم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور