الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الأحداث التي وقعت في عهد النبي جعلها الله متَّكئاً للتشريع والتعليم:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة الممتحنة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)﴾
يا أيها الأخوة الأكارم؛ تندرج هذه السورة تحت ما يُسَمَّى بالتربية النفسية الاجتماعية للمؤمنين، فالله سبحانه وتعالى بعد أن آمن المؤمنون به يربِّيهم التربية النفسية والاجتماعية.
بادئ ذي بدء؛ في صحيح البخاري قصَّة هذه الآية، أو أسباب نزول هذه الآية، إنّ صحابياً جليلاً اسمه حاطب بن بلتعة، كان عليه الصلاة والسلام حينما نقضت قريشٌ عهدها مع النبي صلى الله عليه وسلَّم-عهد صلح الحديبية- أزمع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتوجَّه إلى مكَّة ليفتحها، وقد جاءت الأحداث التي تقع في عهد النبي مقصودةً لذاتها، الأحداث التي وقعت في عهد النبي لم تقع صدفةً، إنما قدَّرها الله تقديراً حكيماً، فحينما يكون الحَدَث، وتقع المشكلة، ويأتي التنزيل ليُعلِّم أصحابه الكرام الطريق القويم، هذا تعليمٌ لا يُمْحى، راسخ، أيُّ شيءٍ تلقيه على الناس جزافاً بلا مشكلة، بلا تجربة، بلا قضية، قد يُنسى، أما حينما تلقي حقيقةً عقب مشكلةٍ، أو معاناةٍ، أو تجربةٍ فهذا هو التعليم العملي، فالله سبحانه وتعالى جعل من الأحداث التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلَّم أحداثاً مقصودةً لذاتها كي تكون متَّكئاً للتشريع، والتعليم، والتأديب.
أسباب نزول سورة الممتحنة:
النبي عليه الصلاة والسلام عقِب أن نقضت قريشٌ عهدها في صلح الحديبية أزمع النبي الكريم أن يتوجَّه إلى مكَّة فاتحاً، وقد أَسَرَّ بعزمه هذا إلى بعض أصحابه المُقَرَّبين ومنهم حاطب بن بلتعة، أسرَّ إليه أنه سيفتح مكَّة، الذي حدث -وقد يصعب تفسيره-أن هذا الصحابي الذي كان موضع سِرِّ النبي أرسل كتاباً مع امرأةٍ مشركةٍ إلى زعماء قريش يخبرهم فيه بعزم النبي على فتح بلدهم، هذا الذي حدث، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام كان مُسْتَجاب الدعوة، وكان من دعائه: اللهمَّ عمِّ عنهم أخبارنا، لذلك جاء الوحي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبره أن صاحبك فلاناً-حاطب بن بلتعة-قد أرسل كتاباً مع امرأةٍ مشركةٍ يُخْبِرُ فيها قريشاً أنك ستغزوهم، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن أُخْبِرَ من الوحي هذا الخبر أن طلب إلى عليٍّ كرَّم الله وجهه وصاحبٍ آخر أن يذهبا إلى موضعٍ بين مكَّة والمدينة اسمه: الروضة، وأن يأخذا كتاباً من امرأةٍ مشركةٍ، ويعودا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، توجَّه الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه وصاحبه الزبير-فيما أذكر-إلى موضع الروْضة ولقيا امرأةً تركب ناقةً، أوقفاها وأنزلاها عن ناقتها، وطلبا منها الكتاب فأنكرت، قالا: لتلقين الكتاب أو لنفعل كذا وكذا، فلمَّا رأت أنهما جادَّان في طلب الكتاب ألقت إليهما الكتاب، حملا الكتاب وأوصلاه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فُتِحَ الكتاب فإذا به: من حاطب بن بلتعة إلى قريش، إنَّ مُحَمَّداً سيغزوكم فخذوا حذركم.
عفو النبي عليه الصلاة والسلام عن حاطب بن بلتعة:
أيها الأخوة؛ هذه القصَّة فيها معان كثيرة.
بادئ ذي بدء؛ هذه في عرف المجتمعات الإنسانية كلِّها خيانةٌ عُظمى، هذه عقوبتها الإعدام في أي مجتمع، قديماً وحديثاً، إنها نقل أخبارٍ خطيرةٍ إلى العدو.
سيدنا عمر عملاق الإسلام ما كان منه إلا أن قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عُنُق هذا المنافق؟ إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الخلق وحبيب الحق استدعى حاطباً وقال: يا حاطِبُ ما حملك على ما فعلت؟ لمَ فعلت ما فعلت؟ فقال حاطِبُ: والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت، ولكنني لست لصيقاً في قريش، ليس لي قرابة في قريش يحمي الله بها أهلي ومالي، كما هو الحال عند أصحابك الكرام، أصحابه لهم أهل في قريش هؤلاء يحمون كما قال حاطب بالضبط: الله جلّ جلاله يحمي بها ماله وأهله، قال: أنا لست لصيقاً في قريش فأردت بهذا الكتاب أن تكون لي يد عندهم أحمي بها أهلي ومالي، والله ما كفرت ولا ارتددت فاغفر لي ذلك يا رسول الله.
الذي وقع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنَّي صَدَّقته فَصَدِّقوه ولا تقولوا فيه إلا خيراً.
أما كتَّاب السيرة فقالوا: إن عمر وهو الشديد حينما نظر إلى هذا العمل رآه خيانةً عُظمى يقتضي أن يقتل صاحبه، أما النبي عليه الصلاة والسلام الرحمة المُهداة، والنعمة المُزْجاة، فرأى غير ذلك، رأى صحابياً شَهِدَ بدراً، فما أراد أن يهدر عمله، ولا أن يُضَيّعه عليه، ورأى هذا العمل من زاويةٍ أخرى، رأى هذا العمل ضعفاً طارئاً أصاب حاطباً، فبدل أن يسحقه أنهضه، بدل أن ينتقم منه عفا عنه، قال: "إني صدَّقته فصدِّقوه ولا تقولوا فيه إلا خيراً" ، نهى أصحابه على أن يطاردوه بفعلته، منعهم أن يطاردوه، ألجمهم جميعاً.
1 ـ المؤمن لا يستطيع أن يتحرَّك أية حركة إلا وفق منهج الله:
أيها الأخوة الكرام؛ هذه هي القصَّة، ماذا يُستفَاد منها؟ يُستفاد منها أن هذه الآية التي قرأتُها لكم في مطلع الدرس متعلِّقةٌ بهذه القصَّة، لعلَّ خير سببٍ لنزول هذه القصَّة كما ورد في البخاري قصَّة حاطب بن بلتعة، إلا أن القاعدة الأصولية في فهم القرآن أن العبرة لا بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يبيّن للمؤمنين أن يكونوا ربَّانيين أولاً، إنسانيِّين ثانياً، معنى ربَّانيين ألا يستلهموا توجيهاتهم، ألا يتحرَّكوا إلا وفق ما يُمليه عليهم دينهم، ومعتقدهم، وتعليمات خالقهم ومربّيهم، هذه معنى ربَّانيين، أي المؤمن لا يستطيع أن يتحرَّك أية حركة إلا وفق منهج الله، ربَّاني.
2 ـ على المؤمن أن يكون إنسانياً يبني كل علاقاته وفق مبدأ الإيمان:
الشيء الثاني: أن يكونوا إنسانيّين، بمعنى أن الناس جميعاً أبيضهم وأسودهم، وأحمرهم وأصفرهم، غنيّهم وفقيرهم، عربيّهم وأعجمهم، كلُّهم عند الله سواسية، هناك عاملٌ واحدٌ يميِّز بينهم وهو الإيمان، لذلك كأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ألغى كل العصبيَّات؛ العصبيّة إلى الأهل، العصبيّة إلى العشيرة، العصبيّة إلى القبيلة، إلى الأرض، إلى المكان، إلى الزمان، كل أنواع العصبيّة أُهْدِرَت في هذه الآية:
(( عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب الناسَ يومَ فتحِ مكةَ فقال: يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها، فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ، والناسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ، قال اللهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. ))
المؤمن من خلال هذه القصَّة يجب أن يكون ربَّانياً لا يتحرَّك إلا وفق أمر الله عزَّ وجل ونهيه، وأن يكون إنسانياً يبني كل علاقاته بين البشر لا على أساس عصبيّةٍ، ولا قرابةٍ، ولا مصلحةٍ، ولا لونٍ، ولا عرقٍ، ولا جنسٍ، ولا طائفةٍ، ولا مِلّةٍ، لا يبني علاقاته إلا وفق مبدأ الإيمان، فالناس على اختلاف مللهم، ونحَلِهم، وانتماءاتهم، وأجناسهم، وأعراقهم وألوانهم، وثقافاتهم، وأصلهم، وخلفيّتهم إنما هم رجلان، رجلٌ عرف الله وعرف منهجه، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فاشتقَّ من الله الكمال، فسعِد بقربه في الدنيا والآخرة، ورجلٌ لم يعرف الله، لم يعرف منهجه، تفلَّت حكماً من منهجه، أساء إلى خلقه، شقي في الدنيا والآخرة، إن لم نُقِمْ هذه المقياس لن يرضى الله عنَّا، أنا جدُّ كل تقي ولو كان عبداً حبشياً.
سلمان منَّا أهل البيت.
نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه.
سيدنا الصديق وضع يده تحت إبط بلالٍ رضي الله عنه وقال: هذا أخي حقَّاً.
حينما قال أحدهم لصحابيٍّ ملوّن يا بن السوداء، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ، وعليه حُلَّةٌ، وعلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، فَقالَ: إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَقالَ لي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ. ))
أول نقطة في هذه السورة أن المؤمن ربَّانيٌّ إنساني، ربّاني لا يتحرَّك إلا وفق منهج الله، والأمر والنهي، لا توجد عنده حركة من عنده، من شهوته، أو رغبته، أو غريزته، أو مصلحته، أو انتماءاته، أو عصبيّته، أو انحيازه هو الذي يُملي عليه حركته، لا يتحرَّك إلا وفق الأمر والنهي.
أما أنه إنساني فالناس عنده رجلان، مؤمنٌ عرف الله يمحضه الود والتقدير ولو كان بعيداً قرابةً، وإنسانٌ آخر ما عرف الله، لا يمكن أن يقيم معه مودَّةً على حسابِ دينه.
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾
أما أن يُقيم مودَّة على حساب دينه فهذا لا يكون أبداً، يقيم مودَّة لعلَّه يتقرَّب إلى الله، يستجلبه بها، أما أن يقيم مودَّةً على حساب دينه فهذا لا يفعله إطلاقاً.
مخاطبة الله تعالى عامَّة الناس بأصول الدين ومخاطبة المؤمنين بفروع الدين:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أليس في هذا الخِطاب تحبُّباً إلى المؤمنين؟ يا من عرفتموني، يا من آمنتم بي ينبغي أن تفعلوا كذا وكذا، لأن الله كما تعلمون يُخاطِب عامَّة الناس بأصول الدين، بينما يخاطب المؤمنين بفروع الدين، وهذه السورة فيها تربيةٌ اجتماعيةٌ ونفسيّةٌ للمؤمنين، أنتم بعد أن آمنتم لا ينبغي لكم أن تقيموا علاقاتٍ حميمةً مع غير المؤمنين، وهذا الدرس لنا.
قلت في بادئ الدرس: العبرة لا بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، وإن كانت هذه الآيات نزلت في سيدنا حاطِب إلا أن الله سبحانه وتعالى أرادها قانوناً.
أنت الآن بعد أن آمنت بالله كيف تُقيم علاقاتك مع الناس؟ ينبغي أن تقيم علاقاتك مع الناس وفق مبدأ الإيمان، يمكن أن تقيم علاقة عملٍ مع إنسانٍ كافر، أما أن تقيم علاقة مودَّةٍ، علاقةً حميمةً مع إنسانٍ لا يعتقد بما تعتقد، يكفر بما تؤمن، يحتقر ما تقدِّس، فهذا لا يكون.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾
العلم والعمل وحْدهُما هما اللذان يرفعان الإنسان بين بني البشر:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي﴾ قد تقول: إنه أخٌ لي، إنه والدي، إنه صديقي، إنه جاري، كما قلت قبل قليل: المؤمن يبني كل علاقاته على مبدأين، هو ربَّاني يتحرَّك وفق توجيهات الله ورسوله، إنسانيّ الناس كلُّهم عنده سواء، يتمايزون بالإيمان فقط، لذلك القيم التي يقدِّسها الناس، قيمة الغنى مقدَّسة عند الناس، الذكاء، القوّة، فلان يده طولى، هذه القيم أهدرها القرآن الكريم، ما اعتمدها أبداً، ما اعتمدها في كل كتابه، ما اعتمد إلا قيمتين: قيمة الإيمان، وقيمة العمل، قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾
العلم والعمل وحْدهُما هما اللذان يرفعان الإنسان بين بني البشر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ دققوا في هذا الكلام الرقيق، أي هذا الذي تمحضه ودَّك هو عدّو لك يا عبدي، وهو في الوقت نفسه عدو لي، فكيف تتخذ عدّوك الحقيقي وعدو الله تتخذه صديقاً؟! كيف تمحضه ودَّك؟!
نحن جميعاً بعد ألف وخمسمئة عام في أمسِّ الحاجة إلى هذه الآية، أنت مؤمن ينبغي أن تحبَّ المؤمنين، ينبغي أن تواليهم، ينبغي أن تمحضهم ودَّك، ومحبَّتك، ونصيحتك، وإكرامك، أما أن تضع كل خبراتك في خدمة أهل الكفر، أي هذا الذي يذهب إلى بلدٍ غربي، ويتجنَّس، ويعطي علمه لأعداء المسلمين ألا يفعل هذا؟ هذا قرآن، جُعِل قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة لأنه قانون لأي إنسان يوالي أهل الكفر، يحبُّهم، يعظِّمهم، يُقْدِرُهُمْ، يمحضهم علمه، يمحضهم نصيحته، يمحضهم إخلاصه، ويدير ظهره للمسلمين، ولا يعبأ بهم، هذا ممن تنطبق عليه هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ .
الحمية الاجتماعية من لوازم الإيمان:
طبعاً ذكرت لكم قبل ذلك أن علاقات العمل لا غُبار عليها، كل إنسان أحياناً يشتري من إنسان غير مسلم، وغير مؤمن، علاقات العمل مستثناة، أما علاقات الولاء، علاقات الحُب، العلاقات الحميمة إذا كانت بين المؤمنين وغير المؤمنين جَرَّت على المؤمن وبالاً كبيراً، أي من لوازم الإيمان الحِمْية الاجتماعية، بصراحةٍ بالغة الإنسان إذا عرف الله، واصطلح معه، وتاب إليه، وسلك طريق الإيمان، لابدَّ له من أن يغيّر كل أصدقائه المتفلّتين، إذا بقي على صداقاتهم، وعلى لقاءاته معهم، وعلى سهراتهم إلى الفجر، لا يمكن أن يبقى على حاله، يجرُّوه، لابدَّ من أن تبحث عن أصدقاء جدد، ليس معنى هذا أن هؤلاء الذين كانوا أصدقاءك من قبل أن تُهملهم، عليك أن تقيم علاقاتٍ معهم بالقدر الذي تطمع في هدايتهم فقط، لو أنك أثَّرت فيهم كن معهم، أنا أقول لكم: الأصدقاء السابقون، أصدقاء الجَهْل، أصدقاء ما قبل الإيمان، أصدقاء الجاهلية هؤلاء يحكمهم هذا القانون: قانون شَدِّ الحبل، إذا كان بإمكانك أن تشدَّهم إليك فاجلس معهم، لأن الله يسأل العبد عن صحبة ساعة، أما إذا شدُّوك إليهم فابتعد عنهم، هذا المقياس، إن جلست معهم وتمكَّنت أن تأخذ بيدهم إلى الله فاجلس معهم، لأن الله سيسألك عنهم: أين الوفاء معهم؟ أما إذا جلست معهم، ورأيت أنهم سيسحبونك إليهم، عندئذٍ ابتعد عنهم، ولابدَّ من أن تبحث عن إخوةٍ جُدد من المؤمنين، المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحةٌ متوادّون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ ألا تشعرون أن في هذا الخطاب رقَّةً ما بعدها رقَّة؟ أي يا عبدي يا من آمنت بي ألم تؤمن بي؟ كيف تُبيح لنفسك أن تقيم علاقةً حميمةً مع عدوِّك وعدوِّي في وقتٍ واحد؟
المؤمن الغيّور على أمَّته لا يُظهر لغير المؤمنين إلا الوجه المشرق:
بالمناسبة حينما يأتي قوله تعالى: ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ أي أنت لا تستطيع أن تعادي إلا من كان عدواً لله وعدوّك في وقتٍ واحد، أما أن تعادي ولياً لله فأنت في خندقٍ آخر، في خندقٍ معادٍ للدين.
﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ قال بعض المفسِّرين: تلقون إليهم أخبار المسلمين، أماكن ضعفهم، حالاتهم.
المؤمن الغيّور على أمَّته لا يُظهر لغير المؤمنين إلا الوجه المشرق، إذا كان هناك أغلاط هذه ينبغي أن يسترها لأن في هذا إضعافاً للمؤمنين ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ كأن الله يُعجب، هذا الذي هو عدو لك حقيقةً وعدوي في وقتٍ واحد تُلقي إليه بالأخبار الخطيرة تودداً إليه؟ الباء باء السببية ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ﴾ أخبار المسلمين بسبب التودد إليهم، هذا المعنى الدقيق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ﴾ .
لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما تراه، لا تصاحب إنساناً لا يعبأ بدينك، لا يعبأ بمقدّساتك، يسخر من الدين، يطعن بالمؤمنين، يسيء الظن بهم، هذا إن صحبته ضاقت نفسك، واسودّ العالم في نظرك، وشعرت أنك ضائعٌ عنده، دققوا في هذا القول: لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما تراه له، إن صاحبت مؤمناً خرجت من عنده وأنت سعيد، كأن الملائكة قد حفَّت هذا المجلس، شعرت كأن الله سبحانه وتعالى يرضى عن هذا المجلس، أما إذا دخلت على غنيٍّ فاسق، "من دخل على الأغنياء-طبعاً غير المؤمنين-خرج من عندهم وهو على الله ساخط" ، لأن حديثهم كلَّه في الدنيا، وفي المال، وفي القيم المادية، وقد يستصغرونك إن كان مالك قليلاً، أما إذا دخلت على المؤمنين فيستعظمون إيمانك، يقِّدرون فيك طاعتك لله، علمك الغزير، فإذا أردت أن تسعد لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي، وهذا حديث رسول الله:
(( عن أبي سعيد الخدري: لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ. ))
بربكم ألا تعلمون علم اليقين أنكم إذا سهرتم مع أناسٍ متفلّتين، ضائعين، شاردين، شعرتم بضيقٍ لا يوصف؟ أنت في وادٍ وهم في واد، ما تقدّسه لا يقدّسونه، ما تعظّمه لا يعظّمونه، ما تخافه لا يخافونه، ما تحتقره يفعلونه، ما تشمئز منه يبجِّلونه، الكلام الذي إن سمعته اصطبغ وجهك باللون الأحمر يلقونه جزافاً بلا حياء، ولا خجل، إن أرادوا أن يتفكَّهوا في المجلس تفكَّهوا بالغيبة، إن أرادوا أن يمزحوا مزحوا بالجنس، إن أرادوا أن يُلغموا الكلمات حمَّلوها معاني يستحي منها الإنسان، لا تجلس مع هؤلاء أنت أرقى منهم، أنت أقدس وأرقى من أن تجلس مع هؤلاء.
المؤمن الصادق بعد أن يصطلح مع الله يجْردُ كل علاقاته وأصدقائه:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ هذه الآية نحن في أمسِّ الحاجة إليها، أي مؤمن يصاحب أهل الدنيا غير المؤمنين، غير المستقيمين، غير المصلين، المتفلّتين، المجاهرين بمعصيتهم، يصحبهم بعلاقاتٍ حميمة لابدَّ من أن يؤثِّروا فيه، وأن يجرَّوه إلى طريقهم وانحرافهم، هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء، الولاية فيها حُب، فيها إكبار، فيها تعظيم، أحياناً يكون الواحد في عمله له شخص يحترمه لذكائه لكنه لا دين له، فهذه العلاقات الجاهلية التي قبل الإسلام ينبغي أن تُقَيّم تقييماً جديداً.
المؤمن الصادق إخواننا الكرام؛ بعد أن اصطلح مع الله هناك جرد لكل علاقاته، ولكل أصدقائه، يجري عملية مسح دقيقة جداً، هذا الإنسان أَصِلُهُ دون أن أقيم معه علاقةً حميمة، هذا الإنسان أقطعه لأنه يهاجم القِيَم الدينية، هذا الإنسان أزوره في الشهر مرَّةً واحدةً، يجب أن تقيم علاقاتٍ جديدة في ضوء إيمانك لأنك ربَّانيٌّ إنساني، ربَّاني لا تتحرَّك إلا وفق أمر الله ونهيه، إنساني الناس كلهم عندك سواسية، لا فرق بينهم إلا بالتقوى.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
مثلاً-ذكرت هذا كثيراً-عندما جاء عمير بن وهب ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام، سقى سيفه سُمَّاً، وركب ناقته، وتوجَّه إلى المدينة، هو مغطَّى بأنه جاء يطلب فداء أخيه أو ابنه من الأسر، عندما وصل إلى المدينة رآه عمر بن الخطاب، لا يوجد ترحيب؛ أهلاً وسهلاً، أين أنت؟ اشتقنا إليك، الآن تجد الناس مجاملات غير معقولة، عداوات غير معقولة مع مجاملات غير معقولة، هذا الوجه المزدوج، قال: هذا عدو الله جاء يريد شرَّاً، قيّده بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي، دخل على النبي قال: يا عمر أطلقه، فأطلقه، ابتعدْ عنه، ابتعدَ عنه، يا عمير ادنُ مني، دنا منه، ما الذي جاء بك إلينا؟ قال: جئت أفدي ابني، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال: ألم تقل لصفوان: لولا ديون ركبتني لا أطيق سدادها، ولولا أطفالٌ صغار أخشى عليهم العنت لذهبت وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ فوقف على قدميه وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله وأنت رسوله، وأسلم.
موطن الشاهد أن عمر يقول: دخل عميرٌ على رسول الله والخنزير أحبُّ إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبّ إليّ من بعض أولادي، الإسلام لا توجد فيه عداوة، المسلم يكره عمل الكافر فقط، لو أنه عاد إلى الله لعاد إلى قلبه، هذا الإسلام، هذه عداوة مؤقَّتة، ما دام مُقيماً على المعصية، ما دام يعادي الدين، يحتقر الدين، يجب أن أريه قسوةً.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)﴾
الابتعاد عن نقل الأخبار الخطيرة عن المسلمين للمشركين:
﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ﴾ الأخبار الخطيرة عن المسلمين بسبب التودد إليهم!! ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ﴾ هذا كفرهم، ما عملهم؟ ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ ألم يخرجوكم من مكَّة؟ ألم يعذِّبوكم؟ ألم ينكِّلوا بكم؟ ألم يأتمروا على قتلكم؟ ألم يأتمروا على قتل نبيّكم؟ عجيب تمحض ودَّك لهذا الإنسان، تعطيه معلومات خطيرة عن أمَّتك من أجل أن تحمي مالك وأولادك، أيُعْقَلُ هذا؟ خطاب فيه رقَّة بالغة، ما ذنبكم؟ لماذا أخرجوكم؟ هل اقترفتم جريمةً؟ هل اغتصبتم أموالهم؟ لا، لسببٍ لا يصدَّق، لأنكم آمنتم بالله فقط.
﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾
من ضلّ سواء السبيل فقد وقع في خطر عظيم:
هنا: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ بسبب ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ هل هذا ذنب؟ إذاً لماذا أخرج قريشٌ النبي وأصحابه من مكَّة؟ لماذا عذَّبوا عمَّار بن ياسر؟ هل ارتكب جريمة؟ لا، هل سرق؟ لا، لأنه آمن بالله ورسوله، لماذا عذَّبوا بلالاً؟ وضعوا عليه الصخر وهو يقول: "أحدٌ أحد"، ماذا فعل؟ آمن بالله فقط، وهذا إلى يوم القيامة، أحياناً لا ذنب لك إلا لأنك آمنت بالله فقط، ذنبك الوحيد أنك آمنت بالله ربَّاً، وبمحمّدٍ نبيّاً، وبهذا الإسلام منهجاً، هذا الذنب، ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي يوجد خطر، خطر يصيب المؤمن أن يضلَّ سواء السبيل.
أكبر عقاب أن يضل الإنسان عن هدفه:
من الممكن أن تكون ذاهباً إلى حلب أكبر خطر في هذا الذهاب أن تتجه إلى مكان آخر، هدفك حلب مثلاً، القبض من حلب، العلاقة في حلب، خرجت عن خطّ حلب إلى خطٍّ صحراوي وسرت فيه مئات الكيلو مترات في ضلال بعيد، أو ضلالٍ مبين، هذا أكبر عقاب أن تضل عن هدفك، ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ أي خرج عن السير الصحيح، خرج عن الطريق المفضي إلى سعادته في الدنيا والآخرة، لو أن هذه الحادثة وقعت ولن تقع مرَّةً ثانية لما ذكرها الله في القرآن الكريم، بل ما ذكر هذه الآيات ذات الطابع العام المنطلقة من حادثٍ خاص إلا لأن هذا يمكن أن يقع في كل زمانٍ ومكان، يجب أن تحدِّد انتماءك، أنا مسلم، أنا مؤمن، أُقَدِّم عملاً متقناً للناس، أما وقت فراغي فلا أمضيه إلا مع من هم على شاكلتي، أقدِّم عملاً متقناً للناس من أجل أن أكسب رزقي، أما وقت فراغي فهذا لا أُضَيِّعُهُ إلا مع من هم على شاكلتي، لذلك جلوسك مع المؤمنين مسعدٌ لك ولهم، أن تنصح المؤمنين هذا يسعدك ويسعدهم، أما أن تنضمَّ إلى أعداء المؤمنين، أما أن تستمرئ الحديث معهم، الجلوس معهم، فإن هذا يشقيك وإيَّاهم.
على المؤمن أن يكون مع المؤمنين:
لكن ذكرت لكم في بادئ الدرس: علاقاتك مع غير المؤمنين من هم من أصدقاء الجاهلية يحكمها قانون شدِّ الحبل، إن كنت تستطيع أن تشدَّهم إليك فصاحبهم، أما إن شَدُّوك إليهم فابتعد عنهم، هذه القاعدة، ثم: من هَوِيَ الكفرة حُشِر معهم ولا ينفعه عمله شيئاً.
أنت لك ولاء، أنت مع من؟ أنت مؤمن ينبغي أن تكون مع المؤمنين، يوجد أناس يقول لك: مرن، أي منافق، بعض الصفات التي لا تليق تُعْزَى الى بعض المؤمنين، أي: "أرْضِهم ما دمت في أرضهم" ، "دارِهم ما دمت في دارهم" وارضِ جميع الناس، ومن استطاع أن يرضي الناس جميعاً فهو منافق، أنت لك هويَّة، هويّتك مؤمن، لا يمكن أن تجلس على مائدة يُشرَب فيها الخمر، سكوتك عن هذا الأمر احتقارٌ لمبدئك، لا يمكن أن تصاحب رجلاً يتَّهم دينك بأنه دينٌ خرافي، دينٌ ضبابي، دينٌ غيبي، هذا العصر عصر علم، الدين انتهى، إنسان يعتقد هذا الاعتقاد وتمحضه ودَّك؟ وتحترمه؟ وتقدِّم له آيات الاحترام؟ هذا دليل ضعف إيمانك، أنت مؤمن، أي في الوقت الذي تقف كالطود شامخاً أمام أعداء الدين أنت ألين للمؤمنين من أنفسهم.
على المؤمن أن يقيم العلاقات الحميمة مع المؤمنين لا مع الكافرين:
سيدنا عمر عندما تولَّى الخلافة بعضهم تخوَّفوا من ولايته لأنه كان شديداً، فقال رضي الله عنه: "إنكم قد تخوفتم من شدَّتي، كنت مع رسول الله سيفه وخادمه وجلواذه، كنت سيفه المسلول فكان يغمدني إذا شاء، توفي عني وهو عني راض، الحمد لله على هذا كثيراً، ثم كنت خادم أبي بكرٍ وجلواذه وسيفه المسلول فكان يغمدني إذا شاء، توفي عني وهو عني راض وأنا به أسعد، ثم آلت الأمور إليّ، قال: اعلموا أن هذه الشدَّة قد أُضْعِفَت، وإنما تكون على أهل البغي والعدوان، أما أهل العفاف والإيمان فأنا ألينُ لهم من أنفسهم" والله عزَّ وجل وصف المؤمنين قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
كأن الله عز وجل أراد من هذه السورة أن يربِّي المؤمنين، أي عليكم أن تعلنوا ولاءكم للمؤمنين، أن تقيموا العلاقات الحميمة مع المؤمنين لا مع الكافرين، أما عندما ينفتح الإنسان انفتاحاً عشوائياً، ويفتح قلبه لكل إنسان من دون تمحيص فإنه قد يقع في شرِّ عمله، ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ﴾ ثقِفَه أي لقيه: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾ أي يكنّون لكم العداوة والبغضاء، لن يرضوا عنكم حتى تتبعوا ملّتهم.
﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)﴾
لن يرضى عنك الطرف الآخر إلا إذا اتبعت ملَّته، وينبغي أنت بالمقابل ألا ترضى عنهم إلا إذا اتبعوك، هكذا، لن يرضوا عنك إلا إذا اتبعتهم، ولن ترضى عنهم إلا إذا اتبعوك.
الكفار إن لم ينالوا المؤمن بالأذى سلقوه بألسنةٍ حِداد بلا سبب:
﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)﴾
شيئان؛ الشيء الأول: أنهم ينطوون على عِداءٍ لكم شديد، الشيء الثاني: أنهم يتحرَّكون لإيذائكم، ليتهم قَبِلوا أن يعادوكم بقلوبهم، إضافةً إلى العِداء المستحكم في قلوبهم تحرَّكوا لإيذائكم، يوجد عِداء قلبي، وتوجد حركة عدوانية، قال: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ﴾ كلام دقيق جداً، إن لم يستطيعوا أن ينالوكم بالأذى سلقوكم بألسنةٍ حِداد بلا سبب، بلا منهج، بلا دليل، بلا برهان، أبداً، أي موقف عدائي وقح، موقف عدائي أرعن، موقف عدائي بلا دليل، بلا مبرر، هذه معاناة المؤمنين في كل زمانٍ ومكان، هذه معاناة، القرآن الكريم يصف حالة نموذجية متكرّرة؛ مؤمن وغير مؤمن، المؤمن صادق هذا يكذب، المؤمن منصف، هذا لا يُنصِف، المؤمن ينفتح، هذا لا ينفتح –مغلق-، المؤمن يريد الخير، هذا يريد الشر، المؤمن مسالم، هذا معتد، لذلك من السذاجة وضيق الأفق أن تضع ثقتك في غير محلَّها، أن تضع ثقتك بغير مؤمن ثم تفاجأ بعد حين أنه خانك، وأنه طعن بك، وأنه تَنَكَّرَ لك، وأنه قلب لك ظهر المِجَنْ، وأنه لم يكن في المستوى المطلوب، شيء طبيعي جداً، ماذا تنتظر من إنسان لا يعرف الله؟ الإنسان حينما لم يكن شاكراً لمن خلقه أيشكر عباده؟ إنسان لا خير فيه لأمِّه وأبيه أيكون لك فيه خير؟ مستحيل، أيضاً من السذاجة وضيق الأفق والبساطة أن تمحض ودَّك لإنسانٍ يعاديك، ويتمنَّى لك السوء، ويتحرَّك للإيقاع بك، فإن لم يستطع سلقك بلسانٍ حاد بحقٍ وبغير حق، بشيءٍ وقع، وشيء لم يقع، بشيء معقول، بشيء غير معقول، هذا هو وضع غير المؤمن: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾ ينطوون على عداوةٍ كبيرة: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ معتدين، فإن لم يستطيعوا: ﴿وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ لا ترتاح نفوسهم إلا إذا كنتم على شاكلتهم، إلا إذا كفرتم بما جاءكم، إلا إذا داهنتموهم:
﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق:
ثم ربنا عزَّ وجل يبين لهؤلاء المؤمنين وهو يربيهم:
﴿ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)﴾
الآن ربنا سبحانه وتعالى يبيِّن للمؤمنين أن هؤلاء الذين ألقيتم إليهم بالمعلومات الخطيرة بسبب التودد إليهم هم أرحامكم، هم أولادكم، هم إخوانكم، هؤلاء لن ينفعوكم يوم القيامة.
السيدة عائشة تسأل النبي عليه الصلاة والسلام: أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ قال: نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواضع: عند الصراط، وإذا الصحِفُ نُشِرت، وفي موطن ثالث-لا أذكره الآن-وفيما سوى ذلك قد تقع عين الأم على ابنها تقول: يا ولدي جعلت لك صدري سقاءً، وبطني وعاءً، وحجري وطاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم؟ يقول هذا الابن الذي وقعت عليه عين أمِّه: ليتني أستطيع ذلك يا أماه إنما أشكو مما أنتِ منه تشكين، لا أم، ولا أب، ولا أخ، ولا صديق، ولا زوجة، لذلك:
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)﴾
قدِّم كل الخدمات لمن تعرف ولأهلك الأقربين، أما أن يحملوك على معصية الله فإنهم لن ينفعوك، لن ينفعوك أبداً، أم سيدنا سعد بن أبي وقَّاص قالت له: يا بني لا آكل الطعام حتى تكفر بمحمد، قال لها: يا أمي لو أن لك مئة نفسٍ فخرجت واحدةً واحدة ما كفرت بمحمد، فكُلي إن شئتِ أو لا تأكلي، هذه قضايا غير خاضعةٍ للمناقشة، قدِّم لها كل شيء إلا أن تحملك على معصية، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق: ﴿لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ .
إرضاء الأم والأب والزوجة ينبغي ألا يحمل الإنسان على معصية الله:
الآن أُناسٌ كثيرون يأكلون المال الحرام إرضاءً لزوجاتهم وأولادهم، سألوا شاباً بعد أن مات والده، وخَلَّفَ له أموالاً طائلة، إلى أين أنت ذاهب؟ قال بعبارةٍ سوقيةٍ: أنا ذاهبٌ لأشرب الخمر على روح والدي، إن روح الميت ترفرف فوق النعش تقول: يا أهلي يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرُم فأنفقته في حِلِّه وفي غير حلِّه، فالهناء لكم والتبعة عليّ، هذه آية دقيقة: ﴿لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ من هنا قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾
﴿لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أنت تتخذ حجَّة، الآن الإنسان يغش في بيعه وشرائه ليكسب مالاً وفيراً ليرضي بهذا المال زوجته، أما الصحابية الجليلة فكانت تقول لزوجها: "يا فلان اتقِ الله فينا، نصبر على الجوع ولا نصبر على الحرام" لا يحملنَّك إرضاء زوجتك، ولا أمك، ولا أبيك، ولا إخوتك، ولا أولادك على معصية الله، لأنهم إن فعلت هذا لن ينفعوك أبداً، تُحاسب وحدك.
موقف سيدنا إبراهيم من قومه:
﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)﴾
ما دمتم هكذا فأنتم أعداؤنا إلى أن تؤمنوا بالله وحده: ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ سيدنا إبراهيم أيضاً وقف هذا الموقف من قومه:
﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾
هذا الكلام لا يعني أن تبدأ أنت بالعداء، لا أبداً، أما إذا دُفعت إلى معصية يجب أن تقول: لا بملء فمك، وليكن ما يكن، ما دام لا يوجد عدوان: ﴿لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ هذا شيء أساسي، أما حينما يُعْتَدَى عليك، يُعتدى على دينك فقل: لا بملء فمك، ولا تخش في الله لومة لائم، ولا تعبأ بكل ما سيكون لأن الله معك.
استغفار إبراهيم لأبيه بسبب موعدةٍ وعدها إياه:
سيدنا إبراهيم وقف موقفاً إيمانياً من أبيه: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أما استغفار إبراهيم لأبيه فبسبب موعدةٍ وعدها إياه:
﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)﴾
إذا الإنسان قرَّب خطوة ويوجد أمل تحرَّكْ نحوه خطوات، أما إذا لم يكن هناك أمل فأنت في مكانك وهو في مكانه: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ .
وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى نقف عند هذه الآية الخطيرة:
﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)﴾
الملف مدقق