الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس -وقد يكون الأخير- من سورة المعارج، ومع الآية الثالثة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33)﴾
أيها الإخوة، حينما يُحَمَّل الإنسان الأمانة ينبغي عليه أن يؤدِّيها، أما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ فهناك معنى آخر:
إن المعنى المتبادر لهذه الآية هو أن الإنسان إذا دُعي إلى شهادة ينبغي أن يؤديها على وجهها، فضلاً عن هذا المعنى المتبادر هناك معنىً آخر عميق ، وهو من أوجه تفسيرات هذه الآية؛ هو قائم يشهد للناس بوحدانية الله، يشهد للناس رسالة رسول الله، ويدعو إلى الله مبادرةً، وحينما يُكلَّف حمل الأمانة يؤديها، وحينما يُكلَّف بعملٍ يؤديه على الوجه التام، وحينما يرزقه الله عزَّ وجل أولاداً فإنه يحفظ هذه الأمانة ويأخذ بيدهم إلى الله.
موضوع الدرس الماضي كان حول حمل الأمانة، وتحدثنا عن أنواع الأمانات التي ينبغي أن تؤَدَّى على وجهها، لكن الآية التي تليها تقول: ما دام الإيمان قد استقرَّ في قلوب هؤلاء المؤمنين، فلابدَّ من أن يعبِّر عن ذاته بذاته، وذلك عن طريق حركةٍ نحو هداية الخلق، فلا تصدّق مؤمناً استقرت حقيقة الإيمان في قلبه ثم يبقى ساكتاً ولا يعنيه أمر الناس، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ(108)﴾
فالمُتَبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم يدعو إلى الله، وآية سورة العصر تقول:
﴿ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ(3)﴾
الدعوة إلى الله سمة المؤمن الحق:
هاتان الآيتان تبيِّنان أن أي مؤمنٍ صادق لابدَّ له من أن ينطلق لسانه إلى الدعوة إلى الله، ويؤكِّد هذا المعنى الوارد في الآيتين هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ ويُسْتَأنس بالآية التي تقول أن الله عزَّ وجل جعل النبي شهيداً على هؤلاء:
﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍۢ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدًا(41)﴾
أي: أنت شهدت لهم بالحقيقة، وأكبر شيءٍ يشغل بال المؤمن الحق هو أن يوضِّح للناس الحقيقة، أن يوضّح للناس طريق الهُدى، فلا يسكت، وهناك إخوةٌ كثيرون يفاجَؤون من خلال تجاربهم في الدعوة إلى الله، قال لي أحدهم في الأسبوع الماضي: إنه طرق على باب جارٍ له قبل الدرس وقال له: أعندك شيء؟ فقال له: لا، قال: أتذهب معي إلى المسجد؟ قال لي: شعرته قد أُحْرِجَ لأنني سألته أعندك شيء فقال: لا، قال: أتذهب معي ؟ أُحرِج، قال: لقد ندمت على هذا العرض لكنه خرج معي وجاء إلى المسجد، وهو الآن لا يغيب عن درسٍ من دروس المسجد، لا في الفجر، ولا في الظهر، ولا في المساء، فماذا تكلف هذا الأخ؟ إنها كلمة فقط، فلا تيأس، ولا تسِئ الظن بالناس، لعل كلمةً حانيةً، لعل كلمةً صادقةً، لعل كلمةً وفيةً تُنقِذ أخاك من الهلاك في الدنيا والآخرة، فلذلك: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ فالمؤمن أينما جلس، وأينما حلّ، وأينما ذهب لسانه رطبٌ بذكر الله، وهو يُذَكِّر بالله، ويشرح كيف تفضَّل عليه الله سبحانه وتعالى عليه وهداه.
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾
اذكروني لعبادي، والذي يذكر الله لعباده يذكره الله عزَّ وجل في ملأٍ خيرٍ منهم، فأنت حينما تنشغل بذكر الله فالله جلَّ جلاله يرفع لك ذكرك من دون أن تدري.
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
أيها الإخوة، مُفادنا من هذه الآية أنك إذا شهدت الحقيقة فأشهدها للآخرين لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
إن علمت حقيقةً على وجه اليقين فلا ينبغي أن تقول: لقد هُدِيت وما لي وللناس؟ لا، ليس هذا موقف المسلم الصادق، إن علمت حقيقةً على وجه اليقين، وشهدت أبعادها فينبغي أن تُشهدها للناس.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ لذلك أيها الإخوة..يُعَدُّ أوفى الناس الذين عاشوا معهم في ردحٍ من الزمن، فإذا كان لك أصدقاء، لك جيران، لك زملاء، لك أصحاب، فهؤلاء لهم حقٌ عليك، فإن أكرمك الله بالهدى، وإن قَذَفَ النور في قلبك، وإن شرح الله صدرك للحق، فينبغي ألا تنسى هؤلاء الذين كانوا معك، وكانوا في جوارك، الذين كانوا زملاءك، وقد قيل: إن الله يسأل العبد عن صحبة ساعة.
وأنا أُثني -والله -على إخوةٍ كثيرين لم ينسوا أصدقاءهم في الماضي بل حاولوا معهم مراراً وتكراراً محاولات كثيرة وذكية إلى أن أخذوا بيدهم إلى الهدى، فلا يوجد إنسان ليس له أصحاب، وجيران، وأقرباء، وإخوة، والذي يأتي إلى الحلقة، وإلى مجلس العلم ويتنوَّر قلبه، ويستقيم سلوكه، ويصِحُّ إيمانه فينبغي عليه ألا يكون أنانياً -إن صح التعبير-، فابحث عن هؤلاء الذين كانوا معك، عن هؤلاء الذين تحبهم، عن هؤلاء الذين عشت معهم ردحاً من الزمن، اسأل عنهم ما أحوالهم؟ وما أحوال دينهم؟ وما أحوال علاقتهم بالله عزَّ وجل؟ وأين هم من حقائق الدين ومن منهج الله؟ هل هم مطبقون أم غير مطبقين؟ هل تستطيع أن تمدَّهم ببعض الحقائق؟ أن تقنعهم وأن تأخذ بيدهم؟ أن تؤنسهم وأن تداريهم؟ أن تبذل شيئاً من دنياك لأُخراهم؟ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾
توجد نقطة دقيقة جداً قالها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه نقطة مُبَشِّرة لكم جميعاً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أَقِيموا الصلاةَ، وآتوا الزكاةَ، وحُجُّوا، واعتَمِروا، واستَقيموا يستَقِمْ بكم. ))
لمجرد تأديتك لحق الله أحياناً، ولمجرد أن تقف موقفاً نبيلاً فإن الآخرين قد يستفيدوا من هذا الموقف فيُقلِّدوك.
حَدَّثني أخ أجرى عملية جراحية ناجحة جداً، فجاء وليُّ المريض ليشكره شكراً جزيلاً ومعه محفظة، فلما فُتِحَت ليُقدِم له هذه الهدية فإذا هي زجاجة خمر من النوع الغالي جداً، فقال هذا الطبيب المؤمن: أعتذر عن قَبولها لأنني لا أشرب الخمر، فقال له: أهدِها لمن تحب، فقال له: أعتذر عن أن أهديها لأحد لأن هذا ليس من شأني، وتمضي الأيام، وبعد ستة أشهر التقى بهذا الذي قدَّم له هذه الهدية، قال له: والله لقد أعجبني موقفك، وتبت بعد شهرٍ عن شرب الخمر، والذي حملني على التوبة هذا الموقف الشريف المبدئي منك. فهذا الطبيب لم يفعل شيئاً، ولم يتكلم ولم يدعُ، ولم يلقِ خطبة ولا أعطى شئياً، إلا أنه وقف موقفاً سليماً (استقيموا يُسْتَقَمْ بكم) .
لقد رأيت في الحج إنساناً ألمانياً غربياً، فعلمت أنه أسلم بسبب طالبٍ سوريٍّ أقام في بيته مستأجراً، وصاحب البيت هذا تمنَّى أن يرى هذا الطالب ينظر إلى ابنته للحظةٍ واحدة، فغضُّ بصَرِ هذا الطالب حملَ إنساناً ليس مسلماً على أن يتبع الإسلام.
(استقيموا يستقم بكم) قد تكون أكبر داعيةٍ وأنت ساكت، فاستقامتك دعوةٌ إلى الله، وصدقك دعوةٌ إلى الله، ووفاؤك دعوةٌ إلى الله.
أذكر أن الجيوش الإسلامية فَتَحَتْ سمرقند، ويبدو أنها فُتِحت بخلاف الطريقة الشرعية، فالطريقة الشرعية هي أن يُعرَض الإسلام على هؤلاء، فإن رفضوا، تُعرَضُ عليهم الجزية، فإن رفضوا يُقاتَلوا، ويبدو أن هذا الجيش قاتل مباشرةً ودخل المدينة واحتلها ورفع راية الإسلام فيها، وبَلَغَ أهل هذه البلدة بعد حين أن الطريقة التي فُتِحت بها بلدتهم ليست شرعية، فأرسلوا وفداً سراً إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز، وعرضوا عليه المخالفة الشرعية في فتح بلدهم، تروي كتب التاريح أن هذا الخليفة العظيم الذي حَكَمَ ثلاثين شهراً فقط، وفي هذا العهد الذي حكم به ديار المسلمين لم يستطع دافع زكاةٍ أن يُعطي درهماً واحداً لفقير، فلم يعد هناك فقراء، فجاءت أموال الزكاة من اليمن وإفريقيا إلى الشام، فلم يوجد أحد يقبل الزكاة، فتحقق وعد الله في عهد هذا الخليفة الراشد، قيل أن هذا الخليفة أمسك ورقة صغيرة "قصاصة" وكتب عليها إلى قائد الجيش في سمرقند: أن اخرج من المدينة واعرض عليهم الإسلام أولاً، ثم الجزية ثانياً، ثم الحرب ثالثاً، فلم يصدق هؤلاء الناس أن جيشاً محتلاً، احتل مدينة وفتحها ورفع راية الإسلام فيها يخرج بقصاصة! لكن هذا الذي حدث، وحينما أُعطي قائد الجيش قصاصة الخليفة قبَّلها وأعطى أمراً بالانسحاب، فما كان من أهالي سمرقند إلا أن أعلنوا إسلامهم وقالوا: ابقوا نحن راضون بكم. لا تخرجوا.
إخواننا الكرام: (واستَقيموا يستَقِمْ بكم) وكل واحد منَّا له حرفة، فكن صادقاً، لا تكذب، ولا تغُش، ولا تحتَلْ، طبِّق الإسلام، فأنت داعية بعملك، والناس قد ملَّوا الكلام يا إخوان، فالكلام لا يقدَّم ولا يؤخِّر لأنه ليس له ثمن ولا يكلّف شيئاً، وأنت إن أردت أن تدعو إلى الله فطبق الإسلام في بيتك وفي عملك، وأنا أقسم لك -غير حانثٍ- أن أناساً كثيرين سيستفيدون منك، وسيقتدون بك، وستكون سبب طاعتهم وتوبتهم وإنابتهم، بشرط أن تكون أنت مطبقاً (واستَقيموا يستَقِمْ بكم) .
فلذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ فهم إن حُمِّلوا أمانةً فإنهم يؤدوها حق الأداء، ولكن قد لا توجد عند الإنسان أمانة، فهو غير مشغول فماذا يفعل؟ إنه يجب أن يبادر إلى الدعوة إلى الله، يجب أن يبادر إلى أن يشهد للناس حقيقة التوحيد "وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد" والتوحيد نهاية العلم، والعبادة نهاية العمل..
﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ فضلاً عن المعنى المُتَبادر، قد ترى حادث سير وربما يكون السائق مظلوماً، فإذا ذهبت وشهدت حقيقة ما جرى أمام القاضي، فإنك تكون قد رسَّخت قِيَم العدل، وإنك قد تتعطَّل يوماً من أجل ذلك، وقد تنتظر وقد تنزعج لكن هذا في سبيل الله.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌۢ بِٱلْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْـًٔا ۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُۥ بِٱلْعَدْلِ ۚ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَىٰهُمَا ٱلْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ۚ وَلَا تَسْـَٔمُوٓاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰٓ أَلَّا تَرْتَابُوٓاْ ۖ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقٌۢ بِكُمْ ۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ(282) ﴾
و لكن بالمقابل: ﴿وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ فالشاهد ينبغي أن يأخذ تعويضاً عن عُطْلَتِهِ، فقد تعطَّل يوماً وعنده أولاد ينبغي أن يطعمهم.
﴿ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾ وبالمقابل: ﴿وَلَا يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ﴾ فعدل ساعةٍ يعدل أن تعبد الله ثمانين عاماً، وأحياناً يُحَقُّ الحق بشهادة منصفة، وهناك حوادث سير كثيرة جداً قد يكون أحد الأطراف أقوى من الطرف الآخر، فتضيع معالم القضية، فالركَّاب إذا كانوا من المؤمنين الصادقين فإنهم يذهبون ويشهدون، فالسائق يمشي على سرعة بطيئة جداً، والطفل هو الذي قَفَزَ أمامه فدهِس، والسائق ليس له ذنب، ولكن من يقول هذا الكلام؟ قد لا يُصدَّق السائق، فأنت حينما تدلي بشهادةٍ صحيحة فإن هذا من الأعمال الطيبة.
ففضلاً عن معنى: أن تشهد للناس أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وفضلاً عن أن تشهد لهم بلسانك أو بعملك، بلسانك متكلماً، أو بعملك قدوةً، فضلاً عن المعنى الأول الكبير هناك معنى آخر متبادر؛ وهو أنك إذا دُعيت إلى شهادةٍ فاشهد ولا تقل: ليس عندي وقت؛ لأن هذه عبادة وطاعة لله عزَّ وجل، وأنت حينما تنقذ أخاً لك من ظُلْمٍ محقَّق تكون قد فعلت عملاً طيباً.
أذكر أن امرأةً أرادت أن تفتري على إنسانٍ يسكن في بيتٍ لها مستأجَر، فادَّعت أنه فاسد الأخلاق، فلما جاءت القاضي قال لها: أريد شاهداً على ذلك، فقالت: ابنتي، قال: لا، إنَّ شهادة البنت لا تكفي وليست مقبولة، قالت: عندنا طالبة جامعية تشهد، قال: أوافق، فلما عرضوا على هذه الطالبة أن تشهد شهادة زُور لا أصل لها، قبلت، فلما قبلت أكرموها إكراماً ما بعده إكرام، لأنها إذا شهدت وصدر الحكم بإخلاء المنزل استردوا بيتاً، فبعد شهرٍ جاء وقت المحاكمة واستدعيت هذه الطالبة وسألها القاضي: هل صحيحٌ أن هذا المستأجر فاسد الأخلاق؟ وهذا المستأجر مؤمن، قالت له: والله يا سيدي إن لمح امرأةً عن بعد مئة مترٍ فإنه يغضُّ بصره عنها، فهي قبلت أن تشهد كي لا تسمح لأخرى أن تشهد شهادة زور، وهذا عمل طيب، وقد سقطت الدعوى لأن فيها افتراء يمس أخلاق الإنسان وهي تعلم استقامته وعفَّته وطهارته، لكن كيد الكائدين أراد تشويه صورته، فإذا دعيت إلى شهادة رأيتها بأم عينك فضيعت وقتك من أجل أن تشهد للحق فلا تتصور أن هذا عمل سهل، بل هذا يُعَدُّ عملاً طيباً وعبادةً عاليةً جداً.
فصار هناك معنيان؛ المعنى الأول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴾ أي: يشهدون للناس أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والمعنى الثاني: هم إذا دُعوا إلى شهادةٍ تنفيذاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ﴾
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34)﴾
المقصود بالحفاظ على الصلاة هنا؛ أي: يحافظون على أدائها في وقتها، وعلى إتمام ركوعها، وسجودها، وقعودها، وقراءتها، وخشوعها، وإن أعمق معاني المحافظة على الصلاة هو أن تحافظ على استقامتك فيما بين الصلاتين، وهذا معنى دقيق، فكيف تستطيع أن تُصَلي الظهر وأن تُقبِل على الله؟ إن ذلك يحصل لك إذا كنت فيما بين الفجر والظهر مستقيماً، غاضاً لبصرك، ضابطاً للسانك، مسبحاً وموحداً، مستغفراً وذاكراً لله عزَّ وجل، أما لو تفلَّت الإنسان من منهج الله فيما بين الصلاتين، وجاء لكي يصلي فإن هناك حجابٌ بينه وبين الله، وسبب هذا الحجاب هو المخالفات التي ارتكبها، فمن قبيل المحافظة على الصلاة أن تحافظ على استقامتك فيما بين الصلاتين، فالذي يحافظ على استقامته فيما بين الصلاتين يستطيع إذا دخل وقت الصلاة أن يؤديها كما أراد الله عز وجل.
﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ يحافظون على أدائها في وقتها، كما يحافظون على ركوعها وسجودها وقراءتها.
﴿ أُوْلَٰٓئِكَ فِي جَنَّٰتٍ مُّكۡرَمُونَ(35)﴾
هؤلاء هم المصلّون المستثنَون من الجزع، ومن المَنع والحرص، وهذه الأمراض التي هي في أصل خلقهم، نقاط الضعف التي كانت في أصل خلق الإنسان، والتي هي لصالحه، هذه النقاط تدفعه إلى باب الله، وتدفعه إلى التوبة، تدفعه إلى الطاعة، وهذه النقاط بالذات أحد أسباب توبته وإقباله وسعادته، وهي في ظاهرها نقاط ضعفٍ، وفي حقيقتها نقاط حثٍ على الطاعة وعلى السير في طريق الإيمان، إلا أن المصلين مُستثنَون من هذه النقاط، فالإنسان بعد أن اتصل بالله ليس جزوعاً، وإن أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدَي الله أوثق منك بما في يدك، وإن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله، وإن أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله، فبعد أن اتصل الإنسان بالله ورأى رحمته وقدرته ومحبَّته نسي أنه هلوع جزوع منوع..
﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾
لكن، ليس كل مصلٍ يُصلِّي كما قلت في الدرس الماضي..
(( إنما أتقبل الصلاة لمن تواضع لعظمتي وكفَّ شهواته عن محارمي، ولم يصرِّ على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العُريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبّيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم عليَّ فأبرُّه، أكلؤه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يُمَس ثمرها ولا يتغيَّر حالها. ))
[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]
﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ تكلَّمنا في درسٍ سابق وسابق عن أن المصلين كلَّما أضفت إليهم وصفاً ضاقت الدائرة..
﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35)﴾
لذلك كان أول ما يحاسب المرء يوم القيامة عن صلاته، فإن صَحَّت أفلح ونجح، وإن لم تصِّح خاب وخسر، ولا تنسَوا أن أركان الإسلام خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، ويمكن لأربعة أركان من هذه الأركان الخمسة أن تسقط، فالشهادة مرَّة واحدة في العمر، والحج يسقط عن الفقير أو غير المستطيع، والزكاة تسقط عن الفقير، والصيام يسقط عن المريض والمسافر، أما الركن المتكرر الذي لا يسقط بحال فهو الصلاة، هي سيدة القُرُبات، وغرَّة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، ولا خير في دينٍ لا صلاة فيه، والصلاة عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين.
﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36)﴾
معنى ﴿مُهْطِعِينَ﴾؛ أي: مُسْرِعين ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ﴾ قال العلماء عدة معان:
1- المعنى الاول: ما بال هؤلاء يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يأتمرون بما تأمرهم به؟
2- المعنى الثاني: ما بالهم مسرعين في التكذيب لك؟
3- المعنى الثالث: ما بالهم يسرعون إلى السماع منك ليَعيبوك ويستهزئوا بك؟
4- المعنى الرابع: ما لهؤلاء مهطعين؛ أي: معرضين؟
5- المعنى الخامس: ما لهؤلاء ينظرون إليك نظر التَعَجُّب؟
المعاني كلها متقاربة، فهم يسرعون إلى أن يجلسوا حولك، وهم لا يأتمرون بأمرك ﴿مُهْطِعِينَ﴾ يسرعون ليكذبوك إذاً ﴿مُهْطِعِينَ﴾ ويسرعون ليبحثوا عن عيوبٍ يذكرونها إذاً ﴿مُهْطِعِينَ﴾ .
﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ(36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ(37)﴾
أي: يجلسون حولك جماعاتٍ جماعات، ويُروى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جلس جَلَسَ حوله هؤلاء جماعاتٍ جماعات، حِلَقاً حِلَقاً، العزين: وهي جماعات متفرّقة، وأحياناً قد يكون هناك حفلة فتجد أن كل خمسة أو ستة أشخاص يتكلمون وحدهم فإن هؤلاء عزين، أي جماعات متفرّقة غير مجتمعة.
ويوجد مأخذ على بعض الإخوة في بعض الدروس أنهم يجلسون عزين، كل واحد في جهة، في أقصى الجامع وأقصى مكان، فالمنظر غير مألوف وغير مقبول وغير شرعي، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عليكُم بالجماعَةِ، وإيَّاكُم والفُرقةُ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وهوَ معَ الاثنينِ أبعَدُ. ))
(( فعليكَ بالجَماعةِ؛ فإنَّما يأكُلُ الذئبُ القاصيةَ. ))
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض أسفاره مع أصحابه في ساعة راحة كل منهم اختار مكاناً ليرتاح فيه، وكانت الأمكنة متفرِّقة، فلم يرضَ النبي بهذا التفرُّق، فاجتماع الجسم له معنى نفسي، فإذا وقفتم في الصلاة متراصّي الصفوف فهذا يعني شيئاً آخر غير تراصّ الصفوف، فهو يعني وحدة الكلمة و التعاون، يقول أحد الصحابة:
(( خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حَلَقًا فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّوف.))
أي الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وهناك إخوان كثيرون يشكون أن صلاة المغرب في هذا المسجد تكون فيها الصفوف ممتلئة باتجاه الطاولة، لكنها فارغة في الطرف الآخر وهذا شيء غير شرعي.
﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ(38)﴾
قال: كان المشركون يجتمعون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون إلى كلامه فيكذبونه، ويكْذبون عليه، ويستهزئون بأصحابه ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلَنّها قبلهم، ولئن أُعطُوا منها شيئاً لنُعطيَنَّ أكثر منهم، فقال تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ والحقيقة أن هؤلاء فيهم سذاجة، فما الميزة التي تكون لك حتى تستحق دخول الجنة؟ فإن كان هناك ميزة فهي لأشخاص يحملون دكتوراه، لا لأناس لا يقرؤون ولا يكتبون! يقول الله عزَّ وجل:
﴿ كَلَّآۖ إِنَّا خَلَقۡنَٰهُم مِّمَّا يَعۡلَمُونَ (39)﴾
أي: هؤلاء الذين يحلمون بجنةٍ دون أن يدفعوا ثمنها هم أناسٌ ساذجون أغبياء، فهل يمكن لك أن تأخذ جنة عرضها السماوات والأرض بلا ثمن؟ فإذا كان هناك شخص لم يأخذ شهادة واحدة في حياته، ثم تقدم بطلب إلى الجامعة يقول فيه: يرجى منحي دكتوراه، التوقيع فلان، ثم وضع طابعاً وقدَّمه، إن هذا يوضَع في مستشفى المجانين، فهو لا يحمل شهادة الصف السادس، ولا الكفاءة، ولا البكالوريا، ولا الليسانس، فقدَّم فوراً طلباً: يرجى منحي الدكتوراه ، وما السبب؟ هكذا مزاج، فطلبُ هذا هو نفس طلب هؤلاء لدخول الجنة.
﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ﴾ والجنة -أيها الإخوة -تحتاج والله إلى جهد كبير، ولن يدخل الجنة إلا إنسان امتُحِن فنجح، والله جلَّ جلاله يمتحن كل عباده، فأنت مُمتَحَن دائماً، ممتحنٌ فيما أعطاك، ومُمتحنٌ فيما منعك، فإن أُعطيت المال فأنت مُمتحن بالمال، وإن مُنعت المال فأنت ممتحن بالفقر، وإن أُعطيت القوة فأنت مُمتحنٌ بالقوة، وإن كنت مُستضعفاً فأنت ممتحنٌ بالاستضعاف، وإن أُعطيت الوسامة فأنت ممتحنٌ بالوسامة، وإن لم تكن وسيماً فأنت ممتحنٌ بعدم الوسامة، وإن تزوَّجت فأنت مُمتحنٌ بالزوجة، وإن لم تكن متزوجاً فأنت مُمتحنٌ بعدم وجود الزوجة، فأنت مُمتحنٌ دائماً، والجنة تحتاج إلى جهد كبير جداً.
ذُكِر مرّة أن هناك شاباً توفي والده، و كان الشاب أميّاً لا يقرأ ولا يكتب فذهب ليزور قبر أبيه، وتمنى على أحد الصغار أن يقرأ له بعض الآيات، ثم أعطاه مبلغاً لا يُذكر (ليرة)، وكان أقل مبلغ يُدفع لقاء ذلك خمس ليرات، فقرأ هذا القارئ:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)﴾
تألَّم الابن وقال: ألا يوجد في القرآن غير هذه الآية لكي تقرأها؟ ثم قال في نفسه: الآن تأتي آية ثانية وتعدل الموقف، فجاءت الآية:
﴿ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32)﴾
فأمسكه من رقبته وقال له: أهكذا تقرأ؟ فقال له: تريد الجنة بليرة! فهذا عجيب! أن يطمع الإنسان بالجنة بلا سبب، فقد يكون غير مستقيم، ولا يغض بصره، ولسانه طليق بعورات الناس، ودخله مشبوه، وبيته غير إسلامي ومع ذلك يطلب الجنة، لذلك قالوا: "طلب الجنة من دون عملٍ ذنبٌ من الذنوب" . ادخل الآن إلى محل سجاد فخم، فيريك البائع قطعة فتقول له: أريد أغلى، فيعطيك أغلى، فتقول: أريد أجمل، أنعم، ذات لون فلاني، لها لمعة، رقيقة، حرير، فجعلت البائع ينشغِل بك ثلاث ساعات، وبعد هذا أعطاك سجادة جيدة جداً، فإذا قلت له: هل تأخذ ثمنها خمس ليرات؟ فماذا يقول لك؟ من الممكن أن يضربك، فهذا الذي يطمع بدخول الجنة بلا استقامة، بلا عمل صالح، بلا عبادات، بلا انضباط، ولا يوجد شيء مضبوط في حياته ويقول لك: أنا أدخل قبلك الجنة، هذا فيه تحدٍّ ساذج غبي، لقد قالوا: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخُلَنَّها قبلهم، ولئن أُعطُوا منها شيئاً لنُعطيَنَّ أكثر منهم.
﴿كَلَّا﴾ فجاء الجواب، أداة ردعٍ ونفيٍ، لا:
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(123)﴾
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَٰرَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(111)﴾
والمسلمون يقولون: نبيُّنا عليه الصلاة والسلام يشفع لنا، وهم يرتكبون كل المعاصي، ويتعلَّقون تعلقاً ساذجاً بشفاعة ليست هي التي أرادها النبي عله الصلاة والسلام، أما حينما يقول النبي:
(( إنَّهُمْ مِنِّي، فيُقَالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما عَمِلُوا بَعْدَكَ، فأقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي. ))
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)﴾
(( يا مَعْشَرَ قريشٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا بني عبدِ مَنَافٍ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا عباسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ! لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا. ))
(( يا بني هاشمٍ لا تأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتونِي بأنسابِكم. ))
(( وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ. ))
من هو أبو لهب، إنه عم النبي، عاش ورآه بعينه، وسمع كلامه ومع ذلك قال الله تعالى:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾
﴿كَلَّا﴾ كلا لا يدخلونها.
﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفةٍ، ثم من علقة، ثم من مضغة، كما خُلِقَ سائر أجناسهم، فليس لهم فضلٌ يستوجب به دخول الجنة، إنما يستحقُّ الإنسان الجنة بالإيمان والعمل، لا بالأمل والتمني، كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم.
قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾ فلا يليق بهم التكبُّر، مرة رأيت طفلاً في المطار، وكان في وسطه كرة كبيرة، يبدو أن السفر طويل، فخافوا أن يخرج منه شيء يؤذي الرُكَّاب، فضاعفوا هذه الفوط حتى أصبح وسطه كالكرة، فقلت في نفسي: لو أن هذا الطفل صار شاباً وأخذه الكِبْر والعُجْب، ورأى صورته يوم كان صغيراً، والإنسان كلما تذكر أصله يتواضع لله عزَّ وجل، ونحن جميعاً من أين أتينا؟ لقد خرجنا من عورةٍ ودخلنا في عورةٍ ثم خرجنا من عورة، من ماءٍ مهين تستحي به إن كان على ثوبك، هذا أصلنا جميعاً، فلمَ الكِبْر؟ إن الإنسان قد يتكبر بسبب، ولكن لا يوجد سبب يملكه الإنسان للتكبر، فمهما كان عظيماً، فحياته متوقِّفة على نقطة دم تتجمد في أحد شرايين دماغه، يقول لك: خثرة دماغية، فانتهى.
يُروى -أيها الإخوة - أن مطرف بن عبد الله رأى المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة يتبختر في مِطرفٍ له من خَزّ، وجُبّةٍ من خز أي من حرير، فقال له: يا عبد الله ما هذه المِشية التي يبغضها الله؟ قال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أعرفك، أوَّلُك نطفةٌ مَذِرَة، وآخرك جِيفةٌ قذِرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العُذْرَة، أي الغائط، : أنا أعرفك.
الإنسان أوله نطفة وآخره جيفة، وهو في أناقته وعظمته يحمل الغائط في أمعائه، ولو لم يستطع التحَكُّم لكانت حالته صعبة جداً، ولأصبح مفضوحاً بين الناس، فكل مكانتك من أين تستمدها؟ من أن هاتين الفتحتين مضبوطتين، ولو كان هناك تفلت لاحتاج الواحد منا للفوط، فعلامَ يتكبر الإنسان؟ وعلامَ يرفع رأسه؟ وعلامَ يستعلي على الناس؟ وكل مكانتك الاجتماعية بهاتين العضلتين اللّتين تحكمان الغائط والبول، فأوله نطفةٌ مذرة وآخره جيفةٌ قذرة وفيما بينهما يحمل العُذْرةَ، قال بعضهم:
يَا بْنَ التُّرَابِ وَمَأْكُولَ التُّرَابِ غَدًا أَقْصِرْ فَإِنَّك مَأْكُولٌ وَمَشْــرُوبُ
الإنسان أحياناً قد يقف أمام المرآة فيَتيه بشكله، بطوله، بأناقته، بجماله، بلون جلده، بشعره أحياناً، لو تصوَّر بعد حين أنه سيُوضع في القبر، فلو فُتِح القبر بعد شهر أو شهرين لرأى شيئاً لا يُحتمل؛ دود، بعض الحيوانات، بعض الحشرات، بعض القوارض، هذا هو الإنسان، علامَ التَكَبُّر؟
﴿ فَلَآ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَٰرِقِ وَٱلۡمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ(40)﴾
المشرق جهة والمغرب جهة أخرى، والمشرقين أقصى شروق الشمس في الشتاء، وأقصى شروقها في الصيف، ففي الصيف تشرق الشمس نحو الشمال، فتكون الأشعة عمودية، وفي الشتاء تشرق نحو الجنوب، فتصبح جنوب شرق، فتدخل إلى البيوت، والغرب كذلك، وإذا كان للإنسان بيت على البحر أو على مكان ممتد، فهو يلحظ هذا واضحاً، فشروق الشمس في الصيف نحو الشمال، وقد تمتد المسافة على الأُفق، والمسافة طويلة جداً بين شروقها في الصيف وشروقها في الشتاء، إذاً: فرب المشرق جهة المشرق، ورب المشرقين هو النهاية العُليا والدُنيا، ورب المشارق: كل يوم هناك مشرق، فلو قسمت المسافة على مائة وثمانين يوماً تجد أن الشمس في كل يوم تشرق من مكان جديد، فهناك: رب المشرق، ورب المشرقين، ورب المشارق.
﴿ فَلَآ أُقۡسِمُ بِرَبِّ ٱلۡمَشَٰرِقِ وَٱلۡمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ(40) عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ خَيۡرٗا مِّنۡهُمۡ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ(41)﴾
إخواننا الكرام، هناك حقيقة خطيرة جداً أقولها لكم: لا تقلقوا على دين الله، هذا دينه، فالله يتولَّى حفظه، وهو يتولَّى نصره وهو يتولَّى دَعْمَهُ، ولكن اقلقوا: هل يسمح الله لكم أن تدافعوا عنه أو لا يسمح لكم؟
﴿ هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم (38)﴾
المشكلة: لا تقلق على دين الله، بل اقلق هل سُمِحَ لك أم نُحِّيتَ جانباً؟ إن كنت أهلاً للحفاظ على هذا الدين باستقامتك، وعلمك، وإخلاصك، وسلوكك، فمعنى ذلك أن الله قَبِلَك، وإن لم تكن أهلاً نحَّاك جانباً واستبدل بك آخرين ليسوا أمثالك ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمْثَٰلَكُم﴾ .
﴿ فَذَرۡهُمۡ يَخُوضُواْ وَيَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ(42)﴾
هذا تهديد ﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ والله أيها الإخوة سيأتي على هؤلاء الشاردين، العصاة، المنحرفين، الفُجَّار، الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، الذين فعلوا ما فعلوا، سيأتي عليهم زمان ينسَون فيه الحليب الذي رضعوه من أُمَّهاتهم.
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ(43)﴾
فكما كان هؤلاء في الدنيا يستيقظون مع طلوع الشمس فيذهبون إلى عبادة الصنم، أو يخرجون إلى شيءٍ مهمٍ جداً، فقال: هؤلاء غداً حينما يأتيهم يومهم الموعود.
﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَٰشِعَةً أَبۡصَٰرُهُمۡ تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٞۚ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ(44)﴾
ذليلة، خاضعة، لا يرفعونها خوفاً من الله عزَّ وجل.
﴿تَرۡهَقُهُمۡ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ هذا مصير المنحرف والعاصي.
تقول الآيات الأخيرة ﴿فَذَرْهُمْ﴾ تهديد، يخوضون في الدنيا ويمرحون، ويلعبون، ويسافرون، ويتاجرون، ويقيمون الملاهي، ويفعلون الموبقات، والمعاصي، والآثام، ويتبجَّحون، ويستعلون.
﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ*يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ﴾ أي إلى صنمٍ نُصِبَ أمامهم يعبدونه من دون الله.
﴿يُوفِضُونَ﴾ أي يسرعون.
﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ خوفاً من الله، لا خوف الطاعة، بل خوف الذل ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ وكل واحد منا -أيها الإخوة -لا يدخل هذا اليوم في حساباته اليومية فهو أحمق وغبي، فلابدَّ من يومٍ نقف جميعاً بين يدي الله عزَّ وجل لتُعْرَض علينا أعمالنا صغيرها وكبيرها بكل تفاصيلها، بكل ملابساتها، بكل بواعثها، وبكل أهدافها، تُعرَض علينا هذه الأعمال، وهنيئاً لمن كان عمله طيباً.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)﴾
﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾
الملف مدقق