وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة المعارج - تفسير الآيات 19-26 طباع الإنسان، وصفات المؤمنين
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثالث من سورة المعارج، ومع الآية التاسعة عشرة، وهي قوله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿  إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)﴾

[  سورة المعارج  ]

 أيها الإخوة الكرام، هذه الآية تذكرنا بآياتٍ مثيلاتٍ لها:

﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا (28)﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ خُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ مِنْ عَجَلٍۢ ۚ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَٰتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ(37)﴾

[ سورة الأنبياء ]


 ضعف الإنسان لصالحه:


 ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ يُقصَد بالإنسان هنا جنس الإنسان، فالألف واللام هنا: أداة الجنس، أي أن جنس الإنسان قبل أن يعرف الواحد الديّان ضعيفٌ، هلوعٌ، عَجول، ونقاط الضعف هذه التي في أصل خلقه لصالحه، وأضرب على ذلك مثلاً: لو أن الله خلق الإنسان قوياً، لاستغنى بقوَّته عن الله، فشقي باستغنائه؛ لأن السعادة كلها عند الله، فإذا استغنى الإنسان عن ربه شقي، فخلقه ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره، وخلقه عجولاً، ولو خلقه مَهُولاً واختار الدار الآخرة فإنه لا يرقى بها، فخلقه عجولاً يريد الشيء الذي أمامه، فإذا أعرض عنه واختار الشيء الآجل ارتقى عند الله عزَّ وجل، والله سبحانه وتعالى خلق الإنسان هلوعاً، هذا هو موضوع درسنا اليوم.

 الصفة قيد:


 أيها الإخوة الكرام، بادئ ذي بدء قال المناطِقة؛ أي: علماء المنطق: إن الصفة قيد، فإذا قلت مثلاً: أُريد أن أعيِّن موظفاً يحمل شهادةً ثانوية، أتاك عشرات الألوف، وإذا قلت: أريد موظفاً يحمل شهادة ثانوية ومُعفى من الخدمة الإلزامية ضاقت الدائرة، وإذا قلت: أريده دون الثلاثين، ضاقت الدائرة أكثر، كذلك إذا قلت أريده غير متزوِّج ضاقت الدائرة، ويتقن اللغة الأجنبية، ضاقت الدائرة، وإذا قلت: يتقن لغتين ضاقت الدائرة أكثر، فكلما أضفت صفةً ضَيَّقت الدائرة، وهناك مثلٌ أوضح، لو أنك قلت: إنسان فقط، لشملت هذه الكلمة خمسة آلاف مليون إنسان، وإذا قلت: إنسان مسلم لاقتصرت على مليار ومائتين مليون، ولو قلت: إنسان مسلم عربي لاقتصرت على مائة مليون، ولو قلت: إنسان مسلم عربي مثقف لهبطت إلى عشرين مليون، ولو قلت: إنسان مسلم عربي مثقف طبيب لهبطت إلى مئات الألوف، كذلك لو ضيَّقت الاختصاص، أو حددت مكان الإقامة، أو عيَّنت مدينة بذاتها فقد يصل العدد من خمسة آلاف مليون إلى ثلاثة آلاف، فكلما أضفت صفةً ضيقت الدائرة، وضربت هذا المثل لأبيِّن لكم ما ورد في الحديث القدسي:

((  ليس كل مصلٍ يُصلي إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع لعظمتي (قيد) وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوء عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً والظلمة نوراً يدعوني فألبيه، يسألني فأعطيه، يقسم عليَّ فأبرُّه، أكلأهُ بقربي، أستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يمسُّ ثمرها ولا يتغير حالها. ))

[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]

 فكلما أضفنا صفةً ضاقت الدائرة، وقد مهَّدت بهذين المثلين لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً*إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ من هم المصلون؟ الذين صلّوا كما أراد الله عزَّ وجل، من هم المصلون؟ الذين اتصلوا بالله من خلال صلواتهم، من هم المصلون؟ الذين يرضى الله عنهم، من هم المصلون؟ الذين حققوا الهدف من صلاتهم، قال تعالى:

﴿  إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ(33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ(35)﴾

[  سورة المعارج  ]

 إذاً ليس كل مُصلٍّ يصلي.
 نعود إلى أول الآيات، أيها الإخوة الكرام: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ المقصود بالإنسان هنا الإنسان في أصل خلقه، قبل أن يعرف ربه، فالإنسان أيها الإخوة فردي، فإذا ما عرف الله ولا عرف منهج الله كان فرديّ النزعة، لكن تعاونه مع إخوانه المؤمنين فهذا تكليف، فالإنسان في أصل خلقه يحبُّ الشهوات، فإذا اتّبع منهج الله عزَّ وجل أحبَّ القُرُبات، والإنسان في أصل خلقه يحب أخذ المال، أما إذا اتبع منهج ربه فإنه يُنْفِقُ المال، وهكذا... فهناك طبعٌ وهناك بنيةٌ، وهناك جِبِلّةٌ في الإنسان، وهناك تكليف له، فالإنسان قبل أن يعرف ربه، أو قبل أن يتّبع منهج ربه، هلوع في أصل خلقه. 
كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ قالوا في الهَلَع: هو أشد الحرص وأسوأ الجَزَع، وأشد الحرص البخل، والحقيقة أن الإنسان إن لم يكن مؤمناً كان حريصاً على الدرهم والدينار حرصاً مضحكاً، حريصاً حرصاً مرضياً، فهو حريصٌ على كنز المال، وعلى عدم إنفاقه وعلى حيازته إلى درجة أنه يُضحي بمكانته وكرامته من أجل المال.

 من هو الهلوع؟


  فالإنسان إن لم يعرف الواحد الديَّان: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ الهلوع: أشدُّ الحرص وأسوء الجزَع وأفحشه. 
وقال بعضهم: الهلوع هو الذي لا يصبر على خير ولا على شَر حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي، فالخير يدفعه إلى البَطَر، والشر يدفعه إلى اليأس والقنوط، فمن هو الهلوع؟ هو الذي لم يتصل بالله، فالشر سحقه والخير أَبْطَرَهُ. 
ومن تعاريف الهَلوع الوارد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ أي يصيبه الخير فيفجُر، ويصيبه الشر فييأس، ويُصيبه الخير والشر فيفعل فيهما ما لا ينبغي، بل هو أشد أنواع الحرص، وأشد أنواع الجَزَع. 
وقال بعض العلماء: الهَلوع أي الضَّجور، المَلول الذي لا يصبر. 
وقال بعضهم: الهلوع هو الذي لا يشبع مهما أعطيته "منهومان لا يشبعان طالب علمٍ وطالب مال" .

المنوع:


والمنوع؛ الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى، وقال بعض العلماء: خَلَقَ الله الإنسان على حب ما يسرّه، وعلى بغض ما يكرهه، ثم تَعَبَّدَ الله الإنسان بأن ينفق ما يحب، وأن يصبر على ما يكره، فالعبادة دائماً وأبداً تتناقض مع طبع الإنسان، وهذا هو ثمن الجنة، وبشكلٍ مختصرٍ مضغوط أقول: إن الجنة لها ثمن، وقد أودع الله فيك الشهوات، وجاء التكليف فأمرك أن تنضبط وفق منهجٍ دقيق، فما حَرَمَكَ هذه الشهوات ولكن نَظَّمها، فهو لم يحرمك المرأة ولكن سمح لك بالزواج فقط، فليس في مجتمع المسلمين علاقة بين رجل وامرأة إلا أن تكون زوجةً له، أو أماً، أو بنتاً، أو أختاً، أو عمةً، أو خالةً، فلا يوجد امرأة يُستمتَع بها خارج الزواج إطلاقاً، فثمن الجنة ضبط الشهوات، فلو أن الإنسان جُبِلَ على بغض المرأة لمَا ارتقى الإنسان بغض البصر، ولو جُبِلَ على بُغض المال لمَا ارتقى الإنسان بإنفاق المال، فسرّ الرُقي عند الله عزَّ وجل أَنَّك تنفق شيئاً تحبُّه، وأنك تمنع نفسك عن شي تحبه، وأنك تصبر على ما تكره، ولولا هذا التناقض الذي أراده الله عزَّ وجل بين طبع الإنسان وبين منهجه لمَا ارتقى إنسانٌ إلى الآخرة إطلاقاً، فالإنسان خُلِق هلوعاً، لولا أنه هلوع لمَا دخل جنة ربه، لماذا؟ لأنه خلقه شديدَ الجَزع، لذلك لا يطمئن إلا بالاتصال بالله عزَّ وجل، ولا يستقر له قرار إلا أن يكون مصطلِحاً مع الله، ولا يشعر بالأمن إلا إذا كان مطيعاً لله، ولا يشعر بالطُمأنينة إلا إذا ذكر الله، فلو ألغيت ذكر الله، ألغيت الاتصال بالله، ألغيت الصلح مع الله، لعاش حياةً كالجحيم لا تطاق.

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)﴾

[  سورة طه  ]

 لولا أنه هلوعٌ جزوعٌ، يَفْرَق من الشّر، يفْرَق من المُصيبة، لمَا التجأ إلى الله عزَّ وجل خوفَ أن تصيبه، ولولا أنه جَزوع لمَا استقام على أمره، لولا أنه جزوع لمَا غضّ بصره، لولا أنه جزوع لمَا ترك أكل المال الحرام، فجِبِلَّتُه تدعوه إلى الجَزع، والجزع هو سبب إقباله على الله، وسبب توبته، سبب صلحه معه، سبب كفّ نفسه عن شهواتٍ حرمها الله عزَّ وجل.
 وقال بعض العلماء: الهَلوع هو الذي إذا مَسَّه الخير لم يشكر، وإذا مسه الضر لم يصبر، وهذا ضعفٌ خَلقي في أصل بُنية الإنسان، وهذا الضعف الخَلقي سبب سعادتك في الدنيا والآخرة، فلو لم تكن تخاف لمَا خفت من المرض، ولا من الفقر، ولا من قهر الرجال، والذي لا يخاف لا يطيع الله عزَّ وجل، لكن الإنسان قد يخاف مرضاً عُضالاً، يخاف قهراً مُذِلًّا، يخاف موتاً مُجْهِزاً، يخاف مرضاً مفسداً، يخاف هرماً مُفَنِّداً، يخاف فقراً مُدقِعاً، لذلك يصطلح مع الله حتى يطمئن.

﴿ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ (28)﴾

[  سورة الرعد ]

 لو أن الله عزَّ وجل قال: تطمئن القلوب بذكر الله، لاختلف المعنى، فيصبح المعنى عندئذ أن القلوب تطمئن بذكره وبغير ذكره، أما حينما قال: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ أي أنّ قلب الإنسان لا يطمئن ولا يسكن ولا يتوازن ولا يطمئن إلا إذا ذكر الله عزَّ وجل.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ جنس الإنسان قبل أن يعرف الله جُبِلَ على الهَلع، فهو شديد الخوف عند الضّرَّاء، وشديد الحِرص عند السّرَّاء، وهذه صفته قبل أن يعرف الله، وهاتان الصفتان تدفعانه إلى الله، تدفعانه إلى التوبة، تدفعانه إلى الذكر، تدفعانه إلى الطاعة، وإلى التقرُّب من الله عزَّ وجل، ولولا صفات الهلع والجزع والحرص لما ارتقى الإنسان إلى الله عزَّ وجل، فقد يكون مع الإنسان مبلغٌ من المال مُحبّبٌ إليه، وهو حريصٌ عليه، حريص أن يكون دائماً في حوزته، حريص على أن يبقى في خزنته، وهو حريصٌ على أن ينمو هذا المال، فحينما ينفق منه كان هذا معاكساً لطبع الحرص فيرقى عند الله عزَّ وجل.

﴿  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾

[  سورة النازعات  ]

 فمن صفات الإنسان صفة الهَلَعِ بشقَّيها: الحرص والجزع، وصفة الضعف ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ وصفة العجَل ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ هذه الخصائص والصفات ضعف في أصل خلق الإنسان ولكنها لصالح إيمانه.

مثال موضح:


 وأوضح مثلاً على ذلك؛ إنك قد تقتني آلةً كهربائيةً غاليةً جداً، وهناك من الآلات ما يصل ثمنها إلى بضعة ملايين، ويوضع في هذه الآلات قاطع على طريق اتصال الكهرباء بها، فهناك سلك ضعيف جداً، ومهمة هذا السلك الضعيف أنه إذا جاء التيار فوق مائتين وعشرين (ساخ) وانقطع، فنضمن بذلك سلامة الجهاز، فهناك ضعف في أساس هذا الجهاز، ويتمثل هذا الضعف في وصلة ضعيفة في الجهاز، وحينما يأتي التيار الذي يمكن أن يحرق الآلة بأكملها يدخُل من هذا السلك الضعيف فينصهر هذا السلك، فإذا انصهر قُطِعَ التيَّار وضُمِنت الآلة، فهل نَعُدُّ هذا الجزء من الآلة خطأ في التركيب؟ لا، بل هو عين الكمال، هو قمة الكمال، فهذا جهاز صيانة، وصمَّام أمان، فضعف الإنسان سبب رُقِيِّه عند الله، والإنسان يخاف، فلو شعر أن في جسمه شيئاً غير طبيعي وأخذ خزعة وحلّل، وكانت النتيجة إيجابية فإنه يبرك وذلك لأنه جزوع، وتراه يقول له: يا رب أعاهدك على التوبة، وهذا الشيء يقع مئات ألوف المرات، فشبح مرضٍ عضال يدفع المرأة إلى الحجاب الكامل، وشبح مرضٍ عُضال يدفع الرجل إلى التوبة النصوح، وشبح أزمةٍ مالية مُدَمِّرَة يدفع صاحبها إلى دفع زكاة ماله، فتسعة أعشار الناس الذين اصطلحوا مع الله، كان سبب اصطلاحهم معه أزمة جاءت مفاجئة وكانت ماحقة وساحقة، فكيف هرب منها صاحبها؟ لقد هرب منها بالصلح مع الله، إذاً: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ ولولا هذه الصفة لمَا أقبل أحدٌ على الله، ولمَا اصطلح معه، ولمَا تاب على منهجه، ولا فعل أي شيء من هذا. 
قال: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً﴾ أي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله الخير بَخِلَ ومَنَع، وإنك تعجب أحياناً من أُناس يملكون أرقاماً فلكية ومع ذلك يبحثون عن دُريهمات يأخذونها ظُلماً، ويبحثون عن بِضع ليرات وبِضع مئات يأخذونها ظلماً وقهراً من فقير، وهذا واقع، هذا إنسان مريض.

﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (16)﴾

[  سورة التغابن  ]

 ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه:

(( شرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هالِعٌ وجُبنٌ خالِعٌ. ))

[ أخرجه أبو داوود ]

 لذلك استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من الجُبن والبُخل، فالجبن جزَع، والبخل حرص، والجبن والبخل صفتان مركبتان في طبع الإنسان إن لم يعرف الواحد الديَّان، والمصلّون مُستثنَون من الهلع، ومن الجزَع، ومن الحرص.
﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
 قال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً*إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾
 ﴿الْمُصَلِّينَ﴾ بالمعنى الذي أراده الله، وبالصلاة التي أرادها الله، والتي هي عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، لا خير في دينٍ لا صلاة فيه، والصلاة غُرَّة الطاعات، وعصام اليقين، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات، والصلاة حسن العلاقة مع الله:

(( أرحنا بها يا بلال. ))

[ تخريج الإحياء للعراقي ]

 ولم يقل أرحنا منها، وهذا فرقٌ بين الواجب وبين الحب، بالحُب ترتاح في الصلاة، وحينما تؤدِّيها كواجب ترتاح منها، فينبغي أن تؤديها كمحب لا كمضطر.
 أيها الإخوة، قال تعالى:

﴿  وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾

[  سورة العصر  ]

 يمكن أن نوسِّع هذه الحقيقة: أينما وردت كلمة الإنسان في القرآن فإنها تعني الإنسان قبل أن يعرف الله، وتعني الإنسان في أصل جِبِلَّته، في أصل طبعه، ولم أقل فطرته؛ لأن الفطرة متوافقة مع الشرع، لكن الطَبْعَ متناقض معه، فالطبع أقرب إلى المادة من الفطرة، فالفطرة نفسية، أما الطبع فمادي، وأوضح مثل على ذلك: الإنسان حينما يؤدِّي ما عليه من زكاة مالٍ يؤنِّبَهُ طبعه حينما يدفع هذا المال، لكنه حينما يدفعه نفسه ترتاح، فتنفيذ الطاعات متعب للجسم، لكنها مُريحةٌ للنفس، فحينما تفعل عبادةً ما فإنك تشعر بالتعب في أثناء القيام بها، وقد تعاكِس طبعك، أما حينما تؤديها كاملةً فإنك تشعر بالراحة النفسية، إذاً: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ وتدل هذه الآية على أن هؤلاء المصلِّين مستثنون من الهلع والجزع، قال العلماء: المصلون هم الذين يؤدّون الصلوات المكتوبة، فهذه فرائض، والله جلَّ جلاله لا يقبل النوافل ما لم تُؤدَّ الفرائض، فالفرائض أولاً والنوافل ثانياً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ الذين يصلّون الصلاة لوقتها، وخير الأعمال أن تؤدِّيَ الصلاة على وقتها. 
وقال بعض العلماء: هم الصحابة الكرام الذين حققوا من الصلاة غايتها، وقطفوا من الصلاة ثمارها، وهم الذين سَعدوا بالصلاة، وكانت سبب سعادتهم في اتصالهم بخالقهم.
أيها الإخوة ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾

 معاني (( دائمون)):


 الصفة الأولى لهؤلاء المصلين: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ .

 1- قال بعضهم: دائمون؛ أي: ساكنون لا يلتفتون يَمنةً ولا يسرةً،

فهم في خشوع، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يصلي ويتلفَّت، فقال عليه الصلاة والسلام:

((  لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. ))

[ الجامع الصغير بسند ضعيف ]

 فمن معاني: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ أي: هم ساكنون، خاشعون، وقال بعض العلماء: الخشوع في الصلاة ليس من فضائلها بل من فرائضها ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ .

 2- وقال بعضهم: الذين يكثرون من الصلوات النافلة.

 3- وهناك معنى ثالث

ربما كان مقبولاً؛ وهو أن المؤمن بين الصلاتين يتَّصل بالله عن طريق الدُعاء وعن طريق الاستغفار وعن طريق التفكُّر والتأمُّل، وعن طريق التسبيح وعن طريق الحَمْد وعن طريق التكبير، فإذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذا استغفرت الله، وتلوت القرآن، ودَعَوْتَ الله، وتفكَّرت في خلق الله، فإن هذه الأنشطة الفكرية واللسانية تجعلك على صلةٍ مع الله دائماً، وقد يُقبَل هذا المعنى إضافةً للمعنيين السابقين: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ أي: يتصلون بالله عزَّ وجل بطريقةٍ أو بأخرى، من خلال الدعاء والذِكْر والتفكُّر، والتسبيح والحمد والتوحيد والتكبير، فهؤلاء المصلون على صلاتهم دائمون..

الإنفاق في سبيل الله:


﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام قال:

((  الصدقة برهان. ))

[ صحيح الترغيب ]

 فقد حُبِّب المال إلى الإنسان، وهو يرقى بإنفاقه لا بقبضه، فالذي يُنْفِقُ ماله ابتغاء وجه الله يؤكد أن الله عزَّ وجل أغلى عليه من المال، لذلك أنفقه ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجل، فمن صفات المصلين..
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ أي: حقٌ ثابت، وقد رجح العلماء أن هذا الحق المعلوم هو الزكاة، فقد قال في آية أخرى: 

﴿ وَفِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ(19)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 لم يقل: معلوماً، فالمعلوم هي الزكاة، وحينما نُغفِل "معلوم" يكون المعنى: الصدقة.

﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلْكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّنَ وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَٰهَدُواْ ۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِى ٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ(177)﴾

[  سورة البقرة  ]

 إيتاءُ الزكاة شيء، وإيتاءُ المال على حبِّه شيءٌ آخر، من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( في المال حقٌ سوى الزكاة  ))

[ شرح البخاري لابن الملقن بسند ضعيف ]

 والأشياء التي نصبو إليها لا تحتملها الزكاة، بل تحتملها الصدقة، فالناس يودُّون أن يقدِّموا زكاة أموالهم فقط، مع أن الله سبحانه وتعالى يثني على مَن يؤتي من ماله صدقةً فوق الزكاة. 
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ لذلك هذا الذي يُقِّدر الزكاة تقديراً يعصي الله عزَّ وجل، فيجب عليك أن تجرد، وقد يقول لك قائل: هذا المَحَل فيه مائة ألف، فإذا سمحنا للتاجر أن يُقَدِّر الزكاة تقديراً عشوائياً أو تقديراً غير دقيق لم تعد الزكاة حقاً معلوماً، فهناك من يقدر زيادة الألف، وهناك من يقدر أقل، لذلك لا تصح الزكاة إلا بحساباتٍ دقيقة..

السائل والمحروم:


﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ من هو السائل؟ قالوا: الذي يسأل الناس لفاقته، فهو فقير يسأل، ومن هو المحروم؟ هو الفقير الذي يستحي أن يسأل فَيُحْرَم، فالسائل هو الذي يسأل، فيقتحم عليك، ويقول لك: أعطني، أنا فقير، معه وثائق، أما المَحْروم هو الذي يغلبه الحياء فلا يسأل فيُحرم، لذلك أثنى ربنا عزَّ وجل على هؤلاء الذين يغلبُ عليهم الحياء فقال:

﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ(273)﴾

[  سورة البقرة  ]

 كأن الله يحب هؤلاء المتعففين الذين يَسْتَحْيون، فما واجب المؤمنين في ضَوْءِ هذا الشرح؟ أن تبحث أنت عنهم، أن تستقصي أنت أحوالهم، أن تسألهم أنت، أن تستحلفهم أنت، أن تنظر في معيشتهم أنت، أن تتفقدَّهم أنت، وفي بعض الحالات يجب عليك أن تسأل، وحتى أكون دقيقاً معكم سأقول هذا المثال: إنسان عنده ابن مريض يحتاج إلى عملية، فإذا استحى أن يسأل مات ابنه، وهذا لا يجوز، فهذه حالات استثنائية يجب أن تسأل فيها، وإن لم تسأل فأنت آثم، أما في الأعم الأغلب فلا يجب ذلك، فهناك من يسأل من أجل تأمين حاجات ليست ضرورية جداً، وهناك من لا يسأل، فالذي لا يسأل قال تعالى فيه: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً﴾ لذلك كان واجبك -أيها الأخ المؤمن- لا أن تنتظر من يسألك، بل أن تَسْعَى أنت إليه، وأن تزوره في بيته، وأن تسأله عن أحواله، تسأله عن معيشته، وأن تستحلِفَه هل عليك دين؟ وأن تحاول أن تحفظ له ماء وجهه، تحاول أن تجعله عزيزاً كريماً، وهذا الذي ينبغي أن يكون بين المؤمنين، لكنك حينما تنتظر من يسألُك فقد يأتيك المحترفون الذين هم أغنى منك لكنك تظنهم فقراء.
 حدَّثني أخ قال لي: كنت في محل تجاري ورأيت امرأةً ترتدي ثياباً مضى عليها أكثر من عشرين عاماً، فاللون الأسود أصبح فاتحاً لامعاً، وقد سألت التاجر مبلغاً من المال في مطلع العيد، فأعطاها المال لأنه رقَّ لها، فهي تلبس ثياباً مهترئة، وبعد ذلك التقى بها في المصرف، وسأل عنها بعض الموظَّفين فقال: رصيدها سبعمائة ألف، وتسأل الناس إلحافاً، فنحن نريد هؤلاء المؤمنين الصادقين، الأتقياء، الأعفَّة، الأعِزَّة، ابحث عن هؤلاء قبل أن تُلقي المال جزافاً، فهناك من المحترفين من يأخذ أضعافاً مضاعفة مما يأخذ أولئك الذين تبحث عنهم.
 أيها الإخوة الكرام، الحمد لله هناك الآن جمعيَّات لمنع التسوُّل، وقد نجحت نجاحاً كبيراً، وكل إنسان متسوِّل يُحاسَب حساباً شديداً، ويُلْقَى في مكان ستة أشهر، وأغلب المتسولين محترفون، لكن إذا صدق السائل هلك المسؤول، لذلك لا تقل: لا إلا بعد ترَيُّث، فابحث، واسأل، وتحقق، والنقطة الدقيقة أن هناك من يظن أنه يرتاح لمجرد إعطائه المال، وهذا غير صحيح، فلا بدَّ من أن تضع المال في المكان المناسب، للشخص المناسب وهو الإنسان المؤمن، فهناك من يتسول من أجل أن يجمع ثمن إبرة، فظن الناس أنها إبرة طب، فاتضح بعد ذلك أنها إبرة دش، فالمحروم هو الذي حُرِمَ المال، المحروم هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً، فلا يعلم أحدٌ حاجته، والمحروم الذي يأتي بعد الغنيمة وليس له فيها سهم، والمحروم الذي لم يبقَ له مال فقد احترق محله مثلاً، أو جاء الصقيع فأتلف مزرعته بأكملها، فالمحصول صفر، وعليه ديون من ثمن البذور والأسمدة وما إلى ذلك، والمحروم الذي أصيب ثمره أو زرعه أو ماتت ماشيته، والمحروم الذي أصابته جائحة، وهذه كلها معاني المحروم، لقوله تعالى:

﴿  إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)﴾

[  سورة الواقعة  ]

 وقال بعضهم: المحروم هو الحيوان الذي لا يجد من يُطْعِمُه، فالذي يقتني الخِرفان يطعمها من أجله، من أجل أن تسمن، والذي يقتني الدجاج يطعمها من أجل البَيض، ولكن هناك حيوانات لا ينتفع بها أحد، فهي حيوانات محرومة، فمن أطعم هرةً أو كلباً جائعاً فهو يدخل في باب الحِرمان أيضاً، هكذا قال بعض المفسِّرين.
 والمحروم هو الذي وَجَبَتْ نفقته بالفقر على أقربائه، فقد يفقد الإنسان أحياناً عمله فجأةً وعنده زوجة وأولاد، ويجب أن ننفق عليه، أقرب الناس إليه أقرباؤه، والمحروم الذي حُرِمَ كسب نفسه حتى وجبت نفقته على غيره، فهو لا يستطيع أن يكسب؛ إما لعجزٍ أو لفقدان عملٍ، وأحياناً يكون هناك عاجز فيه عاهة وهذا يندرج ضمن المحرومين، وقد يكون هناك شخص ليس له عمل، لتفشي البطالة، رغم كونه شاباً قوياً، ولكن لا يوجد أعمال.
 ولما امتحن سيدنا عمر والي قال: "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب؟ قال: أقطع يده، قال: إذاً إن جاءني من رعيَّتك مَن هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك، قال: إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنَسُدّ جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم، إن وَفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية" .
 وإن أكبر مشكلة تواجه العالم بكل قارَّاته الآن البطالة، لذلك كان تأمين الأعمال من أعظم الأعمال، من هنا حينما يلد المالُ المالَ عن طريق الربا تفشو البِطالة وترتفع الأسعار، وحينما تَلِدُ الأعمال المال تَقِلُّ البِطالة وترخص الأسعار، وهذه قاعدة، لأن أي محل تجاري يؤَمِّن أعمالاً للمئات دون أن يشعر، وبشكل غير مباشر.
 فإذا افتتح محل تجاري، فإنه يحتاج إلى دفتر فواتير، إلى محاسب، كما يحتاج إلى شاب يعمل عنده، ويحتاج إلى مُراسل، إلى آلة كاتبة ومُراسلات، يحتاج إلى حارس لمستودعاته، إلى موظَّفين، وطلاء محلِّه، إلى خطاط، ويحتاج إلى أشياء لا تعدُّ ولا تحصى، فحينما تلد الأعمال المال تقل البطالة وترخص الأسعار، وحينما يلد المالُ المالَ تفشو البطالة وترتفع الأسعار، وحينما ترتفع الأسعار تُوزَّع الكتلة النقدية توزيعاً غير صحيح، فقِلّةٌ قليلة تملك كلَّ شيء، وكثرة كثيرة لا تملك شيئاً، هذا التوزيع العشوائي للثروة، أما إذا كان المال كله من أعمال فإن الأعمال تتزاحم، والأسعار ترخُص، وعندنا ألف دليل ودليل على هذا، ومن هنا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(( ويْلٌ لِلأغنياءِ من الفُقراءِ يَومَ القِيامةِ يَقولُونَ: رَبَّنا ظَلَمُونَا حُقُوقَنَا التي فُرِضَتْ لنا عليهم، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: وعِزَّتِي وجَلالِي لَأُدْنِيَنَّكُمْ ولَأُبْعِدَنَّهُمْ.  ))

[ ضعيف الترغيب ]

 فالغنى والفقر بعد العرض على الله، لذلك قال سيدنا علي: "قِوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلَّم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضَيَّعَ العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلَّم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره" .

التصديق بيوم الدين:


 أيها الإخوة الكرام ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ إن صَدَّقْتَ بيوم الدين ملكت ميزاناً خاصاً، وإن لم تصدق بيوم الدين استعملت ميزاناً آخر، إن آمن الإنسان بيوم الدين كان ميزانه ميزان الشَرع، فلا يأكل المال الحرام، ولا يعتدي على أعراض الأنام، تجده حيث أمره الله، وتفتقده حيث نهاه، فلا يتعدَّى على أحد، ولا يبني مجده على أنقاض أحد، ولا يأخذ ما ليس له، فميزانه ميزان الشرع؛ الحلال والحرام، الخَيْر والشر، الحق والباطل هذا ميزانه، أما إذا لم يؤمن بيوم الدين صار لديه ميزان آخر، وصار إلهه الدِرهم والدينار، فيأخذهم بأي طريقٍ كان، ومن أي إنسانٍ كان، وبأية وسيلة، ويعدُّ الاحتيال شطارةً، والكَذب والخداع ذكاءً، وجمع المال تفوُّقاً، وإنفاق المال على ملذَّاته رقياً وحضارةً، فالقضية دقيقة جداً، فإن لم تؤمن بيوم الدين كان ميزانك دُنيوياً، وإن آمنت بيوم الدين صار معك ميزان أُخْرَوي، إن آمنت بيوم الدين ميزانك ميزان الشرع.

(( الإِيمَانُ قيّدَ الفَتْكَ، ولا يفتِكُ مؤمنٌ. ))

[ أخرجه أبو داوود ]

فإن آمنت بيوم الدين فلن تستطيع أن تبتغي إلى أهدافك إلا الوسائل المشروعة، أما إن لم تؤمن بيوم الدين اخترت إلى أهدافك أَقْذَرَ الوسائل وأحطَّها وأبشعها، وتؤمن عندئذ وتقول: الغاية تبرر الواسطة، فهناك فرقٌ كبير بين من آمن بالدنيا وزينتها، آمن بزينتها ومالها ونسائها وشهواتها ومتعها ومباهجها، وبين من آمن بالآخرة فجعل الدنيا مطيةً لها، فهؤلاء المصلون:
﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ*وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ هؤلاء ﴿يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ ، فالمؤمن -إخواننا الكرام- مسؤول أمام الله عن كل عملٍ يفعله، أما غير المؤمن فهو مسؤول أمام إنسان كائناً من كان عن أعماله، فالإنسان ليس معه دائماً، وبإمكانه أن يحتال عليه، بإمكانه أن يوهِمه، بإمكانه أن يكذِب عليه، بإمكانه أن يعطيه صورةً غير صحيحة، لذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ شيءٌ أساسيٌ جداً جداً في الإيمان؛ أن تجعل الآخرة ميزاناً لك.
 أيها الإخوة، هذا بحثٌ يطول: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ اختلف الأمر، اختلف دخله، اختلف إنفاقه، اختلف بيته، اختلف زواجه، اختلف كل شيء، إذا أيقنت أن هناك يوم تقف فيه أمام الله عزَّ وجل ليسألك عن كل شيء صار هوس المؤمن في كل لحظة من لحظات حياته أن يهيئ لله جواباً عن أعماله، لذلك يمنعه عن المال الحرام خوفه من الله، فقد يكون قوياً، وقد يكون متمكناً، وقد يفعل شيئاً دون أن يُسأل عليه، فهناك أخ من إخواننا قد وضع لي ورقة والله لا أعرف اسمه قال فيها: سمعت درس الأمانة، وأنا معي عشرين مليون ليرة مُودَعةٌ عندي لرجلٍ مات فجأةً ولا يعلم أحد بها، فذهبت إلى ورثته وسلَّمتهم إياها، فما الذي دفعه إلى ذلك؟ إنه خوفه من الله، وخوفه من عذاب القبر، والسؤال، والحساب، فإذا لم يخف الإنسان من الله فهو جاهل وغبي وأحمق، فالله موجود.
لذلك أيها الإخوة، حينما تؤمن أن هذه الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، وأن هذه الدنيا دار تكليف، وأن الآخرة دار تشريف، وأن كل أعمالنا مسجلة علينا في هذه الدنيا.

﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[  سورة الكهف  ]

 حينما تؤمن بيوم الدين يكون ميزانك ميزان الشرع، وميزان الآخرة، ويكون هدفك الآخرة والميزان هو الشرع، أما الذي لم يؤمن بيوم الدين فميزانه الدنيا، وإلهه المال والشهوة، شيء آخر وهدفه الدنيا، وأما الطامة الكبرى فهي في هذه الآية:

﴿ فَذَرۡهُمۡ يَخُوضُواْ وَيَلۡعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ (42)﴾

[ سورة المعارج  ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور