وضع داكن
17-07-2024
Logo
الدرس : 5 - سورة المعارج - تفسير الآية 32 ثقل الأمانة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة المعارج، ومع الآية الثانية والثلاثين والتي بعدها، وهي قوله تعالى:

﴿  وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32)﴾

[  سورة المعارج  ]

 إن هؤلاء مصلين مُستَثنَون من الهلع والجزع، ومن الحرص والمَنع، هذه الصفات التي هي في أصل خلق الإنسان نقاط ضعفٍ لصالحه، نقاط ضعف تدفعه للإيمان، والهلع هو شدة الجزع وشدة الحرص، فبالحرص ترقى إذا أنفقت، وبالجزَع ترقى إذا خِفْت، بخوفك تلتمس أبواب الله عزَّ وجل، بخوفك تنساق إلى العبودية لله عزَّ وجل، بخوفك تلجأ إلى الصُلْحِ مع الله، وخوفك يحملك على التوبة، وهذا الخوف الشديد الذي هو في أصل خلقك، وهو فيما يبدو نقطة ضعفٍ، لكنه في الحقيقة سببٌ لتوبتك وسبب لصُلْحِكَ مع الله، فالإنسان كما وصفته الآيات:

﴿  إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21)﴾

[  سورة المعارج  ]

 وإذا اتصل هذا الإنسان بالله عزَّ وجل أصبح مستثنىً من هذا الضعف الخَلقي، فهناك فرقٌ واضح، فرق جوهري، فرق في النوع بين المُتَّصِل وغير المتصل.

قسما البشر بحسب الآية:


 أيها الإخوة، في ضوء هذه الآية يمكن أن يُقْسَمَ البشر إلى قسمين لا ثالث لهما؛ متصل ومنقطع، فالمتصل: منضبط بمنهج الله، مُحْسِن، مطمئن، كريم، يرجو رحمة الله، وهو أسعد الناس، أما المُنقطع: متفلتٌ من منهج الله، مسيءٌ إلى الخلق، قلبه فارغ، ممتلئٌ خوفاً، ممتلئ ذعراً وتشاؤماً، فيؤذي الخلق، وهو أشقى الخلق. 
ولست مبالغاً إذا قلت: إن البشر في ضوء هذه الآية قسمان: متصلٌ مطمئنٌ، كريمٌ، ومنقطعٌ جذوعٌ، منوع، ولكن ربنا عزَّ وجل قيّد هؤلاء المصلين بصفاتٍ كثيرة، لئلا يتوهَّم الإنسان أنه إذا صلى ركعتين صار من المصلين، وقد تحدثت عن أكثر هذه الصفات في الدروس السابقة:

﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31)﴾

[ سورة المعارج ]

 ودرس اليوم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ .

 شمول هذه الآية:


 أيها الإخوة، لا أعتقد أن في القرآن كلمةً تتسع لتشمل كل شيء كهذه الكلمة، والأمانة في أقدم معانيها هي نفسك التي بين جنبيك، فقد جعلها الله أمانةً عندك، فإذا زكّيتها وعرّفتها وحملتها على الطاعة و حملتها على الاتصال بالله فقد زكيتها، فإذا زكيتها أدَّيْتَ الأمانة؛ وإذا تركتها جاهلةً، ومن توابع الجهل المعصية، ومن توابع المعصية القطيعة مع الله، فقد خنت الأمانة فأول أمانة تحمِلها هي نفسك التي بين جنبيك، وقد قال الله تعالى:

﴿  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾

[  سورة الشمس  ]

هذه أمانة.

 حرفتك أمانة:


 إن شؤون الدنيا والدين بأكملها هي أمانةٌ في عُنِقِك، ولو بدأنا بشؤون الدنيا لقلنا: حرفتك التي ترتزق منها أمانةٌ جعلها الله في عنقك، فإذا كنت مُعَلِّماً فهل أديت الأمانة لهؤلاء الصغار؟ هل علَّمتهم بإخلاص؟ هل هذَّبتهم؟ هل وجَّهتهم؟ هل عرَّفتهم بالله عزَّ وجل؟ أم أنك عملت بقدر الراتب؟ وهذا ما يقوله معظم الموظفين، إن عملت بقدر الراتب فقد خُنْتَ الأمانة، فإما أن تؤدي الأمانة بالتمام والكمال، وإما أن تدع هذه الحرفة وتعمل شيئاً آخر، أما أن تقدِّم عملاً يتوازى مع راتبٍ لا يكفيك خمسة أيام وتقول: ليس علي شيء لأن الراتب قليل، فإنك في هذه الحال تكون قد خُنت الأمانة، و كل واحدٍ منا -أيها الإخوة -حرفته أمانةٌ في عنقه، فيا أيها الأستاذ: هل رفعت مستوى الأسئلة كثيراً، حتى يأخذ الطُلاب علامات متدنية كثيراً ليأتوا بك إلى البيت ويأخذوا دروساً خاصة؟ إذا فعلت ذلك فقد خُنت الأمانة، لكنك إن جعلت الامتحان معتدلاً فقد أدَّيت الأمانة، وهذا ينطبق على أية حرفةٍ، فلو أنَّك كنت تعمل في المحاماة فعليك أن تسأل نفسك: هل صدقت الموكِّل؟ أم أوهمته أن دعواه رابحة، وأنت توقن يقيناً قطعياً أن دعواه خاسرة، هل أخذت ماله حراماً أم حلالاً؟
وأبواب الخيانة لا تعدُّ ولا تُحصى، وهي في كل الحِرَفْ من دون استثناء، كالطب والهندسة والمحاماة، والتدريس والتجارة، كذلك إذا كان عندك معمل غذائي، فهل تضع فيه مواد من الدرجة الثانية؟ هل تضع مواد انتهى مفعولها؟ هل تختار مواد قد تكون مُسَرْطِنَةً وتعلم ذلك ثم لا تعبأ؟ هل تدقق في نوعية الإنتاج؟ حرفتك أمانةٌ في عنقك، أية حرفة، والإنسان بحرفته عليم وخبير، ولا يستطيع الناس في الأَعَمِّ الأغلب أن يكتشفوا الخطأ، ولا يستطيع أن يكشف الخطأ إلا قلةً قليلة، لذلك كان جزءٌ كبيرٌ كبير كبيرٌ من الدين هو أن تؤدي الأمانة في الحرفة التي أقامك الله فيها، فهل نصحت المسلمين؟ هل رحمتهم في الأسعار؟ هل استَغَلَّيت نُدْرَة المادة فضاعفت أسعارها أضعافاً مضاعفة؟
أيها الإخوة، صدقوني أن دينكم في أداء أماناتكم، يقول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًا(58)﴾

[  سورة النساء ]

 أنت موظف، وهذا الذي أمام الطاولة مواطن يرجوك أن توقِّع له هذه المعاملة، وبإمكانك بثانيةٍ أن توقعها له، فإن قلت له: تعال بعد غدٍ لأنك في حديثٍ مُمْتِعٍ مع موظف آخر، أو لأنك ترتشف فنجان قهوة، أو تطالع مقالة في جريدة، وهذا الذي أمامك قد يأتي من حلب، وقد يكلفه توجيهك هذا أن ينام في الفندق ليلتين، فأنت بهذا قد خُنْتَ الأمانة.
 الدين أيها الإخوة ليس في المسجد، ففي المسجد نتعلم أحكام الدين، لكن الدين يُمارَس في عملك، في وظيفتك، في دُكَّانك، في تجارتك، فهل تأتي بهذه المواد والهرمونات لترشّها على النبات فيزداد حجم النبات وتبيعه بأسعارٍ عالية، وتكون بذلك قد عالجته بمادة مسرطِنة ممنوع استعمالها، هل تعبأ بصحة الناس الذين يأكلون هذه الخضار، أم أنك تبغي الربح فقط؟ 
إخواننا الكرام، إن الأساليب التي ينزلق فيها الإنسان لخيانة الأمانة لا تعد ولا تحصى، والإنسان مُمتَحن ومُبتَلى.
 إذا استأجرت سيارة مثلاً فالشيء مألوف أن هذه السيارة ليست لك، وبإمكانك أن تُحَطِّمَها دون أن تكون مسؤولاً، فتفعل كل الأساليب التي تُتعِبها وترهقها، لأن هذه ليست لي فهي أجرة، أنت بذلك قد خنت الأمانة، وإن أردت الكلام الصحيح أقول لك: إنك لن تُعَدَّ عند الله مؤمناً إلا إذا جعلت كل شيءٍ بين يديك أمانة.
 وزوجتك أمانة كذلك، فهل دلَلْتَها على الله، إنها تؤدي لك كل ما تريد من دون استثناء، فمصلحتك محققةٌ معها، ولكن هل عَرَّفتها بالله؟ هل حملتها على طاعة الله؟ هل أخذت بيدها إلى الله؟ هل كانت قرة عينٍ لك في دينها؟ أم هي قرة عينٍ لك في جمالها؟ وأولادك وبناتك أمانة كذلك، فهذه البنت الذي أهملها أبوها فزَلَّت قدمها، ماذا تقول لله يوم القيامة؟ ستقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي. 
والله -أيها الإخوة – إننا لو نفهمها هذه الآية وحدها حق الفهم لانخلع قلبنا خوفاً من الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾ هل أديت حق طلابك أيها الأستاذ؟ هل أديت حق مرضاك أيها الطبيب؟ هل أدَّيت حق هذا البناء أيها المهندس؟ أحياناً يبقى عند المهندس مسافة صغيرة، فيجعلها درجة غير طبيعية، فكم من حادث تسبب هذه الدرجة، وكم إنسان يتعثَّر بهذه الدرجة، مرة كنت في معمل فنبَّهني صاحب المعمل إلى أن الدرجة السابعة أعلى بسنتيمتر، قال لي: كم من إنسان تعثَّر على هذه الدرجة! فقلت: لماذا؟ إن الإنسان -سبحان الله- إذا صعد الدرج يقيس ارتفاع الدرجة ويقيس على هذا الارتفاع كل الدرجات بشكل آلي، فإذا كان هناك درجة ارتفاعها (سم) زيادة، أو أقل بـ (سم) تعثَّر صاحبها، فهذا الذي أنشأ هذا الدرج سريعاً ولم يعبأ بسلامة الناس قد كان عمله أمانة فخان الأمانة، وكل من تعثَّر على هذا الدرج في صحيفته. 
وأحياناً يُرَكَّب بلور بمسامير قليلة، وفي حالات الرياح الشديدة يقع البِلّور، فإذا وقع على طفلٍ وأرداه قتيلاً فمن المسؤول؟ إنه الذي ركبه بهذه الطريقة، وقد وقع مرة صحن من صحون السطوح، ففضلاً عن الفساد الذي يحققه هذا الصحن، وقع فقتل طفلةً في عمر الزهور، فلما سألوا: من ركَّب هذا الصحن؟ لقد كان مركَّبَاً ببرغيَّين من أصل أربعة براغٍ، ففي أيام الرياح وقع الصحن فأردى الطفلة ميتةً.
 أيها الإخوة، حدثني رجل قام بتغيير زيت، وصاحب العمل ترك لغلامٍ صغير أن يغيِّر الزيت فلم يحكم إغلاق الغطاء، فسالَ الزيت في الطريق فتعطَّلت السيارة والمسير بين جدة وبين دمشق في أيام الصيف، فخرج صاحب السيارة مرتين ليفحص السيارة ضربته الشمس فأردته قتيلاً، فمن الذي يُحاسَب عن هذه الجريمة؟ وكم من أخطاء حدثت في غذائنا ومواصلاتنا، فخطأ في الطريق أحياناً يذهب ضحيّته عشرات، وهذا الذي هندس الطريق هو المسؤول عن ذلك، ففي طريق إلى محافظة جنوبية هناك زاوية قائمة تقريباً، وقد وقع بسببها أكثر من مائة حادث على هذا الطريق، فإذا كان هناك إنسان يمشي بسرعة، ولم يتوقع أن المنعطف زاوية قائمة، ولم يتمكن من أن يبقى على الطريق فإنه يتدهور، وكم إنسان مات بهذا الحادث: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾ .

نفسك وجسمك أمانتان عندك:


 هناك حياةٌ أبدية وسوف نُحاسَب على كل شيء، فاعلم علم اليقين أن: 
نفسك التي بين جنبيك أمانةٌ في عنقك، أفلحت إن زكَّيتها وخبت وخسرت إن دسّيتها، كما أن جسمك أمانة، وهذا الجسم ليس لك، إنه للمسلمين، كما أنه لأسرتك، فإذا حافظت على صحته عشت حياةً سليمةً، وكم إنسان يدخِّن ويرديه الدخان في ريعان الشباب قتيلاً؟ 
جسمه أمانةٌ بين يديه، فقد أعطاك الله هذا الجسم ليكون وعاءً لعلمك، ونفسك وعاؤها هذا الجسم، فإذا أهملته وأمضيت الحياة في مرضٍ شديد فقد خنت الأمانة، فجسمك أمانة.
وهذه العين أمانةٌ في يديك، أعطاك الله إيَّاها، فكيف تستعملها؟ فإن نظرت بها إلى عورات المسلمين فقد خنت أمانة الله، وإن نظرت إليها لمَا لا يرضي الله خنت أمانة الله. 
وهذه الأذن متَّعك الله بها لتستمع إلى الذكر، فإن استمعت بها إلى الغيبة والنميمة والغناء، والكلام الذي لا يُرضي الله خنت الأمانة. 
وهذه اليد أعطاك الله إياها من أجل أن تفعل الخير لا من أجل أن تبطش بها، لا من أجل أن تمتد إلى ما لا يُرضي الله عزَّ وجل، فيجب أن تعتقد أن عينيك أمانة، وأن أنفك أمانة، وأن لسانك أمانة، وأن أذُنيك أمانة، وأن يديك أمانة، وأن رجليك أمانة، فهل تقودانك إلى بيتٍ من بيوت الله؟ أم تقودانك إلى ملهىً من الملاهي التي تراها عينك؟ هذه الآية واسعة جداً، فكل شيءٍ أمانةٌ في عنقك.
 قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾ ونحن هنا نقف عند الأشياء البارزة، وأهم شيءٍ نفسك التي بين جنبيك، فهل عرَّفتها بالله؟ هل حملتها على طاعته؟ هل زكَّيتها بالقرب من الله عزَّ وجل؟ فإن فعلت هذا فقد أفلحت وإن لم تفعل فقد خسرت.

أهلك أمانة:


 وأقرب الناس إليك هم أهلك وأولادك، فكم من ابن شقي في حياته لأن أباه أهمله؟ وكم من بنتٍ زلَّت قدمها لأن أباها لم يرعَها حق الرعاية؟ فالمراقبة ضعيفة، والوازع ديني ضعيف أيضاً، وثقافتها من هذه الأجهزة التي لا تُرضي الله عزَّ وجل، ففيها تغذية يومية تدعوها إلى الانحراف، والمراقبة ضعيفة، فزلت قدمها، وكُشِف أمرها فسقطت، فمن أعانها على السقوط؟ إنه الأب الذي لم يرعها ولم يحفظها، فابنتك أمانة، فإن أديت الأمانة في ابنتيك ضمنت الجنة، قال عليه السلام:

(( مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤدِّبُهنَّ ويرحَمُهنَّ ويكفُلُهنَّ وجَبَت له الجنَّةُ ألبتةَ، قيل يا رسولَ اللهِ: فإن كانتا اثنتينِ؟، قال: وإن كانتا اثنتين، قال: فرأى بعضُ القوم أن لو قال: واحدةً، لقال: واحدة. ))

[ رواه أحمد ]

 ابنتك أمانة، فهؤلاء الفتيات اللواتي يخطرن في الطرقات كاسياتٍ عاريات، أين آباؤهن؟ أين إخوانهن؟ أين أمهاتهن؟ إن هؤلاء الفتيات أمانةٌ في أعناق آبائهن، فإذا تركوهنّ يفعلن ما يشأن فقد خانوا هذه الأمانة.

عباداتك أمانة:


 ماذا أقول لكم حول هذه الآية؟ كل شيءٍ بين يديك من أمر الدنيا والآخرة أمانةٌ في عنقك، وقد قال العلماء: الصلاة أمانة، فإن أدّيتها على الوجه الصحيح في وقتها، بخشوعها، وركوعها، وسجودها فقد أديت الأمانة، والصوم أمانة، والحج أمانة، والزكاة أمانة، وهذا المال الذي بين يديك هو أمانةٌ في عنقك ينبغي أن تؤدِّيَهُ على الوجه الصحيح والتام.
أيها الإخوة الكرام، الإسلام صارخ، فوضع المُسْلِم وعلاقاته، وبيته، وعمله، ومعاملته كل هذا صارخ في الكمال، فإن لم تجد بين المسلم وغير المسلم إلا هذه الصلاة وهذه الحركات والشعائر من دون أن ترى في سلوكه شيئاً صارخاً، فيجب أن تعلم علم اليقين أن هذا المسلم بعيدٌ جداً عن حقيقة الإسلام.
أيها الإخوة الكرام ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ إنك لا تكون من المصلين، لا تكون من هؤلاء الناجين من الهلع والجزع إلا إذا رَعَيْتَ الأمانة، فقد يقول العبد مثلاً: 

(( يا رَبّ، يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِّيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لَه! ))

[ صحيح مسلم ]

هل يمكن أن تكسب رزقك من مسبح مختلط؟ هل يمكن أن تكسب رزقك من مطعمٍ تُباع فيه الخمر؟ هل يمكن أن تكسب رزقك من تجارةٍ مُحرَّمة أو من طريقةٍ في التعامل محرمة؟ هل يمكن أن تكسب رزقك من نماء المال عن طريق الربا؟ فالعبد يقول: (يا رَبّ، يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِّيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لَه!) يا أيها الإخوة الكرام، موضوع الأمانة موضوعٌ دقيقٌ جداً..

﴿  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 الإنسان قَبِلَ حمل الأمانة، فهل تعرف أيها الأخ من أنت؟ لأنك من بني البشر فقد حملت الأمانة، لأنك من بني آدم فقد حملت الأمانة، وما دمت قد قبلت حمل الأمانة فالله سبحانه وتعالى كرَّمك ورفع شأنك.

﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 فهؤلاء المؤمنون ﴿لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ فقد قال أحدهم لآخر: هل تعرفه؟ قال له: نعم أعرفه، قال له: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل جاورتَه؟ قال: لا، قال: هل حاككته بالدِرهم والدينار؟ قال: لا، قال: فأنت لا تعرفه، لعلَّك رأيته يُصَلِّي في المسجد.

العبادات التعاملية أساس الدين:


 إخواننا الكرام، أريد أن أقدِّم لكم هذه الفكرة ذكرتها كثيراً لكني لا أشبع من ذكرها، هناك عباداتٌ شعائرية، وهي الصلاة والصوم والحج، وهناك عباداتٌ تعاملية، فالعبادات التعاملية هي أساس الدين،  لما سأل النجاشي سيدنا جعفر عن الإسلام، قال:

(( كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، (هذه هي الجاهلية) ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ، وأمَرَنا (الآن دققوا) بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ، ونَهانا عن الفَواحشِ، وقَولِ الزُّورِ، وأكلِ مالِ اليَتيمِ، وقَذفِ المُحصَنةِ، وأمَرَنا أنْ نَعبُدَ اللهَ لا نُشرِكُ به شيئًا، وأمَرَنا بالصَّلاةِ، والزَّكاةِ، والصِّيامِ. ))

[ تخريج سير أعلام النبلاء ]

  صلِّ ألف ركعة، فإن لم تكن صادقاً فلا قيمة لصلاتك، لأن المؤمن لا يكذب.
 إخواننا الكرام، شيء مخيف، دققوا في هذه الأحاديث:

(( قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها (يعني الأوقات الخمسة والأوابين وقيام الليل والضحى) وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. ))

[ أخرجه أحمد ]

﴿  قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ(53)﴾

[  سورة التوبة  ]

(( ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

 فقد صام رمضان وما ناله إلا الجوع والعطش، وأنفق المال ليقال عنه: محسنٌ كبير، فليس له من هذا الإنفاق شيء إلا الوِزر.
 أيها الإخوة الكرام، إن العبادات التعاملية هي الأصل في الدين، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ :شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ. ))

[ رواه البخاري ]

 الإسلام بناء أخلاقي بني على خمس عبادات، فالعبادات ليست هي الإسلام إنما هي دعائم الإسلام، فالعبادة التعاملية هي الأصل، فماذا قال سيدنا جعفر: (حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا) لم يقل: رأيناه يصلي لا، بل قال: (نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه)
 وإننا –والله- لن نتقدم، ولن نحظى بنصر الله ولن نحظى برضوانه، ولن ننال من الله شيئاً إلا إذا طبقنا الدين كما أراد الله، نحن أردنا الدين شعائر، والشعائر سهلة، فهي صلاة، وعمرة، وحج، وصوم، لكن الله جلَّ جلاله أراده منهجاً أخلاقياً كاملاً.
 مرة ثانية أقول: يجب على المؤمن أن يكون صارخاً في كلامه كله، فهل يكذب المؤمن؟ إن المؤمن لا يكذب، بل هو :

(( المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ. ))

[ الألباني ]

أَيُعْقَل أن يأتي راوي حديث أو طالب علم من المدينة المنورة إلى البصرة ليس بالطائرة، فلم يكن هناك طائرة، وليس بالمركبة المكيفة، لا، على ناقة يأتي من المدينة إلى البصرة، ليأخذ حديثاً عن رجل في البصرة، فلما رآه يكذب على فرسه، لم يسأله وعاد لتوِّه، إنه ليس أهلاً لأن يروي عن رسول الله حديثاً، فهو يكذب على فرسه، والمؤمن لا يكذب، أما الصلاة والكذب فهي لا تصلح، فكيف يجمع الناس صلاة وكذب! يكذب في بيعه، ويحلف أَيْمَاناً مغلَّظة أن رأس مال هذه السلعة أقل مما يعرضه الشاري، يقول عليه الصلاة والسلام: 

((  اليمين الكاذبة مَنْفَقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة. ))

[ أخرجه البخاري ]

 إخواننا الكرام، دينك في عملك، دينك في دكانك، دينك في قاعة تدريسك، دينك في عيادتك، دينك في غرفة المُحاماة، دينك في مكتبك الهندسي، دينك في تجارتك، دينك في زراعتك، دينك في صناعتك، فأنت تصنع غذاءً للمسلمين، فهل اتّقيت الله في هذا الغذاء؟ لقد سمعت أن في بعض البلدان الإسلامية من يشتري طعام الكلاب ويبيعه للبشر، ويغيِّر اللصاقة الخارجية، إن هذا لو صلَّى ألف ركعةٍ في اليوم، وحج كل عام فقد خان الأمانة، فأهم شيء إخواننا الكرام حرفتك فهي أمانة.

الحيوان أمانة: 


(( دَخَلَتِ امرأةٌ النارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْها، فلا هي أَطْعَمَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تأكلُ من خَشَاشِ الأرضِ. ))

[ الألباني ]

 الهرة أمانة عند أصحابها، لها طعامها وشرابها، وهناك من الناس مَن يقتل الدواب وهي أمانةٌ في أعناقهم، دخل النبي عليه الصلاة والسلام إلى بستان، فرأى جملاً، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حَنّ، فذرفت دموعه، فجاء النبي ومسح ذِفريه، وقال: من صاحب هذا الجمل؟ فجاؤوا بفتىً من الأنصار، وقالوا: هذا هو صاحب الجمل، فقال عليه الصلاة والسلام:

(( من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رسولَ اللهِ ! فقال: أفلا تتَّقى اللهَ في هذه البهيمةِ التي ملَّكَك اللهُ إياها؟ فإنَّهُ شكا إليَّ أنك تُجيعُه وتُدْئِبُه. ))

[ صحيح الترغيب ]

 افتح ورقة وأحضر قلماً واكتب بنود الأمانة؛ نفسك أمانة، وزوجتك أمانة، وأولادك الذكور أمانة، وبناتك الإناث أمانة، وحرفتك أمانة، وعبادتك أمانة، وصلاتك أمانة، وصيامك أمانة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾ .
 

الأمانة تحقق الرخاء في المجتمع:


 فنحن أيها الإخوة الآن بحاجة ماسَّة لا إلى كلام يُلقى، ولا إلى كتاب يُقرَأ، ولا إلى شريط يُسمَع، ولكننا بحاجة إلى مجتمع مسلم، فهل تصدقون أن سيدنا معاذ حينما بعثه النبي إلى اليمن أقرَّه عليها سيدنا أبو بكر، وأقرّه عليها سيدنا عمر، فجمع مال الزكاة، وأرسل بثُلث الزكاة إلى سيدنا عمر، فراجعه عمر، قال له: "أنا لم أبعثك جابياً ولا جامع مال، ولكن بعثتك هادياً، قال: والله لم أجد من يأخذ مني شيئاً، وهذا الذي فاض" . و في العام التالي أرسل له نصف الزكاة، وفي العام الثالث أرسل له كل الزكاة، فحينما أُدِّيَتْ الأمانة عاش الناس في بحبوحة؛ أما الإنسان حينما يخون الناس الأمانة يُذهِب الله البركة من المال، فأصبح المال يُنْفَق على الصحَّة والكوارث، والمصائب، أما حينما تؤَدِّي حق الله عزَّ وجل فإن الله يبارك لك في مالك، وموضوع الأمانة -أيها الإخوة- موضوعٌ خطير ودقيق، وموضوعٌ يحتاجه كل مسلم، فعلى كل إنسان أن يصدق ويخلص وينفع المسلمين.
 

سعة الإسلام:


 إخواننا الكرام، لا تستهينوا بالدين، فالإسلام واسع جداً، فحرفتك التي هي أمانةٌ في عنقك يمكن أن تنقلب إلى عبادة ببساطةٍ مذهلة، فالمسلم إذا كان له عمل فابتغى به كفاية نفسه، فهو في طاعة، كذلك إذا ابتغى منه كفاية أهله فهو في طاعة، وإذا ابتغى منه نفع المسلمين فهو في طاعة، فما شغله عمله عن صلاةٍ ولا عن صيام ولا عن عملٍ صالح، فهو في طاعة، هذا العمل بهذه الطريقة وبهذا المنطلق ينقلب إلى عبادة، فما قولكم في أن العبادات الشعائرية إذا أدّاها المُنافق يُحاسَب عليها، وأن الأعمال الاعتيادية إذا أدَّاها المؤمن يؤجر عليها، فالعادات إذا رافقتها النوايا الطيِّبة انقلبت إلى عبادات، وذلك كأن تعمل عملاً تجارياً، أو أن تدير شؤون بيتك، أو أن تدرس، أن تنال شهادة، أو أن تُؤسس عملاً، فالأعمال العادية التي يفعلها كل الناس تنقلب إلى عبادات إذا عرفت الله وعرفت ما معنى الأمانة، والأعمال العبادية الصِّرْفة؛ الصلاة، والحج، والصوم، إذا أُديت رياءً انقلبت إلى آثام، وهذا شيء خطير، فأنت إذا عرفت الله وعرفت ما معنى الأمانة عندئذ تؤدِّيها بالتمام والكمال، والأمانة هي أحوج ما يحتاجها المسلم، فالأم أولادها أمانة في أعناقها، فهل تعتني بهم، وهل تؤمِّن لهم الطعام، والشراب، واللباس، وهل تهيئ لهم وسائل النجاح في الحياة، إنها إذاً قد أدت الأمانة.
 إخواننا الكرام، إن أبواب الجنة لا تعدُّ ولا تحصى، فالبنوّة الكاملة باب للجنة، والأبوة المثالية باب للجنة، والأمومة المثالية باب للجنة، فكل أمٍ إذا أتقنت عملها وأخلصت لزوجها ولأولادها تدخل الجنة من أوسع أبوابها، فالأم تدخل الجنة، والأب يدخل الجنة، والابن يدخل الجنة، وكل إنسان بحرفته، فأبواب الجنة مُفَتَّحَةٌ على مصارعها، وكل حركة من حركاتك، وكل سكنة من سكناتك، هي باب للجنة، فلا تظن الدين عبارة عن صلاة تُؤدَّى، أو صوم، أو حج، فالدين في كل ثانية، وكل حركة من حركاتك متعلِّقة بالدين، فهذا منهج الله عزَّ وجل، ولذلك كان هؤلاء المصلِّون المستَثْنَون من الهلع والجزع وشدة الحرص.

﴿  الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ(28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32)﴾

[ سورة المعارج ]

 قال عليه الصلاة والسلام:

(( لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له. ))

[ الإمام أحمد في مسنده ]

 الذي ليس له عهد ليس له دين، والذي ليس له أمانة ليس له إيمان، والخيانة تنقض الإيمان ونقض العهد ينقُض الدين.
 أدّ الأمانة ولا تعبأ بأقوال الناس فيك:
 أرجو الله سبحانه وتعالى أن تُترجَم هذه المعاني إلى سلوك وانضباط، فالإنسان أحياناً يغدو أكبر داعية وهو صامت، وذلك باستقامته وأمانته وصدقه وإخلاصه، والله عزَّ وجل هو الحق، ولابدَّ من أن يُظهِر الحق، فأخلص وأدِّ الأمانة ولا تعبأ للضجيج، أدِّ الأمانة بصمت والله عزَّ وجل هو الذي يرفع شأنك، وهو الذي يُعْلي قدرك، وهو الذي يرفع ذكرك، أدِّ الأمانة في كل شيء، البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى والديان لا يموت. وقد ذكرت هذه النقطة الأخيرة لأن الإنسان أحياناً يكون عنده قدرة على عرض إمكاناته بشكل رائع، وهناك إنسان مخلص ويؤدِّي الأمانة لكن بصمت، فماذا يظن الناس؟ إنهم يظنون أن هذا الذي يتحدَّث عن نفسه ويحيط نفسه بهالة كبيرة هو الفالح، لا، إن الذي يؤدي الأمانة بإخلاص هو الفالح، والله عزَّ وجل يرفع من قدره بطريقةٍ لا نعلمها نحن.

﴿  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(49)﴾

[  سورة النساء  ]

 أدِّ الأمانة ولا تعبأ بأحد، وتعامل مع الله وحده، والتعامل مع الله وحده أحياناً يجعلك في التعتيم، والتعامل مع أشخاص يجعلك تحت الأضواء، فالعبرة أن يكون الله راضياً عنك، فإذا رضي الله عنك فأنت أسعد الناس، فالإنسان قد يكون مُعَلِّماً في صف، والدخل قليل جداً، وليس لهذا المعلم شأنٌ إلا أنه اتقى الله في هؤلاء الصغار الذين هم بين يديه وأدى الأمانة، فهذا يعد أسعد الناس، فالمعلم في صفه، والطبيب في عيادته، والمهندس في مكتبه، والمحامي في مكتبه، فإذا كان هناك تاجر صغير، وبضاعته كلها جيدة، لكنه اشترى مائتين بيضة فاكتشف أنهن فاسدات، وبذكائه كلَّف الصانع أن يبيعهم في الطريق، وقال له: بِعْهم بسرعة، هذا البيض فاسد، فإن بعته خنت الأمانة، وأحياناً يكذب الإنسان مائة كذبة من الصبح حتى الظهر، ثم يصلي في الصف الأول ويقول: الله أكبر..

﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾

[ سورة النساء ]

 دقق في عملك، لا تكذب، لا تدلِّس، لا توهم، لا تستغل، لا تمكِّن، لا تبتز أموال الناس، لا تضيِّق عليهم، لا تحمِّر وجوههم، لا تحتَلْ عليهم، فإذا فعلت هذا من الصبح حتى الظهر صليت الظهر وأنت أبيض الوجه لله عزَّ وجل، فأداء الأمانة -أيها الإخوة -واسع جداً، فنفسك أمانة، وزوجتك أمانة، وأولادك أمانة، وبناتك أمانة، وحرفتك أمانة، فهذا الذي يغيِّر تاريخ نهاية الاستعمال يمحوه ويبيع الدواء، ألم يخن الأمانة؟ وهناك من يتوهم أن الدواء الذي انتهى مفعوله لا ينفع لكنه لا يضر، لا بل إنه يضر، فقد ينشأ تفاعل سلبي بالدواء الذي انتهى مفعوله، وقد يؤذي استعمالُه المريضَ، وكم آلاف الأبواب التي تعد مزالق للإنسان في حرفته، وهذا الدرس للتطبيق، لا لأخذ العلم، فحينما تؤدي الأمانة في بيتك وفي عملك يرضى الله عنا جميعاً، وأنت لست مُكلَّفاً إلا ببيتك وعملك.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾

[ سورة الرعد ]

 اضمن لي أن تقيم الإسلام في بيتك، وفي عملك وأنا أضمن لك كل شيء، فهذه: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾ 

الأمانة في التأليف:


 أحياناً يأخذ إنسان فصلاً من كتاب فيجعله مقالة، ويقول: الكاتب فلان، وهذه سرقة وخيانة للأمانة، وتقتضي الأمانة في التأليف أن تعزو كل فكرةٍ إلى صاحبها، الآية واسعة جداً، وهذا شيء يحيِّر، يا ترى هل تدخل في الأدب، أم في التأليف، أم في العلم، أم في الدين، أم في العبادات، أم في المعاملات؟ إنها تدخل في كل شيء، فهذه الآية تدور مع المؤمن حيثما دار، وأينما ذهبت، فحواسك الخمس أمانة، والسيارة المسـتأجَرة أمانة، وكل شيءٍ تفعله أمانة.

الوقت أمانة:


 إن الإنسان الذي يعمل موظَّفاً في محل تجاري إذا أرسله صاحب المحل إلى سفر، فيمكن أن يعمل ساعة والباقي استجمام، إنه لم يؤدِّ الأمانة في هذه الحالة بل خانها، والوقت أمانة، وهذا الوقت ليس لك، وإذا ذهب لكي يصلي فغاب ساعتين، فقال له صاحب المحل: ماذا تفعل؟ فأجاب أصلي يا سيدي، الصلاة ربع ساعة، أما ساعتين وثلاثة أرباع، ساعة وثلاثة أرباع، إنها خيانة الأمانة، أدخل الوقت في هذه الآية إن شئت، وأدخل التربية، وأدخل الحرفة، وأدخل الحواس، وأدخل دينك، وأدخل كل شيء في هذه الآية، وقد قلت في البداية، ما من آيةٍ تتسع لأي موضوع كهذه الآية ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا﴾

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور