الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة المعارج، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:
هؤلاء الكفار المُعرِضون، العُصَاة، المنغمسون في ملذَّاتهم المُحرَّمة يرون هذا اليوم بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به، ومعنى بعيد: أنه لن يأتي، رأي بعيدٌ عن الواقع يعني غير صحيح، إنهم هؤلاء الكفار المكذبون الفجار هؤلاء ﴿يَرَوْنَهُ﴾ علامَ تعود هذه الهاء؟ قال تعالى:
هذا اليوم طويلٌ جداً على أهل المعصية والعدوان.
أيها الإخوة الكرام، لقد زرت قبل أسبوع بلدةً عمِلتُ فيها مدرِّساً قبل ثلاثين عاماً، وأنا في الطريق تذكرت كيف مضت هذه الثلاثون عاماً؟ لقد مضت كلمح البصر، وقد كنت مرَّة في حفل، فقام خطيب في الحفل وذكَّرني أنه كان تلميذاً لي قبل أربعين عاماً، فقلت: سبحان الله كيف مضت هذه الأعوام الأربعون؟ والأربعون، والخمسون، والعشرون والعشرة، كلها تمضي سراعاً.
يوم يُحاسَب فيه المرء على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكل بسمةٍ، وكل عَبوسٍ، وكل عطاءٍ، وكل منعٍ، وكل صلةٍ، وكل قطيعةٍ، وكل كلمةٍ؛ هل هي قاسيةٍ أو حاميةٍ أو رحيمةٍ أو منصفةٍ، كل صلةٍ وزيارةٍ وسفرٍ وإقامةٍ وحفلةٍ، فكُلُّ شيءٍ تفعله مُسجَّلٌ عليك وسوف تُحاسب عنه..
والإنسان بينه وبين أن يكون تحت سطح الأرض ثوانٍ، بثانية قد يفقد حياته، فجأةً، وفي ساعات معدودة يُصبِح تحت أطباق الثرى.
لقد ذهبت مرَّةً إلى تعزية وسألت عن المتوفى فقيل لي: إن عمره خمسةٌ وخمسون عاماً، وقد ترك مبلغاً فَلكياً، فكيف مات؟ لقد مات في الفندق؛ جاءته سكتةٌ دماغية فأنهته بثوان، وفي ذهنه آمال لا تنقضي بعشرين عاماً ولا بثلاثين عاماً.
مرَّة حدثني أخ فقال: هناك رجل يريد أن يكسو بيته، فحيّر المهندسين ماذا يفعل بالتدفئة المركزية؛ أيجعل تمديداتها خارجاً أم يجعلها داخل الجدران؟ وبقي في حيرةٍ ستة أشهر، فإن جعلها من الخارج أَعطت فاعليةً أكبر، لكن منظرها غير أنيق، وإن جعلها من الداخل فلعلَّها تتعطَّل فيُضطرّ إلى تكسير البلاط، فمرت ستّة أشهر وهو يضع حساباته ماذا يفعل؟ ثم اهتدى إلى الحل الآتي، فقال: يجعلها داخليةً، وحينما تفسد بعد عشرين عاماً يجعلها خارجية ولا يكسِّر البلاط، وكأنه ضمِن أن يعيش عشرين سنة بعد هذا العمر، فكم من إنسان انتهى من كسوة البيت فانتهى أجله، وكم من إنسان أنهى دراسته وانتهى مع إنهاء دراسته أجله، وكم من إنسان نال شهادةً ولم يستخدمها، واشترى بيتاً ولم يسكنه، وكم من شابٍ مات في ليلة عرسه، أعرف شاباً مهندساً وقد كان متفوِّقاً جداً، وأراد الزواج فهيؤوا لحفلة العرس أوزاناً من الحلويات لا يمكن أن تُصدَّق، وفي أحد المشاريع مدَّ رأسه من النافذة ليتفقَّد شيئاً فوقع فوق رأسه قطعة صُلبة قتلته فوراً، فوُزِّعت كل هذه الحلويات يوم وفاته أثناء التعزية.
وهناك قصص كثيرة جداً من هذا القبيل؛ فهناك من يُسافر فلا يعود، ويأتي إلى بلدٍ فلا يرجع إليها، ويعقد قِرانه فلا يدخل، وينال شهادةً فلا يستمتع بها، ويبني بيتاً فلا يسكنه.
حدثني أخ عن رجل اشترى بيتَين متّصلَين في طابقٍ واحد، وأمضى سنتين كاملتين في كِسوتهما، وبعد أن انتهت الكسوة بأسبوعٍ واحد انتهى أجله.
أي لا يأتينَّكم الموت إلا وأنتم مستسلمون لأمر الله عزَّ وجل، خاضعون له.
إخواننا الكرام، بعضهم يقول: إن ذكر الموت فيه تشاؤم، لا، الموت له معنى إيجابي، فإذا كنت على طريق فأنت معرَّضٌ لخطرين؛ خطر التوقف والتعطُّل، وخطر الانزلاق، فالتفكُّر بالموت يحول بينك وبين الانزلاق وبين الوقوف، فأنت متحرِّك، والموت يدفعك إلى طاعة الله، إلى العمل الصالح، إلى إنفاق المال، إلى تلاوة القرآن، إلى طلب العلم، إلى الذكر، والموت يمنعك أن تعصي الله عزَّ وجل، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
[ رواه الترمذي ]
فلم يقل: اذكروا، بل قال: أكثِروا، فالأمر لا ينصبُّ على الذكر بل ينصبُّ على كثرة الذكر، فما الذي يمنع أن يسأل الإنسان نفسه: هل بقي لي بقدر ما مضى؟ إنه سؤال صعب، ولكن ليتصوّر أحدنا أنه مات، ماذا سيكون بعد موته؟ هل يُباع البيت؟ هل تتزوج امرأته؟ هل ينضبط أولاده أم يتفرَّقون؟ هل يجتمعون أم يتنافسون؟ ماذا سيحصل؟ وهذه الأشياء التي يقتنيها من سيأخُذها ومن سيستخدمها؟ وماذا سيكون؟
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
فـإذا حملتَ إلى القبـــــورِ جنــازةً فـاعلمْ بأنّك بعدَهـــــــا محمـولُ
هناك رجل ورِث من رجل مبلغاً ضخماً جداً يزيد على تسعين مليون، ولكن هذا المبلغ لا يُحصِّله إلا بمعاملات طويلة جداً، فترك عمله، وترك متجره وشمَّر وانطلق من دائرة إلى دائرة، ومن مكان إلى مكان، ومن ورقة إلى ورقة، ومن وثيقة إلى وثيقة، ومن براءة ذمَّة إلى براءة ذمَّة من أجل أن يحصِّل هذا المبلغ الكبير، وجاءته المَنِيَّة قبل أن يقبض درهماً واحداً.
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا﴾ سبحان الله! إنه شيء يحيّر، فهناك إنسان يُلقى على الفراش ثلاثين عاماً، وإنسان يُخطَف بثانية واحدة وهو سليم لا يشكو من شيء على الإطلاق، فهناك رجل قبل بيوم من وفاته أجرى تخطيط قلب وتبين أن لا شيء فيه، كما أجرى (إيكو) فتبين ألا شيء فيه، فاطمأن.
﴿ قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(8)﴾
والإنسان أحياناً يفر من عدوٍّ يتبعه، وكم تكون المفاجأة صاعقة لو رأى عدوه أمامه في الاتجاه المُعاكِس؟ وهذه الآية دقيقة جداً أيها الإخوة: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً﴾ الذي أهلكَ الكافر هو طول الأمل، فقد يكون على مشارف الموت وهو يلعب بالنرد للساعة الثانية، وقد يكون على مشارف الموت وهو لا يصلي، على مشارف الموت وهو يأكل المال الحرام، على مشارف الموت ويعتدي على أعراض الناس، على مشارف الموت وهو يسهر إلى الساعة الخامسة صباحاً على أقنية (المجارير) فينتقل من قناةٍ إلى قناة، وعمره ستون سنة وهو على وشك أن يغادر الدنيا.
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا﴾ قال تعالى:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَٰلِحًا غَيْرَ ٱلَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ ۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ(37)﴾
ما النذير؟ قيل: هو الشيب.
إلى متى أنت باللذاتِ مشغولُ وأنت عن كلِ ما قدَّمت مسؤولُ
الشيب نذير، وسنّ الأربعين نذير، المصائب نذير، وموت الأقارب نذير ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾ .
وعلامة المؤمن أنه يرى أجله قريباً فيتجهّز، وقد ضربت مرَّة مثلاً، وهو افتراضي وغير واقعي، ولكن قصدت منه فكرة دقيقة جداً فقلت: افترض أن هناك بطاقة الطائرة إلى أمريكا بخمسمائة ألف، وقد قصدت هنا مضاعفة المبلغ خمس مرَّات، فجعلته خمسمائة ألف؛ أي: نصف مليون، وافترض أنَّك إن لم تسافر فلن تأخذ قيمتها إطلاقاً؛ أي: إنها ستضيع عليك، وهذا افتراض ثان، فأول افتراض هو مضاعفة قيمة البطاقة خمسة مرَّات، والافتراض الثاني هو أنك إن لم تسافر وتصعد إلى الطائرة خسرت قيمة البطاقة، وافترض أن الشركة الناقلة هي التي تأخذك من البيت، وأنها تأتي في حدود عشر ساعات؛ أي من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساءً، وأنها لا تنتظر إلا دقيقةً واحدة، سعر البطاقة خمسمائة ألف، وإن لم تصعد الطائرة لا تأخذ قيمتها، والشركة الناقلة هي التي تأخذك من البيت، وتأتيك من الساعة الثامنة وحتى الساعة الثامنة مساءً، وأنت لا تدري متى تأتي، وهي لا تنتظر إلا دقيقة واحدة، فماذا تفعل أنت من أجل مبلغ خمسمائة ألف؟ إنك تقف وراء الباب من الساعة الثامنة صباحاً، تقف مع المحفظة، وكل شيء جاهز، لأنك إن لم تكن جاهزاً فالقضية خطيرة جداً، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ الموت ليس بيدي يا رب بل بيدك، فإذا كان ليس بيدك فمعنى ذلك أنه ينبغي أن تكون مستعداً له دائماً؛ بأداء الحقوق، بالتوبة الكاملة، بالعمل الصالح، بأداء الصلوات، بإنفاق زكاة المال، هذا الاستعداد؛ لأن الموت قريب، وإنك قد تجد شخصاً مِلء السمع والبصر فيصبح فجأةً خبراً، كان رجلاً فصار خبراً على الجُدران، وكان رجلاً يركب الدرجة الأولى في الطائرة وتُقدَّم له أنواع الطعام والشرابات من الشاي والقهوة وأنواع الأطعمة الساخنة والمجلاَّت والجرائد، فيرجع بصندوق على أنه بضاعة وتوجد معه أوراق تخليص، فنحتاج إلى موظف جمركي ليخلِّص هذا الطرد، لقد كان رجلاً فصار بضاعةً!
لقد ركبت مرَّة في الطائرة إلى المغرب، فانتظرنا في تونس ساعة، فنظرت إلى مكان البضاعة فخرج فجأةً نعش عليه اسم صاحبه، سبحان الله! هذا الرجل جاء بالطائرة وعاد بضاعةً.
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا﴾ إخواننا الكرام، لا تتشاءموا لأن التفكّر بالموت صحَّة نفسية، فأَكْثِر من ذكره؛ لأن هذا الموت ما ذُكِر في كثيرٍ إلا قلَّله، ولا في قليلٍ إلا كثَّره، له مفعول عكسي، فإذا كنت في غنىً فاحش فلن تأخذ معك شيئاً مما تملكه إلا الكفن، وإذا كنت في فقرٍ مُدقِع وكنت مستقيماً على أمر الله فالموت بداية الغنى المطلَق، "الغنى والفقر بعد العرض على الله" .
﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً(6) وَنَرَىٰهُ قَرِيبًا(7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ(8)﴾
قيل: المُهل ما أُذِيب من الرصاص، والنحاس، والفضَّة، المعادن المُذابة، وقال علماء الفلك: "الكواكب الآن عبارة عن معادن منصهرة ومتبخِّرة" فهي غازات معادن، والعُنْصر حينما تسخِّنه ينتقل من حالة الصلابة إلى حالة اللزوجة، إلى الميوعة، إلى الحالة الغازية، فأكثر الكواكب في السماء عبارة عن غازات منصهرة ومتبخِّرة، وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ(2)﴾
معنى ﴿انْكَدَرَتْ﴾؛ أي: انطفأت وعادت إلى سيولتها.
﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾ فالسماء معادن مُذابة كَدِرة، ليس لها لونٌ صافٍ، وقال بعض العلماء: ﴿كَالْمُهْلِ﴾ أي: قيحٌ من دمٍ وصديد، و﴿كَالْمُهْلِ﴾ : المعادن المذابة. ويوجد تفسير ثالث: المهل أي درديُّ الزيت وعَكَرُه. فهو إما زيت أو قطران يغلي، أو معادن مُنصهرة، أو قيحٌ من دمٍ ومصلٍ، هذا هو وضع السماء.
﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)﴾
الصوف المندوف، جبل شامخ، صخر كصوفٍ مندوف لا وزن له، أي أن هذه الجبال تلين بعد الشدة، وتتفرَّق بعد التجمُّع، أو تصير رملاً مَهيلاً، ثم عِهناً منفوشاً، ثم هباءً مُنبثاً؛ فمن صخورٍ صمَّاء، إلى رملٍ، إلى عِهنٍ، إلى هباء، ففي يوم القيامة يوجد تبدُّل جذري.
قال تعالى:
﴿ وَلَا يَسۡـَٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)﴾
﴿ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)﴾
قد تقع عين الابن على أمه، أو قد تقع عين الأم على ابنها فتقول له: يا بني جعلت لك صدري سقاءً، وبطني وعاءً، وحجري وطاءً فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم؟ فيقول لها: ليتني أستطيع ذلك يا أماه، إنني أشكو مما أنت منه تشكين . لذلك يبين ربنا عزَّ وجل في آياتٍ كثيرة هذه الحقيقة، أي: يوم لا يسأل قريبٌ قريبه، ولا صديقٌ صديقه، ولا ذو نسبٍ نسيبه من شدة الهول، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال:
(( يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ! قالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ. ))
[ صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ]
أي غير متطهرين، من الطهور (الختان) تقول السيدة عائشة (قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، النِّساءُ والرِّجالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ! قالَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: يا عائِشَةُ، الأمْرُ أشَدُّ مِن أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ)
وذلك لشدة الهول، فإذا كان الإنسان محكوماً بالإعدام، وسِيق إلى حبل المشنقة، ورأى امرأةً تلفت النظر بثيابها الفاضحة فهل يفكِّر في جمالها؟ إطلاقاً، إطلاقاً، إنه لا يراها إطلاقاً، فهناك شيءٌ يُنسيه كل شيء.
﴿وَلَا يَسۡـَٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ حال، والإنسان الصحيح إذا عاد مريضاً فإنه يسأله عن صحته، وعن الطبيب الذي عالجك، والدواء الذي وصفه لك، وعن الآلام التي تشكو منها، وذلك لأن السائل مرتاح تماماً، فتراه يسأل، وقد يقع الإنسان أحياناً بمصيبة فيفقد ماله كله، فتجد السائل يسأل: متى صودر؟ ولماذا؟ وما المخالفة؟ ومن فعل هذا؟ ويبحث عن إجابة، فهناك فضول، أما حينما يكون السائل في مصيبةٍ كمصيبة المسؤول فإنك تجد هذا ساكتاً وهذا ساكتاً.
﴿وَلَا يَسۡـَٔلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ قال: لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ حال، تشغله نفسه عن غيره، وقال بعضهم: "يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعض" أي أنه يراه كما لو أن أناس اتفقوا على سرقة، فهم يعرفون بعضهم بعضاً جيداً، أما حينما يُلقى القبض عليهم فلا يتمنى الواحد منهم أن ينظر إلى الآخر، وهذا المعنى الثاني.
وربنا عزَّ وجل يقول: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ كل واحدٍ مشغولٌ بشأنه الخاص.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْمًا لَّا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ(33)﴾
لا الأب يُسأَل عن ابنه، ولا الابن يُسأَل عن أبيه.
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰٓ ۗ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ ۚ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِۦ ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾
نحن لا نزال في الدنيا، وإذا تورَّط الآن إنسان في مخالفة كبيرة جداً؛ ورطة كبيرة مخالِفة للقوانين النافذة فقد يُعاقب بعشرين سنة في السجن، فمن يتبرَّع أن يدخل مكانه السجن؟ هذا مستحيل، فإذا وقع إنسان في الدنيا يقول لك أقرب الناس إليه: تورَّط، غلط، أصلحه الله، ثم لا يتكلَّم كلمة، فهو غير مستعد أن يدافع عنه بكلمة، ويوجد في الدنيا علاقات وصلات، وتجمعات وقرابات، ونسب ومصالح، وشركات، وأصدقاء، ومع كل هذه التجمُّعات يتخلَّى كلٌّ منهم عن صاحبه، فكيف بالآخرة حينما نأتي ربنا فُرَادى لا مجتمعين؟
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍۢ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ(101)﴾
هناك علاقات النسب في الدنيا، فيقال لك: هذا ابني، وهذا أبي، وهذه أمي، وهذه أختي، وهذا زوج ابنتي، هذه في الدنيا ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ .
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37)﴾
﴿ يُبَصَّرُونَهُمۡۚ يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ (11)وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُـٔۡوِيهِ (13) وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ (14)﴾
أيها الإخوة، قال تعالى: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ فكل إنسان مشغول بمصيبته، وكل إنسان مشغول بهمّه.
أيها الإخوة، في درسنا هذا كلمة ينخلع لها القلب، وهي قوله تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾ إن الله عزَّ وجل يُري المؤمن مصيرَ الكافر؛ ليتحقق المؤمن من عدالة الله، فأسماء الله كلُّها محققةٌ في الدنيا إلا اسم العدل، وهذا الاسم يتحقق في الدار الآخرة، فالذي ظُلِم يرى ظالمه، والذي أُخِذ ماله ظلماً يرى الذي أخذ ماله ظلماً، والذي قُهِر يرى الذي قهره أين مصيره، والذي عُذِّب يرى الذي عَذَّبه أين مصيره، فكل إنسان مظلوم لابدَّ في هذا اليوم أن يرى ظالمه، وأن يرى مكانه، وأن يرى كيف يُعذَّب ظالمه، وأن يرى كيف يُقتصّ منه.
﴿يُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾ شيءٌ آخر أيها الإخوة، قيل في معنى ﴿يُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾: ليس في القِيامة مخلوقٌ إلا وهو نُصْبُ عين صاحبٍ له من الجن والإنس، فيُبصِر الرجل أباه، وأخاه، وقرابته وعشيرته، ولا يسأله ولا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم، فيتعارفون ساعةً من نهار ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة، وأهل يوم القيامة يفرّون من المعارف مخافة المظالم، فأخطر ما في هذه الآية أن الإنسان يرى مكانه لو أنه لم يُطِع الله عزَّ وجل، كما يرى مكان الذي عصى الله عزَّ وجل، في الدنيا يوجد قلق دائم، قال تعالى:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(104)﴾
[ سورة الكهف ]
أحياناً ترى إنساناً فاجراً كافراً منحرفاً بذيئاً، منحرف الأخلاق، ويعتدي على أعراض الناس.
أيها الإخوة، جاء في بعض التفاسير أن معنى قوله تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمۡۚ﴾ أي: يُبْصِرُ المظلوم ظالمه، ويُبْصِر المقتول قاتله، ويُبْصِر كل ذي حقٍ الذي أكل حقَّه، وتشتفي نفسه حينما يرى عدل الله مطلقاً قائماً في كل شيء، الآن: ﴿يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ﴾ يود المجرم في حق نفسه، والذي غفل عن الله، والذي انغمس في الشهوات، والذي عصى الله عزَّ وجل، يود هذا المجرم ﴿لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ﴾ هناك من الإخوة الكرام مَن لديه أولاد صغار في أجمل السنوات؛ كسن السنتين، والثلاثة، كلام الطفل في هذا العمر كأنه يعزف على أوتار قلب الأبِ والأُم، كذلك منظر وجهه الجميل وملامحه اللطيفة وحركاته البريئة وعذوبة حديثه وعذوبة حركاته، هذا الطفل كما قال عنه الأدباء: "فَلِذة الكَبِد" .
أطفالنا أكبادنا تمشي على الأرض، وفي مقياس المؤاثرة نقول أن الطفل الصغير هو أغلى شيءٍ على قلب والديه على الإطلاق، فربنا عزَّ وجل في آية الفداء قال: ﴿يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ﴾ فمع أن هذا الحب الجارف، ومع أن هذا الابن الصغير في سن معين يكون في أجمل أطوار حياته، يتمنَّى أبوه أن يضعه مكانه وأن ينجو من عذاب النار.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ*وَصَٰحِبَتِهِ﴾ زوجته التي عاش معها عُمُراً وسعِد بها يتمنَّى أن يلقيها في النار لينجو هو لهول عذاب الناب.
﴿وَأَخِيهِ﴾ الذي ساعده في حياته، وكان كلما نابه أمر يقول: أخي، فقام أخوه وأمدَّه وأعانه ودافع عنه.
﴿وَفَصِيلَتِهِ﴾ الفصيلة ليست القبيلة، ولكنها أقل من القبيلة، وهي تعني أقرب الناس إليه؛ أولاد عمومته، أولاد خالاته، جيرانه، زملاؤه في العمل، خاصَّة نفسه، هذه الفصيلة.
﴿يَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ يَفۡتَدِي مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِئِذِۭ بِبَنِيهِ*وَصَٰحِبَتِهِۦ وَأَخِيهِ*وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُـٔۡوِيهِ﴾ ففي موضوع الحُب وتعلُّق القلب بمخلوق يقع الابن في المكان الأول، وفي موضوع المساعدة يكون الأخ في المقام الأول، وفي موضوع الاعتزاز الاجتماعي يُعدُّ الأب في المقام الأول، وفي موضع الشهوة تُعَدّ المرأة في المقام الأول، فربنا عزَّ وجل في خمس آياتٍ قرآنية ذكر الأقرباء مرتَّبين، كل منهم مرتب حسب زاوية معينة..
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
بدأ بالأب لأن الأب موضع اعتزاز اجتماعي، فيقال لك: أنا ابن فلان، والدي فلان أما في موضع الشهوة فقد ذكر المرأة.
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَٰطِيرِ ٱلْمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلْأَنْعَٰمِ وَٱلْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسْنُ ٱلْمَـَٔابِ(14)﴾
وفي موضع المعاونة واللجوء والاستغاثة قال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ إذا كان أبوه كبير في السن، وابنه صغير، فمن الذي يعينه؟ إنه أخوه الذي هو في مستوى سنّه، ففي موطن المساعدة والاستغاثة والمعاونة ذُكِر الأخ، أما في موطن الأَثَرة والحب فقد ذكر الابن.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ وقد يقع الإنسان في الدنيا في ورطة، وكل ورطة لها ثمن يغطيها، فمن الممكن أن يدفع ألفاً و يتخلص بعد ذلك من هذه الورطة، وهناك ورطة يدفع المرء لها مائة ألف، وهناك ورطة ثالثة بمليون، وهناك ورطة يدفع من أجلها عشرة ملايين، فإذا كان الأمر يتعلق بخمس سنوات سجن يقول لك: خذ عشرة وخلصني؛ فكلما كبرت الورطة يكون الدفع أكبر، لكن الإنسان عندما يرى عذاب النار الأبدي يتمنَّى أن يضحي بابنه الذي هو فَلِذَة كبِده، وبزوجته التي صاحبها طوال عمره، وبأخيه الذي أعانه وساعده، وبفصيلته كلّها التي تؤويه وتعينه، فلو إنسان فرضاً دهس إنساناً، والديّة مائتا ألف، فمن يدفعها؟ إنهم عاقلته، وهم أقرب الأقرباء إليه، فإنهم يتعاونون على دفعها، أما في الآخرة:
﴿وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا﴾ فإنه يتمنَّى أن يضع خمسة آلاف مليون إنسان – وهم سكان الأرض الآن -جميعاً في النار لينجو وحده منها.
﴿وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعًا ثُمَّ﴾ ثم للاستبعاد ﴿ثُمَّ يُنجِيهِ﴾ لا والله، هناك شخص حصَّل مبلغاً قريباً من ألف مليون بالقِمار، وهو على فراش الموت عرف إلى أين ذاهب، فحينما كان شاباً كان يجمع هذه الأموال الطائلة، ويدير هذه المقامر العديدة، ويأتي بالأموال يضعها في خزانته، ويأكل ويشرب، وينتشي، ويركب المركبات، وقد كان غافلاً، فلما قَرُبَ أجله وكان على فِراش الموت طلب أحد العلماء وقال: أنا معي مبلغ قريب من ثمانمائة مليون فماذا أفعل؟ فقسا عليه هذا العالم وكان محقَّاً، فقال: والله لو دفعتها كلّها لا تنجو من عذاب الله، لأن هذا الطريق صار مسدوداً.
أيها الإخوة، إن البطل هو الذي لا يصل مع الله إلى طريقٍ مسدود، فليفعل الآن ما شاء، عندما يأتي الأجل يجب عليه أن يجد طريقاً موصلاً إلى الله، فإذا قتل إنسان رجل وحكموه بالإعدام، واستؤنف الحكم، ثم مُيِّز، ثم أقرَّته محكمة النقض، ثم رُفِع إلى الرئاسة كي تصدّقه، وصدقته، ثم سِيقَ إلى المشنقة، فإذا أحب أن يضحك وهو أمام حبل المشنقة فليضحك، لا بد من أن يُشنَق، وإذا أحب أن يبكي فليبك، وإذا أحب أن يتوسل فليتوسل، وإذا أحب أن يتجلد فليتجلد، وإذا أحب أن يشتم فليشتم، افعل ما شئت فلابدَّ من أن يُنَفّذ الحكم، فهذا بدأ بابنه.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ﴾ فإن كان ابنه لا يكفي، فإنه يتمنى أن يفتدي بزوجته ﴿وَصَٰحِبَتِهِ﴾ لا يكفي ﴿وَأَخِيهِ*وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُـٔۡوِيهِ*وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ قال تعالى: ﴿ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ هذا استفهام إنكاري؛ أي: إن هذا لا ينجيك.
﴿ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى(15)﴾
أداة ردعٍ ونفي، فهذا كله لا يُجديه شيئاً، ولا بدّ من أن يُعذَّب ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾ نار مشتعلة، ملتهبة، ونحن في الدنيا جرِّب وضع إصبعك على مدفأة مشتعلة، هل تحتمل ذلك؟ إن آلام الحريق أيها الإخوة لا تُحتمل.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)﴾
هذا عذاب أبدي.
﴿ وَنَادَوْاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ(77)﴾
سنوات وسنوات، آل فرعون:
﴿ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوٓاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ(46)﴾
من ستة آلاف عام، وكل عام ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وكل يوم مرتين ﴿ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوٓاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ﴾ هذا كلام خالق الكون، والله أيها الإخوة إذا كنا مع أشخاص من جلدتنا ومن بني جنسنا وكانوا أقوياء وكانت تعليماتهم واضحة، وعندهم قدرة على كشف المخالفات، فإننا لا نستطيع أن نعصيهم، وهم بشر من جلدتك، من بني جنسك لكنهم أقوى منك، وهم قادرون على أن يكشفوا المُخالفة، ويوقعوا بك عقاباً أليماً، إنك لا تفكِّر إطلاقاً في أن تعصيهم، فكيف بخالق السماوات والأرض؟
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى﴾ نارٌ ملتهبة.
﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى(16﴾﴾
تنزع جلد الوجه، تنزع مكارم الوجه، تنزع جلد الأعضاء، تنزع كرامة الإنسان، فالإنسان حينما يُعذَّب يُهان، فهناك عذاب مهين، وعذاب أليم، وعذاب عظيم ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ أي إنها تنزع جلد الرأس، فتصوّر إنساناً بلا جلد، بجمجمة فقط، هذا شيء مخيف، وتصور إنساناً بلا أعضاء، إنساناً قد احترقت معالم وجهه، هذه النار:
﴿ تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ (17)﴾
نحن في الدنيا نُدعَى إلى الله، فنستجيب أو لا نستجيب، لكنه في الآخرة قال: النار تدعو من أدبر في الدنيا عن طاعة الله، وتولّى عن الإيمان، قال بعض العلماء: "تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم، بلسانٍ فصيح" . تعال أنت يا فلان ادخل، تعال أنت وادخل، النار شبَّهها ربنا عزَّ وجل بمخلوقٍ مدرك يخاطب هؤلاء الكفار والفجَّار بأسمائهم.
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِلشَّوَى﴾ أي مشتعلة، متّقدة، تنزع جلد الوجه ﴿تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ﴾ أو تقول: إليّ يا كافر، إليّ يا منافق، أو تلتقطهم كما يلتقط الطير الحَب، وقال بعض العلماء: "دعوتها لهم تمكينها من تعذيبهم أو أنها تلتقطهم كما يُلتقط الحَب، أو أنها تقول: إليّ يا كافر يا منافق، أو أنها تخاطبهم بأسمائهم واحداً واحداً" .
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لِلشَّوَى* تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ﴾ من أدبر عن الإيمان بالله، وتولى أن يطيعه، الآن:
﴿ وَجَمَعَ فَأَوْعَى(18)﴾
همُّه جمع المال، وهمه تخزينه، وهمُّه أن يزهو بين الناس، فحجمه المالي كذا، ورصيده في المصرف كذا، وقد ذهب إلى بلدٍ غريب بعيد وأنفق هذا المبلغ الكبير، وأقام عقد قِرانٍ في المكان الفلاني، ودفع ستين مليون، وفعل كذا، وقدَّم خاتماً هدية إلى زوجته بنصف مليون، وسافر إلى المكان الفلاني، ونزل في فندق كلَّفه في اليوم مائة ألف مثلاً؛ جمع المال وأنفقه، وتباهى بإنفاقه، ثم: ﴿فَأَوْعَى﴾ أي إنه خزن المال ولم ينفع به المسلمين.
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِلشَّوَى*تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى*وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾ توجد مفارقة: الدعاة إلى الله يدعونك إلى الله وأنت حرّ فقد تستجيب أو لا تستجيب، والإنسان حينما لا يستجيب وحينما يعصي وحينما ينغمس في الملذَّات، يُدعى يوم القيامة إلى النار لكنه ليس مخيراً أن يستجيب أو أن لا يستجيب، فهذا الخيار كان في الدنيا، أما في الآخرة فأنت لست مُخيَّراً ﴿تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى*وَجَمَعَ فَأَوْعَى﴾
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نبدأ قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)﴾
الملف مدقق