الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع من سورة المعارج، والآيات التي شُرِحَت في الدرس الماضي هي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً(19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً(20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26)﴾
أيها الإخوة الكرام، في اللحظة التي تُصدِّق فيها بيوم الدين تستعمل ميزاناً خاصاً، وهو ميزان الآخرة والشريعة، وهؤلاء الَّذين يَزينون الأمور بالمكاسب المادية فقط؛ فلا يعبؤون بحلالٍ ولا بحرام، ولا بشيءٍ مشروع أو غير مشروع، ولا يعبؤون بأن مكتسباتهم كانت على حساب آخرين هؤلاء يزينون كل شيء بميزان المكاسب المادِّية، وهؤلاء لا يُصدِّقون بيوم الدين، فلو أنهم صدّقوا بيوم الدين لاستعملوا ميزان الشريعة ولاستعملوا ميزان الآخرة، فهذه الموازين الدقيقة تُوزَن بها أعمال الإنسان يوم القيامة، لذلك يقول الإنسان العاقل كلَّما وقف موقفاً: ماذا أُجيب الله يوم القيامة؟ هل هذا العمل أَقَرَّه الشرع؟ هل أنا مغطىً بالشرع؟ هل الحكم الفقهي إلى جانبي؟ هل لي حجَّةٌ يوم القيامة أمام الله عزَّ وجل؟ ولمجرّد أن تصدِّق بيوم الدين لابدَّ من أن تتخذ ميزاناً جديداً هو ميزان الشريعة، أما إن لم تُصدق بيوم الدين فإنك تزين كل شيء بموازين المكاسب الماديّة، لذلك قد تجد إنساناً يسعى إلى كسب المال بأي طريق؛ مشروع أم غير مشروع، صحيح أم غير صحيح، فيه ظلم أو فيه عدل، لابدَّ من أن يأخذ هذا المال ليستمتع به في الحياة الدنيا، هذا ميزان المكاسب المادية، وهو ميزان مَن لم يُصدّق بيوم الدين، اسأل نفسك هذا السؤال: هل يمكن أن تقبل دخلاً غير مشروع؟ هل يمكن أن تَبْتَزَّ مال إنسان؟ هل يمكن أن تغشَّ إنسان؟ هل يمكن أن تأخذ ما ليس لك؟ هل يمكن أن تبني مالكَ على إفقار الناس؟ ثِق وآمِن وتَيَقَّن أنك إن فعلت هذا فأنت لا تُصدِّق بيوم الدين، أي إنسان عاقل إذا صدَّق أن الله سيُحَاسِبَه عن كل شيء فلا بدَّ أن يعد للمليون قبل أن يعصي الله عزَّ وجل..
﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ حينما صدَّقوا بيوم الدين استخدموا ميزاناً جديداً، وهذا الميزان لا يسمح لهم أن يكذبوا، ولا أن يُدَلِّسوا، ولا أن يغشُّوا، ولا أن يوهموا، ولا أن يبتزوا أموال الناس، ولا أن يبنوا غِناهم على فقر الناس إطلاقاً، فراقب نفسك وراقب ما الميزان الذي تستخدمه في حركتك اليومية؟ إن كنت تستخدم ميزان المكاسب الماديّة فأنت لا تُصدِّق بيوم الدين، ولو أعلنت بلسانك ألف مرَّة أنَّك مؤمن بالآخرة، الإيمان بالآخرة يجب أن يُجسَّد باستخدام ميزان الشريعة، وكل مَن ترك من يده لحظةً ميزان الشريعة هَلَك، فقد تكون قوياً جداً وزوجتك ضعيفةٌ جداً، قد توفيَّ والدها، وإخوتها مسافرون، وهي تحت إمرتك وتحت هيمنتك، فإن ابتززت أموالها أو ظلمتها فأنت لا تُصدِّق بيوم الدين، وقد يأتيك إنسان جاهل وأنت تحمِل أعلى شهادة، وكلامك عنده مُصَدَّق، وأي شيءٍ تقوله له يُصدقه، وبإمكانك أن تأخذ من أمواله الشيء الكثير، وهو يشكُرك على هذا ولا يعلم، إن فعلت هذا فتيقَّنْ أنك لا تُصَدِّق بيوم الدين، فالمِهن الراقية التي هي موضع ثقة الناس، إن أخلص أصحاب هذه المهن، وإن صدقوا الناس وأخلصوا لهم في التعامل معهم فهم يصدِّقون بيوم الدين.
أيها الإخوة، لعل هذه الآية تَفْرِز الناس إلى فِرقتين؛ فرقةٍ ناجيةٍ استخدمت ميزان الشريعة، وفرقةٍ هالكةٍ استخدمت ميزان المقاييس اليومية، فقد تسكن في بيت وتدفع أجرةً رمزيةً لا تساوي واحد بالألف من أجرته الحقيقية والقانون معك، وعندك بيتٌ آخر، إن فعلت هذا فأنت لا تُصدِّق بيوم الدين، فماذا ستقول لله عزَّ وجل يوم القيامة إذا كانت صاحبة البيت امرأةً أرملةً تعيش من أجرة هذا البيت، والقانون معك وأنت مستأجر قبل السبعين، إنها لا تستطيع أن تقول كلمةً واحدة، وأنت متمتع ببيت وبأجرةٍ رمزية، وتذهب إلى المسجد وتصلي في أول صف، إنَّك لا تصدِّق بيوم الدين، إن الذي يصدق بيوم الدين يحاسب نفسه على الدِرْهَم والدينار، والذي يصدق بيوم الدين يحاسب نفسه على كلمةٍ، والذي يصدق بيوم الدين يحاسب نفسه على نظرة، والذي يصدق بيوم الدين يستغل وقته أعلى استغلال في طاعة الله، وفي طلب العلم، وفي تعليم العِلم، والذي يصدق بيوم الدين لا يضيِّع وقته في مباحاتٍ لا تقدِّم ولا تؤخِّر.
إخواننا الكرام، إن القضية خطيرة جداً، فأنت حينما تصدِّق أن إنساناً قوياً سيستدعيك بعد يومين، وسيسألك كذا وكذا فإنك لا تنام الليل؛ لأنك أيقنت أنه سيسألك، وقد يُعاقبك وقد يحجز حرِّيتك، فإذا قيل لك: إن الله جلَّ جلاله خالق السماوات والأرض سيسألك عن كل صغيرةٍ وكبيرة، وعن كل كلمةٍ، وعن كل نظرةٍ.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
كيف تُقنِع نفسك أنك مصدقٌ بيوم الدين، وأنك تفعل أشياء لا تُرضي الله عزَّ وجل؟
إخواننا الكرام، هناك عشرات ألوف الأعمال التي يقترفها المسلمون فيها مخالفةٌ صريحة لمنهج الله عزَّ جل، وإذا سألتهم عدِّد أركان الإيمان يقول لك: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، لا والله ما آمنت باليوم الآخر، فهذا الذي يفعل المعاصي والموبقات، ويبني مجده على أنقاض الناس، ويبني ماله على إفقار الناس، ويبني عزَّه على إذلال الناس، هذا والله ليس مؤمناً بيوم الدين.. فإن أنت إذا تيَقَّنت أن إنساناً من بني البشر أقوى منك سيحاسبك فإنك تعد للمليون قبل أن تفعل شيئاً يغضبه، وهو إنسان من بني البشر، لكنه قوي، فكيف تفعل كل هذه المعاصي وأنت تقول: إني مؤمنٌ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين؟
﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ إخواننا الكرام، سأذكر أمامكم هذا المُصْطَلَح: إنك حينما تُدخِل في حساباتك اليومية أنَّ هناك يوماً لا بدَّ واقفٌ بين يدي الله فيه، ولا بدَّ أنك سوف تطَّلع على أعمالك كلَّها واحدةً واحدة، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، فلن تستطيع عندئذ أن تعصي الله.
(( الإِيمَانُ قيّدَ الفَتْكَ، ولا يفتِكُ مؤمنٌ. ))
فالإيمان قيد، وهذا الطليق المتفلِّت الذي لا يعبأ لا بمالٍ ولا بشيءٍ، وهمُّه أن يجمع مالاً كثيراً ليستمتع به في الحياة الدنيا لا تنفعه هذه العبادات الجوفاء التي يؤدِّيها وهو يبني مجده على أنقاض الناس، إن هذه العبادات لا تقدِّم ولا تؤخِّر، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا دِرْهَمَ له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وَقَذَفَ هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثم طرح في النار. ))
هذا هو المفلِس. إخواننا الكرام، وفِّروا وقتكم لأن الوقت ثمين، لا تحاول أن تخادع الله.
﴿ إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(142)﴾
لا تحاول أن تُوهِم أنَّك تُصلي، وأنك تصوم، وأنك حججت بيت الله الحرام عشرات المراَّت، ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةٍ بعد الإسلام.
﴿ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ(53)﴾
لا بدَّ من أن تقف عند الحلال والحرام، لا بد من أن تحاسب نفسك حساباً عسيراً، لا بد من أن تحاسب نفسك على كل صغيرةٍ وكبيرة.
وقد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى واقفاً في ظلِّ بيت يحدِّث رجلاً فأمسكه من يده ونقله إلى الشمس، قال: "هذا البيت مرهونٌ عندي وإني أكره أن أنتفع بظلِّه" هكذا كان السلف الصالح يحاسبون أنفسهم حساباً يبدو لنا غير معقول، لكنهم عقلاء، فهذا سيدنا عمر يقول: "والله لو تعثَّرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر" ؟
وقد كان سيدنا عمر مرة في جولةٍ مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في المدينة، فرأيا قافلةً قد نصبت خيامها في ظاهر المدينة فقال: تعال نحرسها، نحرس هذه القافلة، فسمع طفلاً يبكي فقال لأمه: أرضعيه، فأرضعته، ثم بكى، فقال لأمه: أرضعيه، فأرضعته ثم بكى فغضب وقال: يا أمَة السوء أرضعيه، فقالت له: وما شأنك بنا؟ وما دخلك أنت؟ قال: لمَ لا ترضعيه ؟ قالت: إنني أفطمه، قال: لمَ؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفِطام (أي: التعويض العائلي)، ويروي كتَّاب السيرة أنه ضرب جبهته وقال: ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين، فقد عدَّ نفسه قاتلاً لأنه حمل الأمهات على فطام أولادهن قبل الوقت المناسب من أجل أن يأخذوا من عمر العطاء.
فما لم تحاسب نفسك حساباً عسيراً فلن تكون مُصدِّقاً بيوم الدين، ما لم تحاسب نفسك حساباً دقيقاً لم تكن مصدقاً بيوم الدين، فالتصديق بيوم الدين أن تتصور أنك في كل ثانية واقفٌ بين يدي الله عزَّ وجل.
هناك طالب من الطلاب الذين أدَّوا امتحان الشهادة الثانوية نال الدرجة الأولى على طُلاَّب القطر، فسأله صحفيٌّ في مقابلةٍ: ما الذي أعانك على أن تنال هذه الدرجة الأولى؟ أجاب إجابةً رائعة قال: إن لحظة الامتحان لم تُغادر مُخيلتي ولا ثانية.
وأنت حينما تتصور أنه في أية لحظة سوف تُسأل من قِبَل الله عزَّ وجل: لماذا فعلت؟ لماذا تركت؟ لماذا وصلت؟ لماذا قطعت؟ لماذا تكلَّمت؟ لماذا سكتّ؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا ابتسمت؟ لماذا عَبست؟ لماذا فعلت هذا؟ لماذا طلَّقت؟ لماذا تزوَّجت؟ لماذا دَلَّست؟ هيِّئ جواباً لله عزَّ وجل عن كل ما تفعله في يومك، وإلّا فإنك لا تُعَدُّ مصدقاً بيوم الدين، لأن الله سيسأل: ما حُجَّتك؟
وقد دخلت زوجة سيدنا عمر بن عبد العزيز عليه مرة فرأته يصلي ويبكي، فلما انتهى من صلاته قالت له: ما لك تبكي؟ قال: دعيني وشأني، قالت: أستحلفك بالله ما لك تبكي؟ قال: دعيني وشأني، فلمَّا ألحَّت عليه قال: إني ولِّيت أمر هذه الأمة فعلمت أن الله سيسألني عن الفقير، وعن الأسير، وعن صاحب العيال الكثير، وعن ذي الدخل القليل، وعن ابن السبيل... ولا أذكر النصَّ بكامله لأنه ذكر عشرات من النماذج المعذَّبة في الحياة. ثم قال: "أيقنت أن الله سيحاسبني عنهم جميعاً وأن خصمي دونهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخفت ألّا تثبت حجّتي فلهذا أبكي" .
فأنت حينما تتولى أمر عشرة، تكون في دائرة تحت يدك عشرة موظَّفين، فلا بدَّ أن تحاسب نفسك حساباً عسيراً؛ هل أعطيتهم حقهم؟ هل عَدَلْت بينهم؟ هل منحتهم ما ينبغي أن تعطيهم إيَّاه؟
إخواننا الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، والكيِّس من دان نفسيه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فلا توهم نفسك أنك مصدقٌ ليوم الدين إذا كنت مقيماً على معاصٍ تغضب الله عزَّ وجل، ولا تتصور أنك مؤمنٌ بيوم الدين إذا كان في دخلك جزءٌ من مالٍ حرام، إيَّاك أن تفعل هذا،
فهؤلاء الذين يُصَلِّون ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً*إِلَّا الْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾ فلو جاءك إنسان ليشتري حاجة، وعلمت أنه جاهل فَغَبَنْتَهُ، فقد ورد في بعض الأحاديث:
(( غَبْنُ المُسترسِل ربًا. ))
[ البيهقي في شعبه بسند ضعيف ]
(( غبْنُ المسترْسِلِ حرامٌ. ))
المسترسل: هو الجاهل، ففي بيعك وشرائك، في إقامتك وسفرك، في علاقاتك بأهلك، في علاقاتك بجيرانك، الناس يفعلون ما يشاؤون، فهم طُلقاء يفعلون كل ما يرونه صواباً، ولكن المؤمن وحده هو الذي يوفِّق أعماله مع منهج الله عزَّ وجل، فالذي يُغضب الله لا يفعله ولو قطَّعته إرباً إرباً، والذي يرضي الله يفعله دون تردد، هذا معنى:
﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ(26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(27)﴾
الله عزَّ وجل حينما حدَّثنا عن النار قال:
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَٰهَا تَذْكِرَةً وَمَتَٰعًا لِّلْمُقْوِينَ(73)﴾
﴿تَذْكِرَةً﴾ أي اشعل شمعةً وضع إصبعك على لهيبها، فإن تحمَّلتها فافعل هذه المعصية، والشمس تصل حرارتها في ألسنة لهبها إلى ستة آلاف درجة، أما في مركزها فتصل الحرارة إلى عشرين مليون درجة، ولو أن الأرض أُلقيت في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة، وحرارة الشمس من حرارة نار الدنيا، أما نار الآخرة فهي أشدُّ حرًّا.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)﴾
قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ جَعَلْنَٰهَا تَذْكِرَةً﴾ هذا كلام الله جلَّ جلاله، وهو إلهنا وربنا وخالقنا، وقد ذكر نار جهنّم فقال:
﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ (175)﴾
فهذا الذي لا يأخذ بهذا الوعيد إنسان أحمق، ومن الذي لا يخاف الله؟ هو الإنسان الذي عطَّل تفكيره، الذي عطل إدراكه لا يخاف، وأضع لك مثالاً على ذلك: قد تأتي بطفل عمره سنة واحدة، فيجلس في أثناء الحصاد، وقد يمرّ أمامه ثعبان لو رآه رجل شديد لولَّى هارباً، لكن هذا الطفل لا يتأثَّر ولا يبكي بل إنه يضع يده عليه، لماذا لا يخاف منه؟ لأنه لا يُدرك، لو أدرك لخرج من جلده، لو أدرك لصاح صيحةً ملأت الأُفُق، لكنه لا يُدرِك، فالذي لا يخاف قد عطَّل إدراكه.
قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ إله! فلو كان عند إنسان بعض الأشياء المزعجة التي لا تحتمِلُها، فإنك تحسب له مليون حساب، وذلك لأنك تخاف أن يعذِّبك، أما إلهنا يقول لك عن نار جهنم: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾ الناس يتحرَّكون في الطرقات، وفي دور اللهو، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويستعلون على غيرهم وكأن شيئاً لم يقع، إن هؤلاء عطَّلوا إدراكهم، هؤلاء عديمو الإدراك لأنهم لو أدركوا لخرجوا من جلودهم.
يقول سيدنا عمر: "عجبت لثلاث، عجبت لمُؤَمِّلٍ والموت يطلبه، وغافلٍ وليس بمغفولٍ عنه، وضاحكٍ ملء فيه ولا يدري أساخط عنه الله أم راضٍ" ؟ يبنون ويعتنون، ويؤسسون ويزخرفون، ويتشدَّقون ويتيهون على خلق الله، والقبر ينتظرهم، فلعل أحدكم حضر تعزية، قد يجد بيتاً لا يوصَف بجماله، ولكن أين صاحبه؟ تحت أطباق الثرى، هذا هو البيت الحقيقي، هذا هو المثوى الأخير.
التفكر بالمصير يسمو بالحياة:
يا أيها الإخوة الكرام، التفكُّر بالمصير المحتوم لا يُعرقِل الحياة لكنه يسمو بالحياة، فأنت حينما تؤمن أن الله سوف يحاسبك، فإنك تفعل كل شيءٍ وفق منهج الله عزَّ وجل، فالآية الكريمة دقيقة جداً:
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ(50)﴾
والمعنى المُخالِف أن الذي يتبع هواه وفق هدى الله عزَّ وجل لا شيء عليه، فإذا كان هناك إنسان أودع الله في قلبه حبَّ المرأة فتزوج فلا توجد مشكلة أبداً، وإن أودع في قلبه حبَّ المال فعمل بمشروعٍ شريف فكسب المال وأنفقه على نفسه، وعلى أهله فلا شيء عليه أيضاً، فأيُّ شيءٍ سمح الله لك به افعله ولا تخَف، لكن التفكّر بالمصير المحتوم يسمو بالنفس فيمنعها من أن تزل، ويمنعها من أن تقف، فللموت إيجابيتان مهمتان؛ فهو يمنعك من أن تعصي الله، ويمنعك من أن تقف في الطريق لله عزَّ وجل.
وقد قال ابن عبَّاس في تفسير أية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ "هذا لمن أشرك أو كذَّب بالأنبياء" ، وقيل: لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحدٍ أن يخافه ويشفق منه.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان عند أصحابه الذين توفَّاهم الله، وكان من عادته أن يذهب إلى بيت أصحابه الذين توفَّاهم الله قبل الغسل والدفن، فسمع امرأةً تقول: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، قال: ومن أدراك أن الله أكرمه، وأنا نبيٌّ مرسَل لا أدري ما يُفعل بي.
(( أنَّهُمُ اقْتَسَمُوا المُهاجِرِينَ قُرْعَةً، قالَتْ : فَطارَ لنا عُثْمانُ بنُ مَظْعُونٍ وأَنْزَلْناهُ في أبْياتِنا، فَوَجِعَ وجَعَهُ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ وكُفِّنَ في أثْوابِهِ، دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَة اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السَّائِبِ، فَشَهادَتي عَلَيْكَ لقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ،فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ فَقُلتُ: بأَبي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ، فمَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا هو فَواللَّهِ لقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ، وواللَّهِ ما أدْرِي وأنا رَسولُ اللَّهِ ماذا يُفْعَلُ بي فقالَتْ: واللَّهِ لا أُزَكِّي بَعْدَهُ أحَدًا أبَدًا. ))
هذا يؤكِّد قول من قال: ينبغي أن لا يأمنه أحد، فهذا سيدنا عمر وهو مبشَّر بالجنَّة قد سأل سيدنا حذيفة بن اليمان فقال له: بربك هل اسمي مع المنافقين؟ قال له: لا يا أمير المؤمنين، معاذ الله أنت أمير المؤمنين، فينبغي أن تخاف الله دائماً، وينبغي أن ترجوه.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ (29)﴾
أُذَكِّرُكُم بقول سيدنا جعفر حينما سأله النجاشي عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال:
(( إنَّا كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه.))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
العفاف ثلث الأخلاق الفاضلة ، فعلاقة المؤمن بالمرأة أساسها العفاف.
﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ﴾ فالإنسان يحفظ فرجه حينما يتَّقي ربَّه، فيفعل الأسباب التي تحفظ له فرجه، قال تعالى:
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
هذا ترتيب دقيق جداً، جعل الله حفظ الفرج بسبب غضِّ البصر.
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلًا(32)﴾
فأي خطوةٍ تخطوها تُقَرِّبك من الزنى، فالنظر يقرّب، وصحبة رفقاء السوء تقرِّب، والمشي في طريقٍ من دون حاجةٍ ضروريةٍ وهو مليء بالنساء الكاسيات العاريات يقرَّب، وأن تأتي بصحنٍ فتتابع ما فيه من أفلامٍ داعرةٍ إلى الساعة الخامسة صباحاً يقرِّب أيضاً، فالأعمال الفنية الساقطة، والمجلات الخليعة، والقصص المنحطَّة، ورفقاء السوء، وإطلاق البصر، والحديث عن الزنى هذا كلّه يقرِّب، لذلك كان من حكمة الله عزَّ وجل أنه قال: ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ﴾ .
حقيقة علمية!!
لم يقل الله تعالى: ولا تزنوا، لأن الإنسان حينما يُستثار يفرز الدماغ مادة تعطِّل المحاكمة، وهذه الحقيقة العلمية تفسّر كل تورُّط في الزنى، لذلك قال عليه السلام:
(( لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا وكانَ الشَّيطانُ ثالثَهما. ))
وهذا كلام مطلق، فهو يشمل أي إنسان، فالذين يحفظون فروجهم لا يسمحون بخلوةٍ مع أجنبية، ولا يُطلقون النظر إلى محرَّم، ولا يملؤون عيونهم من الحرام، ولا يجلسون مع امرأةٍ لا تحلّ لهم، ولا يديرون حديثاً لطيفاً مع امرأةٍ لا تحلّ لهم، ولا يقرؤون شيئاً يثير شهواتهم السُفْلَى، ولا يُشاهدون عملاً فنياً مثيراً، وكل شيءٍ يقرِّبُهُم من الزنى لا يفعلونه، فتصوّر أن الزنى تيار كهربائي بثماني آلاف فولط، توتر عالٍ وهذا التيار من خصائصه أنه يجذب، وله منطقة حرام؛ أي: ثمانية أمتار، وكل إنسان دخل إلى أقل من ثمانية أمتار يجذبه التيار ويجعله فحمةً سوداء.
وهذه الشهوة خطيرة جداً، ويمكن أن نشبهها بصخرةٍ مستقرةٍ في رأس جبل، وأنت لك أحد خيارين؛ إما أن تبقيها في مكانها فأنت آمن، أو أن تدفعها من مكانها فلن تستقر عندئذ إلا في قعر الوادي، ولن تستطيع أن توقفها بعد مترين من الانحدار، لأنها لن تستقر إلا في قعر الوادي، فبطولتك تكمن في ألّا تدفعها في المنحدر، فإنك إن دفعتها في المنحدر استقرّت في قعر الوادي.
أيها الإخوة... هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾
فلابدَّ من أن تدع بينك وبين المعاصي المتعلقة بالمرأة والجنس هامش أمان، فيوجد خط أحمر إن اخترقته كانت الكارثة، فهذه الشهوة لها وَهْج، فإن جذبتك إليها انتهى كل شيء، لذلك قد تعجب أن كل الآيات التي نهت عن الزنى لم تنهَ عن فعل الزنى نفسه، بل نهت عن الاقتراب من الزنى، فإطلاق البصر اقتراب، كذلك المصافحة، والخلوة، وملء العينين من الحرام، وإدارة حديث، وقراءة قصة، ومشاهدة عمل فني رخيص، وصُحْبَة الأراذل، ومشاهدة الصور الفاضحة، هذا كلّه يقرّب من الزنى، والنهي عن أن تقترب من الزنى ﴿وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ﴾
شيء ثان: ليس في الإسلام حرمان، فأية شهوةٍ أودعها الله في الإنسان جعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، وهناك قول لطيف جداً: "ما كان الله ليعذِّب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله" فالله يريَّحك، وقد تجرَّأ أحدهم جرأة غير معقولة، فقال للنبي الكريم وهو بين أصحابه الكرام وهم قممٌ في العِفَّة، قال:
(( إنَّ فَتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، ائْذَنْ لي بالزِّنا، فأقبَلَ القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَهْ، مَهْ! فقال: ادْنُهْ، فدَنا منه قَريبًا، قال: فجَلَسَ، قال: أتُحِبُّه لأُمِّكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم، قال: أفتُحِبُّه لابنتِكَ؟ قال: لا واللهِ، يا رسولَ اللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لبَناتِهم، قال: أفتُحِبُّه لأُختِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأَخَواتِهم، قال: أفتُحِبُّه لعَمَّتِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم، قال: أفتُحِبُّه لخالتِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم، قال: فوَضَعَ يدَه عليه وقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه، قال: فلمْ يَكُنْ بعدَ ذلك الفَتى يَلتفِتُ إلى شيءٍ. ))
فإذا صدق الإنسان في التوبة، وصدق في طلب مرضاة الله عزَّ وجل، فإن الله عزَّ وجل لا يعذِّبه بهذه الشهوة، بل بالعكس، إنه يُفْسِحُ له طريقاً مشروعاً.
اسمحوا لي أن أقول كلمة: إذا كان الإنسان متزوجاً، فإنه قد يصلي قيام الليل ويبكي في الصلاة، ويكون ذلك بعد لقاءٍ زوجي، هذا الشيء مشروع.. وهنا لا توجد مشكلة..
﴿ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(30)﴾
وهو ليس ملوماً لا عند الله، ولا عند نفسه، ولا عند الناس أبداً، ولكن لاحظوا شاباً يمشي مع فتاة بشكل غير مشروع، فلو تكلّم واحد معه كلمة فإنه يرتعب، أما حينما يخطب ابنتك شابٌ، فتوافق عليه ثم كتب العقد، فإنه يسهر مع ابنتك حتى الثانية صباحاً وأنت مطمئن، فهي زوجته، فالشيء المشروع مشروع، والحرام حرام، فلذلك قال ربنا عزَّ وجل: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ﴾ وربنا عزَّ وجل يُعَلِّمُنا الحياء، فلا توجد كلمة تخدش الحياء.
﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ ملك اليمين ﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)﴾
إرواء هذه الشهوة عن غير طريق زوجته: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ إنه معتدٍ على أعراض الناس، معتدٍ على منهج الله، ومعتدٍ على سعادته، و ظالمٌ لنفسه..
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ أيها الإخوة، في الجامع الصغير بضعة أحاديث شريفة تبدأ بقوله صلى الله عليه وسلم: حق الأب على ابنه، وحق الابن على أبيه، وحق الزوج على زوجته، وحق المسلم على المسلم، وحق الجار على الجار، لكن حديثاً واحداً تقرؤه يقشعر منه جلدك وهو:
(( حَقٌّ علَى اللهِ عونُ مَنْ نَكحَ التِماسَ العَفافِ عمَّا حرَّمَ اللهُ. ))
ما شكا إلى النبي أحدٌ ضيق ذات يده إلا قال له: اذهب فتزوج، لأن طالب الزواج مرزوق، وهناك ألف قصة على ذلك، فبعد أن يعقد العقد يأتيه رزقٌ جديد لم يكن في الحسبان، فحينما تقول لله: يا رب أنا أحب أن أطيعك، فأعني على أن أطيعك، فيهيئ الله من علم الغيب ما يسعدك ويُحصِّنك من أن تقع في الحرام.
﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ هذه الآية مُجْمَلة والتفصيل عندك، فأي انحرافٍ جنسي؛ من المثلية وغير المثلية وما إلى ذلك، كلكم يعلم هذه الانحرافات ويستمع إلى أخبارها، هذا عدوان في نصّ هذه الآية الكريمة، لذلك قال تعالى:
﴿ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍۢ(86)﴾
أي ما بقي لكم من الأشياء المشروعة هو الخير.
أيها الإخوة... نختم الدرس عند هذه الآية: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ فالآن لا يوجد ملك اليمين (لكي لا يسن أحد أسنانه) وملك اليمين له حالات خاصة وهو الآن غير موجود ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ أي معتدون، وفي درسٍ آخر ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(32)﴾
الملف مدقق