الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام: مع الدرس الخامس والأخير من تفسير سورة المُزّمِّل، ومع الآية العشرين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَعَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(20)﴾
قوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) يعني أنه يعلم عمل الإنسان و عبادته.
ولهذه الآية معنى ضيِّق ومعنى واسع:
المعنى الضيق: إنَّ الله يعلم أنك تقوم الليل، ويعلم مقدار الليل الذي تقوم فيه.
المعنى الواسع: إنَّ الله يعلم عملك، عبادتك، صلاتك، صيامك، إنفاقك، ضبطك لجوارحك، مقدار تضحيتك، عمل الإنسان بأوسع معانيه إنَّ الله يعلمه، يعلمه حقَّ العِلم، يعلم خلفيته، يعلم بواعثه، يعلم مؤدّاه يعلم غايته، يعلم حجمه، يعلم مقدار التضحية، يعلم العوائق، يعلم الصوارف، فقد تنفق في هذا العمل درهماً، وقد تنفق مائة ألف درهم، وقد يكون الدرهم أكبر عند الله من مائة ألف درهم، درهمٌ أنفقته في إخلاص خيرٌ من مائة ألف درهمٍ يُنفق في رياء، درهمٌ تنفقه في حياتك خيرٌ من مائة ألف درهمٍ يُنفق بعد مماتك، فالمعنى الضيِّق هو أن الله سبحانه وتعالى يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام يقوم أكثر من ثلث الليل، أو يقوم نصفه، أو أقل من ثلثيه، فيعلم قيامه للليل ويعلم مقدار قيامه في الليل، أمّا لو وسّعنا مفهوم هذه الآية: إنَّ الله يعلم حجم عملك وما خلف هذا العمل من نوايا، وما أمام هذا العمل من أهداف وما رافق هذا العمل من تضحيات، وما كان أمام العمل من عقبات، وما كان جانبه من صوارف، فهذا كله يعلمه الله عزَّ وجل، لذلك أنت أيُّها المؤمن لا تحتاج مع الله إلى إيصال، ولا إلى سند، ولا إلى قَسَم، ولا إلى يمين، ولا إلى شهادة، ولا إلى حسن سلوك، لأنَّ الله يعلم.
إذا أيقنت أن الله يعلم ابتعدت عن النفاق والرياء، ماذا يفعل الناس؟ لو أن أول الناس وآخرهم وإنسهم وجِنّهم أعطوك ولم يسمح الله لك بالعطاء، لا يصلك شيء
﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)﴾
ما الذي يدعو الناس إلى الذُل؟ الخوف على أرزاقهم، ما الذي يدعوهم إلى النِفاق؟ الخوف على أرزاقهم، ما الذي يدعوهم إلى الخنوع؟ الخوف على آجالهم، فلو أيقن الإنسان يقيناً قطعياً أن الأرزاق والآجال بيد الله وحده، ما راءى مُراءٍ ولا نافق منافق، ولا خنع إنسان، ولا استذل إنسان، إنَّ الله يعلم، وإذا علمت أن الله يعلم، اطمئن قلبك وانصرفت عن استجداء المديح، الإنسان أحياناً يستجدي المديح ليُحقق ما يُسمّى بتأكيد الذات، فإذا كان عملك عند الله معروفاً ونيتك عند الله مكشوفة، وهدفك نبيل والباعث عظيم، والعقبات كثيرة، والصوارف مُغرية، ومع ذلك لزمت الحقّ وتمسكت به فهو يعلم، يعلم حجم العمل، يعلم بواعث العمل، يعلم أهداف العمل، يعلم التضحية التي رافقت العمل، يعلم المشقَّة التي تحملتها من أجل هذا العمل، يعلم الصعوبات يعلم العقبات، يعلم الصوارف، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) .
الإخلاص يُعفيك من استجداء المديح، الإخلاص يُعفيك من الرياء، الإخلاص يُعفيك من النفاق،(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) .
وهذه الآية للنبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فهي لكل مؤمنٍ، فعبادتك عند الله معروفة، هو وحده يعلم، أحدهم صلّى قيام الليل، لكن ضعيف الإيمان يُصلّي قيام الليل، ويملأ الدنيا صخباً وضجيجاً بهذا القيام، أمّا المُخلص فيُصلّي قيام الليل ولا يتكلم إطلاقاً، فإن تكلم فلحكمةٍ يريدها، إن تكلم ليُشجِّع الآخرين، إن تكلم ليجعل الآخرين يقتدون به، وإن رأى أن في كلامه ذلك تحقيقاً للذةٍ نفسية سكت، لأن الله يعلم، ويجب أن تعلم أن الله يعلم، فإذا علمت أن الله يعلم أخلصت له، إن علمت أن الله يعلم استرحت من حالاتٍ كثيرة تصغرك عند الناس وعند الله (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) .
ربَّك الذي يُربّيك، الذي يُربّي جسدك بإمداده بما يحتاج، الذي يُربّي نفسك بنقلها من حالةٍ إلى حالة، الذي يُطهرها ويُزكّيها ويُعرِّفها، فربُنا عزَّ وجل يُطهِّر و يُزكّي.
حينما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أدبه العالي قال:
(( أدَّبَني ربِّي فأحسنَ تأديبي ))
[ السيوطي الجامع الصغير ]
ولكل مؤمنٍ من هذه الآية نصيب، تكلمت كلمةً ينبغي ألا تقولها، يأتي التأديب لا تُعيد هذه الكلمة، وقفت موقفاً لا ينبغي أن تقفه يأتي التأديب، لا تُعيد هذا الموقف، أنفقت نفقةً لا ينبغي أن تُنفقها يأتي التأديب، لا تُعيد هذه النفقة، أمسكت إمساكاً لا ينبغي أن تمسكه يأتي التأديب، ينبغي ألا تُعيد هذا الإمساك، وصلت صِلةً لا ينبغي أن تصلها أو قطعت قطيعةً ينبغي ألا تقطعها، يأتي التأديب، هذا هو تأديب الله عزَّ وجل، إنَّ ربك الذي يُربّيك ويُربّي جسمك، ويُربّي نفسك، يُربّي عقلك، هو الربّ، ما من اسمٍ من أسماء الله عزَّ وجل أقرب إلى الإنسان من اسم الربّ، فالله هو الذي يُربّينا جميعاً، هو الذي يُمِدُّنا.
أذكُر أنَّ هذا الطفل الذي يولد لتوّه، كيف زوده الله بآليةٍ معقدةٍ جداً، سمّاها العلماء منعكس المصّ، فتراه يضع فمه على ثدي أُمه، ويحكِم الإغلاق، ويسحب الهواء فيأتيه الحليب، لو جئنا بأهل الأرض قاطبةً و علماء التربية قاطبةً، ومعلمي البشرية قاطبةً، فهل يستطيعون أن يعلّموا هذا الوليد كيف يمصّ ثدي أُمه؟ مستحيل! لكن الله زودنا بهذا المنعكس، ولولا هذا المنعكس لما وجدتم أحداً في الأرض، هو ربنا الذي خلقنا وأعطانا نعمة الوجود و نعمة الإمداد ثم هدانا إليه، فالذي وصل إلى الله ينبغي أن يذوب شكراً لله عزَّ وجل، أن خلقه وأمدّه وهداه إليه.
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) تصور أن هناك إنسان بعيد عن هذه الآية أو بعيد عن هذا الإدراك، كيف أنه يعيش في متاهات، يتكلم عن نفسه ويتبجح، يُريد أن ينتزع إعجاب الآخرين، يمدح نفسه، يدفع الناس إلى أن يمدحوه، كل هذا لأنه لا يعلم أن الله يعلم، أمّا إذا علم أن الله يعلم، فإنه يعمل عملاً فيما بينه وبين الله، ولا يتمنى أن يطلِّع عليه أحد، و لا يتمنى أن يتبجح إطلاقاً، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) .
الشيء الثاني إنك حينما تعلم أن الله يعلم ترتاح من النفاق و الرياء و الخوف، فقد يخطئ الإنسان أحياناً، لكن نيته تكون سليمة، يخطئ ولا يقصد الذي فهمه الناس من عمله، فالله هو الحق ولأنه حق يُظهِر الحق، هو الحق، يُحق الحق، ويُظهِر الحق، ويدافع عن أهل الحق، وهناك إنسان قال: الحمد لله على وجود الله، فالله موجود ويعلم، يكفي أن تكون علاقتك بالله قوية، يكفي أن تكون النوايا طيِّبة، و يكفي أن يكون قلبك سليماً، عندئذٍ لا تعبأ بأحد، أمّا البعيد عن هذا المعنى فهو موزَع بين الناس، فإن أرضى زيداً أغضب عُبيداً، وإن أرضى فلاناً أغضب عِلاّناً، ساعةً يمدح، وساعةً يذم، وساعةً ينافق، لأنه لا يعلم أن الله يعلم، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) .
وقال بعض العلماء إن هذه الآية نسخت قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2)﴾
إمّا أنَّ نُسخ حكمها عن المسلمين وبقيت فرضيتها على رسول رب العالمين، وإمّا أنَّ قيام الليل أصبح نفلاً وتطوعاً يفعله كل مسلم دون أن يكون ملزماً أن يفعله، والذي يلفت النظر، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) .
هؤلاء مع رسول الله بأجسادهم و نفوسهم و أرواحهم و عبادتهم وإخلاصهم، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأل الأنصار عندما أراد أن يدخلوا معه في غزوة أُحُد، فقال سيدنا معاذ: "امضِ يا رسول الله لما أردت و نحن معك، و لو خضت هذا البحر لخضناه معك، وما تخلف منا رجل، صل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، و أعطِ من شئت وامنع من شئت، وسالم من شئت وعادِ من شئت، فوالذي بعثك بالحق للذي تأخذه من أموالنا خير لنا من الذي تدعه لنا، فسر على بركة الله" .
هكذا كانوا معه، و الشيء الدقيق أيُّها الإخوة:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29)﴾
فالإنسان وحده لا يفعل شيئاً، أمّا الجماعة مُباركة، الإنسان وحده قد لا تُحل مشكلته، أمّا إذا كان مع أهل الحق، فهو في بحبوحة الجماعة و الأنس و الاستقامة، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار)
إنَّ الله عزَّ وجل يعلم كم من الجهد بذلت، كم من الوقت أمضيت، كم من المشقَّة كابدت، يُقدِّر الليل والنهار، يُقدِّر طول الليل و قصر الليل، يُقدِّر طول النهار و قصر النهار، يُقدِّر العمل الذي فعلته في الليل وقد اقتطعت من نومك، ويُقدِّر العمل الذي فعلته في النهار، وقد اقتطعت من راحتك وعملك.
( وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) في هذه الآية كلمتان هما مركزا الثقل فيها: (إن ربك يعلم) و(يُقدِّر) ، قد تعلم ولا تُقدِّر، وقد تُقدِّر ولا تعلم، إنسان عنده خبرةٌ واسعة، فيقدر حجم التضحية ولكنه لم يعلم تضحيتك، وإنسانٌ آخر علم أنك فعلت هذا، ولكن لا يُقدِّر هذا العمل، فهذا العمل ليس له قيمة عنده، فأنت بين إنسان يُقدِّر ولا يعلم، أو مع مَن يعلم ولا يُقدِّر، و الأسوأ مع مَن لا يُقدِّر ولا يعلم، لذلك من المشقَّات التي يعانيها الإنسان المشرك (المشرك شركاً خفياً) أنه يتمنى أن يعلم الناس عمله ولا يستطيع، و يتمنى أن يُقدِّر الناس جهده ولا يرى أُذناً صاغية ولا تقديراً ولا تقييماً ولا تثميناً، أمّا إذا كان مخلصاً لله عزَّ وجل، فلا يعبأ بتقدير الناس ولا تثمينهم ولا مدحهم ولا ثنائهم، كما أنه لا يعبأ بذمِّهم، مَن عرف نفسه ما همّه ذمّ الناس له، (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) .
الإنسان أحياناً قد يكون نائماً من نصف ساعة، فيأتيه طارق بحاجة، فيستيقظ ويُلبّي هذه الحاجة، إنسانٌ آخر لا يُلبّي، فقد تملِك المال ولا تُنفق، وقد لا تملِك وتنفق، الذي لم يملِك ويُنفق، الله يُقدِّر.
لقد سمعت قصةً لا بأس من روايتها لكم: كان هناك رجلٌ من أهل الغنى، فأراد أن يُنشئ مسجداً في أحد أحياء دمشق، فبحث عن أرض فوجد أرضاً مناسبة تصلح لمسجد، فسأل عن صاحبها فالتقى به، وصاحبها يعمل مُستخدَم في مدرسةٍ ابتدائية، وقد ورث هذه الأرض من أشهُر ولا يملِك من الدنيا غيرها، ودخله أقل من ثلاثة آلاف في الشهر، وعنده خمسة أولاد، وكان يسكن في بيتٍ صغيرٍ جداً، ففاوضه على شرائها، واتفقا على السعر، وكان السعر مناسباً، ثلاثة ملايين ونصف، فكتب له شيك بمليونين وقال له: الباقي عند التنازل للأوقاف، قال له: ما علاقة الأوقاف، فقال: أريد أن أجعلها مسجداً، قال: أعطني هذا الشيك، فأخذه منه ومزَّقه وقال: أنا أَولى بتقديمها لبيت الله، يقول هذا الرجل الغني: ما صغرت في حياتي كما صغرت أمام هذا الإنسان، إنه إنسان فقير لا يملِك من الدنيا إلا هذه الأرض، ودخله أقل من أن يكفيه، فما رضيَ أن ينافسه أحدٌ على تقديم هذه الأرض لتكون بيتاً من بيوت الله، فقال له: أنا أَولى منك بتقديمها لله عزَّ وجل.
إذا كان هناك إنسان معه مائة مليون واشترى أرضاً بثلاثة ملايين ونصف، فهل يكون أجره كأجر هذا المُستخدَم؟ لا والله، رُبَّ درهمٍ سبق ألف درهم، فدرهمٌ تنفقه في إخلاص خيرٌ من مائة ألف درهمٍ في رياء.
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الإخلاصَ الإخلاصَ، بالإخلاص يرتقي عملنا، ونتصل بربنا، ولا نعبأ بالناس، ونحن لسنا مستهترين بهم طبعاً، ولكن لا يعنينا مدحهم ولا ذمّهم، فمن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس فيه، فربك يعلم وهو يُقدِّر حجم عملك، و يعرف أنك في ضائقةٍ مالية وأعطيت هذا الصديق الفقير المؤمن مبلغاً و أنت في أمسّ الحاجة إليه، إنه يعلم ذلك، ويعلم أنك متعبٌ جداً وأنك في أمسّ الحاجة إلى النوم، وأنَّ هذا الذي طرق بابك، كان بإمكانك أن تصرفه وأن لا تستجيب له، لكنك كابدت مشقةً كبيرة وقدمت له خدمةً عظيمة، في هذا الوقت الصعب من الليل، إن الله يعلم الضغوط التي حولك، وكيف أنك تحمّلتها في سبيل الله، إن ربك يعلم الإغراءات التي أحاطت بك، وكيف أنك أعرضت عنها في سبيل الله، إن ربك يعلم أنك في خلوتك تخشاه، إنسان في غرفته وحده لا أحد يراقبه، لا زوجة ولا ولد ولا صديق ولا أحد، فُتحت نافذةٌ أمام غرفته وخرجت امرأةٌ متبذلة، فغض بصره عنها، فمن يعلم هذا العمل؟ إنه الله جلَّ جلاله، طبيبٌ من حقِّه أن يُعالج امرأةً وأن يكشف عن بعض جسمها، أمّا إذا اختلس النظر إلى مكانٍ لا تشكو منه، فمن الذي يعلم؟ الله وحده الذي يعلم
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19) ﴾
محامي قد يقول للموكِّل: إنَّ الدعوى ناجحة، وهو يعلم علم اليقين أنها ليست ناجحة، والمواطن لا يعلم ذلك، لكن الله يعلم، فكلمة (يعلم) تعني: يعلم عملك بكل تفصيلاته وأبعاده ونهاياته وخلفياته وملابساته وتضحياته وصعوباته وعقباته و صوارفه، فلو أن حكومةً أرادت أن تُصنف الموظفين في عشر مراتب، كل مرتبة ثلاث درجات، فهناك ثلاثون درجة، وكل الموظفين لا بُدّ أن يُنزَّلوا في هذه الدرجات والمراتب، ثلاثون درجة وعشر مراتب، أمَّا الله عزَّ وجل، فعنده خمسة آلاف مليون إنسان، فهناك خمسة آلاف مليون درجة، بحسب إخلاص كل واحد منهم وتضحيته و استقامته والضغوط التي يتحملها والمغريات التي تحيط به، فالله يعلم حجم عملك تماماً بكل أبعاده وخلفياته وبواعثه وأهدافه.
مثالٌ آخر: أنت تعمل في التجارة، وجاءك مال يتيم، تستطيع ولا يمكن لأحدٍ على وجه الأرض أن يعلم، تستطيع أن تضع هذا المال في صفقةٍ لا تعلم أنت حقيقة ربحها، تجس السوق عن طريقها، أمّا هناك صفقات معروفة، وأرباحها معلومة، وبيعها سهل، رأس مالك الأساسي تستثمره في صفقاتٍ معلومة، ومعروفٌ ربحها، أمّا هناك صفقة لا تعلم مدى ربحها، تُباع أو لا تُباع، تربح بها كثيراً أو لا تربح بها، تقول: أنا سأتّجر بمال اليتيم لئلا تأكله الزكاة، وفق كلام رسول الله، تضع هذا المال في هذه الصفقة، فإن خَسِرت تقول: ترتيب الله عزَّ وجل، جعلت مال اليتيم درأً لمالِك، جعلت مال اليتيم وقايةً لمالِك، ومَن يعلم ذلك؟ لا يستطيع أحدٌ في الأرض أن يعلم أنك جعلت من هذا المال وقايةً لمالك، تقول: إذا ربحت هذه الصفقة ربحاً كبيراً فسأُدخل مالي عندئذٍ في هذه البضاعة، وإذا لم تربح أكون قد عرفت السوق ولم أُضَر، فمَن يعلم حقيقة ما فعلت؟ الله وحده يعلم ذلك.
وهناك أعمالٌ كثيرة جداً، فإذا قال طبيب لمريض: أريد هذا التحليل لتشخيص مرضك، وهو لا يحتاج لهذا التحليل، لكن هو في باله شيء، فمن يعلم ذلك؟ لا يعلمه إلا الله، كل حركاتك وسكناتك وأعمالك في عِلم الله مكشوفة، و الله عزَّ وجل يعلم سرّك ويعلم جهرك ويعلم ما خفي عنك أنت.
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)﴾
فما خفيَ عنك هو يعلمه، وإذا أيقنت أن الله يعلم تأدبت معه كثيراً، وأخلصت له كثيراً، واستقمت على أمره كثيراً، ونفعت عباده كثيراً، ووقفت عند حدِّك كثيراً، قضية مهمة جداً أن تعلم أنَّ الله يعلم، أمّا هذا الذي يُخادع الله
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا(124)﴾
أيُّها الإخوة الكرام: يجب أن تعلموا عِلم اليقين أنه لا يمكن أن تخدع الله عزَّ وجل، و بالمقابل لا يمكن لك أن تخدع نفسك، لقوله تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾
﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)﴾
ما سِوى الله عزَّ وجل وما سِوى نفسك التي بين جنبيك، فبإمكانك أن تخدع بعض الناس لطول الوقت، أو أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، أمّا أن تخدع كل الناس لطول الوقت فهذا مستحيل، لأن الله عزَّ وجل لا بُدّ أن يكشف الحقائق
﴿ ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾
فأي خيانةٍ على وجه الأرض لا بُدّ من أن تُفتضح، لذلك تعامل مع الله بإخلاصٍ وصدقٍ وطاعةٍ وإقبالٍ عليه.
(وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي علم أن في الناس مَن هو مريض مُتعب، مَن له جهدٌ كبير في النهار والليل قصير، علم أن المسلمين لن يستطيعوا أن يُصلّوا قيام الليل دائماً، فقد يُصلّونه في الشتاء وفي بعض أيام الصيف، لكن لو جعله فريضة لكان مشقةً علينا، والله سبحانه وتعالى جعله في أول الأمر فريضةً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، ثم جعله فرضاً عليه ونفلاً على المؤمنين، وهذا من أوجه الأقوال.
(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي: لن تستطيعوا قيام الليل دائماً، (فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ) ، فكانت هذه الآية ناسخةً لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2))
المعنى الأول: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي: فاقرؤوا في الصلاة ما تيسر من القرآن، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ مائة آية في صلاة الليل، فهنا الآية تخفيفية أيضاً، أي اقرأ بحسب طاقتك وإقبالك، شيءٌ آخر ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) القرآن هو الصلاة، أي: صلّوا ما تيسر لكم من الصلاة، لقوله تعالى:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً(78)﴾
أي قرآن الفجر هي صلاة الفجر، سُمّيَت الصلاة قرآن الفجر باسم بعض أجزائها، فإذا قلت فاقرؤوا ما تيسر من القرآن، يعني: فصلّوا ما تيسر لكم من الصلاة، هذا معنى.
المعنى الثاني: ( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أي: اقرؤوا في الصلاة ما تيسر لكم، فالإنسان له إقبال وله فتور، فإذا كنت مُقبِلاً فأدِّ الفرائض والنوافل، وإذا كنت في فتور فاكتفِ بالفرائض، هذا معنى قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) فالمريض لا يستطيع أن يُصلّي قيام الليل، (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) هؤلاء الذين يسافرون ليكتسبوا المال، ورَد ذكرهم في القرآن الكريم، فقد ينقطع الرزق في بلدك كُليِّاً، فتسافر كي تبحث عن رزقٍ وعمل، أو وظيفةٍ أو تجارةٍ، فهذا السفر في سبيل الرزق.
أيُّها الإخوة، كلكم يعلم أن أعظم أنواع السفر هو الجهاد في سبيل الله، ويأتي بعده طلب العِلم، ويأتي بعده الفِرار بالدين، ويأتي بعده كسب الحلال، ويأتي بعده السفر المباح الذي لا معصية فيه، وبعد ذلك سفرٌ من نوع المعصية، فيعاقب صاحبه أشدّ العقاب، فهذه السياحة التي يخالطها المعاصي والآثام والفجور هي من المُحرّمات، (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ) يضربون أي: يسافرون.
تعلمون أيُّها الإخوة أنَّ الإنسان إذا دخل المسجد يقول:
(( إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجِدَ، فليسلِّم علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، ثمَّ ليقُلْ: اللَّهمَّ افتَح لي أبوابَ رحمتِكَ، وإذا خرجَ فليقُلْ : اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ مِن فضلِكَ ))
في المسجد رحمة، قد تأتيك السكينة والتجلي، قد تشعُر بطمأنينة، وقد تشعُر أنك في ظل الله وضيافته وأنت في بيته، فالذي يأتيك في الصلاة، في الذِكر، في قراءة القرآن، في الاستماع إلى درس العِلم، هذه الراحة النفسية، وهذا الشعور بالأمن، و هذا الشعور بأن الله راضٍ عنك، هذا من فضل الله عزَّ وجل في المسجد، فإذا دخلت المسجد تقول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) ، أمّا إذا خرجت من المسجد فأنت بحاجةٍ إلى عمل، إلى قضاء حاجة، إلى تأمين طعامك وشرابك، تأمين بعض الأثاث وبعض المستلزمات، فإن خرجت من المسجد تقول: (اللهم افتح لي أبوب فضلك) .
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هؤلاء المُجاهدون، وقد استنبط بعض العلماء، أنه لمُجرد أنَّ الله جَمْع هؤلاء مع هؤلاء، يعني جمع السفر في سبيل كسب الرزق الحلال، والسفر في سبيل مجاهدة الأعداء، فقال العمل أيضاً عبادة، لأن الجمع يقتضي المشاركة، مثلاً قال تعالى:
﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)﴾
فالله عزَّ وجل رفع برّ الوالدين قريباً من عبادة الله عن طريق هذا العطف، والعطف يقتضي المشاركة، و ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)﴾
جعل صلاح البال قريباً من الهدى، وجعل برّ الوالدين قريباً من عبادة الله، جعل الضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله، قريباً من الجهاد في سبيل الله.
(وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لأن فيكم مرضى و مسافرون ومجاهدون، فقال: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)
من القرآن، يعني صلِّ قيام الليل واقرأ ما تيسر لك من القرآن، أو صلِّ خمس أوقات في رأي بعض المفسرين.
(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) إيتاء الزكاة معروف، وقال بعضهم في بعض التفاسير، وهذا من التفسيرات الوجيهة، إنه مُطلق العمل الصالح، يعني اتصل بالله وأحسِن إلى الخلق، فالدين كله اتصالٌ بالخالق وإحسانٌ إلى المخلوق، هناك حركةٌ نحو السماء اتصال بالله، وحركةٌ نحو الأرض خدمة الخلق، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾
وجوب تلازم الإيمان والعمل الصالح:
الزكاة هنا فُسِّرت تفسيراً واسعاً، دفع الزكاة تعنيها الآية، الصدقة تعنيها الآية ، خدمة الخلق تعنيها الآية، أمّا أن يكون لك عمل صالح وطيِّب، فما قيمة الصلاة من دون عملٍ صالح؟ بل ما قيمة العمل الصالح من دون صلاة؟ لقد أصبح سلوكاً ذكياً، أشخاصٌ كثيرون لم يؤمنوا بالله إطلاقاً، ولكن لهم أعمالٌ طيِّبة، فهذه الأعمال ينتزعون بها إعجاب الآخرين، ويحققون بها مصالحهم، و ليس هذا العمل هو المقصود، فلا بُدَّ من اتصالٍ بالله وعملٍ صالح، وكلاهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، فالاتصال بالله يسمو بعملك، والعمل الصالح يرقى بإيمانك، العمل يزداد بالإيمان، والإيمان يُثمَّن بالعمل الصالح، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) .
وهذا يشمل أي عملٍ صالح على الإطلاق، مع أي مخلوقٍ كان، ولو أطعمت هِرةً، ولو خلّصت نملةً من الغرق، ولو نزعت قشةً من أرض المسجد، أي عملٍ صالح مهما بدا لك صغيراً، مع أي مخلوق مع حيوانٍ مع بهيمة، مع حيوان مؤنِس، مع حيوان مؤذي ذبحته ذبحاً سريعاً، ضربته ضربةً واحدة لتُحسِن قتله، أطعمت مسكيناً، رعيت يتيماً، كنت أباً صالحاً، كنت زوجاً مثالياً، كنت ابناً بارّاً، كنت جاراً مسلماً محسناً صادقاً، كنت مُتقِناً في عملك، صادقاً في حرفتك، أقرضت الناس قرضاً، أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، دعوت إلى الله، أصلحت بين زوجين، فأي عملٍ صالح مع أي مخلوق، يجب أن تعلم أنه قرضٌ لله تعالى، فالمُقترض هو الله.
أحياناً يقول لك شخص: هذ المعروف لا يضيع معي، قد تقدِّم خدمةً لابنه، أو تقدِّم له خدمةً ثمينة، أو تعاونه في مشكلة، أو تخلصه من ورطة، يقول لك: معي لا تضيع، مع الإنسان لا تضيع فكيف مع الواحد الديان؟ هذا قرضٌ حسَن.
ذكرت مرّة قصةً عن طبيبٍ رأى امرأةً شابة جاء زوجها إليه، وكان معها ورم خبيث في الحنجرة، و حالتها ميئوس منها، وقد زاروا معظم البلاد المحيطة ببلدنا للعلاج، ولم يكن هناك أمل أبداً، فالطبيب أعلمه أنه لا يوجد أمل، ثم قال له: أتسمح لي أن أُجرِّب شيئاً ولا أبغي مقابله شيئاً، قال لي: عالجتها في ستة أشهُر معالجة مُضنية، كل يوم بالأشعة، فتراجع المرض قليلاً قليلاً ثم شُفيت منه تماماً، وهي قصة طويلة ولكن هذا ملخصها، قال لي: زوج هذه المرأة من ثلاثين عام يأتي كل عام، ويقدِّم لي الهدايا الثمينة، وأقول له: يا أخي والله أنا خجلت منك، ما قدمت لك شيء، فقال له: لو توفيت أنا لتابع أولادي من بعدي هذا العمل، لأن هذا الفضل لا ننساه، فإذا إنسان عنده شيءٌ من الوفاء، لم ينسَ فضل طبيب ثلاثين سنة، فكيف بالله عزَّ وجل؟ إنك إذا كنت في خدمة عباده، أو عرّفت عباده به، ومسّكتهم بالحق وأسعدتهم بطاعته، كنت مصدر أمنٍ لهم، فالله عزَّ وجل شكور، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ(18)﴾
أي عملٍ صالح، إنسان خدم المسجد، فنظَّف السجاد وغير ذلك، فأي عملٍ صالح هو قرضٌ لله عزَّ وجل، (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) وهناك آيةٌ أُخرى تقول:
﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾
يعني أنت تاجرْ مع الله عزَّ وجل لأن الأرباح مع الله تفوق الخيال، فالإنسان قد يربح عشرين بالمائة، فيقول لك: وفِقنا في هذه الصفقة، بالمائة ثلاثون، بالمائة مائة، بالمائة مليون، بالمائة مليار، فإذا اتجرت مع الله كنت أسعد الناس، لذلك: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) .
هنا (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ) ، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) تجدوه بحجمه الحقيقي، يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة، أمّا أن تخسر شيئاً مع الله فهذا غير ممكن، كأن تدفع مبلغاً من المال ولا تجده يوم القيامة، أو تُمضي وقتاً في طاعة الله ولا تجد ثمرته، هذا مستحيل، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) .
كل عملٍ معنويٍ ماديٍ فيه تضحية أو تضييع وقت أحياناً، فكل إنسانٍ له بيت يرتاح فيه، أنت أتيت من مكانٍ بعيد، وركبت سيارتين، وجلست على ركبتيك، واستمعت إلى درس عِلم فهذا عمل طيِّب، ولن يترك الله عملك، و لن يضيّعه عليك.
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) رعيت يتيماً، أو كانت لك أختٌ عانس فسكنَت معك، وأكرمتها وهيأت لها الجو المريح، وحفظت لها كرامتها فلن يضيع هذا العمل، وإذا كان لك أبٌ متقدِّم في السن، فتحملت كثيراً من ضغوطه و كنت راضياً بهذا فلن يضيع هذا العمل، إنسان عنده ولدٌ مُعاق أو عنده مشكلة، فأي عملٍ صالح بكل ملابساته محفوظٌ عند الله عزَّ وجل.
من عمل صالحاً سرّه اللحاق به...
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) فإذا قدَّم الإنسان خير سرّه اللحاق به، والحقيقة أنَف الموت تحفة المؤمن وعرسه لماذا؟ لأنه كل حياته يقدَّم أعماله أمامه، فأكبر شيءٍ يسرّه أن يلحق بها، كالذي يرسل ماله إلى بلدٍ مُعيّن، أحبُّ شيءٍ إليه أن يلحق بماله ليستمتع به في هذا البلد، وهذا شيءٌ واضحٌ جداً، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ) فالمؤمن يعمل للآخرة، لذلك ينفق ماله ووقته، وقد يتعب في عباداته، وقد يتعب في ضبط جوارحه لكن كله محفوظ.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
أنت تتعامل مع خالق الكون، وكل شيء عند الله عزَّ وجل مُسجَّل.
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
فتاجر مع الله عزَّ وجل
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(11)﴾
(وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ورَد في بعض الأحاديث أنَّ الإنسان قد يُطعم لقمةً فيجدها يوم القيامة كجبل أُحُد، وقد يتكلم كلمة حق.
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25)﴾
تكلم بكلمة حق، نصح نصيحة، دعا إلى الله، أراد أن يُعلِّم الناس القرآن، لا يعلم إلا الله مقدار ما ينتظره من سعادة، بل إنَّ الله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17)﴾
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
ولو أنَّ هذه الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منها شربة ماء، فقد أعطاها لمن يُحب ولمن لا يُحب، بل إنه أعطاها لمن لا يُحب أكثر ممن يُحب.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الماضي يُغطى بالمغفرة، والمستقبل يُغطى بالعمل الصالح، فإن قدّمت العمل الصالح ضمنت المستقبل والماضي بالمغفرة، فاستغفروا الله لما بدر منكم، (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
هذه الآية الأخيرة من سورة المُزّمِّل فيها مراكز ثقل:
المركز الأول: إن ربك يعلم، فيجب أن تعلم أن الله يعلم، وأنَّ الله يُقدِّر عملك، فهو يعلم ويُقدِّر.
المركز الثاني: الله عزَّ وجل خفف عن عباده بعض العبادات التي قد تشق عليهم، جمع بين الجهاد في سبيل الله وبين كسب الرزق الحلال، ثم إنَّ الله سبحانه وتعالى قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) يعني أقيموا الصلاة التي تتبعها الزكاة يعني العمل الصالح، فلا معنى لصلاةٍ بلا عملٍ صالح، كما أنَّ العمل الصالح بلا صلاةٍ لا قيمة له.
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) كل أعمالكم تجاه المخلوقات هي قرضٌ حسنٌ لله عزَّ وجل.
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
الملف مدقق