الحمد الله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة المؤمنون مع الدرس الثالث من سورة المُزّمِّل ومع الآية السادسة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)﴾
أيُّها الإخوة الكرام الآية الثانية في هذه السورة:
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا(2)﴾
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) هي الصلاة في الليل، الصلاة في أول الليل، أو في منتصف الليل، أو في آخر الليل، الصلاة التي تكون في الليل لأنَّ الليل سكن، وكأن الليل ظرفٌ مناسبٌ للاتصال بالله، المشاغِل مُنقطعة، العلاقات ضعيفة، وكل إنسانٍ انصرف إلى بيته، وأوى إلى بيته وفِرَاشه، فهذا الذي يذكر الله عزَّ وجل في الليل أولاً على شوق، وثانياً الوقت مناسب، والجو مناسب، والصفاء موفور، والمشاغِل مُنقطعة.
فلذلك (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) يعني أعظم أثراً، لو أننا فسَّرنا هذه الآية مستعينين بالمثل التالي: إنسان كتب اسمه على الماء بإصبعه، كم يبقى هذا الاسم؟ أقل من ثانية، يقولون: كالكتابة على الماء، وإنسانٌ آخر كتب اسمه بريشةٍ على ورقة، مع الأيام يضعُف أثر هذا الحبر، وقد تتمزق الورقة، أمّا لو حفر اسمه على رُخام، قد يبقى هذا الاسم محفوراً آلاف السنين، والآن عندنا آثار قبل الميلاد بآلاف السنين، النقوش التي على الحجر كما هي، وأردت من هذه الأمثلة: أنَّ الذي ينشأ في صلاة الليل غير الذي ينشأ في صلاة النهار.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) وطئاً: وقعاً ، أي أكثر تأثيراً، أعمق أثراً، أعظم ثمرةً، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) أي إنَّ الوقت الذي ينشأ في الليل تِباعاً، وقد ذكرتُ من قبل أنَّ الليل من المغرب وحتى الفجر، فمن صلّى المغرب وصلّى العشاء وصلّى الفجر، فكأنما حقَّق جزءاً من هذه الآية، فكأنه صلّى قيام الليل، لأنَّ هذه الصلوات تكون في الليل، وهذا الوقت وقت راحة، فالذي يُصلّي فيه يؤكد أن طاعة الله واللقاء معه أغلى عنده من الفِراش (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) .
المعرفة الكسبية والإشراقية:
الإنسان عندما يحصل له في الليل هذا الإشراق، وهذه المعرفة الإشراقية، هناك معرفة كسبية ومعرفة إشراقية، الإنسان أحياناً يقول: لمع في ذهني هذه الفكرة، عقلتُ هذه الحقيقة وتشبثت بها، فالإنسان أثناء الصلاة هكذا ينبغي أن يكون، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول فيما ورد عنه:
(( ليسَ للعبدِ من صلاتِهِ إلا ما عَقَلَ منها ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
وحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾
فأنت في الصلاة تعلم ما تقرأ، فالذي ينشأ في صلاة الليل غير الذي ينشأ في صلاة النهار، (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) .
ولكن بالمناسبة الإنسان عليه أن يُصلّي، ولكن ليس بيده أن يملك هذه الإشراقات في الصلاة، هذه بيد الله عزَّ وجل، فيسمح لعباده بها في مناسبات وأسباب مُعيّنة، وقد ورد:
(( إنَّ لِرَبِّكم في أيَّامِ دَهْرِكم نَفحاتٍ، ألَا فتَعرَّضوا لها. ))
عرِّض نفسك لهذه النفحات، باستقامتك على أمر الله، وبأدائك لهذه الصلوات، تُعرِّض نفسك لهذه النفحات، ليست بيدك، لا تملِك لها جلباً، ولا دفعاً، لكن الله يتفضل عليك بها من حينٍ لآخر، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة لا تعرف تواترها، فقد تأتي كثيفةً وقد تأتي قليلةً، وقد تنقطع عنك، وقد تأتيك مُجتمعةً، هذا من حكمة الله عزَّ وجل، أمّا إذا كان هناك معصية فإنها لا تأتي، لأنَّ الإنسان محجوبٌ عن الله عزَّ وجل، و إذا كان هناك مخالفات وتقصيرات، وهناك حقوق مُعلّقة بك، هذه النفحات لا تأتي إطلاقاً، لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يتجلى على عبدٍ ظالمٍ لنفسه، لا يتجلى على عبدٍ واقعٍ في المعاصي والآثام، لا يتجلى على عبدٍ ترك ما عليه من حقوق، فإذا كان هناك معاص ومخالفات و تقصيرات، هذه التجليات أو ما يُسمّى النفحات الإلهية هذه لا تكون، أمّا إذا كان هناك استقامة، والتزام، وتهيئة، وأنت تُعرِّض نفسك لهذه النفحات قد تأتي وقد لا تأتي، أنت عليك أن تكون مطيعاً لله، أدِّ الذي عليك، واطلب من الله الذي لك، أدِّ الذي عليك بأداء الصلوات، ودَع الله عزَّ وجل بحكمته يتجلى عليك ببعض النفحات من حينٍ لآخر، بنفحاتٍ كثيفة، بنفحاتٍ قليلة، بنفحاتٍ متباعدة، متقاربة، هذا تابعٌ لحكمة الله عزَّ وجل، إذا كنت مستقيماً ملتزماً مؤدّياً لِمَا عليك.
والحقيقة يقول ابن تيمية رحمه الله: "في الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنَّة الآخرة" .
ويؤكد هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)﴾
عرفوها في الدنيا ذاقوا طعمها، والجنَّة في الحقيقة هي القُرب من الله عزَّ وجل في الدنيا والآخرة، فالذي يقترب من الله يذوق طعم قُربه، ولا شك أنَّ كل مؤمنٍ صادقٍ مستقيم، جاءته هذه النفحات من حينٍ لآخر، وقد سمّاها الله عزَّ وجل في القرآن: (أيام الله) فقد يكون للإنسان مع الله أحياناً حال نفسي عالٍ، له مع الله مَواجِد، له مع الله ابتهالات، له مع الله مُناجاة، هذه من خلالها تأتي النفحات.
ماذا نستفيد من هذه الآية؟
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، ماذا نستفيد من هذه الآية؟ يعني إذا إنسان أراد أن يُصلّي، عليه أن يكون مُتفرِّغاً للصلاة، فلو جاءته رسالة مثلاً ولم يفتحها، فالأَولى له أن يقرأها ثم يُصلّي، لأنه قد ينشغِل بها أثناء الصلاة، وإذا كان جائعاً كثيراً وأمامه طعامٌ تتوق نفسه إليه، ينبغي عليه أن يأكل ثم يُصلّي، إذا كان عنده مشكلة لا يدري ماذا سيكون من أمرها، فعليه أن يبحث عن أمرها ثم يُصلّي، فالعبرة أن تُصلّي وأنت مُتفرغٌ للصلاة، لا أن تكون مُنشغل القلب في الصلاة، والصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل نرجو الله سبحانه وتعالى أن نذوق منها الشيء الكثير.
(( الصلاةُ عمادُ الدينِ ))
الصلاة عماد الدين، فمن أقامها أقام الدين ومن تركها هدم الدين، ولا خير في دينٍ لا صلاة فيه، هي الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال، هي الشِحنة اليومية التي تستمد منها قوةً، وعزيمةً، ومضاءً، وأمناً، وسعادةً، واستقراراً، وتوازناً، لذلك بين المُصلّي وغير المُصلّي بَونٌ شاسعٌ كبير، الذي لا يُصلّي مُنقطع عن الله عزَّ وجل، هذا في تيه، في قلق، في حَيرة، في ضياع، هدفه غير واضح، ونفسه غير متوازنة، أمّا المُتصل بالله عزَّ وجل، فهو إنسانٌ آخر، لذلك يمكن أن تُقسِّم الناس كلهم إلى رجُلين، الناس على اختلاف مشاربهم، وثقافتهم، ومِهنهِم، وحِرفهم، وانتماءاتهم، وأجناسهم، وأعراقهم، وألوانهم، وثقافاتهم، وأصالتهم، كلهم في النهاية رجُلان، رجلٌ موصول، منضبط بمنهج الله، مُحسِنٌ لخلق الله، سعيدٌ في الدنيا والآخرة، ورجُلٌ مقطوع، مُتفلِّتٌ من منهج الله، مُسيءٌ لخلق الله، شقيٌ في الدنيا والآخرة، فالعبرة أن تُصلّي الصلاة التي أراد الله عزَّ وجل، أنا لا أُكلّفك أن تُصلّي كل صلاةٍ فيها نفحات هذه لا تملكها، ولكن الذي تملك هو أن تستقيم قبل الصلاة، والذي تملك أن تُعرِّض نفسك لهذه النفحات بشكلٍ دقيق، وعندئذٍ ربنا عزَّ وجل إمَّا أن يتفضل عليك بهذه النفحات، أو يؤخرها لحكمةٍ بالغة، أنت عبد الفتاح وليس عبد الفتح كما يقولون.
(( اللهم هذا قَسْمي فيما أملِكُ ، فلا تلُمْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ - يعني القلبَ- ))
[ أخرجه النسائي وأبو داوود والترمذي وابن ماجه وأحمد ]
على كلٍ الإنسان إذا صلّى الصلاة في وقتها، وأسبغ الوضوء، وأتقن الركوع والسجود، ووقف خاشعاً أو مُتخشِّعاً فقد حقق المُراد من الصلاة، أمّا الفتوحات والنفحات والتجليات، فهذه بيد الله عزَّ وجل يَهبُها بحكمةٍ بالغةٍ لمن يشاء من عباده.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) ، يعني صلاة الليل، الإنسان مُمكن أن يُصلّي العشاء في جماعة والفجر في جماعة فكأنما صلّى الليل.
(( دَخَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ المَسْجِدَ بَعْدَ صَلَاةِ المَغْرِبِ، فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إلَيْهِ فَقالَ: يا ابْنَ أَخِي، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ. ))
مُمكن أن يُصلّي قبل أن ينام، ممكن أن يُصلّي قبل صلاة الفجر، وهذا كله من قيام الليل، و قيام الليل لك أن تُصلّي ركعتين أو أربع ركعات، أو ثمان ركعات، وهكذا...
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، إن صحّ أنك في صلاة الليل، وجاءتك بعض النفحات، فأنت ملكت شيئاً مؤثراً تقوله للناس في النهار.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
تؤخذ ألفاظ القرآن من حُفّاظِه، وتؤخذ معانيه ممن يُعانيه، أنت في الصلاة إذا تلوت القرآن وعاينت ما في هذه الآيات من معانٍ نبيلة، و حكمٍ و مواعظ، وحقائق وأوامر، ونواهٍ وتوجيهات، ومن وصفٍ دقيق، ومن ترغيبٍ وترهيبٍ، ومن حلالٍ وحرامٍ، وجاءتك بعض النفحات الإلهية وأنت تُصلّي، فعندئذٍ تملِك شيئاً لتقوله، كلامٌ سديد، كلامٌ عميق، كلامٌ مقنع، كلامٌ مؤثِّر.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) ، أي صلاة الليل التي تقيمها في ناشئة الليل، في أوقات الليل المتتابعة، صلاة الليل أشدّ تأثيراً في النفس، وأقوَم قيلاً إذا تكلمت، فقد يتكلم الإنسان أحياناً من ورقة أو من شيءٍ قرأه أو سمعه، لكن المُصلّي صلاةً حقيقية، إذا تكلم عن الله عزَّ وجل، تكلم مما عرف عنه بصدقٍ وإخلاصٍ وقوة تأثير.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، وقد يسأل سائل، كيف لي أن أؤثر في الناس؟ إن كنت تتكلم عن شيءٍ تعيشه أو تعانيه، لك مع الله تجربةٌ رائعة، لك مع الله مُعاناةٌ و مواقف وصِلة، فحين تتكلم تتكلم عن قلبٍ حي، وهذا الكلام مؤثِّر، والشيء الذي يُحيِّر أن هناك أناسً قد يُحصِّلون ثقافاتٍ عالية جداً، ومع ذلك إذا تكلموا لا يؤثِرون في الذين يكلمونهم، والإنسان باتصالٍ بالله عزَّ وجل قوي، قد يؤثِّر في الناس أضعاف ما يؤثِّر الإنسان الذي حصَّل ثقافةً عالية، وقد مرَّ من قبل أن حال امرئٍ صادقٍ في ألف رجُل أقوى من ألف لسانٍ أو ألف قولٍ في رجُل، لو كان هناك ألف إنسانٍ بلا مُعاناة، بلا صدق، بلا تأثير، بلا إشراق، بلا إخلاص، لو أن ألف إنسان كلّموا رجُل لا يفلحون، واحد من الذي يُصلّي الليل، واحد من المُتصلين بالله عزَّ وجل، واحد من المُخلصين، واحد من المستقيمين، واحد من الذين جاءتهم النفحات، واحد من هؤلاء بإمكانه أن يؤثِّر في ألف رجُل، فألف قولٍ في رجُل لا تساوي حالاً في ألف رجُل.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، والإنسان حينما يتصِل بالله، وحينما يكون على معرفةٍ بالله تتناسب مع إخلاصه وطلبه، هذا الإنسان عنده شيء يتكلم فيه، له منطق، عنده قوة بيان وحُجَّة، وأجمل ما في الحياة أن تعرف الله، وأن تُعرِّف الناس بالله، وأن يكون لسانك رطباً بذكر الله، وأن تكون جندياً للحق، وأن تدعو إلى الله، وأن تكون سبباً في هداية الخلق، وأن تكون في قلب كل إنسان، ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)﴾
اسأل نفسك هذا السؤال، أنت في قلب كم إنسانٍ موجود؟ هناك إنسان همّه ذاته، همّه بيته، وهناك إنسانٌ همّه الخلق، فهل لديك رغبةً جامحة أن تُحدث تأثيراً في الآخرين، أن تنقلهم من حالٍ إلى حال، من جانبٍ إلى جانب، من طريقٍ إلى طريق، من اهتمامٍ إلى اهتمام، من انشغالٍ إلى إقبال، من ضياعٍ إلى وجدان، هذا الذي يُريد ذلك، الله عزَّ وجل يُمكِّنه من ذلك، ويعطيه الوسائل، ويُعينه على تحقيق مهمته، فالإنسان ضعيف لكنه قويٌ بالله، والإنسان لا حكمة له لكنه حكيمٌ في الله، ليس عنده قوة تأثير، لكنه حينما يُخلص يمنحه الله قوة التأثير، و كل هذا الكلام يحوم حول معنىً واحد، أنك إذا اتصلت بالله شُحِنت، فإذا شُحِنت أفرغت هذه الشِحنة في الخلق، فتألقوا واستقاموا وسعدوا واهتدوا، فشتان بين من يدعو إلى الله ومن يدعو إلى النار، الذين يدعون الناس إلى الفجور والمعصية والانغماس في الدنيا هؤلاء دعاةٌ إلى النار.
﴿ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا(7)﴾
أي الحركة وكسب المال، وحل مشكلات الحياة، وشراء المنزل وترتيبه، وتأسيس عمل، هذا كله في النهار، وقد قيل عن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: "إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل" فإذا احتجَّ الإنسان بكونه مُقدِماً على أعمالٍ أو زواجٍ أو دراسةٍ طويلة، قلنا له إن النهار يكفي لهذا كله، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا) فحركة الإنسان في النهار واسعة جداً، والنهار لشؤون الدنيا، ادرس وتاجر وأسِّس واعمَل وحصِّل رزقك في النهار، فإذا احتجَّ الإنسان وقال: ليس لدي وقت، نقول له: الليل لله والنهار لك، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) وهذا المعنى الأول.
إذا قمت الليل ولم تنم النوم الكافي، نقول لك: إن لك في النهار مجالاً للنوم، فقد يأخذ الإنسان أحياناً قيلولة ليستعين بها على قيام الليل.
(( عن علِيِّ بنِ عَبْدِ العَزيزِ، عن يَزيدَ بنِ أبي يَزيدَ الجَزَريِّ، عن المِسْوَرِ، عن أبي هُرَيْرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالَ: اسْتَعينوا بالقَيْلولةِ على القِيامِ، وبالسُّحورِ على الصِّيامِ ))
[ علل ابن أبي حاتم عن أبو حاتم الرازي ]
ممكن عن طريق قيلولة النهار أن تقوم الليل، فإذاً النهار ممكن أن يعوِض لك شيئاً من التعب، أو ممكن أن تحل فيه مشاكلك الدنيوية، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) .
يمكنك أن تعوِّض الذي يفوتك من صلاة الليل في النهار، فإذا فات الإنسان أن يُصلّي الليل، فمن الممكن أن يُصلّي الضحى أو صلاة الأوابين أو أن يجلس بين المغرب والعشاء يذكر الله عزَّ وجل، فمن الممكن أن تعوِّض ما فاتك من الليل في النهار، ويمكن أن يكون النهار معواناً لك على قيام الليل، ومن الممكن أن تتحرك حركتك في الحياة الدنيا في النهار، (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا) .
وهو معنىً دقيقٌ جداً يقول: هذا الذي حصّلته في الليل من اتصالٍ بالله ومعرفةٍ به واستغراقٍ في شهود جماله، هذه النفحات التي جاءتك في الليل، يمكن أن تكون موضوعاً لحركتك في النهار، ممكن أن تقول في النهار للناس افعلوا ولا تفعلوا، أصبح معك شيء تتكلم به في النهار.
إذاً المعاني أربعة: يمكن أنَّ الذي حصّلته في الليل تنشره في النهار، وهذا المعنى الرابع، يمكن أنَّ الذي فاتك من صلاة الليل أن تعوضها في النهار، يمكن أنَّ النوم في النهار يُعينك على قيام الليل، والشيء الرابع الحركة في الحياة، تحصيل الرزق، الدراسة، تأسيس العمل، الزواج، حلّ مشاكل الحياة، هذه أثناء النهار تقوم بها، إذاً (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً) .
أمّا حينما تطورت حياتنا فصار ليل الناس نهاراً ونهار الناس ليلاً، فالوسائل الحديثة قلبت الموازين، أصبح الإنسان في الليل كأنه في النهار، فإذا فاته النوم باكراً صلّى الفجر مُتعباً، وكأنه قد فاته أجمل ما في النهار.
(( وْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا، ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا. ))
فأجمل ما في الحياة هو ساعات الفجر وما قبل الفجر وما بعد الفجر، وهذا يحتاج إلى نوم مُبَّكِر، فالذي ينام مُبَّكِراً يستمتع بهذه الساعات، فالإنسان الذي يسافر قد يحتاج بحكم السفر أحياناً إلى أن ينام في الساعة التاسعة ويستيقظ الساعة الثالثة بأعلى درجات النشاط، فالتصميم الإلهي هو أن تنام باكراً وأن تستيقظ باكراً لكي تتصل بالله عزَّ وجل.
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)﴾
لاشك أن ذِكر اسم الله عزَّ وجل ليس المقصود منه أن تقول (الله) بقلبٍ غافل، فهذا لا يرضي الله عزَّ وجل، ولا يُحقِّق ثمرةً من ثمار الذِكر، وقال العلماء: الذِكر هو أن تذكر الله بلسانك و قلبك خاشعاً، يعني ذِكر اللسان مع حضور القلب، (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)
المعنى الأول: وهو الأوسع:
إنك إن أردت أن تشرب فاذكر اسم ربك واذكر هذه النعمة، ثم اذكر كيف شرب النبي، و إن أردت أن تأكل فاذكر اسم ربك وقُل: هذا الطعام آكله باسم الله، لولا أنَّ الله خلقه وجعله مناسباً لجسمي، ومكنني من شرائه وجعله سائغ المذاق، سهل الهضم، لما أكلته، فقل: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وأجمل ما في البسملة أنَّ البسملة في الشيء، تُعرِّفك بنعمة الله وبمنهج الله معاً، فهذا الكأس الذي أشربه أقول عليه بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ماءٌ عذبٌ فُرات، وقد كان ملحاً أُجاجاً، مَن جعله عذباً فُراتاً بعد أن كان ملحاً أُجاجاً؟ الله جلَّ جلاله، إذاً أشربه بسم الله، لأن انتقاله من حالة الملوحة إلى حالة العذوبة ليس بيدي ولا بيد أحدٍ من الناس، بل هو من فعل الله عزَّ وجل، باسم الله صار هذا الماء عذباً فُراتاً بعد أن كان ملحاً أُجاجاً.
الفلاّح يضع البذرة في الأرض من يُنبِتُها؟ الله جلَّ جلاله، فالبذرة صغيرة تُنبِت شجرة تعطيك ثماراً وفواكه، هذه البذرة نبتت باسم الله، أي: بفعل الله وحكمته وعلمه وقدرته وإرادته وجماله ولطفه، هذا معنى بسم الله، أيُّ شيءٍ أمامك إذا أردت أن تستعمله، إن كان مأكولاً وأردت أن تأكله، إن كان مشروباً وأردت أن تشربه، إن كان ذا منظرٍ جميل كالوردة وأردت أن تستمتع بها، فقل بسم الله الرحمن الرحيم، فمَن جعل هذه الوردة الجميلة برائحتها ولونها؟ من صممها؟ إنه الله جلَّ جلاله، فمن معاني البسملة أن تذكر نعمة الله عليك، لأن هذا الذي حصل ليس بقدرتك بل بقدرة الله عزَّ وجل، فتحول الماء من ملح أُجاج إلى عذب فُرات، ليس بعلمنا وليس بقدرتنا بل بعلم الله وقدرته ورحمته ولطفه، فكل شيءٍ لله عزَّ وجل.
(بسم الله الرحمن الرحيم) ، كيف شرب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد شرب الماء على ثلاث دفعات، وهذه السُنَّة، فالبسملة تُذكِّرك بنعمة الله وبمنهج الله عزَّ وجل، هذا معنى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) على كل شيء، فإن خرجت من البيت فاذكر اسم الله عزَّ وجل.
(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ إِذا خرَجَ من بيتِهِ : اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِك مِن أَن أضِلَّ أو أزِلَّ أو أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ ))
[ أخرجه أبو داوود والترمذي والنسائي ]
وإن دخلت بيتك فاذكر اسم الله، وإن ذهبت إلى عملك، وإن سافرت، وإن لبست جديداً، وإن جلست إلى الطعام، وإن أردت أن تؤدي عملاً عظيماً، إن دخلت امتحان أو أجريت عمليَّة، اذكر اسم ربك، فتذكَّر نعمة الله وتذكَّر منهج الله، والذِكر يكون باللسان وبالقلب معاً، أي: باللسان مع القلب الحاضر، وهذا هو الذِكر المقبول.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) التبتيل هو الانقطاع، فلا بُدَّ من أن تقتطع من وقتك وقتاً لمعرفة الله و الاتصال به وذِكره، هذا الذي لا يجد في حياته وقتاً لمعرفة الله وطاعته، وحفظ القرآن وتعليمه، وليس عنده وقتٌ للعمل الصالح والأمر بالمعروف، هذا الإنسان ميتٌ لكنه بصورة حي، فلا بُدّ من التبتل و الانقطاع، لا بُدّ من أن تقتطع من وقتك وقتاً لمعرفة الله، قال تعالى:
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا(63)﴾
معنى يمشون هوناً أي: يقتطعون من وقتهم وقتاً لحضور مجلس عِلم، للذِكر، لعمل صالح، لدعوة إلى الله، لمطالعة كتاب علمي ثمين جداً، لقراءة القرآن، لا بُدَّ من أن تنقطع لله، فالإنسان له حاجات يومية من أكل وشرب ونوم وترتيب بيت وتحقيق رزق، وهذه نشاطات يفعلها كل الناس، أمّا المؤمن يتميز بأنه يأخذ من وقته وقتاً لمعرفة الله و طاعته، وتعريف الناس به، ويبذل وقتاً سخياً في سبيل هذا.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي التبتُّل لا بُدَّ منه، هذا موضوع ذكرته قبل أسبوعين في درس الأحد، والذي كان بعنوان (الخلوة) ، لا بُدَّ من أن تخلو مع الله ولو لوقتٍ قصيرٍ كل يوم، وهذه الخلوة تتصل بها بالله فتذكره، وتذكر أين كنت وإلى أين المصير؟ ولماذا؟
من هذا الذي تتبتل إليه؟ إنه خالق السماوات والأرض، هو الله خالق الأكوان، وقد ورَد في أحدث التقديرات أن في الكون مليون مليون مِجرَّة، وفي المِجرَّة مليون مليون نجم، والمِجرَّة التي نحن فيها متواضعة جداً، واسمها درب التبانة، وعلى هذه المِجرَّة التي على شكل مِغزل (عضلة) نقطةٌ هي المجموعة الشمسية بأكملها، و إذا أرسلوا قبل أشهُر مركبة إلى المشتري، فإنها تحتاج إلى سبع سنوات من أجل أن تصل إليه، وهي تنطلق بأعلى سرعة بلغها الإنسان، أربعين ألف ميل في الساعة، يعني ستين ألف كيلو متر، مع أن أسرع طائرةٍ تسعمائة كيلو متر في الساعة، لنكون بذلك قد قطعنا من الأرض إلى المشتري ضمن النقطة التي على درب التبانة !! فالذي أُمرت أن تتبتل إليه هو خالق السماوات والأرض.
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)﴾
إنه ربّ هذا الكون، و الإنسان أحياناً يعجَب ممن عرف الله ثم لا يُحبه، أو لمن عرف ما عنده ثم زهد فيما عنده، أو لمن عرف ما ينتظره إذا عصاه ثم يتورط في معصيته.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) لا يوجد غيره، لا توجد حقيقةٌ أُخرى غير حقيقة هذا الإله العظيم، و لا يوجد منهج آخر إلا منهج هذا الإله العظيم، و لا توجد جهة مُسعِدة إلا هذا الإله العظيم، الذي أُمرت أن تذكره وتتبتل إليه، إنه خالق السماوات والأرض، وبالتعبير المُختصر نقول: لا يوجد إلا الله، والله كبير، فالمؤمن الصادق لا يرى مع الله أحداً، فلا يرى معه فاعلاً، ولا مُعطياً، ولا مانعاً، ولا مُعزِّاً ولا مُذِلاً ولا مُسعِداً، هو الله، الحقيقة الوحيدة في الكون، هو الجهة المُسعِدة الوحيدة في الكون، لذلك (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الذي أُمرت أن تذكره، وأن تتبتل إليه تبتيلاً، هو رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو.
كل الأشخاص الذين تراهم عينك، والذين تتوهم أنهم أقوياء هُم في قبضة الله
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَىٰ(45) قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ (46)﴾
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أنت مدعو إلى الخالق، خالق الأكوان، و ملِك الملوك، إلى القدير، إلى العزيز، إلى الغني، إلى الكريم، إلى الرحيم.
(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ألا ترضى أن يكون الله وكيلك ؟ إن كان الله وكيلك فأنت أقوى الناس، و إن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، فليس هناك أسعد من إنسانٍ سلّم أمره إلى الله، وحرِص على طاعة الله وسلّم أمره لله، إنه يكون بذلك أقوى الناس.
(لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) لا تُعلِّق الآمال بأشخاصٍ في الأرض لأنهم ضعفاء مثلك، وقد يكونوا أقل وفاءً لك مما تظن، بل علِّق الآمال بالله عزَّ وجل، واجعل الله عزَّ وجل محط الرحال ونهاية الآمال.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)) أنت أقوى إنسانٍ إن اتخذت الله وكيلاً، و أسعد إنسان إن اتصلت بالله، وأعظم إنسان إذا عملت لله، لا يليق بك أن تعمل لغير الله، ولا أن تكون محسوباً على غير الله، ولا أن تكون مُجَيّراً لغير الله، فأنت المخلوق الأول.
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)﴾
الجُهّال كثيرون والمنحرفون أكثر، ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فاصبر على هؤلاء، والصبر من صفات المؤمن، فاصبر عليهم وتمنى هدايتهم، واشكر الله عزَّ وجل على أن نجّاك من هؤلاء ولم تكن مثلهم، ففي هذا الوقت هناك أُناسٌ كثيرون في الملاهي والنوادي الليلية، يرتكبون الموبقات ويتوهمون أنهم سعداء وهُم في الوحول.
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أُناسٌ كثيرون لا يعرفون الله، لا يعرفون إلا المادة، والدرهم والدينار، أحدهم كان في أمريكا، جلس في حديقة عامة، فجلس إلى جانبه إنسانٌ من تلك البلاد، فسأله عن دينه فقال له: أنا مسلم، فقال له: حدثني عن الإسلام، فحدثه ساعة وهو من العلماء الكبار، ثم قال له: ما رأيك؟ فأخرج من جيبه دولاراً وقال: أنا هذا ربّي الذي أعبده من دون إلهك.
فهناك أُناسٌ جُهّال، الدرهم والدينار إلههم، وقد تكون المرأة إلههم، فالذي كرّمه الله عزَّ وجل بمعرفته، عقيدته صحيحة، منهجه واضح، منضبط، يسلك سلوكاً قويماً، هذه نعمةٌ لا تعدلها نعمة.
﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11)﴾
هؤلاء المعاندون، هؤلاء الأعداء الألدّاء العُصاة المكذِّبون، الطرف الآخر الذين يريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، هؤلاء دعهم يا محمد لي.
﴿ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13)﴾
أخطر تهديد في القرآن كلمة: (ذَرْنِي) أي: دعه لي يا محمد، فأنا أُربيه، أنا أُداويه، أنا أحمله على التوبة بطريقةٍ صعبةٍ جداً.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)﴾
الأمراض التي تشيع بين الناس، في كل مرض (الإنسان ينسى حليب أمه)، هناك آلام لا تحتمل، هناك أمراض عضالة، هناك أمراض وبيلة، ومشكلات، (وذَرْنِي) هي كلمة تهديد من أعلى درجة، دعه لي، إن دُعيت إلى الحق فاستجب.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
إذا دُعيت فاستجب، وإلا انطبق على هذا الإنسان قوله تعالى: (وذَرْنِي) أي: دعه لي، فإذا دُعيت إلى طاعة الله و الاستقامة على أمره، وأنت في صحةٍ وعافية، ونشاطٍ وبحبوحة، فاستقم واستجب وآمن وصلِّ وطبِّق أمر الله عزَّ وجل.
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
وعندئذٍ ينطبق عليهم قوله تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) .
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)﴾
﴿ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)﴾
(إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً) أي: قيوداً تُنكِّل بالإنسان، (وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ) أي: لا يُستساغ، (وَعَذَاباً أَلِيماً) .
﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً(14)﴾
هذا اليوم يوم الدين
﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)﴾
يوم الحق، يوم الدينونة، يوم الجزاء، يوم إنصاف المظلومين، يوم البطش للظالمين، يوم إحقاق الحق، يوم الحسم، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)﴾
يوم ينتهي الكذِب والدجَل، ينتهي كل شيء، لذلك اسم الله الحق، لا يتحقق كاملاً إلا يوم القيامة.
﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ۖ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ۚ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ۚ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(4)﴾
أيُّها الإخوة الكرام: محور هذا الدرس أنَّ صلاة الليل أعمق أثراً في النفس، وأنَّ ضوء النهار مجالٌ واسعٌ للعمل الصالح ولكسب الرزق، وأنك يجب أن تنقطع لله سبحانه وتعالى، فهو أهلٌ أن تنقطع له، بالعبادة والتفكُّر، لأنه خالق الأكوان الواحد الديان، لأنه الحق وحده ولا حق سواه، فإذا اتخذته وكيلاً فأنت أقوى الناس، أمّا هؤلاء الطرف الآخر، الجاهلون، الضالون، الشاردون، فاصبر عليهم وادعُ لهم بالهدى
(( كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ))
أمّا هؤلاء المعاندون، المكذِّبون، الضالون المُضِلون، الفاسدون (وَذَرْنِي) أي: دعهم لي يا محمد، (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ليست نِعمة ولكنها نَعمَة، أي: نقمة، وهذا اسمه الاستدراج، فإن رأيت الله يتابع نِعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره.
(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) يعني كالعِهن المنفوش، وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع تفسير هذه الآيات:
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15)﴾
الملف مدقق