الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام: مع الدرس الرابع من سورة المُزّمِّل، ومع الآية الخامسة عشر وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً(15)﴾
شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم:
الله جلَّ جلاله خلق الخلق، ثم أرسل إليهم الرُسل ليعرِّفهم بذاته، وليعرِّفهم بطريق سعادتهم، وليعرِّفهم بطريق سلامتهم، فرحمة الله عزَّ وجل تقتضي أن لا يدع عباده من دون تحذير، ومن دون توجيه، ومن دون منهجٍ قويم، فإرسال الرُسل دليلٌ على رحمة الله عزَّ وجل، فالأب أحياناً يرى ابنه يقترب من المدفئة فلا بُدَّ من أن يُحذِّره، لا بُدَّ من أن يمنعه، لا بُدَّ من أن يوجهه، ربنا عزَّ وجل يقول: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) غير أنَّ الله عزَّ وجل في آيةٍ أُخرى يقول:
﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(164)﴾
معنى هذا أنَّ الإنسان أودع الله فيه العقل، فلو أنَّ الإنسان استعمل عقله وفق ما خُلِق له، لعرف ربه، وفُطِر فطرةً عالية، ولو أنه أبقاها سليمةً لعرف من خلال فطرته، ما إذا كان على حقٍ أو على باطل، قال تعالى:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)﴾
لا يمكن أن تخدع نفسك، إنها تعرفك حق المعرفة (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فالنفس تعرف ما إذا كانت مُتقيةً لله عزَّ وجل أو فاجرة، فقد أودع فيك العقل، ولو أعملته وفق ما خلقه الله عزَّ وجل، وكيف أنه متوافقٌ في مبادئه مع مبادئ الكون، وصلت إلى الله عن طريق الكون، وعن طريق خَلقه، وأنزل القرآن الكريم، فلو درسته وتدبرته وفهمته، لعرفت أنه كلام الله ربّ العالمين، أفعاله تدل عليه، كلامه يدل عليه، خلقه يدل عليه، ومع ذلك فوق أنك مؤهلٌ بإمكاناتك الفطرية، بعقلِك وبفطرتك، وبخلق الله وبأفعاله لمعرفته، الله جلَّ جلاله امتنَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً، كما أنَّ لو مدرسةً راقيةً جداً، مناهجها راقية، مُدرِّسوها متفوقون، نظامها حازم، مرافقها جيدة، قاعاتها فسيحة، مخابرها عامرة بالمواد، ومع كل هذه الميزات وضع الأب لابنه درساً خصوصياً وأستاذاً خاصاً.
فربنا عزَّ وجل أعطانا العقل، والعقل حُجّة، أعطانا الفطرة وهي دليل، أعطانا النظر في أفعاله، وأفعاله تدل عليه، أعطانا كل شيء، ومع كل هذا أرسل فينا رسولاً شاهداً علينا، وهذا مما تقتضيه رحمة الله عزَّ وجل، لأنه رحمنٌ رحيم، أرسل هذا الرسول الكريم، مرشداً ومحذِّراً وناصحاً ومنذراً ودليلاً، هو يشهد علينا، لو وسّعنا هذه الفكرة
(( لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ.))
لا يمكن أن يُفتقد الحق في الأرض ولو للحظةٍ واحدة، ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ) فالحق مستمر، ولكن تتسع دائرته أو تضيق، لكنه لا يتلاشى، فما عليك إلا أن تبحث عن أهل الحق.
من هُم أهل الحق الذين ينبغي أن تبحث عنهم لتكون معهم ؟
من هُم أهل الحق الذين ينبغي أن تبحث عنهم لتكون معهم؟
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾
الدنيا غير مطروحة في العلاقات الإيمانية، فليس هناك مكاسب مادية ولا معنوية وليس هناك ثناء ولا شكر ولا امتنان.
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)﴾
فأحد علامات أهل الحق الذين ينبغي أن تبحث عنهم، أنهم منزّهون عن الأغراض الدنيوية.
ثم إنهم لا يخافون في الله لومة لائم
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(39)﴾
لو أنَّ هؤلاء المعنيون بالدعوة إلى الله خافوا من غير الله، فسكتوا عن الحق خوفاً منهم، وتكلموا بالباطل إرضاءً لهم، فماذا بقيَ من دعوتهم؟ انتهت دعوتهم! (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ) هذه علامةٌ ثانية.
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)﴾
فالعالِم الحق هو الذي يشهد لك عدالة الله و كمال الله، ويُبين لك أسماء الله الحسنى، (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ) .
﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
فالدعوة بصيرة، الدليل والتعليل، توافق الدعوة مع العقل والمنطق والواقع والفطرة، وكأن الحق دائرةٌ تمرّ فيها خمس خطوط، خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخط الواقع الموضوعي، هذا هو الحق، الموضوع والواقع يؤيده، والفطرة تقبله، والعقل يُقرّه، والنقل الصحيح يدعمه، نقلٌ صحيح وعقلٌ صريح وفطرةٌ سليمة وواقعٌ موضوعي، لذلك لو ضيّقنا الدائرة في كل مكان، قد تجد واحداً يُقيم الحق، وهو حُجّةٌ على من حوله، قد لا يكون داعية، ولكنه رجُلٌ عادي في دائرة أو في شركة، لكنه مستقيم لا يأخذ درهماً حراماً، ويضبط لسانه وجوارحه، هذا المستقيم حُجّةٌ على غير المستقيم، هذا العفيف حُجّةٌ على غير العفيف، هذا المُنضبط حُجّةٌ على المُتفلِّت، فالله عزَّ وجل لا يدعم الحق بأفكار تُنشَر في كتب فقط، بل يدعم الحق أيضاً برجالٍ الدنيا كلها تحت أقدامهم، لا يخافون في الله أحداً، لا يأخذون الحرام ولو كانوا بأشدّ الحاجة إلى المال، فالإنسان عليه أن يكون مع المؤمنين والدليل:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)﴾
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)﴾
أيُّها الإخوة، هذه الأفكار وتلك الشواهد القرآنية مُستنبطة من قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ) .
الداعية شاهد على المدعوّ:
الإنسان حينما يُدعى إلى الله، قد لا ينتبه إلى أنَّ هذا الذي يدعوه إلى الله شاهدٌ عليه، يشهد عليه يوم القيامة أنه دعاه، وربنا سبحانه وتعالى حكيمٌ في دعوة عباده إليه، فيبدأ معهم بالدعوة البيانية والكلام، فقد تقرأ القرآن، أو تستمع إلى خطبة جمعة، أو تستمع إلى درس تفسير، أو تقرأ كتاباً، أو تستمع إلى حديثٍ في شريط، أو تقرأ مقالاً في مجلة، كل هذه الأفكار التي تدعوك إلى الله هي دعوةٌ بيانية وأنت صحيحٌ معافى، فإذا لم يستجب الإنسان إلى هذه الدعوة البيانية اللطيفة السلميّة، فلا بُدّ من دعوةٍ أُخرى بطريقٍ أو بآخر، لا بُدَّ من دعوةٍ إلى الله عن طريق التأديب، فيدخل الإنسان مع الله في طورٍ آخر، في طور التأديب التربوي
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾
ثم إن الله عزَّ وجل ينقل عبده إلى طورٍ ثالث وهو الإكرام الاستدراجي، ثم يقصمه إن لم يستجب، فهنيئاً لمن يستجيب لله عزَّ وجل ولرسوله من خلال الدعوة البيانية، فهذا أعقل إنسان، لأنه يأتي إلى الله وهو في صحته وقوته و غناه و شبابه.
هذا الذي يدعوك إلى الله سيشهد عليك يوم القيامة، بل إن أقرب شيءٍ إليك سيشهد عليك
﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)﴾
أعضاؤهم و جلودهم ستشهد عليهم، (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ) لو أنك قوي، لو أنك غني، لو أنك صحيح
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)﴾
إن رأى نفسه غنياً يستغني عن الله، إن رأى نفسه قوياً يستغني عن الله، إن رأى نفسه صحيح البدن يستغني عن الله، وهذا الذي يدعو الله وقت الشدّة فقط هو إنسانٌ ضعيف، لأنه تذكر الله حين الشدّة، أمّا في الرخاء لم يتذكره، مع أن بعض النصوص تقول: ( من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة) فالأَولى أن تعرفه في الرخاء.
(( كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا غلام أو يا بني ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن قلت بلى فقال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل لله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً ))
هذا فرعون، مثَل للقوة
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)﴾
مصر كلها له:
﴿ وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ(51)﴾
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)﴾
مع ملكوته و جبروته و عناده و غطرسته و استعلائه و استكباره، جعله الله في أسفل سافلين.
﴿ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً(16)﴾
الكلام دقيق، فمَن أنت أيُّها الإنسان؟ فرعون وما أدراك ما فرعون؟! إنه الجبار، الطاغية، القوي، الذي عبده الناس من دون الله، والذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) ، (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) .
ما هذا الجبروت؟ وما هذا الاستعلاء؟ وما هذه الغطرسة؟ ومع ذلك أخذه الله أخذاً وبيلاً، لذلك أشقى إنسان هو الذي يقف في خندقٍ مُضادٍ لخندق الحق، و يعارض الحق، يريد أن يُطفئ نور الله عزَّ وجل (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ) .
فمراحل الدعوة هي: الدعوة البيانية، التأديب التربوي، الإكرام الاستدراجي، القصم، وأروع شيءٍ أن تكون في الدعوة البيانية، وأن تستجيب لله عزَّ وجل في الدعوة البيانية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24)﴾
فأي إنسان يدعوك إلى الله سيكون شاهد عليك، وقد لا ينتبه الإنسان أحياناً يُسأل فيُجيب، يترتب على هذا الجواب عذابٌ أليم إلى أمدٍ طويل، أحياناً يُدعى فيرفض فيندم أشدّ الندم، وقد قالوا: (هذا اليوم له ما وراءه) ، فالإنسان أحياناً يأكل وينام، ليس هناك مشكلة في هذا، لكنه قد يعقِد صفقة تجعله مُفلساً يتكفف الناس، قد يقف موقفاً يجعله يقبع في غيابات السجن سنواتٍ تلو سنوات، فأحياناً هناك مواقف لها ما وراءها ويُبنى عليها مصير.
أمثلة:
وأضع بين أيديكم أمثلة على ذلك:
لو أنَّ إنسان اتخذ قراراً بشراء بضاعةٍ غير نظامية، ثم ضُبط متلبساً ببيع هذه البضاعة، وكان ثمنها كبير جداً، رُتبَّت عليه غرامات تبلغ ثمانية أضعاف ثمنها، ثم يودَع في السجن، في لحظة اتخاذ هذا القرار الخاطئ، هذا القرار سبَّب له دماراً وإفلاساً وسجناً، نقول هذا اليوم له ما وراءه، وهذه الأمثلة من حياتنا الدنيا.
قد يقف الإنسان موقفاً أو يتكلم كلمة، أو يُشير إشارة، وقد يسكت أحياناً، فيدفع ثمن سكوته سنواتٍ طويلة، فهذا الموقف الدنيوي سبَّب لك متاعب طويلة، قرار هذا الزواج سبَّب لك شقاءً طويل الأمد، أحياناً الإنسان يتخذ قراراً خطأً في زواجه، أو في سفره، أو في تجارته، أو في إقامته، أو في مواقفه، فيدفع ثمنها سنواتٍ تلو سنوات، هذا مع بني البشر فكيف مع خالق البشر، الإنسان قد يتخذ موقفاً فيدفع ثمنه جهنم إلى أبد الآبدين، وهذا شيء لا يحتمل.
فأي إنسانٍ دعاك إلى الله، دعاك إلى طاعة الله و إلى التوبة إليه، دعاك إلى ترك هذا الطريق المُنحرِف، وترك هذا العمل المُنحرِف.
حدثني أخ وقد ذكرت هذا سابقاً، أنَّ إنساناً كان يملأ عينيه من الحرام، فأصيب بمرض ارتخاء الجفون، وهو مرضٌ صعبٌ جداً، يكون الجفن فيه مغلقاً دائماً، ولا يُفتح إلا باليدين من أجل أن ترى، فالإنسان حُرّ يفعل ما يشاء، لكن ليس حُرّاً في قبول العقاب أو عدم قبوله، كما لو أنك تقف بمركبتك أمام إشارة، وتكون الإشارة حمراء والطريق مفتوح، فأنت حُرّ في أن تخالف أو لا تخالف، لكنك إذا خالفت لست حُرّاً في قبول المخالفة أو رفضها، لأن العقاب أصبح إلزامياً، و أنت الآن مُخيَّر، لك أن تُصلّي أو لا تُصلّي، لك أن تكون صادقاً أو أن تكون كاذباً، لك أن تكون أميناً أو خائناً، لك أن تنضبط أو أن تتفلَّت، لك أن تُحسِن أو أن تُسيء، لك أن تكسب مالاً حلالاً أو حراماً، لك أن تقسو ولك أن ترحم، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾
لكنكم حينما تختارون الاختيار السيء، لستم أحراراً في رفض العقوبة أو قبولها، لأن العقاب أصبح إلزامياً.
ونستشف من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى، أرسل هذا الرسول الكريم، النبي الأُميّ الذي جعله الله رحمةً للعالمين، كي ينقلنا من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن وحول المادة إلى جنَّات القُربات، فهنيئاً لمن استجاب لهذا النبي، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل الاستجابة لهذا النبي الكريم، عين الاستجابة لله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)﴾
[ سورة القصص ]
قال علماء التفسير: إنَّ الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم هي عين الاستجابة لله عز وجل.
إخواننا الكرام، القضية خطيرة ومصيرية، أي: يتحدَّد بها مصيرك، لو أنَّ إنساناً خان وطنه خيانةً عُظمى، لقلنا هذه الخيانة مصيرية، ومعنى ذلك أنه سيُعدم وتُلغى حياته، فهذا عملٌ خطير، هناك أعمال يقترفها العبد في دينه تُسبِّب له النار إلى أبد الآبدين.
﴿ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)﴾
كلمة يوم مصيري، حينما تُدعى إلى الله ولا تستجيب، هناك مصير قاتم أسود شقي إلى أبد الآبدين.
النبي عليه الصلاة والسلام له سُنَّة، فمن لوازم تطبيق سُنته أن تعرف سُنته، لذلك طلب العِلم أساسياً في حياة الإنسان، وقد ذكرت قبل يومين في درسٍ من دروس جامع الطاووسية، أنَّ عِلّة خلق السماوات والأرض أن تعلم.
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)﴾
حينما يُعطل الإنسان عقله يهبط من وجوده الإنساني إلى الوجود الحيواني:
فالإنسان هو المخلوق الذي أودِعت فيه قوةٌ إدراكية، فحينما يُعطل عقله ويرفض العِلم، يهبط من وجوده الإنساني إلى الوجود الحيواني، يعني الحيوان ماذا يفعل؟ يأكل ويشرب ويتنفس ويُنجِب ويعمل ويستمتع بالطعام والشراب، فالإنسان الذي يأكل ويشرب ويتنفس وينجب ويستمتع هذا وجود حيواني، لكن الوجود الإنساني هو معرفة الله عزَّ وجل، الوجود الإنساني تحقيق رسالة الحياة، الوجود الإنساني أن تكون على منهج الله، الوجود الإنساني أن تنتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، مهما كنت قوياً وجبّاراً في الأرض لن تكون كفرعون، مهما كنت مُتمتِّعاً بقوةٍ لا تُعد ولا تُحصى فلن تكون كفرعون، ومع ذلك ( فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلا ).
هذا الكلام يُساق على أسلوب (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) ، فمن أنت؟ أنت إنسان ضعيف صغير، فرعون وما يملِك فرعون، حينما أراد الله عزَّ وجل أن يُدِّمره، أغراه بدخول البحر، سيدنا موسى ضرب البحر فإذا هو طريقٌ سَويٌ سالك، فلمّا خرج منه سيدنا موسى، تبعه فرعون، عادت اليابسة بحراً فغرق فرعون و قال وهو يغرق:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾
ولكن بعد فوات الأوان، فالمعصية إذاً عقابها وبيل، وأخذها شديد، ومصيرها مُظلِم، و هذه دعوةٌ من الله لطيفةٌ وغير مباشرة، (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)) .
يروى أن فرعون رأى في المنام أنَّ طفلاً سيقضي على ملكه، فقال: القضية بسيطة، أنا سأقتل أطفال بني إسرائيل جميعاً من دون استثناء، وأستحيي نسائهم، لكنه ربّى الذي سيقضي على ملكه في قصره، وهذا من حكمة الله البالغة، فلا تُعاند الحق، ولا تكن في الخندق المقابل، لا تكن عدّواً للحق في الطرف الآخر، لأن الطرف الآخر مهزومٌ لا محالة.
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر، وسمّاهُم بأسمائهم واحداً وحداً، وكأنهم يسمعونه.
(( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))
(( بئس عشيرةُ النبيِّ كنتم لنبيِّكم، كذَّبْتُموني وصدَّقني الناسُ، وخذَلْتُموني ونصَرني الناسُ، وأخرَجْتُموني وآواني الناسُ ))
(فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) كلما ارتقى إيمانك و تعمّق علمك و اشتدَّ يقينك، ترى أنَّ نتائج المعصية خطيرة، لذلك الإنسان بدافعٍ من حبه لسلامته يتقي الله عزَّ وجل، فمهما كنت قوياً وصحيحاً ومتماسكاً ومتملِّكاً لزِمام الأمور، الإنسان حينما يعصي الله عزَّ وجل، يجعله في أسفل سافلين (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) وبيلاً أي: شديداً.
ثم يقول الله عزَّ وجل: هذا عذاب الدنيا فكيف بعذاب الآخرة، اسأل الأطباء، هناك أمراض وبيلة، أمراض خبيثة، أمراض فتّاكة، هناك أمراض الأورام، وأمراض القلب، وأمراض الأعصاب، شيءٌ لا يُحتمل، فقد تُستأصل حنجرة الإنسان فينتهي صوته، وقد يُفتح بطنه أحياناً فيخرج الغائط من طرفه بلا توقيت، فهناك أمراض وبيلة، ولكن هذا ليس بشيء أمام عذاب الآخرة، قال تعالى:
﴿ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً(17)﴾
الشيب مألوف أن يظهر في الأربعين أو الخمسين أو الستين، أي في السن المتقدمة، أما طفل فمن غير المألوف أن يشيب، لذلك قالوا: هذا أمرٌ يشيب له الولدان، وقد رُئيَ في شعر النبي بعض الشيب، فقال:
(( قالَ أبو بَكْرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ: يا رسولَ اللَّهِ قد شِبتَ، قالَ: شيَّبتني هودٌ ، والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ))
فمن هي هود؟ إنها سورة هود، وما الذي شيَّبه فيها؟ إنه قوله تعالى:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)﴾
يروى عن سيدنا ابن رواحة - إن صحة الرواية – أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام عيّنه قائداً ثالثاً بعد سيدنا زيد وسيدنا جعفر، فسيدنا زيد فقُتل سريعاً، فأخذ الراية سيدنا جعفر فقاتل بها حتى قُتل، فلما أراد أن يأخذها عبد الله بن رواحة ورأى صاحبيه قد قُتلا سريعاً تردد- هكذا تقول الروايات إن صحَّت – فقال:
يا نفسُ إلا تُقتلي تمـــوتي هذا حِمام الموت قد صَليتِ
إن تفـعلي فعـلهما شـقيتِ وإن تولـيتِ فقـد رضـيــتِ
وأخذ الراية فقاتل بها حتى قُتل، النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة مع أصحابه قال: ( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل، وإني لأراه في الجنة يطير بجناحين - لذلك سُمّيَ جعفر الطيار - ثم سكت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما سكت النبي قلق الصحابة كثيراً على أخيهم عبد الله بن رواحة فقالوا: ما فعل عبد الله؟ فقال: ثم أخذها عبد الله فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى في مقامه إزوراراً عن صاحبيه) أي: أنَّ مقامه هبط لأنه تردد.
(( بعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم جيشًا استعمل عليهم زيدَ بنَ حارثةَ ، وإن قُتل زيدٌ أو استُشهد فأميرُكم جعفرٌ ، فإن قُتل أو استُشهد فأميرُكم عبدُ اللهِ ابنُ رواحةَ ، فلقَوُا العدوَّ فأخذ الرَّايةَ زيدٌ فقاتل حتَّى قُتل ، ثمَّ أخذ الرَّايةَ جعفرٌ فقاتل حتَّى قُتل ، ثمَّ أخذها عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ فقاتل حتَّى قُتل ، ثمَّ أخذ الرَّايةَ خالدُ بنُ الوليدِ ففتح اللهُ عليه ، وأتَى خبرُهم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم ، فخرج إلى النَّاسِ ، فحمِد اللهَ وأثنَى عليه وقال : إنَّ إخوانَكم لقُوا العدوَّ وإنَّ زيدًا أخذ الرَّايةَ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد، ثمَّ أخذ الرَّايةَ بعده جعفرُ بنُ أبي طالبٍ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد ، ثمَّ أخذ الرَّايةَ عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ فقاتل حتَّى قُتل أو استُشهد ، ثمَّ أخذ الرَّايةَ سيفٌ من سيوفِ اللهِ خالدُ بنُ الوليدِ ففتح اللهُ عليه ، فأمهل ثمَّ أمهل آلَ جعفرٍ ثلاثًا أن يأتيَهم ثمَّ أتاهم . فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليومِ أو غدٍ ، إليَّ ابنيْ أخي . قال : قال : فجيء بنا كأنَّا أفراخٌ ، فقال : ادعوا إليَّ الحلَّاقَ ، فجيء بالحلَّاقِ فحلق رؤوسَنا ، ثمَّ قال : أمَّا محمَّدٌ فشبيهُ عمِّنا أبي طالبٍ ، وأمَّا عبدُ اللهِ فشبيهُ خَلقي وخُلقي، ثمَّ أخذ بيدي فأشالها فقال : اللَّهمَّ اخلُفْ جعفرًا في أهلِه وباركْ لعبدِ اللهِ في صفقةِ يمينِه قالها ثلاثَ مِرارٍ . قال : فجاءت أمُّنا فذكرت له يُتمَنا ، وجعلت تفرحُ له فقال : العَيلةَ تخافين عليهم وأنا وليُّهم في الدُّنيا والآخرةِ ؟ ! ))
[ أخرجه أحمد والنسائي في السنن الكبرى ]
فإذا تردد الإنسان في بذل روحه هبط مقامه عند الله، فكيف بهؤلاء الذين يأكلون المال الحرام، وينتهكون الحرمات ويغرقون في المعاصي والآثام، ويعتدون على أعراض الناس، المعصية عقابها وبيل واسمها خطير.
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) كلام من هذا؟ هذا كلام الله، فقد يخوفك الإنسان أحياناً، الإنسان قد يقول ما لا يعني، أو قد يقول ما لا يستطيع أن يفعل، هذا شأن الإنسان، يخوفك وهو غير قادرٍ على أن يفعل ما يقول، وقد يخوفك وهو لا ينوي فعل ما يقول، لكن إذا كان هذا من قِبل الله عزَّ وجل، وهو كلام الله (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً) .
هذا اليوم...
﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)﴾
هذا اليوم الذي يحق فيه الحق، هذا اليوم الذي تُسوّى فيه الحسابات، هذا اليوم الذي يأخذ فيه المظلوم حقّه من الظالم، هذا اليوم الذي يأخذ المغصوب حقّه من الغاصب، هذا اليوم الذي تقوم فيه العدالة الإلهية المُطلقة، هذا يوم الدين، والله تعالى مالك يوم الدين.
﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18)﴾
السماء التي خلقها الله تعالى وما فيها من مجرات وكواكب تتصدع من هول هذا اليوم، فكيف بالإنسان؟! وهذا يُذكرنا بقول الله تعالى:
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾
إذا كان هذا القرآن ينصدع له الجبل، فكيف بقلب الإنسان من لحمٍ ودم، (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً).
أيُّها الأخوة، إنَّ هذا الوعد أو ذاك الوعيد واقعٌ لا محالة، والأمر منتهٍ.
﴿ إِنَّ هَٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا(19)﴾
لو أنني اتفقت معك على أمرٍ ما ثم ذكرتك به، ماذا يعني التذكير؟ أنك تعرفه، وأنا الآن أُذكِّرك به، لذلك القرآن تذكِرة، بمعنى أنَّ الإنسان عنده وسائل معرفة الله عزَّ وجل، من عقلٍ وفطرةٍ ونظرٍ، لكن الله عزَّ وجل ذكّره بهذا القرآن، فهذا القرآن كله تذكرة، لأن فطرتك متوافقةٌ مع الإيمان بالله، وعقلك يدلُّك على الله، وكل ما في الكون ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، الكون ينطِق، وعقلك يبحث، والفطرة تستجيب، فإنك أيها الإنسان تملِك وسائل معرفة الله، ورغم ذلك امتنَّ الله عزَّ وجل عليك، بفضلٍ منه وكرم، فذكّرك، فقال: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَة) .
الإنسان لمّا يؤمن ويستقيم يقول: وجدت نفسي، لأن الفطرة مستقيمة، فالسيارة مصممة لتمشي على الطريق المعبَّدة، فإن سارت في الوعر تكسرت، وإذا انتقلت إلى الطريق المُعبَّد استراحت وأراحت، فالإنسان مصمم على الإيمان، متوافق مع الإيمان عقله وفطرته، فإذا ضعف إيمانه أو انحرف سلوكه تشوش عقله واضطربت نفسه، لذلك قال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
الإنسان مصمم أن يكون مؤمناً، فإذا لم يؤمن ضلَّ عقله و شقيت نفسه، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ).
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ) يعني أنتم مخيرون، (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) وما أكثر السبُل إلى الله عزَّ وجل، التوبة سبيل، ضبط الأعضاء واللسان سبيل، بر الوالدين سبيل، تربية الأبناء سبيل، خدمة الزوجة زوجها سبيل، رحمة الرجُل بزوجته سبيل، إتقان العمل سبيل، الصدق والأمانة سبيل، خدمة الحيوان سبيل، و معنى السبيل: هو الطريق إلى الله و الوسيلة إلى العمل الصالح.
(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ) مَن يمنعك أن تُصلّي، الصلاة والصيام سبيل، الصدق سبيل، الدعوة إلى الله سبيل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل، أن تعتني بأولادك سبيل، أن تكون صادقاً مع الناس جميعاً سبيل.
(فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) والوسائل التي تُقرِّب إلى الله لا تُعد ولا تحصى، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، ففي بيتك ألف طريقٍ إلى الله، أليس بإمكانك أن تقول: يا بُنيتي قومي فصلّي، قال تعالى:
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ(132)﴾
حينما ترحم من في البيت هذا سبيل، حينما تُتقن عملك لتنفع المسلمين هذا سبيل، حينما تصدق مع الناس هذا سبيل، إخلاصك سبيل، صدقك سبيل، أن تكون أميناً هذا سبيل إلى الله عزَّ وجل، أن تكون معطاءً هذا سبيل، (فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا) .
الله عزَّ وجل ينتظرنا لننطلق إليه.
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(50)﴾
ينتظرنا أن نصطلح معه، والصلحة بلمحة، ينتظرنا أن نتوب إليه وندعوه، فادعُ الله واصطلح معه، أقم الإسلام في بيتك واسعَ إلى طاعة الله عزَّ وجل، (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) ولهذا اليوم ما بعده، فإذا دُعيت إلى الله، فإن الذي دعاك إلى الله سيكون شاهداً عليك، قياساً على قول الله عزَّ وجل، إذا دُعيت إلى الله فهذا اليوم له ما وراءه، فالعاقل لا يندم، لأنه فعل الشيء المناسب في الوقت المناسب، وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى، ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(20)﴾
الملف مدقق