الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا عِلماً، وأرِنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الإخوة الكرام مع الدرس الأول من سورة المُزّمِّل.
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8)﴾
المُزَّمِّل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم: تزّمَّل، أي تلفَّف بثيابه.
لهذه الآيات الأولى سببان للنزول.
السبب الأول: يروى أنَّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة تدبِّر كيدها للنبي عليه الصلاة والسلام، وللدعوة التي جاء بها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتمَّ لذلك، والتفَّ بثيابه، وتزمَّل ونام مهموماً، فجاءه جبريل عليه السلام، بشطر هذه السورة الأول: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً(2)) يعني الدعوة فيها صعوبات، وفيها أعداء، وفيها كيد، وفيها صوارف، وفيها عقبات، فالنبي عليه الصلاة والسلام يدعوه ربُّه في هذه السورة، إلى أن يقوم بأعباء هذه الدعوة، والإنسان أحياناً تأتيه حالاتٌ نفسية تضغط عليه فيميل إلى النوم، الله جلَّ جلاله يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2)) هذه رواية.
الرواية الثانية: خلاصتها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنث في غار حراء، قبل البعثة بثلاث سنوات، أي يتطهَّر ويتعبَّد، وكان تحنُّث النبي عليه الصلاة والسلام شهراً كاملاً في كل سنة، وهو شهر رمضان، فكان يذهب فيه إلى غار حراء على بُعد ميلين من مكة، فيقيم فيه هذا الشهر، ويُطعِم من جاءه من المساكين، ويُمضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله، من مشاهد الكون وفيما وراءها من قُدرةٍ مُبدعة، وهو غير مطمئنٍ لِما عليه قومه، من عقائد الشرك المهلهلة، وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريقٌ واضحٌ، ولا منهجٌ مُحدَّد، ولا طريقٌ قاصر.
يعني كان عليه الصلاة والسلام يذهب إلى غار حراء، يُمضي فيه الليالي ذوات العدد، يتعبَّد، يُصلّي، يُفكِّر، ويتأمل، وهو في حيرةٍ كبيرة، لأنَّ قومه في ضلالةٍ شديدة، وفي ظُلمةٍ حالكة، وفي انحرافٍ خطير، وفي فتنٍ مُشتعلة، ولكن لا يدري ما العمل.
وكان اختياره لهذه العُزلة صلى الله عليه وسلم طرفاً من تدبير الله له، لما ينتظره من الأمر العظيم، في هذه العُزلة كان يخلو إلى نفسه، يخلُص من زحمة الحياة وشواغلها، يفرغ لموحيات الكون ودلائل الإبداع، وتسبح روحه مع روح الوجود، وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال، وتتعامل مع الحقيقة الكُبرى، وتتمرَّن على التعامل معها في إدراكٍ وفهم.
أهمية خلوة الداعية مع الله عزَّ وجل:
النقطة الدقيقة أيُّها الإخوة، لا بُدَّ لأية نفسٍ يُراد لها أن تؤثِّر في واقع الحياة البشرية، لا بُدَّ لهذه النفس من خلوةٍ وعُزلةٍ مع الله عزَّ وجل، ففي الخلوة يتم الشحن ومع الناس يتم التفريغ، إنسان يُحدِث تأثير كبير في الحياة، يقلب مجرى الحياة، يُغيِّر طبيعة العلاقات، يُضفي على الحياة من بعده روح الفضيلة، روح الاستقامة، إنسان يُحدِث تأثير كبير بالغ، دون أن يكون له مع ربِّه خلوة، دون أن يُشحن بهذه الخلوة، هذا كلامٌ غير مقبولٍ إطلاقاً، فالعطاء يحتاج إلى كسب، تكتسب فتُعطي، وفاقد الشيء لا يعطيه، يعني لا بُدَّ للنفس التي يمكن أن تؤثِّر بمن حولها، من أن يكون لها خلوةٌ مع الله، من أن يكون لها شحنةٌ روحيةٌ تُفرِّغُها مع الناس، فلذلك إذا ضعُفت هذه الشحنة ضعُف التأثير، إذا قلَّت الخلوة أو انعدمت ضعُف التأثير.
درسٌ يوضع بين أيدي المؤمنين، درسٌ يوضع بين أيدي الدُعاة، بين أيدي كل إنسانٍ، بين أيدي كل مجموعةٍ من الناس، أرادوا أن يُحدِثوا شيئاً في الإسلام، لن تستطيع أن تؤثِّر إلا إذا شُحِنت، لن تستطيع أن تُعطي إلا إذا اكتسبت، لن تستطيع أن تُعلِّم إلا إذا تعلمت، و لن تستطيع أن تَحمِل الناس على الاتصال بالله إلا إذا اتصلت.
أيُّها الإخوة لا بُدَّ من خلوةٍ وعُزلةٍ من وقتٍ لآخر، وانقطاعٍ عن شواغل الأرض وضجّة الحياة وهموم الناس التي تشغل الحياة، لا بُدَّ من فترةٍ للتأمُل والتدبُّر والتعامل مع الكون الكبير، أساس العبادة هذه حكمتها، نافذة إلى السماء، فلا بُدَّ من أن تتصل بالله، لا بُدَّ من أن تُناجيه، لا بُدَّ من أن تقف بين يديه، لا بُدَّ من أن تتفكر في عَظَمة الخلق، هذا الذي يُعطيك الشحنة، هذه هي الشحنة التي تكتسبها في خلواتك مع الله، هذه هي الشحنة التي تأخذها من لقاءك مع الله، هي زادك في الدعوة إلى الله، هي زادك في قوة التأثير، هي زادك لإحداث التغيير، هي زادك ليشيع من كلامك الخير الكثير.
أيُّها الإخوة، الناس حينما يقضون أوقاتهم في الشواغل التافهة، إنسان مخلوقٌ أول، خَلَقَه الله عزَّ وجل لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، خَلَقَه ليعرفه، خَلَقَه ليُقبِل عليه، خَلَقَه وهو المخلوق الأول الذي سُخِّر له ما في السماوات وما في الأرض، مشغولٌ بتوافه الحياة، بسفاسف الحياة، بالأمور التي تفعلها كل الناس بلا فضلٍ ولا أجرٍ ولا شُكر، الإنسان لا يليق به أن تستهلكه الحياة كما هي الحال اليوم، الإنسان الآن مُستهلَك، قوائم الأعمال التي يكتبها على دفتره لا تنتهي.
قلت مرةً لأحد الأشخاص: لو ذهبنا إلى مقبرة، واستطعنا أن نعرف أحوال هؤلاء الموتى جميعاً، لوجدنا أنَّ كل واحدٍ مات وعليه قوائم من الإنجازات التي لم يفعلها بعد، هذه المشاغل لا تنتهي، لا بُدَّ من أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله، وقتاً للتفكُر في ملكوت الله، وقتاً للاتصال بالله، وقتاً للإقبال عليه، لا بُدّ، وإلا لا تستطيع أن تؤثِّر في نفسك، المهزوم أمام نفسه إنسانٌ ضعيفٌ تافه، المهزوم أمام شهواته إنسانٌ لا يستطيع أن يُحرِّك ساكناً، المهزوم أمام مصالحه، أمام رغباته، أمام نزواته، هذا إنسان أنَّى له أن يُحدِث في الناس التأثير؟!
النبي عليه الصلاة والسلام بشر، من بني البشر، عاش ثلاثاً وستين عاماً، ما هو أثره بعد هذه الحياة؟ أُممٌ لا تُعدّ ولا تُحصى تعرَّفت إلى الله، أُممٌ أقبلت عليه، أُممٌ سَعِدت بقربه، أُممٌ اصطلحت معه، لذلك أقسم الله جلَّ جلاله بعُمره الثمين فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
أيُّها الإخوة الكرام، كأن الله سبحانه وتعالى قد أعدَّ النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الرسالة العظيمة، لهذه الرسالة الخالدة، أعدَّه من أجل أن يتحمَّل عبء هذه الرسالة، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عنْ عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أنَّها قالَتْ: أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه - وهو التَّعَبُّدُ - اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: {اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ} [العلق: 1- 3] فَرَجَعَ بها رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدَخَلَ علَى خَدِيجَةَ بنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فقالَ لِخَدِيجَةَ وأَخْبَرَها الخَبَرَ: لقَدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فقالَتْ خَدِيجَةُ: كَلّا واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ، فانْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وكانَ امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ يَكْتُبُ الكِتابَ العِبْرانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالعِبْرانِيَّةِ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَ، وكانَ شيخًا كَبِيرًا قدْ عَمِيَ، فقالَتْ له خَدِيجَةُ: يا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أخِيكَ، فقالَ له ورَقَةُ: يا ابْنَ أخِي ماذا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَبَرَ ما رَأَى، فقالَ له ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ. ))
أول كلمةٍ نزلت في الوحي اقرأ، أساس هذا الدين العِلم، لكن العِلم واسعٌ جداً، اقرأ العِلم الذي يوصلك إلى الله، واقرأ باسم ربك، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من قلبٍ لا يخشَعُ، ومن دعاءٍ لا يُسمَعُ، ومن نَفسٍ لا تشبَعُ، ومن عِلمٍ لا ينفَعُ، أعوذُ بِكَ من هؤلاءِ الأربعِ ))
[ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد ]
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾
أول خصيصة تمتاز بها أيُّها الإنسان، أنَّ الله جلَّ جلاله أودع فيك القدرة الإدراكية، فإن لم تقرأ عطَّلت هذه القدرة وهبطت إلى مستوىً لا يليق بك، إن لم تقرأ، إن لم تتعلم، إن لم تطلب العِلم هبطت عن مستوى إنسانيتك إلى مستوى مخلوقاتٍ أُخرى أنت لست منها، ولا يليق هذا بك إطلاقاً، حينما تُفكر أن تأكل وأن تشرب، وأن تكسب المال، وأن تستمتع بالحياة فقط، فمعنى ذلك أنك هبطت عن مستوى إنسانيتك إلى مستوىً آخر لا يليق بك، لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾
(لتعلموا) هذه اللام لام التعليل، يعني علّة وجودنا على وجه الأرض أن نعلم، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) ، يعني لا شيء في حياتنا يعلو على طلب العِلم، لا شيء في حياتنا يعلو على حضور مجالس العِلم، لا شيء في حياتنا يعلو على أن نعرف لماذا خُلقنا؟ وبماذا كُلِّفنا؟ وماذا ينبغي أن نفعل؟ وماذا ينبغي أن ندَع؟ هذا الشيء الأساسي لأنَّ الجنَّة ثمنها العمل الصالح، والعمل الصالح سببه العِلم الصحيح، فما لم تعلم لن تعمل، وما لم تعمل لن تدخل الجنَّة، الجنَّة التي خلقنا لها أساسها العمل الصالح، والعمل الصالح أساسه العِلم الصحيح، قال تعالى:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾
قال: فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عنّي، فخرجت حتى إذا كنت وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، سمِع صوتاً مِلأ السماء يقول يا محمد: أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجُل، قدماه في أُفق السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أتقدَّم وما أتأخر، وجعلت أُحوِّل وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر من ناحيةٍ إلا رأيته كذلك، أينما نظر يرى جبريل عليه السلام مِلئ السماء، مِلئ الأفُق، يقول له: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فما زلت واقفاً ما أتقدَّم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسُلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقفٌ في مكاني ذلك، ثم انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتى أتيت خديجة، فجلست إليها، فقالت يا أبا القاسم: أين كنت؟ فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ، ثم حدثتها بالذي جرى، فقالت: "أبشِر يا ابن العم واثبُت، فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة" .
(( أنَّهُ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خرجَ فسمِعَ صوتًا منَ السَّماءِ يقولُ يا محمَّدُ أنتَ رسولُ اللَّهِ وأَنا جبريلُ، فوقَفتُ أنظرُ إليهِ فما أتقدَّمُ وما أتأخَّرُ، وجَعلتُ أصرِفُ وجهي في ناحيةِ آفاقِ السَّماءِ، فلا أنظرُ في ناحيةٍ منها إلَّا رأيتُهُ كذلِكَ ))
(( أبشِرْ يا بنَ عمِّ واثبُتْ، فوالذي نَفْسي بيَدِهِ، إنِّي لأرجو أنْ تكونَ نبيَّ هذه الأُمَّةِ، فواللهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصدُقُ الحديثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتُكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضَّيفَ، وتُعينُ على نَوائِبِ الحقِّ. ))
هذا هو دور الزوجة، دور مساعد، دور مُشجِّع، دور داعٍ، دور مُعين، أمّا الزوجة السيئة فإنها تُثبِّط هِمة زوجها، تحول بينه وبين طاعة الله، تُكلفه ما لا يطيق، تحمِله على معصية الله، تحمِله على كسب المال الحرام، تكون سبب قطيعته مع الله، لذلك قال الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)﴾
قال العلماء: هذه عداوة مآل وليست عداوة حال، يعني في النهاية سبب شقاء هذا الإنسان وسبب دخوله النار زوجته التي حمَّلته ما لا يُطيق، بينما السيدة خديجة رضي الله عنها التي تتعطر بذكرها المجالس ماذا قالت له؟ (أبشِرْ يا بنَ عمِّ واثبُتْ، فوالذي نَفْسي بيَدِهِ، إنِّي لأرجو أنْ تكونَ نبيَّ هذه الأُمَّةِ) ، ولها كلمة أُخرى يقشعر لها البدن: (واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ) ، هذه كلمة الفِطرة، بفطرتها أدركت، أنَّ المُحسِن لا يُخزيه الله أبداً.
ثم فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن كان في الجبل مرَّةً أُخرى فنظر فإذا جبريل، فأدركته منه رجفة، حتى جثا وهوى إلى الأرض، وانطلق إلى أهله يرتجف يقول: (زمّلوني دثّروني) ، ففعلوا وظلَّ يرتجف مما به من الورع، وإذا جبريل يناديه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، هذه هي الرواية الثانية.
(( قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وهو يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحْيِ، قالَ في حَديثِهِ: فَبَيْنا أنا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا المَلَكُ الذي جاءَنِي بحِراءٍ جالِسًا علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: فَجُئِثْتُ منه فَرَقًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فأنْزَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2) ورَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) والرُّجْزَ فاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5]، وهي الأوْثانُ، قالَ: ثُمَّ تَتابَعَ الوَحْيُ. ))
على كُلٍّ إن صحَّت الأولى أو الثانية، المُزَّمِّل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال بعضهم: إنَّ هذه الثياب التي تلفَّف بها هي ثياب النبوَّة، الإنسان أحياناً الله عزَّ وجل يُلبسه ثوب، فأرقى ثوب يلبسه الإنسان أن يكون نبياً مُرسلاً.
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، يا مَن تلفَّفت بثياب النبوَّة، يعني أعمالك، واستقامتك، وحُبُّك، وشوقك، وإخلاصك، وطاعتك، ثمن هذه الثياب التي ترتديها الآن، إنها ثياب النبوَّة.
أيُّها الإخوة الكرام، على كُلٍّ بعد أن جاء جبريل الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى عهد النوم، أُناسٌ كثيرون وما أكثرهم، همّهم النوم والاستمتاع بلذائذ الحياة، والاستغراق بنعيم الحياة، هؤلاء على دنياهم العريضة عند الله تافهون، ظلَّ عليه الصلاة والسلام قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً، لم يسترِح، ولم يسكُن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، ما أكثر الناس الذين يعيشون لأنفسهم، ولحظوظهم، ولشهواتهم، ولبيوتهم، ولأهلهم، ولأولادهم، مُتقوقِعون مُتمحوِرون حول مصالحهم، لا يعنيهم أحد، ماداموا قد حصَّلوا الدنيا العريضة لا يعنيهم أحد، هؤلاء كبارٌ في متاعهم صِغارٌ عند الله عزَّ وجل، بيوتهم كبيرة لكن حظوظهم من الله قليلة، أموالهم كثيرة لكن صِلتهم بالله ضعيفة، فحينما خاطب الله عزَّ وجل النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2)) .
علاقتنا بسورة المُزَّمِّل:
سؤال: ما علاقتنا بهذه السورة؟ نحن كما يقول مُعظمُنا لسنا أنبياء ولسنا مُرسلين، ولكننا إن شاء الله مؤمنون، ما علاقتنا بهذه السورة؟ علاقتنا بهذه السورة أن نَخرُج من ذواتنا إلى خدمة الخلق، أن نَخرُج من بيوتنا إلى الدعوة إلى الله، أن نَخرُج من مصالحنا إلى نشر الحقّ، أن يَعنينا أمر المسلمين، أن نحمِل همّ المسلمين، لا أن نكتفي بهموم بيوتنا وهموم أُسرِنا، أن يكون نشر الحقّ شُغلنا الشاغل، أن تكون خدمتنا للخلق هدفنا الكبير، هذه هي علاقتنا بهذه السورة، لم يعش لنفسه ولا لأهله، و ظلَّ قائماً على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ، عِبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض،عِبء البشرية كلها، وعِبء العقيدة كلها، عِبء الكفاح والجهاد في ميادين شتّى.
أنت إذا وقفت أمام قبره الشريف، تقول له: أشهد أنك رسول الله، بلَّغت الرسالة، وأديّت الأمانة، وهديت الأُمّة ونصحتها، وكشفت الغُمَّة، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد.
ليسأل كلٌّ مِنّا نفسه: ماذا فعلت أنا؟ ماذا أديّت من واجبات تجاه أُمّتي؟ تجاه المسلمين؟ تجاه عقيدتي؟ تجاه ديني؟ هل ساهمت بشكلٍ أو بآخر في ترسيخ دعائم الدين؟ هل ساهمت بعلمي، أو بمالي، أو بمكانتي، أو بخبرتي، أو بطاقتي، في سبيل رفع شأن المسلمين، التخفيف عنهم، في سبيل وصلهم بالله عزَّ وجل، إبعادهم عن الشيطان ومكائده؟ أليس لك دورٌ في الحياة؟ ( يا بشر لا صدقة ولا جهاد فبما تلقى الله إذاً) ؟؟
(( أتَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُبايِعُه فاشتَرَط عليَّ أشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه وتُصلِّي الخمسَ وتصومُ رمضانَ وتُؤدِّي الزَّكاةَ وتحُجُّ البيتَ وتُجاهِدُ في سبيلِ اللهِ فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ أمَّا اثنتانِ فلا أُطِيقُها الزَّكاةُ فواللهِ مالي إلا عشرُ ذَوْدٍ هنَّ رِسْلُ أهلي وحمولتُهم، وأمَّا الجهادُ فيزعُمونَ أنَّه مَن ولَّى الدُّبرَ فقد باء بغضبٍ من اللهِ فأخاف إذا حضَرني قتالٌ خشَعَت نفسي فكرِهْتُ الموتَ فقبَض رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدَه وحرَّكها، وقال: لا صدقةَ ولا جهادَ فبم تدخُلُ الجنَّةَ فبايَعْتُه عليهنَّ كلِّهنَّ ))
هذا السؤال الكبير، أنا إذا وقفت بين يدي الله عزَّ وجل ماذا أُجيبه؟ يا رب زيّنت بيتي! يا رب غيّرت فرش بيتي! يا رب فعلت كذا وكذا، يجب أن تقول له كلاماً مُتّصلاً بمهمتك في الحياة.
أيُّها الإخوة الكرام، العمر قصير والرسالة كبيرة جداً، والثمرة يانعة جداً، أنت هل تدري ماذا ينتظرك إذا كنت وفق منهج الله عزَّ وجل؟ تنتظرك جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين، أنُضيِّع هذه الجنَّة بسنواتٍ معدودة لا تقدِّم ولا تؤخر؟! الشيء الدقيق ماذا حملت من عِبء المسلمين؟ تعلمت القرآن وعلَّمته؟
أقول لكم هذه الحقيقة: لا تنشغل بما لا تملِك عن الذي تملِك، الله جلَّ جلاله لا يؤاخذك أبداً فيما لا تملِك، كم من قوةٍ غاشمة في العالم كله تكيد للمسلمين، يجب أن ننشغل فيما نملِك، تَملِك بيتك، تَملِك عملك، تَملِك جوارحك، تَملِك حواسك، تَملِك وقتك، تَملِك تفكيرك، هل يستطيع أحدٌ أن يمنعك أن تُصلّي في البيت؟ أن تُربّي أولادك؟ أن تقرأ القرآن؟ أن تُعلِّمه؟ أن تتعلمه؟ هل يمنعك أحداً أن تكون صادقاً في عملك، مستقيماً في معاملة الخلق؟ أبداً، هذا جهاد النفس والهوى الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام فجعله أعلى جهادٍ على الإطلاق، ثم جهاد الدعوة، قال تعالى:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾
هذان الجهادان، جهاد النفس والهوى، وجهاد الدعوة، مُتاحان لكل مسلمٍ في كل مكانٍ وزمان، وهذا إذا حصل كفاك الله ما تملِك، إذا أطعت الله فيما تملِك كفاك الله ما لا تملِك.
الإنسان هو المخلوق الأول الذي كرَّمه الله وخلقه للعبادة:
أيُّها الإخوة الكرام: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) إنها دعوة السماء إلى الأرض من خلال النبي عليه الصلاة والسلام.
وَتَحْسَبُ أنَّكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ وفيك انطَوَى العالمُ الأكبرَ
أنت مخلوق، أنت عددت نفسك إنساناً عادياً، أحياناً الإنسان لجهله بقيمته، يظن أنه (تكملة عدد)، إنسان من هؤلاء البشَر المُعذبين، من هؤلاء البشَر الضِعاف، أنت المخلوق الأول، أنت الذي كرَّمَك الله عزَّ وجل، أنت الذي خلقك لعبادته.
ومما جاء في الأثار القدسية من الكتب السماوية السابقة: "خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيُعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أُخالفك في رزقك، وعِزَّتي وجلالي إن لم ترضَ بِما قسَمْتُهُ لك فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة ، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي، وكنتَ عندي مَذْموماً"
(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويُعبَد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، ))
[ أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" وهو ضعيف ]
خيري إلى العباد نازل، وشرّهم إلي صاعد، أتحبَّب إليهم بنهمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهُم أفقر شيء إليّ.
يقول الله عزَّ وجل:
(( من جَاءَ بالحَسَنِة فلَهُ عَشرُ أمثالِها وأزيدُ، ومن جَاءَ بالسيّئةِ فجَزاؤهُ سيّئةٌ مثلُها أو أغفِر ))
يُروى أنَّ الله تعالى قال لداوود: " يا داوود، أنت تُريد وأنا أُريد، ولا يكون إلا ما أُريد، فإن سلّمت لما أُريد كفيتك ما تُريد، وإن لم تُسلِّم لما أُريد أتعبتك فيما تُريد، ثم لا يكون إلا ما أُريد" .
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) يخاطب الله عزَّ وجل نبيه الكريم: (قُمِ)، هناك قيام نفسي، الإنسان الفاسق الفاجر خلد إلى الأرض واتبع هواه، يعني سعادته الكبرى في النوم، والاسترخاء، والتمتع بالملذات، والشهوات، والمناظر المُثيرة، هذا أخلد إلى الأرض واتبع هواه، لكن المؤمن يُخاطَب من خلال النبي صلى الله عليه وسلم (قُمِ)، قال تعالى:
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)﴾
يعني اذهب إلى الله، إذا ذهبت تُطيعه فقد ذهبت إليه، الإنسان لا ينبغي أن يُستهلَك، لا ينبغي أن يكون في زحمة الحياة ورقةً في مهبّ الريح، تذهب يمنةً ويسرةً دون اختيارٍ منها.
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ) للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعِبء الثقيل المُهيأ لك، قُم للجُهد والنَصَب، والكدِّ، والتعب.
أيُّها الإخوة الكرام، والله الذي لا إله إلا هو، لا يمكن أن يشُمّ المؤمن رائحة الجنَّة إن لم يبذِل، والدليل قوله تعالى:
﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)﴾
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
هناك نشاط في الدين سهل جداً، السماع، والحديث، والثرثرة، والتعليقات، ونقل الكلام، قضية سهلة جداً، لكن الله يمتحنك، يُريد مصداقية كلامك، يُريد ما إذا كنت صادقاً أم غير صادق، تكلم عن نفسك ما شئت، لكن الله عزَّ وجل متكفّلٌ أن يجعلك في وضعٍ تُكشَف تماماً على حقيقتك، الإنسان لا بُدَّ من أن يُحجِّمه الله عزَّ وجل، إن عاجلاً أو آجلاً، قُل ما تشاء، قُل ما تريد، ضع نفسك في أي مرتبة تريد، قُل: أنا أكبر مؤمن، هذا كلامٌ بكلام، لكن الله متكفّلٌ أن يضعك في ظرفٍ تُكشَف حقيقتك، ويُعرَف مَعدنُك، وتنكشف على حقيقتك.
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ) دعوة السماء، صوت الكبير المُتعال، قُم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المُهيأ لك، قُم للجُهد والنَصَب والكدِّ والتعب، قُم فقد مضى وقت النوم والراحة، قُم وتهيأ لهذا الأمر العظيم واستعد له، كلمةٌ عظيمة، أحياناً الإنسان ينهض من فراشه وكأن في الفراش عقرباً! ينهض ليفعل شيئاً، ماذا فعلت؟ اسأل نفسك سؤال دقيق ماذا فعلت؟ حينما تقف بين يدي الله عزَّ وجل؟ ماذا قدّمت؟ أي جُهدٍ قدّمت؟ المؤمن له عند الله سجلٌ ذهبي، أعمالٌ مُشرِّفة، أعمالٌ صالحةٌ كبيرة.
إنّها كلمةٌ رهيبةٌ عظيمة، تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت، تدفع به إلى الخِضَمّ بين الزعازع والأنواء، وبين الشدِّ والجذب، في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواءً بسواء، اخرُج من ذاتك، اخرُج من مشكلاتك، اخرُج من هموم بيتك، اخرُج من انتماءاتك الضيّقة، وانتمِ إلى هذا الكون العظيم، إلى خالقه الكبير، إلى طاعته المُسعِدة، إلى القُرب منه.
إن كلمة (قُم) فيها إيحاءات كثيرة جداً.
من هو الإنسان العظيم عند الله؟
يا أيُّها الإخوة دققوا في هذه الكلمات: إنَّ الذي يعيش لنفسه قد يعيش مُستريحاً، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، ما أكثر الناس اليوم يعيش لنفسه، موفَّق في عمله ودخله كبير، حلّ كل مشكلاته المادية، يعيش لنفسه مستريحاً لكنه يعيش ويموت صغيراً عند الله عزَّ وجل، فأما الكبير هو الذي يحمل العِبء الكبير، ألم يقل الشاعر:
ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
العظماء يَشقون في النعيم، والتافهون يَسعدون في الجحيم، إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مُستريحاً ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير هو الذي يحمل هذا العِبء الكبير، انظر ما الذي يهمُك، قل لي ما الذي يهمُك؟ أقول لك من أنت، ما الذي يُقلِقك؟ أقول لك من أنت، ما الذي يعنيك؟ أقول لك من أنت.
فما له وللنوم عليه الصلاة والسلام؟! ما له و للراحة؟! ما له وللفراش الدافئ، والعيش الهادئ، والمتاع المريح؟! لقد عَرَف النبي عليه الصلاة والسلام حقيقة الأمر وقدَّره، مضى عهد النوم وبدأ عهد الجدِّ والتعب، و عهد تحمُّل التَبِعات، وعهد نشر الدعوة، وعهد مُلاقاة الخصوم، وعهد الانصراف عن الجواذب ومجابهة العَقَبات، هذه حقيقة الإسلام، أنت مؤمن، ليكُن همُّك كبيراً، هناك إنسان قبره عمله، عمله قبر وانتهى، قبره أهله، هموم بيته فقط وانتهى، أمّا المؤمن له همٌّ كبير، وله هدفٌ عظيم، و يحمل رسالة، ويشعر بوطء حمل الأمانة، فلذلك يسعى وبقدرِ همته يُجري الله على يده الخير.
(( روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن قتادة عن سعيد بن هشام، أنه أتى ابن عباسٍ فسأله عن الوتر، فقال: ألا أُنبئك بأعلم أهل الأرض بوترِ رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: نعم، قال: ائتِ عائشة فاسألها ثم ارجع فأخبرني بردِّها عليك، يقول سعيد بن هشام قلت:
يا أمَّ المؤمنينَ أنبِئيني عَن خُلقِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ ؟ قالَت : أليسَ تقرَأُ القرآنَ؟! قالَ قلتُ بلى قالَت فإنَّ خُلُقَ نبيِّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ القرآنَ فَهَمَمتُ أن أقومَ فبدا لي قيامُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فقالَ يا أمَّ المؤمنينَ أنبئيني عن قيامِ نبيِّ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَت أليسَ تقرأُ هذِهِ السُّورةَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قلتُ بلى قالَت فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ افترضَ قيامَ اللَّيلِ في أوَّلِ هذِهِ السُّورةِ فقامَ نبيُّ اللَّهِ وأصحابُهُ حولًا حتَّى انتفخَت أقدامُهم وأمسَكَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ خاتمتَها اثنَى عشرَ شَهرًا ثُمَّ أنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ التَّخفيفَ في آخرِ هذِهِ السُّورةِ فصارَ قيامُ اللَّيلِ تطوُّعًا بعدَ أن كانَ فريضةً فَهممتُ أن أقومَ فبدَا لي وترُ رسولِ اللَّهِ فقُلتُ يا أمَّ المؤمنينَ أنبئيني عن وترِ رسولِ اللَّهِ قالَت كنَّا نعدُّ لَهُ سواكَهُ وطَهورَهُ فَيبعثُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لما شاءَ أن يبعثَهُ منَ اللَّيلِ فيتسوَّكُ ويتوضَّأُ ويصلِّي ثمانيَ رَكعاتٍ لا يجلسُ فيهنَّ إلَّا عِندَ الثَّامنةِ يجلسُ فيذْكرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ ويدعو ثمَّ يسلِّمُ تسليمًا يسمعُنا ثمَّ يصلِّي رَكعتينِ وَهوَ جالسٌ بعدَ ما يسلِّمُ ثمَّ يصلِّي رَكعةً فتلْكَ إحدى عَشرةَ رَكعةً يا بُنيَّ فلمَّا أسنَّ رسولُ اللَّهِ وأخذَ اللَّحمَ أوترَ بسبعٍ وصلَّى رَكعتينِ وَهوَ جالسٌ بعدَ ما سلَّم فتِلْكَ تسعُ رَكعاتٍ يا بنيَّ وَكانَ رسولُ اللَّهِ إذا صلَّى صلاةً أحبَّ أن يدومَ عليْها وَكانَ إذا شغلَهُ عن قيامِ اللَّيلِ نومٌ أو مرضٌ أو وجعٌ صلَّى منَ النَّهارِ اثنتَي عشرةَ رَكعةً ولا أعلمُ أنَّ نبيَّ اللَّهِ قرأَ القرآنَ كلَّهُ في ليلةٍ ولا قامَ ليلةً كاملةً حتَّى الصَّباحَ ولا صامَ شَهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ. ))
هذا كلام السيدة عائشة عن أخلاق رسول الله، وعن قيامه لليل وعن وتره، والحقيقة لا أكتمكم أنَّ قراءة هذه السورة، وفَهَم تفسيرها، يُصغِّر الإنسان، تشعُر أنك صغير جداً، تشعُر أنك لا شيء أمام هذه العبادة، وأمام هذا الشوق، وهذا الحُبّ، وهذا الإقبال، وهذه الهِمَّة، ولكن الذي أراه أنَّ الإنسان إذا صَغُر قد يكبُر، أمّا إذا رأى نفسه كبيراً لا يكبُر.
يجب أن تعرف ما العبادة التي كان عليها رسول الله؟ يجب أن تعرف ما الهِمَّة التي كان يتحلى بها رسول الله؟ ما الشوق الذي كان يعتلج بقلب رسول الله؟ تقرأ هذا فتصغُر، لكننا إذا صَغرنا نكبُر، أما إذا رأينا أنفسنا كُبراء لا نكبُر أبداً.
الحقيقة قد يستقل أحدنا كل عمله، وكل عبادته، و كل صلاته، وكل صومه أمام هذا، ولكن هذا هو النبي، هذا الذي جعله الله عزَّ وجل في مقامٍ محمود:
(( سلوا اللهُ لي الوسيلةَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ! وما الوسيلةُ؟! قال: أعلى درجةٍ من الجنةِ، لا ينالها إلا رجلٌ واحدٌ، أرجوا أن أكون أنا هوَ . ))
كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)﴾
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون مَطلَع هذه السورة باعثاً لنا جميعاً وأنا معكم، على قيام الليل وعلى إتقان العبادة، وعلى العمل الصالح الذي نلقاه في قبرنا، والذي لا ينبغي أن نغفل عنه لحظة، ساعة مُغادرة الدنيا، ما مِنّا من أحدٍ إلا وسيُغادر الدنيا إن عاجلاً أو آجلاً، ولا ينفعه في قبره إلا عمله الصالح.
وقد قيل: "يا عبد الله إن لك قريناً تُدفَن معه وهو حي ويُدفَن معك وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك ألا وهو عملك" ، الموت يأتي بُغتةً، والقبر صندوق العمل.
يا أيُّها الإخوة الكرام سبُل الصلاح، سبُل العمل الصالح مفتوحةٌ في كل العصور، ومرّة ثانية أُؤكد لكم لا تشتكي، ولا تقل المجتمع فسَد.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
عليك من نفسك، عليك من أسرتك، عليك من عملك، اضمن لي أن تُقيم الإسلام في بيتك وفي عملك، وأقول لك سوف ترى حال المسلمين في حالٍ آخر، لا تنشغل بما لا تستطيع عن الذي تستطيع، لا تنشغل بما لا تستطيع أن تفعل معه شيئاً عن شيءٍ بإمكانك أن تُغيّره، فالذي يُهمِل ما كَلّفه الله به ويتطلع إلى ما لا يستطيع أن يُغيّره، يقع في طريقٍ مسدود.
يكفي مطلع هذه السورة كي تحثُّنا على أن نُحسِن علاقتنا بالله عزَّ وجل، وأن نسعَد بقربه، وأن نكون عند الأمر والنهي من أجل أن نستحق أن يكفينا الله ما لا نستطيع عليه.
أيُّها الإخوة الكرام، في درسٍ قادم إن شاء الله نتابع تفسير هذه السورة (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) هذا كله استعداد، (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) يعني كيف تطمع أن تؤثِّر في الآخرين، إن لم يكن لك مع الله صِلةٌ متينة؟ ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6))
ولكن من باب التطمين: من صلّى الفجر في جماعة، ومن صلّى العشاء في جماعة، فكأنه قام الليل.
(( دَخَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ المَسْجِدَ بَعْدَ صَلَاةِ المَغْرِبِ، فَقَعَدَ وَحْدَهُ، فَقَعَدْتُ إلَيْهِ فَقالَ: يا ابْنَ أَخِي، سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ. ))
صلاة الفجر في جماعة والعشاء في جماعة نوعٌ من قيام الليل، ومَن لم يقدِر على قيام الليل، فقيام الليل ليس فرضاً على المؤمنين، كان فرضاً ثم أصبح سُنَّةً، لكن يمكنك أن تُصلّي ركعتين أو أربع قبل أذان الفجر فهذا قيامٌ لليل.
على كُلٍ لا بُدَّ من أن تسعَد بالقرب من الله، لا بُدَّ من أن تُشحَن في هذه الساعة حتى تستطيع أن تُفرِغ هذه الشحنة مع الناس تأثيراً وهدايةً ومعونةً، الإنسان الذي يفقد شيئاً لا يُعطيه، إن لم تُشحَن فلن تستطيع أن تؤثِّر، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أيُّها المؤمنون قوموا إلى معرفة الله، قوموا إلى تطبيق أمره، قوموا إلى جهاد أنفسكم وأهوائكم، قوموا إلى تعلم القرآن وتعليمه، هذا هو الذي ينفعنا عند موتنا والله سبحانه وتعالى لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.
الملف مدقق