الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإنسان إما أن يكون عبداً للرحمن وإما أن يكون عبداً للشيطان وشتان بين الاثنين:
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث عشر والأخير من سورة الفرقان.
نظراً لأهمية الآيات الأخيرة التي تنتهي بها سورة الفرقان والتي تتحدث عن عباد الرحمن نبدأ شرح هذه الآيات من أولها، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾ الإنسان إما أن يكون عبداً للرحمن، وإما أن يكون عبداً للشيطان، وقد وَرَدَ في القرآن الكريم أن الناس الكفار هم عبدة الطاغوت، فشتانَ بين أن يكون الإنسان عبداً للرحمن وبين أن يكون عبداً للشيطان، لو أنك تركت أفكار هؤلاء وهؤلاء ونظرت إلى سلوكهم، لرأيت عبد الرحمن عبداً مُنيباً، عبداً طاهر القلب، عبداً مستقيم اللسان، عبداً طاهر الجوارح، عبداً صادقاً، عبداً أميناً، عبداً متواضعاً، عبداً يحبُّ الخير، يؤثر الناس على نفسه، إن كل صفات الخير يجب أن تكون في عباد الرحمن، وإن صفات الكِبْر والبُعد والجفوة والغلظة والأنانية والقسوة والظلم هي من صفات عباد الشيطان: عن عبد الله بن عم :
(( يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌّ هين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب. ))
[ صحيح الجامع : حكم المحدث: حسن ]
لا يستحق الإنسان أن يكون عبداً للرحمن إلا إذا انصاع لأوامر الرحمن:
الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات يقول:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾
[ سورة العلق ]
أي هذا الذين ينهى العباد عن الصلاة، هذا الذي ينهى عن الصلاة أرأيت إليه؟ أنظرت إلى قلبه وما فيه من حقدٍ؟ أنظرت إلى لسانه وما فيه من فُحْشٍ؟ أنظرت إلى تفكيره وما فيه من سُقْمٍ؟ أنظرت إلى أعضائه وما فيها من تطاولٍ؟ أنظرت إليه؟ سلوك المؤمن يكفيه دليلاً على أنه على الحق المبين، وسلوك الكافر المُنحرف وما فيه من عدوانٍ وانحرافٍ وتجاوزٍ يكفيه دليلاً على أنه منقطعٌ عن الله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى حينما شَرَّفَ المؤمنين ونسبهم إلى ذاته فقال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ هذه النسبة تشريفٌ للإنسان فينبغي أن يرتقى إلى مستواها.
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ الحقيقة لا يستحق الإنسان أن يكون عبداً للرحمن إلا إذا انصاع بقلبه، وعقله، وحواسه، وجوارحه، بعمله، ونشاطاته، بلهوه، وجده، بإقامته، وسفره، بعزوبيَّته، وزواجه، بغناه، وفقره، لا يستحق الإنسان أن يكون عبداً للرحمن إلا إذا انصاع لأوامر الرحمن، أن تكون عبداً للرحمن وأنت مقيمٌ على معصيته هذا من رابع المُستحيلات، أن تكون عبداً للرحمن ولك منهجٌ في الحياة ليس كمنهج الله عزَّ وجل هذا مستحيل، فكلمة عبد الرحمن أي انصاع طواعيةً والمحبة تملأ قلبه إلى كل أوامره ونواهيه، لذلك: طوبى لمن وسعته السُنَّة، ولم تستهوه البدعة، هؤلاء هم عباد الرحمن.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لـعمري في المقال بـديع
لو كـان حبك صادقاً لأطعتـــــه إن الـمحب لمن يحب يطيـعُ
* * *
العبودية لله عزَّ وجل والطاعة التامة له وأكمل مقامٍ للإنسان هو مقام العبودية :
قبل أن تقول: أنا من عباد الرحمن، وأنا عبدٌ للرحمن، يجب أن تعلم أن العبودية تعني الطاعة التامة، وفي الإسلام منهجٌ تفصيلي لكل حركات الإنسان وسكناته، فمعنى العبودية لله عزَّ وجل الطاعة التامة لله عزَّ وجل.
وفي الحياة الإنسان أكمل مقامٍ يكون فيه هو مقام العبودية، هناك مقام الألوهية، وهناك مقام العبودية، فما دمت من بني البشر، ما دُمت مخلوقاً لله عزَّ وجل فأكمل موقفٍ تقفه أن تكون عبداً لله، هذا الذي يقول: أنا، تجاوز مقام العبودية، هذا الذي يقول: فعلت، وينسب الفعل إلى ذاته، تجاوز مقام العبودية، وهذا الذي يقول: عندي، تجاوز مقام العبودية، هذا الذي يقول: لي، تجاوز مقام العبودية، هذا الذي يرى لنفسه وجوداً مع الله عزَّ وجل تجاوز مقام العبودية، هذا الذي يريد أن يحاسب الله على أفعاله تجاوز مقام العبودية، مقام العبودية أن تكون طائعاً، مستسلماً، راضياً لقسمة الله عزَّ وجل، هذا الذي يعترض على حكم الله تجاوز مقام العبودية، هذا الذي لا يوقن أن كل أفعال الله رحمة تجاوز مقام العبودية، فالعبودية لله عزَّ وجل تعني الاستسلام القلبي، واستسلام الجوارح والحواس، واستسلام الحركات والسكنات، واستسلام كل النشاطات إلى شرع الله وإلى أمره، لذلك لقبٌ كبير ومقامٌ عظيم أن تبلغه وهو أن تكون عبداً للرحمن.
يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو في سدرة المنتهى، سأل الله عزَّ وجل أن يكون عبده، أي أن يكون في مستوى العبودية لله، وكلما عبدت الله عزَّ وجل زادك الله رفعةً، وكلما عبدت غيره زادك الله ضَعَةً، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم.
إذا كنت عبداً لله فخير سيِّدك لك وإذا كنت عبداً لغيره فخيرُك لسيدك:
العبودية لله تعني أن كل خير السيد لعبده ؛ بينما عبودية الإنسان تعني أن كل خير العبد لسيده، شتان بين أن تعبد الله وأن تعبد سواه، إذا عبدت الله فكل ما عند الله من خيرٍ هو لك ؛ من خيرٍ مادي وخيرٍ معنوي، من رفعةٍ، من طمأنينةٍ، من استقرارٍ، من حبورٍ، من سعادةٍ، إذا عبدت الله فخير سيِّدك لك، وإذا عبد سواه فخيرُك لسيدك.
هذه بعض المعاني التي تؤخذ من قول الله عزَّ وجل: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ إذا كنت عبداً للرحمن حقاً فَتِهْ بهذه العبودية، سبحانك إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، أتكون عبداً لله ويذلك الله عزَّ وجل؟! هذا مستحيل.
اجعل لربك كل عزك يستقر ويــثـبـت فإذا اعـتززت بمـن يموت فإن عزك ميت
* * *
يمشون على الأرض أي حركتهم ونشاطهم وتفاعلهم وهم على وجه الأرض:
قلت لكم في الدرس الماضي: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ﴾ معنى يمشون على الأرض يمضون حياتهم على الأرض، في شبابهم، في رجولتهم، في كهولتهم، في شيخوختهم، إنهم يمشون على الأرض في عملهم، في راحتهم، في لهوهم، في جِدِّهِم، في إقامتهم، في سفرهم، يمشون على الأرض أي حركتهم على وجه الأرض، نشاطهم على وجه الأرض، تفاعلهم وهم على وجه الأرض هذا معنى كلمة: ﴿يَمْشُونَ﴾ :
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)﴾
[ سورة النمل ]
هوناً لا تعني أنه يمشي ببطء وإنما يمشي مشية من يرى أن الله يراقبه:
﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ لهذه الكلمة معانٍ عِدَّة، المعنى الأول: أنه يمشي مشيةً متواضعة على سجيته، وعلى طبيعته، من دون كِبْرٍ، ولا استعلاءٍ، ولا ميل عَطِفٍ، ولا شموخ أنفٍ، ولا تصعير خدٍ، مشية المؤمن مشية رائعة، مشيةٌ متواضعة، وصِفَ النبي عليه الصلاة والسلام في مشيته فقيل: إذا زال زالَ تَقَلُّعَاً، أي رفع رجله عن الأرض بقوة، إذا زالَ زال تقلعاً ويخطو تَكَفُّؤاً، أي يمشي بهدفٍ كبير، ويخطو تكفؤاً، ويمشي هوناً في سكينةٍ ووقار، سريع المِشية، واسع الخطوة، إذا مشى فكأنما ينحطُّ من صبب، من مرتفع، مشيةٌ جادة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا سار لم يلتفت، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقول عنه السيدة عائشة: " ما رأيت أزهد منه كان إذا سار أسرع ". إذاً معنى هوناً لا تعني أنه يمشي ببطء، أي أنه يمشي مشيةً طبيعية، لا تكلف فيها، لا كبر فيها، لا تصعير خد، لا إمالة عطف، لا شموخ أنف، يمشي مشيةً متواضعة، يمشي مشية العباد لا مشية الآلهة، يمشي مشية من يرى أن الله يراقبه، هناك أناسٌ يُؤلِّهون أنفسهم، هذا العبد المؤمن يمشي مشيةً متواضعة.
الهَوْن بالمعنى الثاني أنهم يمشون باتجاه هدفٍ كبير:
شيءٌ آخر قال بعض العلماء: " يمشون هوناً أي في سكينةٍ ووقار، وفي حلمٍ وتواضع، وفي اقتصادٍ وتؤدَة، وفي حسن سَمْت، هذه المعاني كلها مستفادة من قول الله عزَّ وجل: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ .
شيءٌ آخر ؛ الهَوْن بالمعنى الثاني هم يمشون باتجاه هدفٍ كبير، فدائماً يتفحَّصون كل شيء، هل هذا الشيء في خدمة هذا الهدف أما يعيقهم عن هدفهم؟ إذا كنت متجهاً إلى بلد، وفي هذا البلد خيرٌ كبير، وأنت معلق أهميةٌ كبرى على وصولك لهذا البلد في الوقت المعيَّن، فأي فرعٍ في الطريق إذا دخلت فيه قد يحولُ بينك وبين الوصول في الوقت المناسب، وأي مركبةٍ أسرع من مركبتك قد تستقلها لتبلغ الهدف في وقتٍ مبكر، إنك إن فعلت هذا، هذا الذي يقصد هدفاً معيناً يتفحَّص كل الوسائل، إما أن تكون هذه الوسيلة إيجابيةً في نقله إلى هدفه وإما أن تكون سلبيةً، إما أن تزيده هذه الوسيلة قُرباً وإما أن تزيده بعداً، لذلك هو يقف، يفكِّر، يتأمَّل، يتفحَّص، في كل حركاته، هل هذه الزوجة إذا خطبها وتزوجها تعينه على أمر دينه أم تبعده عن ربِّه؟ يأخذ قراره بالموافقة أو الرفض بناءً على علاقة الزوجة بوجهته إلى الله عزّ وجل.
هل هذه الحرفة تُسرع به الخُطا إلى الله أم تبعده عن الله؟ يتخذ قراراً بقبول هذه الحرفة أو رفضها في ضوء علاقتها بهدفه، هل هذا السفر إلى هذا البلد يزيده قرباً من الله أم بعداً عنه؟ يتخذ قراره بالموافقة أو الرفض بناءً على علاقة هذا السفر بقربه من الله، هل السكْنَى في هذا المنزل تعينه على بلوغه هدفه أم ربما بحسب الجو الموبوء المحيط به تبعده عن الله عزَّ وجل؟ هل إذا حضر هذا الاحتفال يزيده قرباً من الله عزَّ وجل أم بعداً عنه؟ هوناً، يفكر، لا يندفع اندفاعاً أعمى، لا يندفع إلى ما يتراءى له أنه خير، يتفحص الخير بشكلٍ دقيق ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾، متبصرون، متأمِّلون، مدققون، محققون، هناك أشياء تَلْمَع ولكنها خطرة، وهناك أشياء لا تلمع ولكنها مفيدة، فعبد الرحمن لا يؤخذ بالوميض، يؤخذ بالحقيقة، فكم من شيءٍ يستهوي الناس هو عند الله دمارٌ لصاحبه ! وكم من شيءٍ ينفِّر الناس هو عند الله خيرٌ لصاحبه ! فالبطولة أن تعرف ما ينفعك في النهاية، حينما يشرف الإنسان على الموت، وحينما يأتيه ملك الموت، وحينما ينتقل من دار الغرور إلى دار الخلود عندئذٍ يعلم المؤمنون كيف أن طاعتهم لربهم وبعدهم عن شهوات الدنيا نفعتهم أيَّما نفع.
معان متعددة لكلمة (هوناً):
بعض المفسرين قال: " يمشون على الأرض هوناً أي لا يفسدون في الأرض " ، فمن أفسد في الأرض فهو لا يمشي هوناً، تسرَّع، أفسد علاقات الناس بعضها ببعض، أفسد أخلاق الناس بكتابٍ ألَّفَهُ، أفسد عقائد الناس بفكرٍ روَّجَهُ، أفسد شعور الشباب بقصةٍ ماجنةٍ ألَّفها، هؤلاء الذين يفسدون في أقوالهم، وفي أعمالهم، وفي كتاباتهم، وفي حركاتهم، هؤلاء لا يمشون على الأرض هوناً، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ .
بعضهم قال: " هم الذي لا يمشون في إفسادٍ ومعصية، لا يعصي الله ولا يفسد العلاقات "، هذا معنى هوناً.
ابن عباسٍ رضي الله عنهما يقول: " يمشون هوناً أي بالطاعة والمعروف والتواضع "، علماء آخرون فسروا هذه الآية يمشون هوناً: " أي إن جَهِلَ عليهم جاهلٌ لا يجهلون "، لا يستفزهم جاهل، لا يسمحون لإنسانٍ جاهل أن يستفزَّهم، هم كالجبال رسوخاً، بعضهم قال: " يشمون هوناً أي لا يتكبرون "، هذه المعاني المتفرقة، يجمعها معنىً واحد وهو أن علمهم بالله، وخوفهم منه، ومعرفتهم بأحكامه، وخشيتهم من عذابه وعقابه، كل هذه المعاني مجتمعةً تدفعهم لأن يكونوا كما وصفهم الله عزَّ وجل يمشون على الأرض هوناً، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾ قبل أن يقول: لن أحضر هذا الدرس، يجب أن يوازن الأرباح والخسائر، من أجل أن يجامل صديقاً ضَيَّعَ مجلس عِلم، ضيع درساً هو حلقةٌ في سلسلة، قبل أن يوافق على هذا المشروع الذي يُبْعِدُهُ عن مجالس العِلم يفكر تفكيراً سديداً أن حياته في طلب العلم، وأن سعادته أن يكون مع أهل الحق، فكيف يؤثر أن يغادر هذا المكان الطاهر، مكاناً جعل الله فيه الحق إلى مكانٍ كله فسقٌ ومعصية، قبل أن تغريك المغريات في السفر، قبل أن تسمع أن مئات الألوف تجمعها في عامٍ واحد في هذا البلد، امشِ هوناً، فكر في مصير المال إذا ضيَّعت دينك.
الجهل أن تجهل ما عند الله من ثواب وعقاب وأن تجهل حقيقة الدنيا:
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾ الجاهلون الذي لا يعرفون الله، قد يحصِّل الإنسان علم الدنيا، وهو عند الله جاهل، فالجهل أن تجهل ما عند الله من ثواب، وأن تجهل ما عنده من عقاب، وأن تجهل ما في أوامر الدين من حكمة، وأن تجهل حقيقة الدنيا، وأن تجهل أين كنت؟ وإلى أين المصير؟ وأن تجهل لماذا خلقت؟ هذا هو الجهل، فلو حَصَّلَ الإنسان أعلى شهادة ولم يكن بالمستوى المطلوب فهو جاهل، لذلك ربنا سبحانه وتعالى حينما وصف الكفار قال:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾
[ سورة الروم ]
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ أي وقتهم ثمين، ليس عندهم وقتٌ يضيِّعونه مع الجهلة، مع السُفهاء، والسلام هنا ليس من التسليم بل من السلامة، أي ينجون من جهل الجهلاء، ومن سَفَه السفهاء، ومن حُمق الحمقى، ومن ضلال الضالين، ومن خزعبلات المنجمين، يبتعدون عن هذه المجتمعات الموبوءة، عن أهل الفساد، عن أهل الجهل، عن أهل الانحراف، لا يلوِّثون نفوسهم بمصاحبتهم.
الله سبحانه وتعالى جَلَّت حكمته لا يجمع على عبده خوفين وأمنين:
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ هذا الوقار، وهذه الحكمة، وهذا التبصُّر الذي أنعم الله به عليهم بسبب عباداتهم التي يؤدّونها في الليل، ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)﴾ أي يصلون، يصلون صلاة الليل، وفي صلاة الليل الخير الكثير:
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا(6)﴾
[ سورة المزمل ]
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)﴾ من علامة المؤمن أنه يخاف من الله عزَّ وجل، هذا الذي يطمئن سوف يخاف، والذي يخاف سيطمئن، والله سبحانه وتعالى جَلَّت حكمته لا يجمع على عبده خوفين وأمنين، إن أَمِنَهُ في الدنيا أخافه يوم القيامة، وإن خافه في الدنيا أمَّنَهُ يوم القيامة، فمن علامات المؤمن أنه قلقٌ دوماً قلقاً مقدساً، يقلق على مكانته عند الله، هل هو كما ينبغي؟ هل في عمله خلل؟ هل في واجباته تقصير؟ هل في نيَّته شائبة، هل يرجو الدنيا وهو لا يدري؟ يخافون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله بن مسعود:
(( رأس الحكمة مخافة الله. ))
[ ضعيف الجامع ]
كل عذاب الدنيا ينتهي إلى أمدٍ معين لكن عذاب جهنم عذابٌ أبديّ سرمدي:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ سيدنا علي رضي الله عنه يقول مخاطباً ابنه الحسن: " يا بُني ما خيرٌ بعده النار بخيْر، وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية " ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ أي كان عذاباً ملازماً، العذاب في الدنيا يمضي، هذا المرض له آلامٌ تنتهي بعد أسبوع، وهذه الحُمَّى فيها حرارة مرتفعة تنتهي بعد يومين، وهذه العملية الجراحية فيها تخديرٌ وبعد التخدير آلامٌ لعشرين ساعةٍ تقريباً، فكل عذاب الدنيا ينتهي إلى أمدٍ معين، لكن عذاب جهنم عذابٌ أبديٌ سرمدي: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾ أي أسوأ مكانٍ يقيم فيه الإنسان أن يكون من أهل النار، وأسوأُ مكانٍ يقيم فيه الإنسان وأسوأُ مكانٍ يستقر به هو أن يكون من أهل النار، ما شرٌ بعده الجنة بشر، وما خيرٌ بعده النار بخير، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية.
المعاني المتعددة لكلمتي (إسراف) و (تقتير):
﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ ورد في هذه الآية تفسيراتٌ كثيرة، قال بعض العلماء: " من أنفق في غير طاعة الله درهماً واحداً فهو إسراف، ومن أمسك درهمه عن طاعة الله فهو تقتير "، إذا أنفقت درهماً واحداً في غير طاعة الله فهو إسراف، وإذا أمسكت الإنفاق عن طاعة الله فهو تقتير، وأما الإنفاق الذي وصفه الله عزَّ وجل بأنه قوام أن تنفق في طاعة الله، ولا إسراف في الخير، إن كان لا خير في الإسراف فلا إسراف في الخير، هذا المعنى الأول.
بعضهم قال: " من أنفق مئة ألف درهمٍ في حقّ فليس مسرفاً، ومن أنفق درهماً واحداً في غير حقّ فقد أسرف، ومن منع من حقّ فقد قَتَّر " هذا هو المعنى الثاني لمعنى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ .
بعضهم قال: " النفقة في معصية الله أمرٌ محظور في الشريعة قليله وكثيره، ولكن الآية تنصرف إلى المُباحات " ، أي في شراء الطعام، في شراء اللباس، في تزيين البَيت، في فرش البيت، في هذه المُباحات التي أُبيحت للمؤمنين، المؤمنون إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، أي في شراء الطعام أو في شراء اللباس أو في شراء الحاجات، بينَ بين، بين الحِرمان وبين البذخ، هكذا قال بعض العلماء: " إن هذه الآية تنصرف إلى المباحات وحدها، لأن إنفاق المال في معصية الله محرمٌ شرعاً، قليله وكثيره، جليله وحقيره "، ولكن الآية تنصرف إلى المباحات فقط.
بعضهم قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ ألا يفرط في الإنفاق فيضيِّع أصحاب الحقوق، امرأتك لها عليك حق، أولادك لهم عليك حق، فإذا أنفقت مسرفاً في وجهٍ آخر على حساب أصحاب الحقوق فهذا إسراف، إذا أنفقت في أي وجه على حساب أصحاب الحقوق فهذا إسراف، وإذا قَصَّرْتَ في إعطاء من لهم حقّ عليك فهذا تقتير، وقد قيل : عن جبير بن مطعم :
(( ليسَ منَّا منْ وسَّعَ اللهُ عليهِ ثمَّ قترَ على عيالِهِ. ))
[ السيوطي : الجامع الصغير خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]
أي هناك أصحاب الحقوق، زوجتك لها عليك حق، أولادك لهم عليك حق، والدُك ووالدتك لهما عليك حق، إخوتك لهم عليك حق، أخواتك لهم عليك حق، جيرانك لهم عليك حق، فإذا أنفقت نفقةً على حساب أصحاب الحقوق فهذا إسراف، وإذا قَصَّرْتَ عن أصحاب الحقوق فهذا تقتير، والموقف الأكمل أن تكون بين الإسراف والتقتير.
بعضهم قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ هذه الآية تطبق على كل واحدٍ من الناس بحسب حاله، فكل إنسان له مستوى في الدخل، وله مستوى في كسب المال، وله مستوى في الإنفاق، وله مستوى في المَعيشة، فبحسب حاله، وعياله، وخفة ظهره، وصبره، وجلده على الكسب، وصبره في الدين، هذه العوامل يجب أن تجتمع، هناك من إذا قَتَّر الله عليه لا يصبر، فهذا إذا أنفق كل ماله نقول له: قف، إنك إن أنفقت مالك كله ربما اختل توازنك في الإيمان، ربما كفرت بالله، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذ إلا من سيدنا الصديق مالَه كله، قال:" يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ " قال: " الله ورسوله " .
عوامل خاصة تتحكم بمقدار الإسراف والتقتير:
يجب أن تعرف مدى باعِكَ في الدين، أنت في أي مستوى؟ هل إذا أنفقت كل مالك وأصبت بفقرٍ شديد هل تصبر أم لا تصبر؟ إن كنت لا تصبر فلا ينبغي أن تنفق مالك كله، من كان في دينه رقَّة أو ضعف لا ينبغي له أن يتهوَّر في إنفاق المال، هذه واحدة ، فبحسب صبره في الدين، وبحسب صبره في النواحي الأخرى، هناك من له طريقةٌ خاصة في الحياة لا يستطيع أن يغيِّرَهَا، يحب أن يكون بيته كذا وكذا، ودخله كذا وكذا، وطعامه كذا وكذا، إلى هذا المستوى، فهذا أيضاً له طريقة في الإنفاق، هذا عامل ثانٍ.
العامل الثالث: الدخل ، الدخل له علاقةٌ بالإسراف وبالتقتير.
والعامل الرابع: طبيعة عياله، وطبيعة مجتمعه ، إذاً هناك عوامل خاصة تتحكم في تعيير الإسراف والتقتير.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ أحد العلماء يقول: " ألا يُجيع ولا يُعري - ما هي النفقة المعتدلة؟ ألا يجيع من لهم عليه حق، ولا يعريهم من الكسوة - ولا ينفق نفقةً يقول الناس عنه: لقد أسرف " يوجد حس عام أي إذا أقمت احتفالاً وبذلت فيه مئات الألوف، وأنت بهذا المال تستطيع أن تؤوي عشرات الشباب في منازل، إن هذه النفقة يقول عنها الناس: إنها إسراف، ربما لو قيست إلى مستواك ليست إسرافاً، ولكن لو قيست إلى الحِسِّ العام هذا إسراف، فإبراهيم النخعي العالم الجليل يقول: " القوام ألا تجيع ولا تعري، وألا تنفق نفقةً يقول الناس عنها: إنها إسراف "، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ .
مقياسٌ آخر من مقاييس التقتير والإسراف:
بعضهم يقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ أي لا يلبسون الثياب للتجَمُّل، ولا يأكلون الطعام للذَّة، بل يلبسون الثياب لتستر عوراتهم، وتقيهم الحرَّ والقر، ويأكلون الطعام ليدفعوا عنهم ألم الجوع، وليتقووا به على طاعة الله عزَّ وجل، هذا مقياسٌ آخر من مقاييس ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ .
عبد المَلك بن مروان سأل سيدنا عمر بن عبد العزيز حينما زوَّجه ابنته فاطمة، قال: " يا عمر ما نفقتك؟ " ما مستوى دخلك؟ كيف ستنفق على ابنتي؟ ما نفقتك؟ فقال عمر رضي الله عنه: " حسنةٌ بين سيِّئتين " السيئة الأولى لم يسرفوا، والسيئة الثانية ولم يقتروا ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ كانت إجابته مستوحاةً من هذه الآية الكريمة.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه وأكله "، لمجرد أن تشتهي هذا الطعام تشتريه وتأكله، هكذا قال سيدنا عمر، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(( إِنَّ مِنَ السَّرَفِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ. ))
[ ضعيف الجامع ]
يجب أن تأكل كلما جُعْت لا كل ما اشتهيت، نحن قومٌ لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، ليس المعنى أنه مهما أكلنا لا نشبع، أي ندع طعاماً لنفسنا.
القوام هو العَدْلُ وأن تبلغ بالنفقة الهدف وأن تكون مالكاً لحالك:
أحد العلماء يقول: "لا تكن ممن يجعلون كل رزقهم في بطونهم وعلى ظهورهم" أي كل دخله طعام ولباس، أما الجنة وما تحتاج إلى إنفاق للمال، إطعام الفقراء والمساكين، رعاية الأيتام والأرامل، الصدقات الجارية، هذه الأبواب الواسعة من الخير لا مادة لها في ميزانيَّتهم، ميزانيتهم الطعام والشراب والكساء، يجعلون كل رزقهم في بطونهم وعلى ظهورهم.
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ ما القوام؟ القوام قال بعضهم: العَدْلُ، وبعضهم قال: القوام ما بلَّغَكَ المقيل، سيدنا أبو عبيدة الجراح كان قائداً للجيوش الإسلامية في بلاد الشام، دخلوا عليه فرأوا في غرفته قدر ماءٍ مُغَطَّى برغيف خبزٍ وهو جالسٌ على جلدٍ وسيفه معلقٌ على الحائط، فقالوا: " ما هذا؟ " قال: " ألا يبلغنا المقيل؟ هو للدنيا وعلى الدنيا كثير "، أي القوام لابدَّ من أن تأكل، لابدَّ من أن ترتدي ثياباً تستر عورتك، وأن تكون أنيقةً نظيفة، لا بدَّ من أن تنام على سرير، هذه الأشياء التي لا بد منها، هذا هو القوام، أي هناك بساطٌ، أو هناك أثاثٌ يحقق الهدف بخمسة آلاف، وهناك أثاثٌ آخر يجعلك تتيه على الناس إذا دخلوا على بيتك، هذا ثمنه خمسمئة ألف، فالذي يحقق الهدف من دون مَخْيَلَةٍ، من دون كِبْر، من دون أن تتيه على الناس، من دون أن تطلعهم على ما في بيتك فإذا هم صغار، طبعاً الغني المؤمن إنسانٌ فاضل، إنسان كريم، إنسان متواضع، لكن إذا دخلت على غني كافر لشعرت بالحرمان لأنه يتكبر عليك، يقول سيدنا عمر:" من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط " المقصود بالأغنياء بهذا القول لسيدنا عمر الأغنياء من غير المؤمنين، لكن الغني المؤمن متواضع يعرف قيمة النعمة، سخي، من حوله يحبونه لسخائه، القوام هو العَدْلُ، وأن تبلغ بالنفقة الهدف، وأن تكون مالكاً لحالك في بعض التفاسير.
صفات التحلية وصفات التخلية كما وردت في القرآن:
ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)﴾ قال: هذه الصفات كلها صفات التحلية، عباد الرحمن اقتبسوا هذه الصفات الكاملة من الرحمن، وأما صفات التخلية، هذه صفات التحلية، أما صفات التخلية: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)﴾ .
التوبة من لوازمها الإيمان والعمل الصالح:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: عن عبد الله :
(( قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ) . ))
[ صحيح مسلم ]
﴿أَثَامًا﴾ هنا العقاب، أي يلقى عقاباً في الدنيا، وأما في الآخرة: ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾ أي ذليلاً: ﴿إِلَّا﴾ فتح باب الرحمة، فُتِحَ باب التوبة، ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ إذاً التوبة من لوازمها الإيمان والعمل الصالح.
أوجه ما في هذه الآية تبديل السيئات حسنات في الدنيا :
﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أوجه ما في هذه الآية أن تبديل السيئات حسنات في الدنيا، خذ إنساناً وهو جاهل قبل أن يؤمن، قبل أن يعرف الله عزَّ وجل، هذا الإنسان منحرف في أخلاقه، نظرته إلى النساء، لسانه في الدنيا في الغيبة والنميمة وقول الزور والبهتان والإفك والاستهزاء والفُحش والكذب، يده تبطش، عينه تزني، أذنه تزني، هذا الإنسان يأكل مال الناس بالباطل، يستعلي عليهم، هذه كلُّها سيِّئات، هو نفسه لو أنه عرف الله عزَّ وجل، وتاب إليه توبةً نصوحة، واستقام على أمره، يصبح متواضعاً، يصبح عفيفاً، يصبح وقَّافاً عند كتاب الله، يجعل دخله حلالاً، يضبط لسانه، كان يقسو على زوجته فأصبح رحيماً بها، كان يقسو على زبائنه فأصبح رحيماً بهم، كان يستعلي على من هو دونه فأصبح يتواضع له، إذاً كل موقف سيئ في الجاهلية بعد أن عرف الله واستقام على أمره وتاب توبةً نصوحاً أصبح هذا الموقف حسنةً بعد الإيمان، أما من يتوهم أن السيئات تنقلب إلى حسنات وأن الإنسان يوم القيامة يقول: يا ليتني أكثرت من السيئات لأنها أصبحت حسنات، هذا المعنى لا يستقيم، لكنه في الدنيا حينما يتوب إلى الله عزَّ وجل توبةً نصوحة يبدل الله سيئاته حسنات، أي يهذب مشاعره، يسمو قلبه، تسمو نفسه، تسمو أعضاؤه، يستقيم لسانه، تستقيم جوارحه، يطهر قلبه، يصبح عفيفاً، متجملاً، صبوراً، حليماً، متواضعاً، كل سيئاته من كبر، من استعلاء، من فحش، من بذاءة، من غيبة، من نميمة، من أكل مال بالحرام، كل هذه السيئات تنقلب إلى حسنات ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ .
لن تكون توبتك صحيحةً ولا مقبولةً إلا إذا تبدَّل عملك من عملٍ سيِّئ إلى عملٍ صالح:
لكن الآية الثانية وقف عندها العلماء في حيرة: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)﴾ هذه متاباً مصدر، أي يتوب توبةً، والمصدر يأتي بتأكيد فعله، وكلَّم الله موسى تكليماً، أكلت أكلاً، نجحت نجاحاً، فربنا عزَّ وجل يؤكد أنه: ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)﴾ أي لن تكون توبتك صحيحةً ولا نصوحة ولا مقبولةً إلا إذا تبدَّل عملك من عملٍ سيِّئ إلى عملٍ صالح، لو ادَّعيت أنك تائب هذه التوبة لا قيمة لها، علامة التوبة الصحيحة أن هناك تبدُّلاً جذرياً يطرأ على عملك، كان الناس يكرهونك فأصبحوا يحبونك، كانت أقوالك غير سديدة أصبحت سديدة، كان الكذب يفشو في حديثك فأصبح الصدق مكان الكذب، أي إياك أن تظن أن توبتك نصوح، أو أن التوبة مقبولة، أو أن التوبة صحيحة ما لم يطرأ تبدلٌ جذري جذريٌّ على عملك، ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)﴾ هذه هي التوبة الصحيحة المقبولة، هذا هو المعنى.
الزور هو الباطل الذي يزخرف ويزيَّن ليبدو أنه حق:
﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)﴾ تعريف الزور الباطل الذي زُوِّرَ وزُخْرِف، أي نظريةٌ باطلة لا أصل لها من الصحة، تشرح، وتفلسف، ويمهَّد لها، ويضرب عليها شواهد إلى أن تبدو للناس الجهلة وكأنها حقيقة، فهذا هو الزور، الزور الباطل الذي يزخرف ويزيَّن ليبدو أنه حق ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ أي كل مجلسٍ فيه دعوةٌ باطلة لا يشهدونه، كل مجتمعٍ يوصف بأنه مجتمعٍ راقٍ ؛ فيه اختلاطٌ، فيه مرونةٌ، فيه لباقةٌ، هذا باطلٌ مزور، باطلٌ أُلْبِسَ ثياب الحق، هذا الباطل المؤمنون الصادقون لا يشهدونه، أحياناً دعوةٌ باطلة ينبغي ألا تحضرها، أحياناً سلوكٌ باطل ينبغي ألا تكون فيه، مجتمعٌ منحرف ينبغي ألا تجالسه، مقصفٌ فيه معاصٍ كثيرة ينبغي ألا تكون فيه، هذا زور تحت اسم الحضارة والرفاه والتقدم، تحت اسم أن هذا اللقاء لقاء ودي ولقاء بريء بين الجنسين، هذا باطل مزور ينبغي ألا تشهده.
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ: آية لها عدة معان :
﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ كلمة بريء، وكلمة مَرِن، وكلمة واقعي، وكلمة متفتِّح، هذه كلمات كلها كلمات تغطي الباطل بألفاظ مقبولة، فكل لقاءٍ، وكل حفلةٍ، وكل مجلسٍ، وكل نزهةٍ أساسها باطل غُطِّيَ هذا الباطل، قد يقول لك: سهرة مختلطة، لأن الإنسان بلغ مستوى من الرقي لا ينظر إلى زوجة صديقه إلا ببراءة، هذا باطلٌ مزوَّر، لأن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان هذه الشهوة، فإذا انصرفت إلى غير الزوجة فهذا سلوك عدواني وباطل، فبعض المفسرين قالوا: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ أي مجلس فيه معصية، حفلة فيها مخالفة للشرع، ندوة أساسها باطل، مجموعة علماء يتباحثون في نظرية داروين، هذه نظرية كلها باطلة لأنها تنسف الدين من أساسه، ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ لا على مستوى فكري، ولا على مستوى اجتماعي، ولا على مستوى فني، فن رفيع قائم على معصية، كيف يكون رفيعاً وهو يقوم على معصية؟ ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هذه بعض معاني هذه الآية.
بعض معانيها الأخرى: الزور عند بعض المفسرين أعياد المشركين، حفلات رأس الميلاد، المحلات كلها محجوزة، والعشاء فخم، والموسيقى راقصة، وهناك عري، ورقص، وأشياء كلها حرام، مسلم وتحجز لنفسك مكاناً في هذه الحفلة؟! ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ ، أعياد المشركين هكذا جاء في بعض التفاسير، تعظيم الأنداد، أي إذا كنت في مجلس يُعَظَّمُ فيه إنسان من دون الله فهذا لا ينبغي أن تجلس فيه.
شيءٌ آخر الغناء: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ بعض العلماء قالوا: الغناء، لأنه يصرف الإنسان عن الله عزَّ وجل، وقد يغريه بالمعصية، حفلةٌ فيها لَعِب قمار: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هذه من الزور أيضاً، حفلةٌ فيها جاهلية، هذه زور، فأي لقاءٍ، أي مجلسٍ، أي حفلة، أية نزهةٍ، أي اختلاطٍ أساسه الباطل، أو أساسه الكذب، أو أساسه الانحراف، المؤمنون مبرَّؤون عن حضور هذه المجالس، ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ بمعنى يحضرون.
المعنى الثاني: لا يشهدون بمعنى يدلون بشهادتهم، أي هم أيضاً لا يشهدون إلا بما رأوا، على مثل الشمس فاشهد وإلا فدع.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه:
(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لا يَسْكُتُ. ))
[ صحيح البخاري ]
المؤمن كريم صاف يحافظ على استقامته وطهره وصلته بالله:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)﴾ مروا باللغو، اللغو ما سوى الله، اللغو الباطل، اللغو الدنيا، اللغو المعصية، حديث فيه غيبة مروا كراماً، لا يستمعون، لا يصغون، لا يدلون، لا يضيفون على هذه المعلومات معلومات جديدة، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ معنى كراماً تقول: حجرٌ كريم صافٍ، أي يحافظون على صفائهم، على طهرهم، على ذاتهم الراقية، يحافظون على استقامتهم، يحافظون على صلتهم بالله، يحافظون على علاقتهم به.
اللغو هو كل سقطٍ من قول أو عمل كالغناء واللهو وسفه المشركين:
﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ سيدنا عمر كان يجلِدُ شاهد الزور أربعين جلدة، ويلطِّخ وجهه، ويحلق رأسه، ويُطاف به في الأسواق، وقال أكثر أهل العلم: " شاهد الزور لا تقبل له شهادةٌ أبداً " اللغو عند بعض المفسرين: كل سقطٍ من قول أو عمل، عمل شائن، عمل قذر، منحط، والغناء من اللغو، واللهو من اللغو، وسفه المشركين من اللغو، مسابقة ملكات الجمال مثلاً هذه من اللغو ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ مُزاح المشركين من اللغو، ذكر النساء في الأحاديث من اللغو، المعاصي كلها من اللغو، كراماً أي معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله.
قراءة القرآن وتدبر آياته والوقوف عند حدوده :
﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)﴾ أي هذا القرآن يقرؤونه، يتفهمونه، يتدبرون آياته، يعقلونها، يقفون عند حدوده، يأتمرون بأمره، ينتهون عما نهى عنه، يصدِّقون وعده، يصدقون وعيده، شيء خطير، كلام الله رب العالمين، كلام خالق الكون، دستور الإنسان، منهجه، كيف يقرؤه هكذا؟! ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)﴾ بعضهم يقول: " إذا تلوا كتاب الله في الصلاة لا يركعون ويسجدون وكأنهم ما قرؤوا شيئاً، يجعلون ركوعهم وسجودهم متعلقاً بهذه الآيات التي قرؤوها " ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ وهم في الصلاة: ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ .
الزوجة الطائعة والأولاد الأبرار من النعم التي تعين على أمر الدنيا والدين:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)﴾ أي يا ربِّ هب لنا زوجات وأولاداً طائعين لك، يعينوننا على أمر الدنيا والدين، هذا التعبير الدقيق، هَبْ لنا زوجةً طائعةً وأولاداً أبراراً يطيعونك ويعينوننا على أمر الدنيا والدين، النبي عليه الصلاة والسلام دعا لأحد أصحابه فقال: عن أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك :
﴿ أَنَسٌ خَادِمُكَ، قالَ: اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ، ووَلَدَهُ، وبَارِكْ له فِيما أعْطَيْتَهُ. ﴾
[ صحيح البخاري ]
والإنسان إذا بورك له في ولده وماله قَرَّت عينه، أي الإنسان الذي أكرمه الله بزوجةٍ صالحة تقرُّ عينه، بمعنى لا ينظر إلى سواها، يراها منتهى آماله، أما إذا كانت شرسة، أو إذا كان في دينها رِقَّة فإنك تتشوَّق إلى زوجةٍ صالحة مؤمنة، فلذلك من الدعاء القرآني أن تقول: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ لذلك من سعادة المرء في الدنيا أن تكون زوجته صالحة، وأولاده أبراراً، وأن يكون رزقه في بلده، وأن يكون منزله واسعاً، ومركبه وطيئاً، فالزوجة الصالحة هي الدنيا، الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، بمعنى أنها مطيعة لله عزَّ وجل، لا تروق لك، مطيعةٌ لله، تأتمر بأمرك، تحفظ نفسها، تحفظ لك مالك، تصون بها بصرك عن محارم الله.
على الإنسان أن يكون داعية لله عز وجل وقدوة للناس:
﴿هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ هذا هو الطموح، كن داعيةً إلى الله عزَّ وجل، كن إماماً للمتقين، كن قدوةً حسنةً، كن مثلاً أعلى، كن آمراً بالمعروف، لا تكن في مؤخرة الركب كن في مقدمة الركب.
قال تعالى:﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ .. وعن نافع مولى عمر بن الخطاب:
(( رَأَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَةُ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمُ النَّاسُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلا جَاهِلا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الإِحْرَامِ فَلا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ. ))
[ موطأ الإمام مالك : إسناده صحيح ]
فإذا كنت أباً كن قدوةً صالحةً لأولادك، إذا كنت معلماً كن قدوةً صالحةً لتلاميذك، إذا كنت في متجر، أو إذا كنت في معمل كن قدوةً صالحةً لمن معك.
من صفات عباد الرحمن أنهم يصبرون ويجاهدون أنفسهم وهواهم:
﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ﴾ أي عباد الرحمن ﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا﴾ الغرفة المكان المرتفع، أي المرتبة العالية في الجنة، أي هؤلاء عباد الرحمن لهم أعلى المراتب بما صبروا، ويبدو أنه من أجل أن تكون من عباد الرحمن فلابدَّ من أن تصبر، لابدَّ من أن تُجاهد نفسك وهواك، والدليل هذه الآية.
أعظم تحيةٍ في الجنة أن يحييك الله سبحانه وتعالى :
يلقون من قبل الله عزَّ وجل، وهل من تحيةٍ أعظم من أن يحييك الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيُلَقَّوْنَ﴾ في الجنة ﴿فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)﴾ أما جهنم: ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾ .
الله تعالى خلقنا ليسعدنا فهو يدعونا لجنته ولرحمته سبحانه:
آخر آية: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ .
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
[ صحيح مسلم ]
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ لولا أنه خلقكم ليسعدكم، لولا أنه يدعوكم لرحمته، لجنته، لولا هذه الدعوة، لو أن الناس كلهم كفروا ماذا يعني الله ذلك منهم؟ ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ بهذه الدعوة: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ سوف يكون عذاب النار لهؤلاء المكذِّبين ضرورياً ولازماً لهم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين