الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أصل الدين معرفة الله عزَّ وجل :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من سورة الفُرقان .
في الدرس الماضي شُرِحَتْ بعض المعاني التي تنطوي عليها كلمة الفرقان وهو القرآن الكريم ، حيث وردت في الآية الأولى : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ ما بعد " الذي " جاءت لتعرِّفنا بالله سبحانه وتعالى ، الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه يقول : " أصل الدين معرفته " ، أصل الدين معرفة الله عزَّ وجل . عن عبد الله بن المسور :
(( أنَّ رجلًا أتى النبيَّ فقال : يا رسولَ اللهِ علِّمْني من غرائبِ العلمِ ؟ قال : ما فعلتَ في رأسِ العلمِ فتطلبَ الغرائبَ ؟ قال : وما رأسُ العلمِ ؟ قال : هل عرفتَ الرَّبَّ ؟ قال : نعم ، قال : فما صنعتَ في حقِّه ؟ قال : ما شاءَ اللهُ ، قال : عرفتَ الموتَ ؟ قال : نعم ، قال : ما أعددتَ له ؟ قال : ما شاءَ اللهُ ، قال : انطلِقْ فأَحكِمْ ما هاهنا ثمَّ تعالَ أُعَلِّمْكَ غرائبَ العلمِ . ))
[ ابن عراق الكناني : تنزيه الشريعة : حكم المحدث : مرسل : إسناده ضعيف ]
فالقول الذي أُثِرَ عن سيدنا عليٍّ كرَّم الله وجهه : " أصل الدين معرفة الله ، وأصل العبادة معرفة شرعه ، وأصل صلاح الدنيا معرفة خلقه ."
العلم ما عُمِلَ به فإن لم يُعْمَل به كان الجهل أفضل منه :
الإنسان أحياناً عليه أن يسأل نفسه سؤالاً محرجاً : ماذا أعرف عن الله ؟ الإنسان قد يُعَمِّي على نفسه ، قد يتوهَّم أنه يعرف الله وهو لا يعرفه . لنضرب على ذلك بعض الأمثلة : لو أن رجلاً ركب طائرةً من عمَّان إلى قبرص ومرَّ فوق دمشق ، فسُئل : هل تعرف الشام ؟ يقول لك : نعم أعرفها ، لقد طارت طائرتي فوق دمشق .
إنسان آخر هبطت طائرته في مطارها فسُئِل : هل تعرف الشام ؟ يقول : نعم نزلت في مطار دمشق ، ومكثت فيه ساعة .
إنسان زار من دمشق الجامع الأموي وسوق الحميديَّة سُئل : هل تعرف الشام ؟ يقول لك : نعم أعرفها .
إنسان عاش في الشام أربع سنواتٍ دراسيَّة ، كان طالباً في الجامعة ، سُئل : هل تعرف الشام ؟ يقول لك : نعم أعرفها.
إنسان عاش في الشام عشرين عاماً يقول لك : أعرف الشام ، وإنسان ولِدَ في الشام ، وعرف طِباع أهلها ، وتقاليدهم ، وعاداتهم ، وأنماط أفراحهم وأتراحهم ، هذا سُئل : أتعرف الشام ؟ يقول لك : نعم أعرفها . هل مستوى معرفة هؤلاء في مستوى واحد ؟ هذا الذي طارت طائرته فوق دمشق فقال : أعرف الشام ، ماذا يعرف عنها ؟ رآها مدينةً مترامية الأطراف ، بعضها أبنيةٌ حديثة وبعضها أبنيةٌ قديمة ، هذه ليست معرفةً كافية ، وهذا الذي بقي في المطار ساعتين لم يعرفها معرفةً كافية ولا شبه كافية ، وهذا الذي زار الجامع الأموي فقط وسوق الحميديَّة لم يعرفها معرفةً كافية كذلك ، فكلمة المعرفة هذه واسعة جداً . ما مِن مسلمٍ على وجه الأرض إلا ويقول لك : أنا أعرف الله ، هو خالق الكون ، يا ترى هل هذه المعرفة تكفي كي تستقيم على أمر الله ؟ هل هذه المعرفة تكفي لكي تخاف الله عزَّ وجل ؟ هل هذه المعرفة تكفي كي تعمل صالحاً يرضاه عنك ؟ هل هذه المعرفة تكفي كي تُلْزِمَ نفسك بحضور مجالس العلم والتقلُّب في معرفة الله عزَّ وجل ، فكلمة أعرف الله هذه كلمة يقولها كل إنسان ، أما هذه المعرفة فلابدَّ من أن ترقى ، لابدَّ من أن ترقى ، لابدَّ من أن ترقى إلى أن تصل إلى الحدِّ الأدنى ، الحد الأدنى الذي يكفي كي تستقيم على أمر الله ، لأن العلم ما عُمِلَ به ، فإن لم يُعْمَل به كان الجهل أفضل منه .
على الإنسان أن يعرف حجم معرفته بالله عز وجل :
الإنسان عليه أن يعرف جيداً ما حجم معرفته بالله عزَّ وجل .
بادئ ذي بدء ؛ لو أنّ الإنسان يعصي الله فهو لا يعرفه قطعاً ، لأنك لو عرفته لما عصيته ، ولا تنظر إلى صِغَر الذنب ولكن انظر على من اجترأت ، قد تعرف شيئاً من الدنيا ، هناك في الدنيا أشياء إذا عرفتها استمتعت بها ، هناك معرفةٌ مُمْتِعَة ، وهناك معرفةٌ نافعة ، هناك معرفةٌ ممتعةٌ ونافعة ، هناك معرفةٌ ممتعةٌ غير نافعة ، هناك معرفةٌ نافعةٌ غير ممتعة ، هناك معرفةٌ لا ممتعةٌ ولا نافعة ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( عن أنس بن مالك : كان مِن دعاءِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ ، وقلبٍ لا يَخشَعُ ، ودُعاءٍ لا يُسمَعُ ، ونفْسٍ لا تَشبَعُ ، اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن هؤلاء الأربَعِ . ))
[ شعيب الأرناؤوط : المسند لشعيب : حكم المحدث : صحيح ]
إذاً لو أردت أن توازن بين معرفة الأشياء ومعرفة الله عزَّ وجل فالمسافة التي بين خالق الكون وبين أحد مخلوقاته هي المسافة نفسها بين معرفة الله وبين معرفة خَلْقِهِ ، فمن معارف البشر ما هو ممتع ولكنَّه غير نافع ، من معارف البشر ما هو نافعٌ ولكنَّه غير ممتع ، من معارف البشر ما هو ممتعٌ ونافع ، من معارف البشر ما ليس بنافعٍ ولا مُمتع ، ولكنَّك إذا عرفت الله عزَّ وجل تمتَّعت بهذه المعرفة ، وانتفعت بها ، وهذا ينتهي في الدنيا ، وسعدت بها إلى الأبد ، فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ .
معرفة الله تُقاس بمدى الاستفادة منها :
معرفة الله تُقاسُ بجدواها ، بمدى الفائدة التي تُسْتَخلَصُ منها ، لو أنَّك في مكان في مدينة أوروبيَّة ، ومعك كتاب ضخم عن المواصلات في هذه المدينة ، وعن نظام المواصلات تحت الأرض ، وعن أسماء المحطَّات ، وعن مواعيد انطلاق القطارات ، وأنت عليك أن تبقى في هذه المدينة يوماً واحداً ، هل من الحكمة أن تبذل جهداً كبيراً لفهم هذا الكتاب وترجمته ؟ لا تبقى في باريس إلا يوماً واحداً ، هل عليك أن تقرأ كل هذا الكتاب وأن تفهم كل التفصيلات وأن تعرف كل أنواع القطارات وكل ساعات الانطلاق ؟ من الغباء أن تقرأ هذا الكتاب لأن هذا الكتاب لن يجدي نفعاً ، لن ينفعك إلا ما دمت في هذه المدينة ، وأنت لن تبقى فيها أكثر من يومٍ واحد ، إذاً دَع هذا الكتاب ، فالمعرفة تُقاس بمدى الاستفادة منها ، برقعة المكان الذي تستفيد منه . لو قرأت شيئاً متعلِّقاً بصحَّتك أينما ذهبت تستفدْ من هذه الوصيَّة الصحيَّة ، لو قرأت شيئاً متعلِّقاً بمستقبل دراستك فإنك كلَّما طبَّقت هذه الوصيَّة استفدت منها في الصفوف العُليا ، أما إذا عرفت الله عزَّ وجل فهذه المعرفة تنفعك بدءاً من معرفتك بالله وحتى الأبد ، فالإنسان عليه ألا يضيِّع وقته الثمين في معرفةٍ لا تُجدي ولا تُغني ، عليه أن يختار من بين المعارف ما يستمرُّ معه في قبره ، لو قرأت تاريخ الإغريق ، ولست مُخْتَصَّاً في التاريخ ، ولست مدرِّساً ، وهذا الموضوع لا يتصل بحياتك اليوميَّة ، فماذا تجني من معرفتك لهذا التاريخ ؟ لكن اقرأ كتاب الله ، فيه توجيهاتٌ دقيقة لكل حركةٍ وسكنةٍ من حركاتك وسكناتك .
المؤمن الحق يعلم علم اليقين أن سعادته في معرفته لله عزَّ وجل :
الشيء الذي أريد أن أقوله هو أنك إذا عرفت الله عزَّ وجل استفدت من هذه المعرفة بدءاً من اللحظة التي تعرَّفت بها إلى الله وإلى أبد الآبدين ، لكنَّ أي علمٍ آخر لو تعلَّمته ففائدته مقصورةٌ على وقتٍ محدَّد أو على مكانٍ محدَّد ، وما بعد هذا الوقت وهذا المكان هذه المعرفة لا تنفع ، فهذا العُمُر الثمين لا ينبغي أن يضيع في سفاسف الأمور ، ولا في معارف ليس مردوها بمستوى بذلها .
شيءٌ آخر ؛ المعرفة ليست هدفاً بذاتها إنما هي وسيلة ، إذا عرفت الله عبدته ، وإذا عبدته سعدت بقربه ، فالقصد البعيد هو أن تسعد ، ولا تنسوا أن لكل إنسانٍ في كل زمانٍ ومكانٍ مطلباً ثابتاً ، أيُّ إنسان على وجه الأرض في أيّ زمان وفي أيّ مكان له مطلبٌ ثابت ، هذا المطلب الثابت هو أن يَسْلَمَ وأن يَسْعَد ، فإذا علمت علم اليقين أن سلامتك وسعادتك لا تكون إلا بمعرفة الله عزَّ وجل ، فإن معرفة الله تتوافق مع مَطْلَبكَ الثابت في الحياة ، أيُّ إنسان متعلِّم ، غير متعلِّم ، ذكي ، غير ذكي ، أيّ إنسان على وجه الأرض يبحث عن سلامته وعن سعادته ، لكن المؤمن الحق يعلم علم اليقين أن سعادته في معرفته لله عزَّ وجل .
معرفتك بالله لها حجم يجب أن تعرفه بالضبط كي تستقيم على أمره :
لذلك عندما قال ربنا عزَّ وجل : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .. الآن عودٌ على بدء ، اسأل نفسك هذا السؤال المحرج : ماذا أعرف عن الله ؟ تحدَّث ، اجلس مع أخيك المؤمن وحَدِّثه عن الله ، بعد كَمْ من الدقائق تنتهي معرفتك ؟ بعد كم من الساعات ؟ بعد كم من الأسابيع تنتهي معرفتك ؟ أنت لك حجمٌ لمعرفتك ، معرفتك لها حجم ، فيجب أن تعرف هذا الحجم بالضبط ، فإذا كان هذا الحجم غير كافٍ لابدَّ من أن تزيده ، لأن معرفتك بالله عزَّ وجل قد تكون بحجم صغير غير كافٍ كي تستقيم على أمره ، إذاً لابدَّ من أن تنمو إلى أن تبلغ الحدَّ الأدنى وهو أن تستقيم على أمر الله ، قبل أن تستقيم لا يمكن أن تعرف الله ، لأنه من عرفه عبده ، إذا علمت أن الله بيده كل شيء ، وأن مصيرك إليه ، وأن عنده من السعادة ما لا سبيل إلى وصفها ، وأنه قد أعدَّ لك جنَّةً فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وأنه أعدَّ لمن يعصيه ناراً وقودها الناس والحجارة ، أيعقل أن تعرفه وأن تعصيه ؟ هذا مستحيل :
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه ذاك لعمريِ في المـقـالِ بديعُ
لو كـان حبُّك صادقاً لأطعتـــــه إنَّ المحـبَّ لمن يحـبّ يطيـعُ
لا يمكن أن تعرف الله إلا إذا أوصلتك هذه المعرفة إلى طاعته :
دائماً زِنْ معرفتك بالله عزَّ وجل بمدى تطبيقك لأمره ، ما دام هناك مخالفات ، ما دام هناك معاصٍ ، ما دام هناك تجاوزات ، ما دام هناك تقصير فلا تقل : أنا أعرف الله عزَّ وجل ، لو عرفته لعبدته ، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت ، أتعصيه من أجل آلافٍ من الليرات ؟! لو عرفته لعرفت أن الله سبحانه وتعالى يعطيك أضعافاً مضاعفة فيما لو أطعته ، أتعصيه خوفاً من غضب فلان ؟ لو عرفت أن غضب الله عزَّ وجل لا يعدله غضبٌ في الكون لما اجترأت على معصيته ، فلهذا لا تُسَمّ نفسك عارفاً بالله إلا إذا أوصلتك هذه المعرفة إلى طاعته ، قبل أن توصلك إلى طاعته هذه ليست معرفةً كافية ، تعرف عنه شيئاً ، مثلاً : لو أن حاجباً يقف على باب قاعةٍ للتدريس ، ودخل الأستاذ القدير أمام عيني هذا الحاجب آلاف المرَّات ، هذا الحاجب معرفته بهذا الأستاذ محدودة لا تزيد عن أنه أستاذ في هذا القسم ، وهو أستاذٌ محبوب وقدير ، لكن هذا الطالب الذي يجلس وراء المقعد ، ويستمع إلى محاضرته ، كلَّما ألقى محاضرةً ارتفع مستوى معرفته بهذا الأستاذ ، كلَّما ألقى محاضرةً ارتفع مستوى المعرفة ، فإيَّاك أن تكتفي بمعرفةٍ محدودةٍ عن الله عزَّ وجل ، إياك أن تكتفي وتقول : أنا أعرف الله ، الله خالق الكون وكفى ، هذه معرفةٌ ساذَجَة ، هذه معرفةٌ عرفها إبليس :
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
بماذا خاطبه ؟ إبليس بماذا خاطب ربَّ العزَّة ؟ بأنه رب ، وخاطبه بأنه عزيز : ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾ .. أهذه المعرفة كافية ؟ لا والله ليست كافية ، ما من إنسان إلا وهو راضٍ عن عقله وراضٍ عن معرفته بالله عزَّ وجل ، وقد يكون لا يعرف الله ، وقد يكون واهماً ، يكفي أن تُرضي إنساناً وتعصي الله فأنت لا تعرفه ، يكفي أن تخاف من غضب إنسانٍ ولا تخاف من غضب الله عزَّ وجل فأنت لا تعرفه ، يكفي أن ترجو غير الله فأنت لا تعرفه ، يكفي أن تخشى غير الله فأنت لا تعرفه ، يكفي أن تسعى لغير الله فأنت لا تعرفه ، فهذه المعرفة بالله شيءٌ أساسي .
معرفة الإنسان بالكون تزداد مع ازدياد وسائل المعرفة :
ربنا سبحانه وتعالى يقول : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) ﴾ مَنْ هو الذي نزَّل الفرقان على عبده ؟ مَنْ هو الذي يقول عن ذاته : تبارك الذي ؟ قال : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .. السماوات والأرض تعبيرٌ قرآني عن الكون ، معرفة الإنسان بالكون تزداد مع ازدياد وسائل المعرفة ، فقبل أن يُخْتَرَعَ المَرْصَد كانت معرفة الإنسان بالكون هذه النجوم التي رآها بعينه ، ولكن بعد اختراع المراصد من عشرة آلاف نجمة يعدُّها الإنسان بعينيه في قبَّة السماء في ليلةٍ ظلماء إلى مليون مَليون مجرَّة ، وفي كل مجرَّةٍ مليون مَليون كوكب ، كم هو الفرق شاسعٌ بين المعرفة البدائية وبين المعرفة المتقدِّمة ! لو قلت لكم : إن إحدى المجرَّات التي اكُتُشِفَتْ حديثاً تبعدُ عن الأرض ستة عشر ملياراً أو ألف مليون سنة ضوئيَّة ، وأن الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر ، وفي الدقيقة ضرب ستين ، وفي الساعة ضرب ستين ، وفي اليوم ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين ، وفي ستة عشر ألف مليون سنة ، كم تبعد عنَّا هذه المجرَّة ؟! إذا علمت أن المجموعة الشمسيَّة بأكملِها لا يزيد قطرها عن ثلاث عشرةَ ساعةً ضوئيَّة ، أي الضوء يقطعها في ثلاث عشرةَ ساعة .
إذا علمت أن الشمس تبعد عن الأرض ثماني دقائق ضوئيَّة ، وأنَّ القمر يبعدُ ثانية ضوئيَّة واحدة ، وإذا علمت أن هذه المجرَّة تبعد عنَّا ستَّة عشرَ ألف مليون سنة ، فما هذا الكون المُترامي الأطراف ؟
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
عظمة الخالق في خلق هذا الكون الواسع :
عندما يقول ربنا : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ هل تعرف حجم السماوات والأرض ؟ هل تعرف المجرَّات ؟ هل تعرف الكازارات ؟ هل تعرف المُذَنَّبات ؟ هل تعرف الكويْكِبَات ؟ هل تعرف المجموعات ؟ هل تعرف النجوم ؟ هل تعرف الكواكب ؟ هل تعرف حجم بعض النجوم ؟ هذه التي تبدو كالعناقيد ما حجمها ؟ هذا النجم الذي في بُرج العقرب المتألِّق هل تعرف ما حجمه ؟ يسع الشمس والأرض مع المسافة بينهما :
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لا تُبْصِرُونَ(39)﴾
ماذا تبصر أنت بعينيك ؟ ترى نجماً صغيراً متألِّقاً ، هذا النجم الصغير يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، فلمَّا يقول ربنا : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ إنسان يملُك بيتاً ، مساحته عبارة عن سبعين متراً ، وهناك بيت مئة وعشرة أمتار ، كذلك يوجد بيت عبارة عن مئتين وخمسين متراً ، يملك الإنسان أحياناً قصراً حوله حديقة مساحتها خمسة آلاف متر مربَّع ، فيه ثلاثمئة غرفة ، هذا غير هذا ، إنسان يملك كل أسواق المدينة ، كم حجم أمواله ؟ إنسان يملك كل المدن في العالَم ، كل الأراضي الزراعيَّة ، كل المعامل ، كل الشركات الناجحة ، كل الأسواق التجارية الضخمة ، كل البيوت الرائعة : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .. أي هذه المجرَّات ، هذه الكواكب ، المجموعة الشمسيَّة ، ما دامت الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، ولو أُلْقِيَت فيها الأرض لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، ما حجم الشمس ؟ وهذه الشمس التي تتقِد منذ خمسة آلاف مليون سنة ، ويقدِّر العلماء أنها لن تنطفئ قبل وقتٍ كمثل هذا الوقت ، أي بعد خمسة آلاف مليون سنة ربما انطفأت :
﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ(1)وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ(2)﴾
فكلمة السماوات والأرض هل تعرف حجمها ؟ هل تعرف أين ينتهي الكون ؟ لا أحد يعرف ، هذه المجرَّة التي كنت قد حدثتكم عنها قبل قليل من أنها تبعد عن الأرض ستّة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، هذه المجرَّة كانت في هذا المكان قبل ستَّة عشرَ ألف مليون سنة ، والآن تحوَّلت عنه ، يوم كانت في هذا المكان أرسلت هذا الضوء ، والآن وصلنا ضوءها ، فقلنا : هناك مجرَّة تبعد عنَّا هذه المسافة ، أما الآن فأين هي ؟ لا يعلم أحدٌ إلا الله أين هي .
ربنا عز وجل أراد أن يعرفنا بذاته في الآية التالية :
عندما يقول ربنا : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ الإنسان يفرح يقول لك : عندي ثلاثمئة دونم ، اركب من دمشق إلى القامشلي يقول لك قائل : يا أخي تسعمئة كيلو متر ، حوالي ألف كيلو متر مشينا ، انظر إلى سوريا على كرة أرضيَّة مجسَّمة ، إذا كتبوا عليها سوريا بأصغر حرف تغطي كل المساحة ، سوريا على كرة أرضيَّة مجسَّمة إذا أردنا أن نكتب عليها بالإنكليزي ( Syria ) يُغطُّون كل مساحتها بأصغر حرف ، أين الآن القارَّات الخمس ؟ انظر هذا الحجم الصغير على الكرة المُجسَّمة تكون قد مشيت من دمشق إلى القامشلي تسعمئة كيلو متر ، يقول لك : سرنا عشر ساعات ، ستّ عشرة ساعة ، جسمنا قد تكسَّر ، هذه سوريا ، لازال هناك الدول العربية بكاملها ، الدول الإسلاميَّة ، آسيا ، شرقي آسيا ، الصين ، روسيا ، أوروبا ، أمريكا ، أوقيانوسيا ، إفريقيا ، كل هذه الدول تُشكِّل عشرين بالمئة من سطح الأرض والباقي بحار ، أربعة أخماس الكرة الأرضيَّة بحار ، وهذه الكرةُ لو أُلقيت في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، والشمس أكبر منها بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، وأنها تدخل مع الشمس ومع المسافة بينهما في قلب العقرب ، فما معنى قول الله عزَّ وجل : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ هل تعرف أين ينتهي الكون ؟!!
آيات قرآنية ودلائل أخرى على عظمة الخالق :
قال تعالى :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)﴾
ربنا عزَّ وجل في هذه الآية أراد أن يُعَرِّفنا بذاته فقال : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ الأرض ؛ هل تعرف أنواع الصخور ؟ هل تعرف أنواع المعادن وخصائصها ؟ هل تعرف أشباه المعادن ؟ هل تعرف أنواع الغازات ؟ هل تعرف السوائل كلها ؟ هل تعرف أنواع الأسماك ؟ بعض العلماء يقول : هناك مليون نوع للسمك ، ليس مليون سمكة ولكن مليون نوع ، هل تعرف أنواع الطيور ؟ هل تعرف أنواع الديدان ؟ أنواع الزواحف ، أنواع الثدييات ، أنواع القوارض ، هل تعرف أنواع الفيروسات ؟ فيروس واحد حيَّر العالم - الإيدز - حيَّر العالَم ، أَرْبَكَ العالَم ، هل تعرف أنواع البكتريا ؟ هل تعرف الحيوانات البدائية وحيدة الخليَّة ؟ هل تعرف أنواع الرخَويات ؟ هل تعرف الحيوانات العملاقة ؟ الحوت كم طن وزنه ؟ بالأطنان الكثيرة ، وزنه مئة وثلاثون طناً ، رقم كبير جداً ، تسعون برميل زيت يستخرج من كبده ، كل برميل يزن مئتي كيلو ، خمسون طن دهنٍ ، خمسون طن لحمٍ ، ثلاثون طن عظام ، وزن دماغه تسعمئة كيلو أيْ طن إلا قليلاً ، ذات مرَّة جرَّ الحوتُ باخرةً ثمان وأربعين ساعة بعكس اتجاهها ، وهي تُعْمل محرِّكاتها بأقصى درجة ، ورُغم ذلك جرَّها ، وجْبته الغذائية المتواضعة وهو رضيع ثلاثمئة كيلو حليباً ، في اليوم يحتاج إلى طن من الحليب ، إذا أحب أن يأكل سندويشة يحتاج إلى أربعة أطنان من السمك يفتح فمه ويأكلها ، وهناك أشياء أُخرى دقيقة جداً ، يا ترى : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .. أنواع الحيتان ، أنواع الأسماك ، الآن أنواع الأشجار ؛ العنب ثلاثمئة نوع بمركز البحوث عندنا في سوريا ، التفاح ثلاثمئة وستون نوعاً ، أنواع القمح ثلاثة آلاف وخمسمئة نوع ، هذا القمح وحده ، أنواع البقول ، أنواع الحبوب ، أنواع المحاصيل ، أنواع الحشائش ، نحن الآن في فصل الربيع ، انظر كم زهرة موجودة ، كم نوع من أنواع الزهور موجود ! أنواع النباتات ؛ نباتات الزينة ، نباتات شوكيَّة ، نباتات حدوديَّة ، نباتات للأخشاب ، الأخشاب مئة نوع ، خشب الزان ، وخشب السنديان ، والخشب الكَندي ، وخشب الشوح ، أنواع منوَّعة ، والحور الرومي ، والحور الشرقي ، أنواع الأخشاب كم نوع ؟ أنواع الفواكه ، أنواع الثمار ، أنواع الخضراوات ..﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ أنواع الثروات المدفونة في باطن الأرض :
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)﴾
هل تعرف ماذا تحت الثرى ؟ البوتاس ، الفوسفات ، المنغنيز ، هذه الثروات الهائلة ، ماذا في الجو من كائنات ؟ طبقة أوزون تخلخلت قامت الدنيا ولم تقعُد ، عُقِدَتْ مؤتمرات من أجلها ، الطبقة كل سماكتها ميليمترات تحيط بالأرض ، غاز الأوزون يمنع عنا الأشعة القاتلة ، من كثرة إطلاق الأقمار الصناعيَّة هذه الطبقة تخلخلت ، مع تخلخلها بدأت حالة الطقس في الأرض تتغيَّر ، وبدأ يصاب الناس في أوروبا بسرطان الجلد ، من وضع هذه الطبقة لتحُول بين الإنسان وبين أشعَّة الشمس القاتلة ؟ الله سبحانه وتعالى .
الخالق هو الذي يُمِدُّ المخلوقات بما تحتاجه فهو المربي والمسير وإليه المصير:
﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ كلمة " له " دقيقة جداً ، أي له خَلْقَاً ، وله تَصَرُّفاً ، وله مصيراً ، قد تملك الشيء ولا تملك أن تنتفع به ، وقد تنتفع به ولا تملكه ، وقد تملكه وتنتفع به ولكن ليس إليكَ مصيره ، عندما يقول ربنا : له ، أي هو الخالق ، وهو المربي ، وهو المسيِّر ، وإليه المصير ، أي أوسع أنواع الملكيَّة ، خَلَق ، أنت تقتني سيَّارة لست صانعها لكنَّك اشتريتها ، قد تستأجرها تنتفع بها ولا تملكها ، قد تمتلكها ولا تنتفع بها ، قد تمتلكها وتنتفع بها ولكنها ليست لك في النهاية ، تؤخَذ منك غصباً ، لكن : ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ أي هو الخالق ، وهو الذي يُمِدُّ المخلوقات بما يحتاجونه ، وهو المربي ، وهو الذي يسيِّر كل شيء للخير ، هو المسيِّر ، وإليه المصير ، فإذا قال الله عزَّ وجل : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .
جسم الإنسان ملك لله وحده والإنسان لا يملك أن يفعل شيئاً :
من المعاني الأخرى : لو أردنا أن نتوسَّع بكلمة المُلك ، فكل شيء يُمَلَّك ، لو أردنا أن نقترب من جسدنا فقط ، الإنسان عنده غدَّة نخاميَّة يا ترى يملكها ؟ هل يملك أن يخفِّف من نشاطها ؟ هل يملك أن يوقف نشاطها ؟ هل يملك أن يعدلها لو زاد نشاطها ؟ أعرفُ إنساناً توفي في مقتبل الحياة ، السبب لا يُصدَّق ، الطحال كان يعمل أكثر مما يجب أن يعمل ، يا تُرى هل أنا أملك طُحالي ؟ هل أقدر أن أعدِّل له عمله ؟ أخفِّف من عمله ؟ أزيد من عمله ؟ أوقِّف نشاطه ؟ أمنع نشاطه ؟ لا أقدر ، هل أنت مالك الطحال ؟ مالك البنكرياس ؟ لو اختلت وظيفته يصاب الإنسان بمرض السكَّر ، ما هو مرض السكَّر؟ هو عجز البنكرياس عن إفراز الأنسولين ، الأنسولين يحرق السكَّر ، أنتَ مالك البنكرياس ؟ مالك الطحال ؟
هل تملك الغدَّة الدرقيَّة ؟ هذه إذا زاد نشاطها يستهلك الإنسان كل طاقته ، وإذا خفَّ نشاطها يصبح خمولاً ، أحياناً الإنسان يكون عصبي المزاج ، لأن عنده إفرازاً في هذه الغدَّة بدرجة مرتفعة جداً ، أو يكون عنده خمول لأن إفرازها ضعيف ، هل أنت تملكها ؟ هل تملك الكظرين ؟ لو أنَّ هاتين الغدَّتين توقَّفتا عن العمل صار الإنسان جثَّة هامدة ، حَي لكنه لا يغضب ، ولا ينزعج ، ولا يثور ، ولا يعمل ، ولا يجتهد ، كسول ، خمول ، خنوع ، هذه الكظرين ، القزحيَّة ، الجسم البلوري ، الخلط الزجاجي ، الخلط المائي ، الشبكيَّة فيها مئة وثلاثون مليون عُصيَّة ، عشر طبقات يخرج منها عصب بصري ، أربعمئة ألف عصب تتصالب بمؤخرة الجمجمة ، وتصل إلى مركزي الرؤية ، هناك مركز رؤية في الدماغ لو تعطَّل لما رأيت شيئاً مع سلامة العين ، هل تملك العين ؟ هل تملك الأذن ؟ تستمع إلى النغم ، وإلى الضجيج ، هذا صوت فلان ، هذا صوت فلان آخر ، هذا الصوت رفيع ، هذا الصوت حاد ، هذا الصوت رخيم ، هذا الصوت مُزعج ، هل تملك الأذن ؟ هل تملك حاسة الشم ؟ تعرف عن طريقها الأطعمة والمأكولات والروائح ، هل تملك هذا اللسان لو تعطَّل ؟ ماذا تملك ؟ ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ هل تملك الدماغ ؟ هل تملك أن تنمو هذه الخلايا نموَّاً طبيعياً ؟ هذا الذي تنمو فيه الخلايا نمواً غير طبيعي ماذا يفعل ؟ تنتهي حياته ، مرض خبيث ، هل بيدك ملك نمو الخلايا ؟ ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ ..
كلَّما عرفت الله تتواضع وتعرف أنه لا يليق بك أن تعبد سواه :
نحن تحت ألطاف الله عزَّ وجل ، مليون مَليون مَلْيون عامل لبقائنا أحياء ، خليَّة لو نمت نمواً زائداً مشكلة ، لو أن غدَّة لا ترى بالعين قصَّرت مشكلة ، الكظر إنْ أوقفَ إفرازُه مشكلة ، زاد إفرازه مشكلة ، من يصدِّق أن مرضاً خطيراً كارتفاع الضغط مثلاً يسبب له تسرُّعاً في القلب ، يسبب له أزمات كثيرة جداً ، أسبابها أن شريان الوريد الكلوي أضيق مما يجب ، فالكلية حينما تضعف فيها التروية يرتفع الضغط في الإنسان ، مع ارتفاع الضغط يتعب القلب ، مع تعب القلب تتصلَّب الشرايين ، قضيةُ دارةٍ معقدَّة جداً .
عندما يستيقظ الإنسان صباحاً يقول : أصبحنا وأصبح الملك لله ، أي الله عزَّ وجل سمح لك أن تعيش يوماً جديداً ، بدءاً من الغدد الصمَّاء ؛ النخاميَّة ، الدرقيَّة ، البنكرياس ، الكظر ، الطحال ، الجهاز الهضمي ، الزغابات ، الامتصاص ، العظام ، كلُّه يعمل بانتظام ، القلب ، الدسَّامات ، الأوردة ، الشرايين ، الأعصاب كلُّها تعمل بانتظام ، عضلات ، وجلد ، وأعصاب ، وعظام ، وأجهزة ، وحواس خمس : ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ لا تملك شيئاً أنت :
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)﴾
فكلَّما عرفت الله عزَّ وجل تتواضع ، يصغر حجمك ، تفتقر إليه ، لا ترى أنه يليق بك أن تعبد سواه :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
الله عزَّ وجل قدرته لا نهائيَّة أنَّى يكون له ولدٌ ؟!
شيءٌ آخر ؛ ﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا (2) ﴾ الإنسان يتخذ ولداً ، يقول لك : ليكون من بعدي ، تركت مالاً كثيراً ، هذا من أجل أن يرث هذا المال من بعدي ، فمن الذي يبحث عن الولد ؟ الذي له أجل ينتهي عنده ، من الذي يبحث عن ولد ؟ هو الضعيف ، يقول لك : هذا جعلته لكبري ، يكبر الإنسان ، يضعف عن العمل ، تزداد متاعبه ، تزداد آلامه ، يبقى في البيت ، بحاجة إلى من يخدمه ، فالولد تعبير عن الضعف ، وعن انتهاء الأجل ، لكن هذا الخالق العظيم هل له نهاية ؟ لا نهاية له ، هل أصابه تعبٌ أو إعياء ؟ لا ، فالله عزَّ وجل قدرته لا نهائيَّة أنَّى يكون له ولدٌ إذاً ، وخلق كل شيءٍ ؟!
بعض الأدلة من القرآن الكريم على وحدانية الله :
لذلك :
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) ﴾
[ سورة الإخلاص ]
لم يكن قبله إله عظيم جاء منه ، ولا يوجد إلهٍ سيأتي بعده : ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) ﴾ وليس معه إله بمستواه : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) .. لم يأتِ قبله أحد ، ولن يأتيَ بعده أحد ، وليس معه أحد ، هو الواحد الأحد ، فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ (2) ﴾ عندما يكون لربنا عزَّ وجل شريك فرضاً فأنت معذور أن تعبد الله أو أن تعبد هذا الشريك ، إله ثانٍ ، أما ربنا قال لك :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
ليس معه شيء ثانٍ ، ﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ(123) ﴾ أيُّ مخلوق آخر لا قيمة له إطلاقاً ، كن فيكون ، زُل فيزول ، مخلوق آخر لا وجود له إلا الله ، هو الواحد الأحد ، فعندما يطيع الإنسان إنساناً ويعصي الله كم هو جاهل ! كم هو أحمق ! كم هو غبي !
﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ (2) ﴾ لا يشرك في ملكه أحداً :
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
لا أحدَ يدخل مع الله ، وإذا أعطاك مَن يمنعك ؟ ثم مَن يعطيك إذا ما منعك ؟
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
الله عز وجل هو الذي قدر الإنسان هذا التقدير الحكيم :
﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ خلق كل شيءٍ ، الإنسان له طول معيَّن ، وله وزن معيَّن ، هناك حالات مرضيَّة نادرة يزداد طول الإنسان بسببها مِن دون حدود ، حالة خطيرة جداً قد تنتهي بالانتحار ، شيءٌ لا يُحتمل ، وقد يضعف النمو عن الحد المعقول ، مَنْ قدَّر الإنسان هذا التقدير الحكيم ؟ مَن جعله بهذا الوزن المناسب ؟ بهذا الطول المناسب ؟ مَن جعل له هذا الطرَف بهذا الطول المناسب ؟ يقضي كل حاجاته ، يغتسل اغتسالاً كاملاً بهذه اليد ، لو أنها أطول من ذلك ، لو أنها أقصر من ذلك ، لو أنها بلا مفصل ، كيف يأكل ؟ وكيف يعمل ؟ ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ هذه المفاصل من حدَّدها ؟ من حدَّد أماكنها ؟ من حدَّد جهاتها ؟ هذا عضو إنسي ، الرُكبة عضو وَحشي ، بالمكان المناسب يوجد مفصل ، بالجهة المناسبة يوجد مفصل ، هذا المفصل دائري ، هناك مفصل على مئة وسبعين درجة تقريباً الرقبة ، مئة وسبعين درجة وليس مئة وثمانين درجة ، هناك مِفْصَلٌ دائري ، مفصل كروي ، مفصل أنسي ، مفصل وحشي ، من بنى هذا المفصل ؟ غضاريف مع مواد زيتيَّة ، لا توجد آلة إلا وتحتاج إلى زيت ، تزييت داخلي دائم مدى الحياة ، هذا البصر له عتبة ، لو أنك ترى كل شيء ما أمكنك أن تشرب كأس الماء ، كأس الماء هذا فيه ملايين البكتريات ، أنت تراه ماء صافياً ، زلالاً ، رائقاً ، من جعل هذه الرؤية بهذا الحد ؟ لو تمكَّنت أن ترى فوق هذه العتبة لرأيت وجه الإنسان كأنه أخاديد وكهوف ، لكن ربنا عزَّ وجل جعل للبصر عتبة معيَّنة مناسبة ، أما الصقر فهو يرى ثمانية أمثال الإنسان ، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ بعضُ الحيوانات تسمع أربعة وعشرين ضعفاً عن الإنسان كالأرانب والقطط والكلاب ، لها حس مرهف دقيق جداً ، الكلب يشم مليون ضعف عن الإنسان ، الكلاب البوليسيَّة ، إذا إنسان مجرم أمسك شيئاً يتَّبعه بين آلاف الأشخاص فيعرفه ، مَن قدَّر الشم بهذا الحد ؟ لو زاد أكثر لكانت مشكلة ، يشم رائحة من خمسين بيتاً حوله ، إذا قَلى الناس طعاماً معيَّناً ينزعج الإنسان منها ، الشم معقول ، السمع معقول ، البصر معقول ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ الأمعاء طولها معقول ، لو كانت أقصر لكان الإنسان كل ساعة يضطر لِيَقضي حاجة ، لكن طولها ثمانية أمتار ، لو كان خمسة أمتار مشكلة ، مترين مشكلة ، لو كانت خمسين متراً لكان بحاجة إلى مستودع لأمعائِهِ ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ ، حجم المثانة حجم معقول ، الإنسان يبقى خمسَ ساعات أو ثماني ساعات ليقضي حاجة ، لو لم تجد المثانة لكان هناك مشكلة ، كل عشرين ثانية نقطتا بولٍ ، مشكلة كبيرة جداً ، لو أن المثانة ليس فيها عضلات لاحتاج إلى فترة طويلة ليفرِّغ البول منها ، وإذا لم تجد هناك عضلات لاحتاج إلى تنفيس هواء ، لاحتاج إلى أنبوبة لكي تُنفِّس الهواء ويصلح حاله ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ ، انظر إلى إفراغ البول ، انظر إلى طول الأمعاء ، انظر إلى المفاصل ، عدد المفاصل ، أنواع المفاصل ، طول الأطراف ، عتبة السمع ، عتبة الرؤية ، عتبة الشم ، الأسنان حجمها ، لو أن العظام تنمو بلا حدود لكانت مشكلة كبيرة جداً ، فالله عزَّ وجل باسط وقابض ، تنمو العظام إلى أن تبلغ حدَّاً تقف عنده ، تنمو الأسنان إلى أن تبلغ حدَّاً تقف عنده ، تنمو الجُمجمة إلى أن تبلغ حداً تقف عنده ، مَن أوقف النمو في الوقت المناسب ، وفي الحجم المناسب ، وفي الزمان المناسب ؟ ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ ربنا عزَّ وجل جعل الأوردة في السطح ، والشرايين في الداخل ، الشرايين في أعماق الجسم ، لو كان الشريان في السطح لكانت أيَّةُ آلة جرحت الإنسان يموت على الفور ، لأن القلب يضخ الدم ، والشريان يصرِّف أكبر كميَّة من الدم ، إلى أنْ يتَّصلوا بالطبيب يكون المريض قد مات ، أمّا الله فقد جعل الأوردة في الخارج والشرايين في الداخل ، المكان الخطر الذي يمكن أن ينزف دمه كله من ضربة صغيرة قدّره الله فجعل الشريان داخلياً .
من قدَّر الدماغ في الجمجمة ؟ من قدَّر النخاع الشوكي داخل العمود الفقري ؟ مَنْ قدَّر القلب في القفص الصدري ؟ من قدَّر أخطر معمل في الإنسان- معامل كريات الدم -بنقْيِ العظام ؟ من قدَّر الجنين في حوض المرأة ؟
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)﴾
قرار مكين ، من قدَّر هذه الأمكنة الدقيقة جداً ؟ الله سبحانه وتعالى ، من جعل بين الدماغ وبين الجمجمة سائلاً ، هذا السائل إذا جاءته ضربة يوزعها على كل السطح ، لذلك الطفل يقع على الأرض وتستمع إلى صوت جمجمته لها دوي كدوي الآنية ومع ذلك يقف ضاحكاً ، لأن الله جهَّزه بجمجمة فيها مفاصل ثابتة ، هذه المفاصل تتحمَّل ضغطَ ميليمترٍ واحد فتمتص كل الصدمات ، وجعل له سائلاً بين الدماغ وبين العظام فهذا السائل أيضاً يمتص الصدمة ، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ .
مَنْ جعل الأظافر والأشعار بلا أعصاب حس ؟ والله هذه من آيات الله الكُبرى ، لو أن الله جعل أعصابَ حسٍ في الأظافر لقلنا : أين فُلان ؟ يقولون : واللهِ ذهب لإجراء عمليَّةِ قصِّ أظافر بمشفى الشامي ، عملية قص أظافر لأنه يحتاج إلى تخدير ، عمليَّة حلاقة في المستشفى ، الله جعل الشيء الذي يُزال باستمرار من دون أعصاب حس .
مَنْ جعل هناك أعصاب حس عالية المستوى في نِقْيِ العظام ؟ لو حدث كسر فالإنسان من شدَّة ألمه يُبقي رجله على حالها ، أربعة أخماس العلاج تحقَّق ، أربعة أخماس العلاج أن تبقي الكسر على حاله بفضل أعصاب الحس الحسَّاسة جداً في نقي العظام : ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ مَنْ جعل الشرايين مرنة ؟ القلب يضخُّ الضخَّةَ فيمشي الدم عشرين سنتيمتراً ، الشريان مثل المطَّاط عندما يأتيه تدفق الدم من عند القلب يتمدَّد ، عندما يتمدد يكون قد مُط ، وباعتباره مرناً سيرجع إلى حالته الأولى فيضغط ، عندما يضغط يدفعُ الدم عشرةَ سنتيمترات أُخَر ، فكل الشرايين تقوم بدور القلب ، القلب يضغط ضغطة والشريان بهذا النبض يحرِّك الدم في كل الأنحاء ، تخرج الكريَّة من القلب فترجع إلى القلب بعد ثماني عشرةَ ثانية ، تسير في كل أنحاء الجسم ، مَنْ قدَّر المرونة في الشرايين ؟ يقول لك : فلان معه تصلُّب شرايين ، صارت مثل النربيش الجاف لم يعد مرناً ، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ ، مَنْ الذي جعل المرأة ينتهي إنجابها في سنٍ معيَّنة ؟ أودع في مبيضها عدداً محدوداً من البويضات ، فإذا انتهت دخلت في سنِّ اليأس ، بينما الرجل بإمكانه أن ينجب حتَّى في الثمانين ، تصوَّر امرأةً في الثمانين تنجب طفلاً ، وتحتاج أن تُرضعه ، وأن تربِّيه ، هذا صعب ، من قدَّر هذا التقدير ؟ أليست حكمة الله عزَّ وجل ، من قدَّر أن شعر رأس المرأة لا يسقط جميعه في أي حال من الأحوال ؟ أليس هذا من تقدير الله عزَّ وجل ؟ الرجل قد يفقد شعر رأسه كلَّه لكن المرأة ليست كذلك ، هذا من تقدير الله عزَّ وجل ﴿ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ ، طبعاً هذا فقط في الإنسان .
الله خلق كل شيء بأحسن تقويم :
انتقل للحيوان ، انتقل للخروف مثلاً لو أن الله ركَّب فيه طِباع الضبع مع لحم الخروف ، كيف نربيه ؟ كيف نستخدمه ؟ كيف نذبحه ؟ كيف نستأنسه ؟ مستحيل :
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾
إذاً الحيوانات مذلَّلة ، مَنْ جعل الصوف في هذا الحيوان لِنستفيد منه ، والجلد ، واللحم ، والعظم ، والشحم ، والدهن ، والحليبُ أنواع منوّعة منه ، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ انظرْ إلى الفاكهة ، لو كانت المشمشة بحجم البطيخة كيف تأكلها ؟ المشمشة لأنها لينة جداً تؤكل بلقمة واحدة ، لو كانت بحجم كبير ، لو كان جلد المشمش للبطيخ ، إنها لا تصل معك إلى البيت لأنك إنْ تحملها متراً صارت ماء أمامك ، جلد البطيخ قاسٍ ، هذا التقدير الدقيق ، هذا الجلد متين وذاك قاسٍ ، هذا يلمع ، وذاك فيه مادة شمعيَّة ، هذا له مادة عطريَّة ، هذا فيه مخمل ، هذا فيه أشواك ، من قدَّر هذا التقدير ؟!! مَنْ قدَّر أن هذا الطعام الذي تأكله الحيوانات تحصده ستَّ مرَّات في العام ؟ أول مرَّة ، والثانية ، والثالثة ، والرابعة ، مَنْ قدَّر هذا ؟
إذا فكَّر الإنسان في الكون عرف الله وعبده وإذا عبده سعِد بقربه :
لماذا يفكِّر الإنسان ؟ الإنسان كائن مفكّر لو لم يفكر لصار حيواناً ، قلنا في الدرس الماضي : إنّ الجماد شيء يشغل حيِّزاً ، أمّا النبات فهو يشغل حيزاً وينمو ، أما الحيوان فهو يشغل حيِّزاً وينمو ويتحرَّك ، أما الإنسان فهو يشغل حيِّزاً وينمو ويتحرَّك ويفكِّر ، فإذا عطَّل فكره فقد هبط إلى مستوى الحيوان : ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ هذا الإله العظيم أيُعْصَى ؟! هذا الإله العظيم أيُخالَف أمره ؟ ألا يُبْتَغى فضله ؟ أيعصى أمره ؟! هذه معرفة الله عزَّ وجل ، إذا فكَّرت في الكون عرفته ، فإذا عرفته عبدته ، فإذا عبدته سعدت بقربه ، خُلِقْتَ كي تسعد بقرب الله عزَّ وجل ، أنا ذكرتُ بعض الشواهد ولكن أتمنَّى على كل أخ مِن أخواننا الكرام أن يفكِّر وَحده في خلق جسمه ، بطعامه ، بشرابه ، بما حوله من كائنات ، من نباتات ، من حيوانات ، لماذا هناك خشب لا يتأثر بالمطر والبرد ؟ هذا خشب للنوافذ ، وهناك خشب للأثاث ، وخشب للصناعة ، سبحانك يا رب ! أنواع الخشب آية من آيات الله الكبرى الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل ، هناك خشب خصوصاً للآلات ، فيه مرونة وفيه متانة في آنٍ واحد ، فكّر بالأخشاب ، فكِّر بالأسماك ، بالأطيار ، بالصحارى ، بالبحار ، بالسهول ، بالفصول الأربعة ، بدورة الأرض حول نفسها ، حول الشمس ، بمحورها المائل ، بالليل ، بالنهار ، بالشمس ، بالقمر ، بالمجرَّات ، مليون مَليون ملْيون مَلْيون موضوع يوصلك إلى الله عزَّ وجل .
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق ، لكن فكِّر يا أخي ، لا تستخدم هذا الفكر في أشياء تافهة ، بسفاسف الأمور ، بالإيقاع بين الناس ، في الاحتيال عليهم ، أنت مكرَّمٌ بهذا الفكر ، فكِّر بمخلوقات الله كي تعرف الله عزَّ وجل .
الذي أرجوه منكم أن يفكر كل واحد منكم كل يوم بكلِّ آية من آيات جسمه ، فكِّر بهذه اليد ، بهذه العين :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)﴾
﴿ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)﴾
الولادة آية من آيات الله الدالَّة على عظمته ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (2) ﴾ .. خلقاً ، وتربيةً ، وتسييراً ، ومصيراً ، وأنت مِنْ خلقه ، أنت ملكه ، جسمك ملكه ، حواسَّك الخمس ملكه ، عضلاتك ملكه ، حركتك ملكه ، تفكيرك ملكه ، ذاكرتك ملكه ، الغدد الصمَّاء ، كل شيء ملكه ، ألا تعبده ؟ أتعصي أمره ؟ ألا تحبُّه ؟ غَمَرَكَ بالنعم ألا تحبُّه ؟ ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) ﴾ في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع : ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا(3)﴾ .