- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (025)سورة الفرقان
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الله تعالى يحشر خلقه جميعاً يوم القيامة ويسألهم أمام الملأ :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة الفرقان .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿
الطاعة والمحبة لغير الله تعالى شرك ظاهر جليّ :
هؤلاء الذين اتخذوا الملائكة أرباباً مِن دون الله ، هؤلاء الذين اتخذوا الجن ، هؤلاء الذين عبدوا الأصنام ، هؤلاء الذين عبدوا بعض البشر ، أيْ كل إنسانٍ يتوجه بالطاعة ، والمحبة ، والولاء ، والإخلاص ، والاعتماد ، والتوكل على غير الله ، هذا شركٌ ظاهرٌ جَلِيّ ، فربنا سبحانه وتعالى يوم القيامة يجمع الخلائق كلها ، ويوجِّه إليهم السؤال التالي : يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)﴾
كل الأشياء التي عُبِدت من دون الله سوف تُسأل يوم القيامة :
إذاً هذا الذي عُبِدَ مِن دون الله سوف يُسأل ، وهذا الذي عَبَدَ من دون الله سوف يُسأل ، سوف يسأل مَن عُبِد ومَن عَبَد في الحشر أمام الملأ جميعاً وأمام الخلق كلهم :
أصل الاستفهام هو طلب العلم بالمجهول ولكن في اللغة العربية له أغراض كثيرة :
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
أي ماذا تنتظرون بعد ؟ لِمَ لم تنتهوا حتى الآن ؟ انتهوا ؟ فهذا استفهام قُصِدَ به الأمر :
أحياناً يأتي الاستفهام ويُقصد به النهي ، يقول الله عزَّ وجل :
﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي لا تخشوهم ، أَتَخْشَوْنَهُمْ ؟ استفهامٌ قُصِدَ به النهي أي لا تخشوهم .
وأحياناً يقصد بالاستفهام التسوية لقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) ﴾
أي يستوي إنذارهم وعدم إنذارهم :
وأحياناً يقصد بالاستفهام النفي لقول الله عزَّ وجل :
﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ(60) ﴾
أي ما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، هذا بند رابع في الاستفهام .
وأحياناً يأتي الاستفهام للإنكار ، يسمى الاستفهام الإنكاري ، كَقَوْلِ الله عزَّ وجل :
﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أيْ الله سبحانه وتعالى ينكر على هؤلاء أن يدعوا غير الله عزَّ وجل ، الاستفهام الإنكاري كثير الاستعمال في القرآن الكريم .
كذلك عندنا استفهام تشويق :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
هذا استفهام يقصدُ به التشويق .
وعندنا استفهام يقصد به الاستئناس :
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)﴾
ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يؤنسَهُ فسأله سؤالاً ، وأنت أحياناً قد تحب أن تؤنس ضيفك تسأله سؤالاً لطيفاً ، هذا السؤال تقصد به الإيناس وليس الاستفهام .
وقد يأتي الاستفهام بمعنى التقرير :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1)﴾
أي لقد شرحنا لك صدرك ، أمرٌ ، ونهي ، وتسويةٌ ، ونفيٌ ، وإنكارٌ ، وتشويقٌ ، وإيناسٌ ، وتقريرٌ .
وقد يأتي الاستفهام بمعنى التهويل :
﴿ الْحَاقَّةُ(1)مَا الْحَاقَّةُ(2)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ(3)﴾
هذا استفهامٌ يقصد به التهويل والتعظيم .
هناك استفهامٌ يقصد به الاستبعاد :
﴿ أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)﴾
أنّى له أن يفهم ، أي ما أبعدَهُ عن أن يفهم ، هذا استفهامٌ يقصد به الاستبعاد .
وقد يأتي استفهامٌ يقصد به التعظيم :
﴿
وقال :
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
هذا استفهامٌ يقصد به التعظيم .
وقد يأتي الاستفهام بمعنى التعجُّب :
وقد يأتي الاستفهام بمعانٍ كثيرة جداً ؛ كالتهكم ، والوعيد ، والاستنباط ، والتنبيه ، وغيرهم .
من عبد شيئاً من دون الله سينطق عنه يوم القيامة :
لكن هنا هذا الاستفهام استفهامٌ توبيخي ، توبيخ :
﴿
أيُّ شيءٍ يوم القيامة ينطقُ بالحق ، فحتَّى الحجارة التي عُبِدَت من دون الله تنطق يوم القيامة بالحق ، فهذا السؤال عام لكل الشُرَكَاء ، لكل الذين عُبِدوا مِن دون الله .
التسبيح في اللغة هو التنزيه والتمجيد وكلمة سبحانك فيها نفيٌ وإثبات :
ليس كل عطاءٍ عطاءً ربما كان المنع عين العطاء وربما كان العطاء عَيْن المنع:
أغنى الأغنياء من أعطاه الله الرزق الكفاف وشغله بمعرفته وملأ قلبه بنوره :
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾
أي هذا الكتابُ المنهج نسوا أن يقرؤوه ، نسوا أن يفهموه ، نسوا أن يتدبَّروه ، نسوا أن يعملوا به ، متعتهم بالمال ، والصحة ، والجاه ، والقوة ، وطول العمر ، وألفوا هذه الحياة ، ألفوا نعيمها ، انغمسوا في شهواتها ، أعجبتهم ، رضوا بها ، اطمأنوا لها ، وضربوا عُرْضَ الطريق بوعدك ووعيدك ، وذِكرك وقرآنك ، ولم يقرؤوه ، ولم يعوا ما فيه ، هذا تعليل هؤلاء الذين عُبدوا من دون الله ، يا رب نحن ما أضللناهم ، سبحانك أن ندَّعي أننا معك شركاء ، هذا لا يليق بنا ، ولا يليق بأي جهةٍ أخرى غيرك يا رب :
(( قد أفلح من أسلَم و رُزِقَ كفافًا ، و قَنَّعَه اللهُ بما آتاه ))
اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً ، أي إذا أعطاك الله عزَّ وجل الرزق الكفاف ، وشغلك بمعرفته ، وملأ قلبك بنوره ، وعرَّفك بذاته ، فأنت أغنى الأغنياء ؛ أما من أُعطي الدنيا وشغلته واستهلكته فمتى حسرته الكبرى ؟ عندما يأتيه الموت ، يرى أن هذه الدنيا لا تقدِّم ولا تؤخِّر ، ولا تنفع ولا تضر ، ولكنها كانت عبئاً عليه ، فالذكر هنا القرآن ، وبعضهم قال : الذكر هو الشكر ، يا رب كيف أشكرك ؟ فقال الله عز وجل : عبدي إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني ..
أحد أنواع الشكر أن تذكر الله فالمؤمن حياته كلها ذكر :
لمجرد أن تنسى الله عزَّ وجل فهذا أحد أنواع الكفر ، ولمجرد أن تذكره فهذا أحد أنواع الشُكر ، تذكرني ولا تكفرني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإذا ما نسيتني كفرتني لذلك من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً (41)﴾
المؤمن حياته كلها ذكر ، يذكر الله في بيته ، في عمله ، في طريقه إلى عمله ، في خَلوته ، في جلوته ، في حِلِّه ، في ترحاله ، في سفره ، في حضره ، في صحته ، في مرضه ، في غناه ، في فقره ، في قوته ، في ضعفه ، في شبابه ، في شيخوخته :
﴿
كم حالة ؟ إما أن تكون واقفاً ، وإما أن تكون مضطجعاً ، وإما أن تكون نائماً أو قاعداً :
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)﴾
إذا خرج من بيته يدعو الله عزَّ وجل : عن أم سلمة أم المؤمنين :
(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ إِذا خرَجَ من بيتِهِ : اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِك مِن أَن أضِلَّ أو أزِلَّ أو أظلِمَ أو أُظلَمَ أو أجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ . ))
إذا دخل بيته فله دعاء ، وإذا أوى إلى فراشه فله دعاء ، إذا خرج من بيت الخلاء فله دعاء : الحمد لله الذي أذاقني لذته ، و أبقى فيّ قوته ، و أذهب عني أذاه ..
الشكر بابٌ كبير من أبواب الإيمان :
إذا تمتَّع الإنسان بسمعه ، ببصره ، بقوته ، بحركاته ، بأعضائه ، بعقله ، رأى إنساناً مختل العقل فعليه أن يدعو الله بالشكر والحمد والثناء : فإنك إذا ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني ، جلست إلى المائدة تأكل من الطعام ، الله عزَّ وجل سَلَّمَ لك الأجهزة كلها ، هناك من يأخذ السيروم ، تأكل أنت هذا الطعام ، تأكله وأنت جائع ، وقد مَكَّنَكَ الله من أن تأكل ، وسمح لك أن تأكل ، أعطاك ثمن الأكل ، دخلت إلى بيتك ، رأيت أهلك في صحةٍ طيبة ، أولادك أمامك ، إنَّك إن ذكرتني شكرتني وإذا ما نسيتني كفرتني ، وبالشكر تدوم النعَم ، والنبي الكريم عليه أتمّ الصلاة والتسليم وجَّهَ بعض أصحابه فقال : " يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي شكره " ، فالشكر بابٌ كبير من أبواب الإيمان ، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال : الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ، فالصبر نصف الإيمان ، والصوم نصف الصبر ، فالصوم أصبح ربع الإيمان بكامله ، وإذا مُتّعَ الإنسان بالصحة ، والقوة ، والمال ، والجمال ، والأهل ، والأولاد ، لدرجة أنه استمرأَ هذه النعم ونسي بها الله عزَّ وجل هذه أصبحت نِقَماً وليست نِعَماً ، إنها استدراج ، والله سبحانه وتعالى يمدُّ أحياناً للكافرين مداً :
﴿
حجمك عند الله يوم القيامة بحجم عملك الصالح :
﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ
أيْ تأخذ ولا تعطي ، تستمتع ولا تُمتِّع ، تتلقى ولا تُلقي :
من عبد غير الله خسر في الدنيا والآخرة :
يقول الله عزَّ وجل لهؤلاء الذين عُبدوا من دون الله ، لهؤلاء الشركاء زوراً وبهتاناً :
عدم استطاعة الإنسان أن يصرف عن نفسه العذاب يوم القيامة :
للآية التالية معنيان :
1 ـ هي تسليةٌ لقلب النبي وتخفيف من آلامه ومتاعبه :
يقول الله عزَّ وجل :
2 ـ أصلٌ في طلب الرزق وكسب المال لإنفاقه على حاجات الإنسان الأساسية :
المعنى الثاني أن هذه الآية أصلٌ في طلب الرزق وكسب المال ، من أجل إنفاقه على حاجات الإنسان الأساسية ، لأن الإنسان في طبيعته مفتقرٌ إلى الطعام والشراب ، ومفتقرٌ مرةً ثانية إلى كسب ثمن الطعام والشراب ، أنت مفتقرٌ إلى الطعام ، ومفتقرٌ إلى العمل ، إذاً حقك في أن تأكل حقّ مقدَّس ، وحقك في أن تعمل حقّ مقدس ، لذلك إذا افتقر الإنسان ولم يجد له طعاماً فله حقّ في بيت مال المسلمين ، لأن هذه حاجة أساسية ، لا يمكن أن تقفَ على قدميك من دون طعامٍ وشراب ، وربما كان شهر الصيام لَفْت نظرٍ لطيفٍ إلينا لإشعارنا بضعفنا وعبوديتنا وحاجتنا إلى الطعام والشراب ، فهذه سنة الله في الخلق .
مكانة التجار في الإسلام :
شيء آخر ؛ لذلك أحلَّ الله البيع وحرَّم الربا ، أحلَّ التجارة ، وتسعة أعشار الرزق في التجارة : إن أطيب الكسب كسب التجار ؛ الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يُخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان لهم لم يعسروا ، وإذا كان عليهم لم يمطلوا ..
سبعُ صفات من صفات التُجَّار الصادقين المؤمنين ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام ليقول : عن أبي سعيد الخدري :
(( التَّاجرُ الصَّدوقُ الأمينُ معَ النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ . ))
لماذا ؟ هو لم يجاهد ، ولم يقاتل ، ولم يدعُ إلى الله ، ولم يعلِّم ، ولكنه أظهر للناس الإسلام بعمله ، دعا إلى الله بعمله ، والدعوة إلى الله بالعمل أبلغ بكثير من الدعوة إليه بالقَول ، لأن الناس يتعلَّمون بعيونهم لا بآذانهم ، ولأن لغة العمل أبلغ من لغة القول ، فربنا سبحانه وتعالى جعل هذه الآية أصلاً في أن التجارة ، والصناعة ، والزراعة ، والحِرَف ، والمِهَن ، والخدمات ، والمهن الفكرية كلها معايش ، أي وسائل لكسب الرزق ، وهي مشروعة .
النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى شابَّاً يصلي في المسجد سأله : مَن ينفق عليك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك ، الحياة عمل ، والشيء المعروف عن سيدنا عمر لما رأى إنساناً يقرأ القرآن في المسجد قال :
﴿
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن طاووس بن كيسان اليماني : عن عبدالله بن عمر :
(( بُعِثتُ بالسيفِ بينَ يدَي الساعةِ حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وجُعِلَ رزقِي تحتَ ظلِّ رمحِي ، وجُعِلَ الذلُّ والصغارُ على مَن خالف أمرِي ومَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم . ))
ويقول الله عزَّ وجل :
﴿
من يدّعي أن على الإنسان ألا يعمل فهو إنسان ضلّ عن الطريق الصحيح :
بعضهم يعتذر عن السعي لكسب الرزق بأصحاب الصفَّة ، أصحاب الصفَّة فئةٌ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا فقراء ، وكانوا يجلسون في زاوية المسجد ، وسُمِّيَت الزاوية حتى الآن الصفَّة ، بعد مقام النبي عليه الصلاة والسَّلام ، بعد أن يزار النبي ويتجه الزائر إلى جهة الجنوب ، ويتجه نحو الغرب ، هناك منصة مرتفعة في الحرم النبوي هذه اسمها الصفَّة ، كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله الفقراء يقبعون بها ، وكان النبي إذا جاءته الصدقة بعث بها إليهم ، وإذا جاءته الهدية أكلها معهم ، لكنهم كانوا يعملون ، كانوا يؤدُّون خدماتٍ للمسجد ، كما جاء في صحيح البخاري ، كانوا يسوقون الماء للمسجد النبوي الشريف ، وكان يحتطبون له ، أي يقدِّمون أكثر الحاجات لهذا المسجد ، فهذا أيضاً عمل ، فهذا الذي يدّعي أن الإنسان عليه أن يقبع في بيته ولا يعمل ، هذا إنسان ضلّ عن الطريق الصحيح ضلالاً بعيداً .
الله عزَّ وجل طالبنا بالأسباب لأنها سنة الله وسنة رسوله :
قال بعض المفسرين :
وهناك من يستنبط أن الله عزَّ وجل طالبنا بالأسباب ، فربنا سبحانه وتعالى كان بقدرته أن يجعل البحر طريقاً يبساً ، ماذا قال لسيدنا موسى ؟ قال :
﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
وفي آية أخرى :
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا
إذاً يجب أن تأخذ أنت بالأسباب ، والسيدة مريم ، كان الله عزَّ وجل في قدرته أن يسقط عليها التمر قال :
﴿
إذاً لابدَّ من السبب ، لابدَّ من التحرُّك ، وعندئذٍ ربنا سبحانه يقدِّم لك كل شيء .
أدلة من الكتاب والسُّنة على ضرورة العمل وطلب الرزق :
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)﴾
بعض المسلمين يفهمون هذه الآية فهماً خاطئاً ، يقول : على الله الرزق ، معنى كلمة الرزق في هذه الآية تعني المطر فقط ، المطر وحدها تكفي ؟ ألا تحتاج إلى زرع البذور ؟ إلى غرس الأشجار ؟ إلى تسميد التربة ؟ إلى حرث التربة ؟ إلى قطف الثمار ؟ إلى معالجة الأمراض ؟ من يدَّعي أن الرزق على الله عزَّ وجل أخذاً من هذه الآية :
﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ
وقال :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن عائشة أم المؤمنين
(( اطلُبوا الرزقَ في خَبَايا الأرضِ . ))
هناك إشارات :
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)﴾
أيْ الله عزَّ وجل أودع في الأرض طاقات مذهلة ، طاقات كامنة ، أودع فيها ثروات لا يعلمها إلا الله ، فكلَّما تقدَّم العلم اكتُشِفَ شيءٌ جديد ما كان في الحُسبان ، الله عزَّ وجل على كل شيءٍ قدير .
فهمٌ سقيمٌ خاطئ حينما يَفْهَمُ المسلم أن الحياة بالتوكُّل :
نبقى في هذه الآية يقول عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ.))
العمل شرف ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
(( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ - الطير كيف ترزق ، هل تبقى في أعشاشها ؟ قال : تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا . ))
إذاً يوجد غدو ، ويوجد رواح ، يوجد حركة إذاً ، يوجد سعي ، يوجد طَلَب ، يوجد أخذ بالأسباب ، إذاً فهمٌ سقيمٌ خاطئ حينما يَفْهَمُ المسلم أن الحياة بالتوكُّل ، والحياة بالاستلقاء ، والحياة بالتلقِّي ، الحياةَ بالعمل ، وحجمُك عند الله بحجم عملك ، والآيات ، والأحاديث ، والسيَرُ ، وآثار أصحاب رسول الله والتابعين والعلماء الأجلاء كلها تؤكِّد أن العمل شرف .
أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزوَّدون ، ويقولون : نحن المتوكِّلون ، فمرة قال لهم سيدنا عمر :
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
إذا ذهبت إلى الحج فتزوَّد ، أنْ تكون عالةً على الناس ، أن تأكل من طعام الناس ، مِن فتات الناس ، هذا لا يليق بالمسلم.
التوكُّل محله القلب والعمل مكانه الجوارح :
هذه الآية :
الأسواق هي أبغض البلاد إلى الله لأنها تشعر الفقير بحرمانه :
شيءٌ آخر ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة :
(( أَحَبُّ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا ، وَأَبْغَضُ الْبِلادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا . ))
يا ترى ما السبب ؟ لأن السوق فيه بضاعة ، بضاعة مُزَيَّنَة ، معروضة عرضاً شيِّقاً ، يمر الفقير ويمر الغني ، فقد يمر الفقير وليس في إمكانه أن يشتري هذه البضاعة ، يشعر بالحِرمان ، يشعر أن الله قد حَرَمَهُ الدنيا ، فعرضُ البضائع ، وتزيينها ، وإغراء الناس بشرائها ، وبيان ميِّزاتها ، فهل كل إنسان يملك ثمن هذه البضاعة ؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
هناك شيء آخر ؛ الأسواق تحبب بالدنيا ، يروى أن امرأة دخلت مكاناً للبيع فخماً جداً ، فقالت : " يا إلهي ، طبعاً ، ما أكثر الحاجات التي لا يحتاجها الإنسان " ، كلها أشياء كمالية ، الأساسية موجودة ، معظم الناس الأشياء الأساسية موجودة ؛ من طعامٍ ، وشرابٍ ، ومأوى ولباس ، ولكن التسابق ، والتنافس ، والتناحر ، ودفع الدين مُقابل الدنيا ، والكذب ، والنفاق ، والتملق ، والكفر ، والإلحاد من أجل الرفاه لا من أجل شيء أساسي ، أليس الله بكافٍ عبده ؟ عن عبد الله بن عمر :
(( مَنْ أصبَحَ منكمْ آمنًا في سِرْبِهِ ، معافًى فِي جَسَدِهِ ، عندَهُ ، قوتُ يومِهِ ، فكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدنيا بحذافِيرِهَا))
فالأساسيات موجودة ، ولكن التنافس البغيض ، وبيع الدنيا بالدين من أجل الرفاه والكماليَّات ، إذاً أولاً : السلعُ تحبِّب الناس بالدنيا وقد تصرفهم عن الآخرة ، وقد يعظِّم الإنسان صانعي هذه السلَع ، يراهم أناساً متفوِّقين ، فإذا عظمهم مَن هَوِيَ الكفرة حشر معهم ، ولا ينفعه عمله شيئاً ، أو أنها تكون أغلى مِن دخل الإنسان فيشعر بالحِرمان ، أو أن هناك اختلاطاً بالنساء ، فهذا يؤدِّي إلى الفسوق والفجور ، فالنبي هكذا قال :
الله عز وجل جعل بعض الناس لبعضهم فتنة :
لذلك الإنسان إذا جاء للمسجد وشعر بسرور وراحة فهذه علامة طيبة ، والمؤمن في المسجد كالسمك في الماء ، والمنافق في المسجد كالعصفور في القفص ، دائماً متضايق :
وعلى مستوى النساء جعل التي تفوَّقت في جمالها فتنةً للتي تَدَنَّىَ مستوى جمالها ، فالمؤمنة إذا عرفت ربها ، واستقامت على أمره فهي عنده غاليةٌ جداً ، وربما أسعدها في الدنيا والآخرة ، أتندب حظَّها ؟ أتنسى نعمة ربِّها عليها ؟ أتغمط نعمة الإيمان ؟ نعمة الهدى ؟ وقد جعل الله سبحانه وتعالى الأُخرى فتنةً للأولى ، أتستعلي عليها ؟ أتباهيها بجمالها ؟ أي هذه الحظوظ الموزعة في الدنيا وزِّعت توزيع ابتلاء ، وسوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء :
الإنسان دائماً ممتحن وعلامة معرفتك بالله صبرك على حكمه :
الإنسان إذا نجَّاهُ الله عزَّ وجل مِنَ الفتنة قال : أن يحبس كل منهما نفسه ، الغني عن البطر والفقير عن الضجَر ، الغني يجب أن يحبس نفسه عن البطر ، والفقير يجب أن يحبس نفسه عن الضجر ، والفتنة في أدق تعاريفها : " أن يحسد المبتلى المعافى ، وأن يحقر المعافى المبتلى " ، واللهِ أنت دائماً ممتحن ، أصابك شيء مزعج ممتحن ، لم تصبر ، لم تتجمل ، لم ترض ، أصابتك نعمة فأنت ممتحن ، لم تشكر ، لم تتواضع ، لم تخضع لله عزَّ وجل ، فأنت على الحالتين ممتحن ، في العطاء والمنع ، في القوة والضعف ، في الغنى والفقر ، في الصحة والمرض ، في إقبال الدنيا وفي إدبارها ،
كلما عرفت الله تواضعتَ له ورأيت فضله :
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
فكلما عرفت الله تواضعتَ ، وكلما عرفت الله رأيت الفضل ، وكلما عرفت الله عزوت الفضل لأهل الفضل .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين