الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ليس الكفر أن تنكر وجود الله ولكن الكفر أن تُعرض عنه ولا تعبأ بأمره :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة الفرقان.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ ربَّما ليس في القرآن الكريم آيةٌ أشدَّ وصفاً لجحود الكفار، واستهانتهم، واستكبارهم كهذه الآية: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ للكفَّار ﴿اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ اخضعوا له، استجيبوا له، صلَّوا، طبِّقوا أمره، هذه المفردات كلُّها مما تعنيه كلمة اسجدوا، ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ ، لم يقولوا: ومن الرحمن؟ لأنهم لو قالوا: من الرحمن، إنهم بهذا ينكرون الذَّات، أما حينما قالوا: وما الرحمن؟ إنهم يُنكرون الصفات، هم يقرِّون بوجوده ولكن وما الرحمن حتى نسجد له؟ لذلك ليس الكفر أن تنكر وجود الله عزَّ وجل؛ ولكن الكفر أن تُعرض عنه، ولكن الكفر ألا تقيم لأوامره قيمةً، ألا تعبأ بأمره ولا بنهيه، ولا بوعده ولا بوعيده، ولا بشرعه ولا بقرآنه، الكفر أن تعرض، أن تدير ظهرك لأوامر الله عزَّ وجل، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ فرعون قال هذا الكلام، قال:
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)﴾
[ سورة الشعراء ]
فحينما تسأل بحرف (ما) فإنَّك تنكر الصفات، هو استفهامٌ إنكاري، إنَّك تنكر الصفات، لكنَّك إذا استفهمت بـ (من) فلعلَّك تنكر الذات: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ ، أنسجُدُ؟ هذا إصرارٌ على الاستكبار، حينما جاءت كلمة أنسجد مرَّةً ثانية إن هذا إصرارٌ على الاستكبار، واستكبارٌ ثالث: ﴿أَنَسْجُدُ﴾ لم يقولوا: أنسجد لله: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ وكأنَّهم يترفَّعون عن ذكر اسم الله عزَّ وجل.
الاستكبار والاستنكاف عن عبادة الله :
﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ إنَّ دعوتهم إلى السجود زادتهم نفوراً، هذه صورةٌ صارخة، صورةٌ من صور الكفر والجحود، وكأن الله سبحانه وتعالى يسلِّي نبيَّه الكريم، أن يا محمَّد لا تجزع إذا كذَّبوك، لا تجزع إذا جحدوا نعمتك، إنهم بالله يجحدون، إنهم يكذِّبون الله عزَّ وجل، إنهم يستكبرون على الله.
﴿ لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ(172)﴾
[ سورة النساء ]
هناك من يستنكف عن عبادته، وهناك من يستكبر، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)﴾
[ سورة البقرة ]
نعوذ بالله أن نكون من المستكبرين.
السماء وما فيها من مجرَّات وهذه البروج تنطق بعظمة الله :
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)﴾ ربنا سبحانه وتعالى يبيِّن عظمته، يبيِّن جلاله فيقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ أي أن هذه السماء وما فيها من مجرَّات تنطق بعظمة الله، وما الرحمن؟ ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ هذه البروج التي نراها كل حينٍ في أثناء دورة الأرض حول الشمس إنها تنطق بعظمة الله، تنطق بوحدانيَّته، تنطق بجلاله، تنطق بقدرته، تنطق بحكمته، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)﴾ كلُّكم يعلم أن الأرض في دورتها حول الشمس تستغرق هذه الدورة ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً وربع اليوم، أربعة أرباع تكون السنة كبيسة، تكون الأيام في شهر شباط تسعةً وعشرين، في دورة الأرض حول الشمس كلَّما انتقلت الأرض من مكانٍ إلى مكان واجهت مجموعةً من النجوم اسمها البُرْج، وجمع البُرج أبراج، وربنا سبحانه وتعالى في آياتٍ أخرى يقول:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾
[ سورة البروج ]
فهذه البروج كما يسمِّيها بعضهم: برج العقرب، وبرج الجدي، وما إلى ذلك، هذه البروج مجموعاتٌ ضخمةٌ من النجوم تتراءى لأهل الأرض مع كل شهرٍ من شهور السنة، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق السماوات والأرض إنها كلَّها تنطق بحمده، تنطق بعظمته، تنطق بجلاله، تنطق بحكمته، تنطق بقدرته، فما قول هؤلاء: وما الرحمن؟ أي وما ضرَّ السحاب نبح الكلاب، وما ضرَّ البحر أن رمى فيه طفلٌ بحجر.
من آيات الله أنه جعل الليل والنهار يتعاقبان لنعلم عدد السنين والحساب:
﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)﴾ وهذه الشمس، والحديث عن الشمس يطول، إنها كوكبٌ مُلتهب، حرارتها عشرون مليون درجة في مركزها، ألسنة اللهب تزيد عن نصف مليون كيلو متر، تبعد عنَّا مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ومع ذلك تقول: كدت أحترق من أشعَّة الشمس، هذه الأشعَّة تبعد عنا مئةً وستةً وخمسين مليون كيلو متر، يقطعها الضوء في ثماني دقائق، ولو أن الأرض ألْقِيَت في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة، فكيف ببعض بروج السماء وهو برج العقرب الذي فيه نجمٌ يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما؟! ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ أي الليل يَخْلُفُ النهار، والنهار يَخْلُفُ الليل، أولاً: لنعلمَ العدد والحساب، ثانياً: من فاتته الطاعة في الليل أدركها في النهار، من فاتته في النهار أدركها في الليل، وربَّما جعل الليل والنهار مختلفين، هذا يطول وهذا يقصر، وتنعكس الآية في فصلٍ آخر، هذا أيضاً آية من آيات الله عزَّ وجل، جعل الليل والنهار يتعاقبان، ومن خلال تعاقبهما نعرف عدد السنين والحساب، وجعل الليل والنهار آيتين نذكر بهما عظمة الله عزَّ وجل، وإذا فاتتنا العبادة في الليل أدركناها في النهار، وإذا فاتتنا في النهار أدركناها في الليل.
الحدُّ الأدنى في الشكر أن تذكر نعمة الله عليك والحدُّ الأعلى أن تقابل النعمة بعملٍ طيب :
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ ، أولاً: يخلف بعضهما بعضاً، ثانياً: مختلفين في الطول والقِصَر، ثالثاً: مختلفين في الضياءِ والظلام، رابعاً: إنهما آيتان دالَّتان على عظمة الله عزَّ وجل، لولا أن محور الأرض مائلٌ لما اختلف طول الليل والنهار، لو أن محور الأرض عموديٌّ على مستوي الدوران لتساوى الليل والنهار ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾ أن يذكر الله عزَّ وجل. قال: " يا رب كيف أشكرك؟ " فقال الله عز وجل: يا بن آدم إنك إذا ذكرتني شكرتني، وإذا نسيتني كفرتني ، أي الحدُّ الأدنى في الشكر أن تذكر نعمة الله عليك، والحدُّ الأعلى أن تقابل هذه النعمة بعملٍ طيِّب، لقوله تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾
[ سورة سبأ ]
التذكر إما أن يكون في الوقت المناسب وإما أن يكون بعد فوات الأوان :
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ لكن لا بدَّ من التذكُّر، ولكن إما أن يكون هذا التذكٌّر في الوقت المناسب، وإما أن يكون بعد فوات الأوان، أعتى الكفَّار عند الموت يذكر، وعند الموت يتوب، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)﴾
[ سورة النساء ]
لذلك:
﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ(152)﴾
[ سورة البقرة ]
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا(42)﴾
[ سورة الأحزاب ]
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)﴾ .
عباد الرحمن نَسَبَهُمُ الله إلى اسمه الكريم وهذا أعظم تشريف لهم :
هؤلاء الذين يقولون: وما الرحمن؟ ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ ماذا يقابلهم؟ يقابلهم عباد الرحمن، هؤلاء العباد الذين نَسَبَهُمُ الله إلى اسمه الكريم، وهل من تشريفٍ أعظم من هذا التشريف أن تُنْسَب إلى ذات الله عزَّ وجل، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ أي هذا تشريفٌ عظيم أن يكون الإنسان عبداً للرحمن، فهل هو عبدٌ حقَّاً؟ ما صفات هؤلاء العباد، عباد الرحمن؟ الحقيقة هذه الصفات لماذا جاءت؟ جاءت هذه الصفات لتكون مقياساً لنا، يجب أن تعنيك هذه الصفات، يجب أن تسأل نفسك هذا السؤال: هل تنطبق هذه الصفات على صفاتي؟ هل صفاتي مطابقةٌ لهذه الصفات؟ إن كانت كذلك فأبشر فأنت من عباد الرحمن، وإن لم تكن كذلك فاجعل هذه الصفات هدفاً لك.
كما قلت في درسٍ سابق: هذا الذي تستهلكه الحياة يعيش لحظته، يعيش ليأكل، يعيش ليكسب المال، من دون أن يفكِّر في مبدئه، وفي منتهاه، هذا إنسانٌ تافه يعيش على هامش الحياة، لكن الله سبحانه وتعالى الآن يصف لكم عباد الرحمن، فالسؤال الكبير: هل أنت من عباد الرحمن؟ أو هل هذه الصفات كلُّها منطبقةٌ عليك؟ وإذا كان هناك اختلاف فهل هو خلافٌ كبير أم خلافٌ قليل؟ هل هو خلافٌ في عدد الصفات أم في الدرجة؟ هل الخلاف في النوع أم في الدرجة؟ وإن لم تكن هذه الصفات أو لم يكن بعضها اجعلها هدفاً من أهدافِك، من هم عباد الرحمن؟ ونرجو الله أن نكون من هؤلاء.
حركة الإنسان على وجه الأرض عبَّر عنها الله بكلمة ( يمشون ):
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ الحقيقة بعض المفسِّرين يقول: ليس القصدُ من هذه الكلمة أنه يمشي على وجه الأرض، كلُّنا نمشي، نحيا، المشي هنا بمعنى أنه يعيش على وجه الأرض، يتحرَّك، يذهب إلى عمله، يعود إلى بيته، ينطلق إلى نُزُهَاته، ينطلق إلى لقاء، إلى سهرة، إلى اجتماع، إلى لهو، إلى لعب، إلى دعوة إلى الله، إلى تَعَلُّم العِلم، هذه الحركة حركة الإنسان على وجه الأرض، ينطلق بدافعٍ من شهواته، بدافعٍ من أهدافه، بدافعٍ من مبادئه، بدافعٍ من قيمه، من حاجاته، من نزواته، حركة الإنسان على وجه الأرض، سعيه لكسب الرزق، سعيه لكسب العِلم، سعيه لكسب اللذَّة، حركة الإنسان على وجه الأرض عبَّر عنها الله سبحانه وتعالى بكلمة ( يمشون ).
من معاني : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا :
1 ـ عباد الرحمن يتمهَّلون في كل شيء ولا تأخذهم الأشياء بظواهِرها :
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ المعنى الأول: أي هم يتمهَّلون في كل شيء، لا تأخذهم الأشياء بظواهِرها، هُم يتأمَّلون، يتفكَّرون، يبحثون، يُقَلِّبون الأمر على وجوهه؛ هذا الموقف هل يرضي الله عزَّ وجل أم لا يرضيه؟ نشب خلافٌ بين أمِّك وزوجتك ماذا تفعل؟ لا يندفعون بدافعٍ من غرائزهم، بدافعٍ من نزواتهم، لا يتَّخذون مواقف مرتجلة، إنهم يمشون على الأرض هَوْنَاً، إذا شربوا كأس الماء لا يشربونه كالبهائم، يشربونه ويفكِّرون في هذا الماء العذب الفرات الذي وفَّره الله للإنسان، اللهمَّ أرنا نعمكَ بكثرتها لا بزوالها، ربَّما عرفنا في هذا العام قيمة الماء، هؤلاء: ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ ، قبل أن يعقدوا عقد زواجهم على امرأة يتريَّثون هل هذه المرأة صالحة؟ هل تنطبق عليها الصفات التي أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل آثرت في هذه المرأة دينها أم دنياها؟ هل آثرت جمالها أم مالها أم نسبها أم دينها؟ ﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ قبل أن يعقدوا صفقةً، هل هذه البضاعة ترضي الله عزَّ وجل أم أنَّ هذه البضاعة محرَّمة؟ هل طريقة هذا التعامل في شرائها أو بيعها مما يرضي الله عزَّ وجل؟ قبل أن يضعوا سعراً لهذه السلعة، هل هذا السعر يرحم المسلمين أم لا يرحمهم؟ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ عندهم تريُّث، عندهم تأمُّل، عندهم تفكُّر، عندهم وقوف عند كتاب الله، يسألون: ما هذا الحكم؟ ما حكم هذه الصفقة هل هي مباحة؟ هل فيها كراهة؟ نوع هذه الكراهة تحريميَّة أم تنزيهيَّة؟ ما نوع هذه الكراهة؟ هل هذا الشيء مُحَرَّم؟ هل هو مباح؟ هل هو حلال؟ ما الذي يُهلك الناس؟ أنهم يندفعون نحو شهواتهم من دون تَبَصُّر، تلوح لهم الدنيا فيندفعون نحوها بحقٍّ أو بغير حق، من طريقٍ مشروع أو من طريقٍ غير مشروع، بطريقةٍ ترضي الله أو لا ترضي الله، هان الله عليهم فهانوا على الله.
2 ـ عباد الرحمن يفكرون قبل أي حركة فهم لهم منهاج :
كلمة هوناً رائعة جداً، يفكِّر قبل أن يتحرَّك، قبل أن يذهب إلى البلد الفلاني يفكِّر، ما مصير بناتي وأولادي إذا كبروا هناك؟ هل بإمكاني أن أمنع ابنتي من أن تسبح على البحر بلباس السباحة؟ ماذا يحدث لي لو رأيت مع ابنتي شابَّاً صديقاً لها إذا أقمت في بلاد الكُفر؟ يفكِّر قبل أن يندفع إلى السفَر، وإلى أن يقيم في هذه البلاد يفكِّر في مستقبل بناته، في مستقبل أولاده: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ قبل أن يُرسل ابنه إلى بلاد الغرب، ما احتمال أن يفسد دينه؟ ما احتمال أن يعود إلى بلده وهو يُنكر دينه؟ هناك احتمالات، فقبل أي حركة؛ حركة لكسب المال، حركة لقضاء متعة، حركة لعمل معيَّن، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ هم لهم منهاج، هذه الآلة قبل أن تشغِّلها بجهلٍ اقرأ التعليمات، هناك تعليماتٌ من الصانع، وأنت آلة، قبل أن تندفع إلى شيءٍ ما اقرأ التعليمات، كان سيدنا عمر رضي الله عن عمر وقَّافاً عند كتاب الله، قبل أن أشتري هذا المحل التجاري هل موقعه مناسب؟ قبل أن أشتري هذا البيت هل هو في منطقةٍ يكثر فيها الفساد؟ هل أخاف على بناتي وعلى أولادي من هذه المنطقة مثلاً أم أنتقي لهم حيَّاً آخر؟ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ .
التسرُّع والعَجَلَة يُهلكان الناس لكن المؤمن يفكِّر ويقف ويتأَمَّل:
ما الذي يُهلك الناس؟ التسرُّع، العَجَلَة، الاندفاع نحو كسب المال، الاندفاع نحو قضاء اللذَّة، الاندفاع نحو المَجد الفارغ، الاندفاع نحو العلو في الأرض، قبل أن تقبل هذه الوظيفة هل تعرف أنك محاسبٌ محاسبةً دقيقةً من قِبَلِ الله عزَّ وجل عن كل موقفٍ تقفه، وعن كل أمرٍ تأمره، وعن كل نهي تنهاه؟ ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ المؤمن يفكِّر، يقف، يتأَمَّل، يُمَحِّص، يدقِّق، يُقَلِّب الأمر على وجوهه كلها، قبل أن تختار هذه الفتاة لابنك هل هي فتاةٌ مؤمنة تعينه على أمر دينه أم أنها طائشة؟ تسأل ابنك: ما الذي أعجبك في هذه الفتاة؟ أعجبك غنى أهلها؟ أعجبك جمالها؟ قبل أن تفكِّر في إعطاء ابنتك لشاب، ما الذي أعجبك في هذا الشاب؟ هل نفَّذت أمر الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾
[ سورة البقرة ]
أكثر الناس يندفعون من دون تبصُّر فإذا هم يقعون في شرِّ أعمالهم، قبل أن توافق على أن يدخل هذا الخطيب على ابنتك من دون عقد قِران، هل فكَّرت باحتمال أن يجلس معها جلساتٍ طويلة ثمَّ يغيب عن الأنظار؟ وماذا تفعل بعدئذٍ إذا كان الأمر قد وقع؟ قبل أن تقول: أنا مع الناس، لم أشأ أن أكن جِلْفَاً أو غليظاً وافقت، قبل أن توافق هل أدركت العواقب؟
على المؤمن أن يفكِّر في كل كلمةٍ ينطق بها وأن يكون وقَّافاً عند كتاب الله :
الشرع دقيق، هذا الشرع الإلهي يدور مع الناس في كل حياتهم؛ في حياتهم المنزليَّة، في علاقاتهم مع زوجاتهم، في علاقاتهم مع أولادهم، في علاقاتهم مع الناس، مع الجيران، مع من هم فوقهم، مع من هم دونهم، قبل أن تقف، قبل أن تنطق بكلمة، هل هذه الكلمة فيها خير؟ هل في هذه الكلمة غيبة؟ هل في هذه الكلمة نميمة؟ هل في هذه الكلمة بهتان؟ هل في هذه الكلمة إفك؟ هل في هذه الكلمة سُخرية؟ هل في هذه الكلمة كِبْر؟ هل في هذه الكلمة تجبُّر واستعلاء؟ هل في هذه الكلمة إفساد ذات البين؟ هل في هذه الكلمة تنغيصُ عيش هذه المرأة؟ قبل أن تقول لأختك وقد زرتها في العيد: ماذا قدَّمَ لكِ زوجكِ؟ هل فكَّرت في هذه الكلمة؟ لو أن زوجها لم يقدِّم لها شيئاً لقد جرحتها، لقد جعلتها تنظر إلى زوجها نظرةً غاضبة، قبل أن تنطق، أحياناً نظرةٌ تسبِّب مشكلة، فلذلك: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ في الكلمات؛ فكِّر في كل كلمةٍ تنطق بها، فكِّر في كل نظرةٍ، فكِّر في كل سماعٍ، فكِّر في كل لقاءٍ، فكر في كل نزهةٍ، فكر في كل سهرةٍ، في كل صفقةٍ، في كل حركةٍ، في كل سكنةٍ، كن وقَّافاً عند كتاب الله كما هي صفة سيدنا عمر، رضي الله عن عمر﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ .
عباد الرحمن وقتهم ثمين ويتمنَّون أن ينجوا بوقتهم وأنفسهم من السفيه والجاهل:
شيءٌ آخر؛ هؤلاء عباد الرحمن وقتهم ثمين، بل إن الوقت أثمن شيءٍ يملكونه، الوقت أثمن شيءٍ يملكونه، لذلك عباد الرحمن ليسوا مستعدين لينفقوا أوقاتهم الثمينة في القيل والقال، في كلامٍ فارغ، في موضوعٍ سخيف، في مناقشةٍ باطِلة، في محاورةٍ غير هادفة، هم أرقى من ذلك، وقتهم أغلى من ذلك، هدفهم في الحياة أسمى من ذلك، لذلك: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ ليس من التسليم؛ بل من السلامة، أي يتمنَّون أن ينجوا بوقتهم وأنفسهم من هؤلاء، فهذا الذي يهبط إلى مستوى السفيه يناقشه، ويحاوره، ويأخذ ويعطي، ويتكلَّم ويناقش، هذا ليس من صفات عباد الرحمن: قال عليه الصلاة والسلام : عن الحسين بن علي بن أبي طالب:
(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها. ))
[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
وقتك ثمين فحافظ عليه، لا تنطق إلا بالحكمة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أوصاني الله بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر و العلانية ، والعدل في الرضا و الغضب، و القصد في الفقر والغنى، وأن أعطي من حرمني، و أعفو عمن ظلمني، وأن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبر. ))
[ مشكاة المصابيح للتبريزي بألفاظ قريبة مما ذكر، وقال: رواه رزين.ويؤيده ما جاء في مسند الإمام أحمد وصححه الأرناؤوط ]
وأنت راكب في مركبةٍ عامَّة فكِّر، فكِّر في شيءٍ يعينك على معرفة الله عزَّ وجل، فكر في أعضائك، فكر في أجهزتك، فكر فيما تراه حولك من آياتٍ دالَّةٍ على عظمة الله: (( أُمرت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً )) .
صفات عدة تجرحُ عدالة الإنسان وأثمن شيءٍ يملكه الإنسان هو عدالته:
لا تنطق بالباطل.
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من قومٍ يقومونَ من مجلسٍ لا يذكرونَ اللهَ فيهِ إلا قامُوا عن مثلِ جيفةِ حمارٍ، وكان لهم حسرةٌ. ))
[ صحيح أبي داود ]
لا تجلس في مجلسٍ فيه حديث عن النساء، لأنه كما تعلمون إن هناك صفاتٍ تجرحُ عدالة الإنسان، وأثمن شيءٍ تملكه أنت عدالتك، من الذي يجرح العدالة أن تجلس مجلساً يتحدَّث فيه عن النساء، هذا المجلس يجرح عدالتك، أن تتنزَّه في الطرقات، هذا أيضاً يجرح العدالة، أن تصاحب الأراذل، هذا أيضاً يجرح العدالة، صحبة الأراذل، التنزُّه في الطرقات، الحديث عن النساء، تطفيفٌ بتمرة، أن تأكل لقمةً من حرام، تطفيفٌ بتمرة، من علا صياحُهُ في البيت هذا أيضاً يجرح العدالة، من أطلق لفرسه العِنان هذا أيضاً يجرح العدالة، من قاد برذوناً في الطريق - حيوان مخيف - هذا أيضاً يجرح العدالة، من بال في الطريق، من أكل في الطريق، عَدَّ العلماءُ ثلاثة وثلاثين موقفاً لو فعلها الإنسان جُرِحَت عدالته، لذلك قبل أن تأكل في الطريق هذا يجرح العدالة، قبل أن تمشي في هذا الطريق، هذا الطريق لا يليق بك أن تمشي فيه إلا لأمرٍ قاهر، يجب أن تأخذه عرضاً لا طولاً: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ ليس من التسليم؛ بل من النجاة، أي يحفظون وقتهم، يحفظون شعورهم، يحفظون فكرهم من هذا: (( مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلا قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً)) وفي حديُثٍ آخر:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما اجتمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ يتلونَ كتابَ اللَّهِ، ويتدارسونَهُ فيما بينَهم إلَّا نزلَت عليهِم السَّكينةُ، وغشِيَتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتهُمُ الملائكَةُ، وذكرَهُمُ اللَّهُ فيمَن عندَهُ. ))
[ صحيح مسلم ]
عباد الرحمن في النهار لهم هدفٌ كبير يبحثون عن وسيلةٍ لتحقيق هذا الهدف:
﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ هم في النهار لهم هدفٌ كبير يبحثون عن وسيلةٍ لتحقيق هذا الهدف، وفي النهار أيضاً معرضون عن الجاهلين، من هو الجاهل؟ الجاهل هو الذي جَهِلَ ربَّه، وجَهِلَ نفسه، وجهل أصله، وجهل منتهاه، وجهل شرع الله عزَّ وجل، وجهل لماذا هو على وجه الأرض، وجهل طبيعة العمل الصالح، جهل كتاب الله، هذا جاهل:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ﴾
[ سورة الروم ]
والجاهل أيضاً السفيه، إما الجاهل من الجَهْل، وإما الجاهل من الجَهَالة، الذي يسفُه في كلامه، يُسِفّه في تصرُّفاته، ينحط إلى مستوى لا يليق به، هذا أيضاً جاهل، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ فقد ورد: اصرم الفاسق، اصرم السفيه. السفيه ترفَّع عنه، ليس هذا كِبْراً ولكن قصماً له وحسماً لشرِّه، ترفَّع عنه، لا تهبط إلى مستواه.
ليل عباد الرحمن وخاصة ليالي الشتاء للقيام والعبادة :
هذا في النهار أما في الليل ماذا يفعلون؟ ولاسيما في ليالي الشتاء، حيث الشتاء كما قال عليه الصلاة والسلام: عن أبي سعيد الخدري :
(( الشتاءُ ربيعُ المؤمِنِ. ))
[ ضعيف الجامع : حكم المحدث: ضعيف ]
طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه، ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ حيث الناس يقبعون وراء أجهزة اللهو، وحيث الناس يقرؤون القصص غير اللائقة، وحيث يجلسون نساءً ورجالاً يتبادلون ألوان الحديث المُمْتِع وغير الممتع، هم: ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ هم يجلسون كما قال الله عزَّ وجل لسيدنا موسى:" يا موسى أتُحبُّ أن أكون جليسك؟ " قال: " كيف ذلك يا رب؟ " وقد وُصف الصحابة الكرام عليهم رضوان الله بأنهم فرسانٌ في النهار، رهبانٌ في الليل.
المؤمن لا يطمئن إلا إذا توفَّاه الله على الإيمان وختم له عمله الطيِّب بالإحسان:
الليل ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1)﴾
[ سورة القدر ]
لأن مجال الإقبال على الله، والتقرُّب منه، والتهجُّد له، وذكره في الليل حيث الناس نيام: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)﴾ ومع أنهم مستقيمون على أمر الله، ومع أنهم على الصراط المستقيم، ومع أنهم ملتزمون، ومع أنهم طائعون، يخافون الله عزَّ وجل، وكلَّما زاد علمك زاد خوفك، كلَّما زادت معرفتك زاد شعورك بالتقصير، لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: " كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " ، فهؤلاء كما قال بعض التابعين: " التقيت مع أربعين صحابيَّاً ما منهم واحدٌ إلا ويظنُّ أنه منافق " ، لعِظَمِ حقِّ الله عليك، لعظم المهمَّة التي أنت بصددها، لذلك تشعر أن هناك مسؤوليَّةً كبيرة، لعلَّ في العمل خللاً، لعلَّ في النيَّة خللاً، لعلَّ في الهدف خللاً، لعلَّ هناك تقصيراً، لعلَّ هناك تعطيلاً، لذلك قلب المؤمن في خوف.
يُروى أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال على فراش الموت: " كلا بعد كلا بعد " وخاف تلامذته أن تكون هذه الكلمات بشارةً ليست مُرضية، بعد أن مات رآه بعض تلامذته، فقال: " يا سيدي ما فعل الله بك؟ ولماذا قلت: كلا بعدُ كلا بعدُ؟ "، قال: " يا ولدي جاءني الشيطان قبل أن أموت فقال: قد نجوت، فقلت: كلا بعدُ " . المؤمن لا يطمئن إلا في حالةٍ واحدة، إلا إذا توفَّاه الله على الإيمان، وختم الله له عمله الطيِّب بالإحسان، لذلك: عن أنس بن مالك:
(( إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملَهُ، فقيلَ: كيفَ يستعملُهُ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: يوفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ قبلَ الموتِ. ))
[ صحيح الترمذي ]
ربنا عزَّ وجل إكراماً للمؤمن، إذا كان هذا المؤمن حريصاً على طاعة الله يقبضه في أحلى ساعاته، في ساعات إقباله، في عمله الصالح، في صلاته، في قيامه، في ركوعه، في سجوده.
الإنسان كلَّما ارتقت معرفته ازداد تواضعه وازداد خوفه وحذره:
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ لا تجد الكِبر إلا في الضعفاء، أو في البعيدين، سيدنا يوسف وهو قمَّةٌ في العفاف، وهو مَضْرِبُ المثل ماذا قال؟
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
[ سورة يوسف ]
سيدنا إبراهيم ماذا قال؟ قال:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)﴾
[ سورة إبراهيم ]
معنى ذلك أن الإنسان كلَّما ارتقت معرفته ازداد تواضعه، وكلَّما ارتقت معرفته ازداد خوفه، وكلَّما ارتقت معرفته ازداد قلقه وازداد حذره، لهذا جاء في بعض الأحاديث الصحيحة: " أن المؤمن يرى ذنبه كأنه جبلٌ جاثمٌ على صدره، بينما المنافق يرى ذنبه كأنه ذبابةٌ حطَّت عليه فطارت " يقول لك: ماذا فعلت؟ ما الذي حدث؟
ما يزيد الذنب عِظماً عند الله أن تستصغره وما يقلِّل شأنه عند الله أن تستعظمه:
من يستهن بذنبه فهو من علامات النفاق، لذلك الإمام الغزالي عقد في الإحياء بحثاً لطيفاً قال: " ما الذي يجعل الذنوب الصغيرة كبيرةً؟ " من هذه الشروط أنه كلَّما استصغر العبد ذنبه كَبُر عند الله، وكلَّما استعظم العبد ذنبه صغُرَ عند الله، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا صغيرة من الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. ))
[ مختصر المقاصد : حكم المحدث : ضعيف ]
كلَّما أظهره للناس ازداد هذا الذنب عند الله عظماً، وكلَّما أخفاه هذا دليل الحياء، من هنا قال بعضهم: " إذا بُليتم بالمعاصي فاستتروا " ، أي هذا الذي يعصي الله جهاراً ولا يبالي هذا فاجر، وهذا ذنبه مضاعف، وهذا لا غيبة له، فقد ورد: اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس، أما الذي يفعل الذنب وهو مُتَكَتِّم، لا يحبُّ أن يُرى في هذه المخالفة، هذا عَرَّف بعضهم المسلم بأنه يغلب عليه الصلاح والتستُّر، فإذا أظهر ذنبه فقد جاهر بالمعصية، فمما يزيد الذنب عِظماً عند الله عزَّ وجل أن تستصغره، ومما يقلِّل شأنه عند الله عزَّ وجل أن تستعظمه، مما يعظِّم الذنب عند الله أن تجهر به، مما يُعَظِّم الذنب عند الله أن تصرَّ عليه.
الإنسان إذا عرف الله معرفةً جيِّدة ازداد خوفه وازدادت خشيته :
هؤلاء مع أنهم مستقيمون، مع أنهم مؤمنون، مع أنهم خائفون، مع أنهم وجلون، مع أنهم وقَّافون عند كتاب الله ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾ سيدنا عمر عندما قال: " ليت أم عمر لم تلد عمر، ليتها كانت عقيماً " ، كان بهذا يعني ما يقول، كان عمر رضي الله عنه يقول: "ليتني ألقى الله لا لي ولا عليّ" . يبدو أن الإنسان إذا عرف الله معرفةً جيِّدة يزداد خوفه، وتزداد خشيته، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك :
(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي. ))
[ صحيح البخاري ]
لعِظَمِ معرفته بالله عزَّ وجل، قال: عن أبي الدرداء :
(( لو تعلمونَ ما أنتم لاقُونَ بعد الموتِ ، ما أكلتم طعامًا على شهوةٍ أبدًا ، ولا شَرِبتم شرابًا على شهوةٍ أبدًا ، ولا دَخَلتم بيتًا تَسْتَظِلُّون به ، ولَمَرَرْتم إلى الصُّعُدَاتِ ، تَلْدُمون صدورَكم ، وتَبْكُون على أنفسِكم. ))
[ ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]
لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، نسأل الله العلم.
أخطر صفةٍ في عذاب النار أنه مستمر :
﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)﴾ معنى غراماً قال بعضهم: هذه من الغريم، الغريم صاحب الدين يلازم المَدين.
وقال بعضهم: الغَرام هو المُلازمة، فكلمة غراماً تعني عذاباً مستمراً، الإنسان أحياناً تُكْسَر رجله فلا يُبالي، لكن إذا قيل: لا بدَّ من أن تُقْطَع ينهار، لماذا هناك فرقٌ كبير بين كسر الرجل وبين قطعها؟ الكسر طارئ تُجَبَّر فتعود كما كانت، لكن القطع دائم، الشيء المستمر مخيف جداً، هناك أمراض كثيرة قد يشفى منها الإنسان، أما المرض المستمر هذا مرض مُخيف، المستمر ينتهي عند الموت، ولكن هذا العذاب إلى أبد الآبدين، فأخطر صفةٍ في عذاب النار أنه مستمر:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾
[ سورة الزخرف ]
﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)﴾ أنه مستمر، عذابٌ ملازمٌ لأصحابه لا ينفَّك عنهم:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)﴾
[ سورة النساء ]
﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾ ، أي:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
[ سورة القصص ]
﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)﴾ أين الاستقرار؟ كيف يستقرُّ الإنسان وهو في النار؟ وكيف تكون له مُقاماً؟ إذاً هؤلاء في النهار مفكِّرون، وقَّافون عند كتاب الله، يتأمَّلون، وعن الجهلة معرضون، وفي الليل يصلون ويسجدون، ويخافون ويحذرون.
النفقة معصية إن أنفقت في الباطل وطاعة إن أنفقت في الحق:
أما إذا أنفقوا، وإنفاق المال أوسع نشاطٍ في الإنسان، أي ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو ينفق ليأكل، ينفق لينام، ينفق ليسكن، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)﴾ بعضهم قال: الفضيلة وسطٌ بين طرفين، هذه الآية فسَّرها العلماء تفسيراتٍ كثيرة، قال العلماء: " إذا أنفقت في طاعة الله ألوف الألوف فأنت لست بمسرف، وإذا أنفقت في معصية الله دِرهماً واحداً فهذا إسراف، وإذا أنفقت في طاعة الله فهذه النفقة القِوام، الصحيحة، " هذا وجه، أي الذي يجعل النفقة صحيحة أن تكون في طاعة الله، وَفْقَ الشرع، والذي يجعلها معصيةً أن تنفقها في الباطل، والذي يجعلها طاعةً أن تنفقها بالحق.
الله تعالى في ثماني آياتٍ في كتاب الله وصف المُترفين بأنَّهم كافرون:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ أي في طعامهم، وفي شرابهم، وفي سُكناهم، وفي حياتهم النفقة المعتدلة، لأن الله سبحانه وتعالى في ثماني آياتٍ حصراً في كتاب الله وصف المُترفين بأنَّهم كافرون، لماذا؟ لأنه جعل الدنيا كُلَّ همِّه، لأنه جعل النعيم فيها كل شيءٍ في حياته، لأنه نقل اهتماماته من الآخرة إلى الدنيا، وهو بعمله لم يبال بالآخرة، طبعاً لا إسراف في الخير، ولا خير في الإسراف، في طاعة الله، في الإنفاق في سبيل الله ليس هناك سقف، ولكن فيما يتعلَّق في النفقات التي تنفقها من أجل أن تعيش، هذه النفقات يجب أن تكون معتدلة:
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)﴾
[ سورة الإسراء ]
النبي الكريم نهى عن نوعين من الألبسة، نهى عن ألبسةٍ مشهورة ونهى عن ألَبْسَةٍ مهجورة، أي الثياب البالية التي تزري بصاحبها هذه مهجورة، والثياب الغالية جداً التي تجعل الناس يرمقونك بأبصارهم إعجاباً هذه أيضاً غير مشكورة، الاعتدال، لباس مقبول، لطيف، أنيق، فيه ذوق، من دون إسراف، من دون مَخْيَلَة، هذا في اللباس، وفي الطعام، وفي السُكْنى، وفي كل النشاطات، لأنك إذا عرفت ما عند الله من ثواب هذا المال الذي تنفقه بطراً ورئاء الناس لو أنفقته في سبيل الله لارتقى بك إلى أعلى عليين.
الدرهم إذا أنفقته في طاعة الله ارتقى بك إلى الجنَّة:
أنت في دار تكليف لا في دار تشريف، أنت في دار عمل لا دار جزاء، لو أنك في دار الجزاء لأُبيحَ لك أن تنفق ما تشاء، ولكنك في دار عمل، كل شيءٍ محاسبٌ عليه، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ ؟ وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟ ))
[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]
وقال أيضاً: عن جبير بن مطعم :
(( ليسَ منَّا منْ وسَّعَ اللهُ عليهِ ثمَّ قترَ على عيالِهِ . ))
[ السيوطي : الجامع الصغير خلاصة حكم المحدث : ضعيف ]
وأن تضع اللقمة في فم زوجتك هي لك صدقة لكن باعتدال، عندما أوصانا النبي الكريم بالجار قال:
(( وإذا اشتريت فاكهةً فأهد له منها فإن لم تفعل فأدخلها سرَّاً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها . ))
[ ضعيف الترغيب ]
أي بالإنفاق، هناك من ينفق المال ليطعم الناس ويفتخر بهذا الإطعام، هذه دعوةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل، ولكنَّك إذا أطعمت إنساناً تبتغي بهذا الإطعام أن تشبعه، أو أن تكسب قلبه فهذا إطعامٌ مشروع ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا﴾ لأن هذا الدرهم إذا أنفقته في طاعة الله ارتقى بك إلى الجنَّة، فإذا أنفقته في معصية الله كان حجاباً بينك وبين الجنَّة، فأنت محاسب عن هذا المال، أي هذا الذي ينفق أموالاً طائلة، وهناك أناسٌ يتمنَّون أن يأكلوا شيئاً من اللحم، هذا الإنفاق المبذر والمسرف يقابله جوعٌ شديد، كأن الله سبحانه وتعالى يحاسبك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك :
(( ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به. ))
[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
ما آمن.
المُلَخَّص أن هذا المال الفائض الذي تنفقه تبذيراً وإسرافاً، لو أنفقته في طاعة الله لارتقى بك إلى أعلى عليين، ولكان زاداً لك إلى الجنَّة.
اثنان لا تقربهما الإشراك بالله والإضرار بالناس :
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ أعظم شيءٍ يقع فيه الإنسان الشرك بالله، لهذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾
[ سورة النساء ]
اثنان لا تقربهما الإشراك بالله والإضرار بالناس، أعظم ذنبٍ بعد الشرك أن تقتل نفساً بغير حق، أعظم شيءٍ بعد القتل أن تزني، لأن الزنا قتل، ولكنه قتل معنوي، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)﴾
[ سورة البقرة ]
التوحيد كفكرة سهل أما أن تعيش التوحيد فهذا شيءٌ يحتاج إلى جهد كبير:
لو أن الفتاة قُتِلَت وهي بريئة لدخلت الجنَّة، لكنَّها إذا زَلَّت قدمها، وغَوَت، واستمرأت هذا العمل، وأمضت به حياتها دخلت إلى النار، فقتل النفس بآلةٍ حادَّة لا يقلُّ عن قتلها بإفسادها، كلاهما قتل، لذلك في سورة الإسراء جاء الزنا بين قتلين لأنه قتل، الإنسان له كرامة، له عِفَّة، له شرف، له وجهة إلى الله عزَّ وجل، إذا زلَّت قدمه هبط عن هذا المستوى إلى مستوى الحيوان فانقطع عن ربه، فهؤلاء عباد الرحمن ﴿لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ موحِّدون، والتوحيد أيها الأخوة كفكرة سهل؛ أما أن تعيش التوحيد فهذا شيءٌ يحتاج إلى جهد كبير، أي ألا ترى مع الله أحداً، هذه الرؤية تحتاج إلى أعمال، وإلى مجاهدة، وإلى تفكُّر، وإلى بحث، وإلى ملازمة، وإلى صدق، أما أن تسمع أنه لا إله إلا الله، فسماع الفكرة سهل، لكن ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
سورة محمد
لم يقل: فاسمع، لم يقل: فقُل، قال: فَاعْلَمْ، فالعلم يقتضي البحث، فإذا رأيت أنه لا إله إلا الله، وأنه ليس مع الله أحد، هذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، والتوحيد نهاية العِلم، أي نهاية النهاية ألا ترى مع الله أحداً، فإذا رأيت زيداً أو عبيداً، وفلاناً أو علاناً، وفلاناً بيده الأمر الفُلاني، فلان بيده أن ينفع، فلان بيده أن يضُر، هذا هو الشرك.
نفي الزنا عن المؤمنين أبلغ من نهيهم عن الزنا :
هؤلاء عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ هناك أشخاص كلَّما رأوا حشرة داسوها بأقدامهم، من دون تحقُّق، من دون تَبَصُّر، هذه تُقْتَل، هذه لا تُقْتَل، هذه يجوز قتلها، هذه لا يجوز، هكذا، من دون وعي؟ المؤمن وقَّاف عند شرع الله، يسأل: هل يجوز قتل هذه الحشرة أم لا يجوز؟ ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ هذه (لا) نافية، ونفي الزنا عن المؤمنين أبلغ من نهيهم عن الزنا، إذا نهيت إنساناً عن الزنا فكأن الزنا داخلٌ في حساباته، إذا نهيت موظَّفاً عن التأخُّر فكأن التأخُّر من عادته، أو كأن التأخُّر محتمل أو ممكن، لكنَّك إذا نفيت عنه الشيء هذا أبلغ من النهي عنه، ففرقٌ بين النهي وبين النفي، ربنا عزَّ وجل يقول: ﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾ وإن زنا وإن سرق في بعض الأحاديث الشريفة أي هذه في الماضي، فالله سبحانه وتعالى يتوب عن المؤمن وإن كان له ماضٍ لا يرضي، أما تصور مؤمناً يزني هذا مستحيل، يستحيل بحقِّ المؤمن ذلك، فهذه الآية تؤكِّد هذا المعنى، الله سبحانه وتعالى ينفي عنهم الزنا: ﴿وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ يلقى الإثم، يلقى البعد، يلقى الحرمان، يلقى اللعن من الله عزَّ وجل.
غفلةٌ يسيرة عن الحق تسوق الإنسان إلى النار:
﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)﴾ المعصية تنتهي بالهَون، ربما كما قال عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وضعَ لهُ وقاهُ اللهُ مِن فَيْحِ جهنَّمَ، ألا إنَّ عملَ الجنَّةِ حَزنٌ بِرَبوةٍ ثلاثًا، ألا إنَّ عملَ النَّارِ سَهلٌ بسَهوةٍ، والسَّعيدُ مَن وُقيَ الفِتنَ، وما مِن جرعةٍ أحبَّ إلى اللهِ من جَرعةِ غَيظٍ يكظِمُها عبدٌ ما كظَمها عبدٌ للَّهِ إلَّا ملأَ جوفَه إيمانًا. ))
[ ابن كثير المصدر تفسير القرآن العظيم، حديث حسن، أخرجه أحمد واللفظ له، ]
إذا الإنسان أعطى نفسه ما تشتهي، استرخى، أطلق للسانه العِنان، أطلق لعينيه العنان، نظر بهما إلى الحرام، تكلَّم بما يعنيه وما لا يعنيه، بما يجوز وما لا يجوز، بما هو حق وبما هو باطل: (( إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ثَلاثًا أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) ، غفلةٌ يسيرة تسوق الإنسان إلى النار.
(( دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ ))
[ صحيح البخاري ]
هرَّة حبستها،
(( عن أبي هريرة: قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها، غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ، قال: يا رَسولَ اللهِ، فإنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن قِلَّةِ صيامِها وصَدقَتِها وصَلاتِها، وإنَّها تَتَصدَّقُ بالأَثوارِ مِن الأَقِطِ، وَلا تُؤذي جيرانَها بِلسانِها؟ قال: هيَ في الجنَّةِ. ))
[ صحيح الترغيب :حكم المحدث: صحيح ]
(( إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ، إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) .
الله سبحانه وتعالى كلَّما أعطانا صورةً من صور العذاب بيَّن سبيل النجاة :
الأمور بخواتيمها، طبعاً ربَّما رأيت الفاجر مُرتاحاً، غير مقيَّد، غير ملتزم، يفعل ما يشاء، يلتقي مع من يشاء، يذهب إلى أي مكانٍ يشاء، يجلس مع النساء من دون تحفُّظ، من دون اهتمام، يطلق بصره، يطلق لسانه، يستمع إلى ما يشاء، هذه الحريَّة هي تَفَلُّت وليست حريَّة، ولكن الثمن باهظ، أما هذا الذي خاف الله، حفظ رأسه وما وعى، أي حفظ جوارحه، هذا ينتهي به المقام إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ينتهي به المُقام إلى سعادةٍ في الدنيا: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)﴾ لكن الله سبحانه وتعالى كلَّما أوعد الكفَّار فتح لهم طريق التوبة، كلَّما أعطانا صورةً من صور العذاب بيَّن سبيل النجاة.
التوبة هي إقلاعٌ وإصلاحٌ وعزمٌ وندمٌ وعلمٌ :
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ هذا الذي يقول: الله غفورٌ رحيم، هو ينسى أن هناك آيات دقيقة؛ ثم إن ربك للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات إن ربك من بعدها لغفورٌ رحيم:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
[ سورة الحجر ]
فربنا عزَّ وجل يقول: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا﴾ النبي عليه الصلاة والسلام قال: عن عبد الله بن مسعود :
(( الندمُ توبةٌ، فقال له أبي أنت سمعتَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ يقولُ: الندمُ توبةٌ؟ قال: نعم. ))
[ صحيح ابن ماجه: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
والعلماء يقولون: " التوبة لا بدَّ فيها من علمٍ، وحالٍ، وعمل " ، لابدَّ من علمٍ أوجب الشعور بالذنب، وإذا شعرت أنك مذنب نشأت عندك حالةٌ تسمَّى: حالة الندم، حالة الندم هذه تفضي إلى التوبة، إلى العمل، العمل له ثلاثة أنواع؛ عمل متعلِّق بالماضي أي إصلاحٌ لما بدر منك في الماضي، وإقلاعٌ عن الذنب في الحاضر، وعزيمةٌ في المستقبل ألا تقع في هذا الذنب، هذه هي التوبة؛ علمٌ وحال وعمل، العلم يجب أن تقف عند حدود الله، يجب أن تعلم الحلال من الحرام وإلا لا تتوب، لا تكن التوبة إلا بعد العلم، والتوبة حال، هذا الحال ثمرة من ثمار العِلم، والحال سبب للعمل، العمل في الماضي يُصلح، وفي الحاضر يقلع، وفي المستقبل يعزم، إقلاعٌ وإصلاحٌ وعزمٌ وندمٌ وعلمٌ هذا معنى التوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه عن ربِّه، يقول عليه الصلاة والسلام: عن أبي هريرة :
(( للَّهُ أفرَحُ بتَوبةِ عبدِهِ منَ العَقيمِ الوالدِ، ومنَ الضَّالِّ الواجِدِ، ومنَ الظَّمآنِ الواردِ. ))
[ ضعيف الجامع ]
وإذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه وجوارحه وبِقاع الأرض كلَّها خطاياه وذنوبه.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
[ سورة الزمر ]
الإنسان قبل التوبة متفلِّت لكن بعد التوبة صار وقَّافاً عند كتاب الله:
﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)﴾ هذه الآية تفسيرها سهل جداً، المؤمن قبل التوبة كيف يعامل الناس؟ بالقسوة، بالظلم، بالبذاءة، بالاستعلاء، بأكل المال الحرام، كيف يعاملهم بعد التوبة؟ بالاستقامة، بالرحمة، بالحلم، مثلاً زوجة كان زوجها ضالاً فاهتدى، بعد أن اهتدى أصبح يعرف حقَّها، وأصبح في غاية الأدب واللطف، قالت له مرَّةً: أتذكر يوم كنت تغضب مني تلحقني بحطبةٍ تأخذها من الكانون؟ هذا كان قبل التوبة، وبعد التوبة أصبح يعرف حقَّها، أبداً في كل المصالح، الإنسان قبل التوبة متفلِّت، يريد المال من أي طريقٍ مشروع أو غير مشروع؛ لكن بعد التوبة صار وقَّافاً عند كتاب الله.
الإيمان والعمل الصالح هما التوبة النصوح:
هناك أمثلة كثيرة؛ في العلاقات الزوجيَّة، في علاقات العمل، في المِهَن، في الحِرَف، في الصناعة، في التجارة، في طلب العِلم، في النُزُهات، في الرحلات، في اللقاءات، في الحفلات، هناك سلوك قبل التوبة وسلوك بعد التوبة، لذلك هؤلاء التائبون أناسٌ آخرون، أنت إذا عرفت إنساناً قبل التوبة وبعدها تقول له: أنت إنسانٌ آخر، فلان الفلاني بعد التوبة غير فلان الفلاني قبل التوبة، هذا معنى قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ كان زوجاً قاسياً، أرعناً، يستخدم سلطته الزوجية استخداماً تعسُّفياً، بعد الإيمان صار زوجاً رحيماً، مثالياً، مُنصفاً في علاقاته مع أبنائه، كان أباً يؤثر نفسه على أولاده، بعد أن عرف الله صار يؤثر أولاده على نفسه، في أي علاقة، حتَّى في الحرفة كان غشَّاشاً فأصبح نصوحاً، كان يكسب مالاً حراماً فأصبح كسبه حلالاً، كان يزيد في السعر لكل إنسان يجهل هذه البضاعة فأصبح مُنصفاً، أي أصبحت سيِّئاته حسنات، أعماله السيئة التي كان يقترفها قبل الإيمان أصبحت أعمالاً صالحة: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)﴾ أي التوبة إلى الله وحده، والإيمان والعمل الصالح هما التوبة النصوح.
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ: للآية معنيان :
﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ أي لا يشهدون شهادة الزور، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عن أبي بكرة عن أبيه:
(( أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لا يَسْكُتُ. ))
[ صحيح البخاري ]
هذا معنى.
المعنى الآخر: يشهدون الزور أي جلسة فيها باطل، حفلة فيها باطل، حفلة فيها معصية، هذه زور، هذه كذب، هذه تُفضي إلى غضب الله عزَّ وجل، لا يشهدون الزور، الزور هو الباطل، يشهدون الحق، مجلس علم يحضره؛ لكن حفلة مختلطة لا يحضرها، يغيب عنها، سُئل الإمام الجنيد: من ولي الله؟ قال: " الولي كل الولي ليس الولي الذي يمشي على وجه الماء، ولا الذي يطير في الهواء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام " أي أن يراك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك.
الكريم هو من يحافظ على طهارته ونقاوته وعفافه:
﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ اللغو كل ما سوى الله، الباطل، ﴿مَرُّوا كِرَامًا﴾ الكريم يمر وينجو، لا يقع، مرَّ كريماً أي حافظ على طهارته ونقاوته وعفافه، ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ أي لا يشهدون شهادة الزور، وشيءٌ آخر لا يحضرون مجلساً لا يرضي الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)﴾ إن شاء الله تعالى في درسٍ قادم نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين