الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الآيات الكونية تبين لنا طريق معرفة الله سبحانه وتعالى :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ مع الدرس العاشر من سورة الفرقان .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا(47)﴾ حينما تأتي الآيات الكونية يكون هذا إشارةً إلى أن طريق معرفة الله سبحانه وتعالى التأمُّل والنظر في هذه الآيات ، فبعد الحديث عن الكفر ، وعن النفاق ، وكيف أن الإنسان يتخذ إلهه هواه ، وكيف أن الشهوة تقوده إلى هلاكه ، بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى الطريق إليه ، طريق معرفته ، فيقول الله عزَّ وجل : ﴿ أَلَمْ ﴾ هذه الهمزة حرف استفهام ، وقد بيَّنت لكم من قبل أن الاستفهام في اللغة معناه طلب العلم بمجهول ، تقول : كم اشتريت هذا الكتاب ؟ لكن الاستفهام في اللغة العربية يخرج عن معناه الأصلي إلى معانٍ كثيرة تزيد عن عشرين معنىً ، من هذه المعاني الاستفهام الطلبي ، أي : ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ أي انظر ، أي ره - راء ، هاء- انظر إلى ربك كيف مد الظل ، فهذا استفهامٌ طلبي.
الله سبحانه وتعالى يحضنا على أن ننظر ونتأمل ونفكر :
شيءٌ آخر ؛ الله سبحانه وتعالى يحضنا على أن ننظر ، وفي آيات أخرى بشكلٍ واضحٍ صريح يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾
[ سورة عبس ]
﴿ فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)﴾
[ سورة الطارق ]
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
[ سورة يونس ]
وهذه الآية :﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ أي ره ، أي انظر ، تأمل ، فكّر ، دقق ، لا تجعل الحياة تستهلكك استهلاكاً رخيصاً ، لا تجعل حياتك طعاماً وشراباً ، قالوا : الحيوان يعيش ليأكل ، والإنسان العاقل يأكل ليعيش ، أما المؤمن يعيش ليعرف الله عزَّ وجل ، فبين أن يعيش ليأكل ، وبين أن يأكل ليعيش ، وبين أن يعيش ليعرف الله سبحانه وتعالى ، فرقٌ كبير ، فلذلك الإنسان العاقل لا يجعل عمله ؛ مهنته ، حرفته ، وظيفته ، لا يجعل كسب المال يستهلكه استهلاكاً رخيصاً .
القرآن لكل زمانٍ ومكان وفيه دعوة إلى التفكر والتأمل وهذا هو طريق الإيمان:
من معاني قوله تعالى :
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)﴾
[ سورة فاطر ]
هناك من جعل شهوته قبراً له ، هناك من جعله عمله قبراً له ، هناك من أصبحت حياته رتيبةً لا معنى لها ، طعامٌ وشرابٌ وراحةٌ ومتعة ونوم ، إذا أصبحت الحياة رتيبةً ، إذا استهلك الإنسان عمره استهلاكاً رخيصاً ، إذا فكَّر في وقته ، إذا أدرك لحظته من دون أن ينظر إلى ما سيكون فهو إنسانٌ أحمق ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الكَيِّسُ مَن دانَ نفْسَه ، وعمِلَ لِما بعدَ الموتِ ، والعاجزُ مَن أتْبَعَ نفسَهُ هَواها ، وتمنَّى على اللهِ عزَّ وجلَّ . ))
[ الحاكم : المستدرك على الصحيحين :| خلاصة حكم المحدث : صحيح الإسناد ]
فهذه دعوةٌ من الله عزَّ وجل ، الله سبحانه وتعالى يدعونا جميعاً ، لأن هذا القرآن لا لزمن النبي عليه الصلاة والسلام ، لكل زمانٍ ومكان ، ونحن معنيِّون بهذه الآية ، انظروا إلى الله عزَّ وجل كيف مد الظل ، هذا هو المعنى ، دعوةٌ إلى التفكر ، دعوةٌ إلى التأمل ، هذا هو الطريق الموصل إلى الله عزَّ وجل ، هذا هو طريق الإيمان :
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)﴾
[ سورة الجاثية ]
الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى :
لكن : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ .. الله سبحانه وتعالى لا نستطيع أن ننظر إليه ، ربما وعقيدة أهل السنة والجماعة أن المؤمن يوم القيامة في الجنة ينظر إلى الله عزَّ وجل ، وبعض الأحاديث الشريفة تؤكِّد أن الإنسان ينظر إلى الله نظرةً يغيب معها خمسين ألف عام من نشوة النظرة ، يؤكد هذا قول الله عزَّ وجل :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)﴾
[ سورة القيامة ]
وأكبر عقابٍ يعاقب به المقصِّرون :
﴿ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ(15)﴾
[ سورة المطففين ]
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ إذاً حينما يدعونا الله عزَّ وجل أن ننظر إليه في الدنيا ، أي يدعونا أن نراه رؤيةً قلبية ، قد تقول : رأيت الله أكبر كل شيءٍ ، هل هذه الرؤية بصرية ؟ هل هذه الرؤية بصرية أم قلبية ؟ إنها رؤية قلبية ، رأيت العلم نافعاً ، ربنا سبحانه وتعالى يدعونا أن ننظر إلى عظمته ، إلى قدرته ، إلى حكمته ، إلى لطفه ، إلى أسمائه الحسنى من خلال الكون ، لأن الكون بشكلٍ أو بآخر تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى .
أدلة كثيرة على قدرة الله ولطفه وحكمته من خلال الكون :
هناك ألف دليل ودليل على قدرة الله من خلال الكون ، هناك ألف دليل ودليل على لطف الله من خلال الكون ، هناك ألف دليل ودليل على حكمة الله من خلال الكون ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى يقول : من أجل أن تطيعوني يجب أن تعرفوني ، وقد تحدثت في الخطبة اليوم من أن العبادة التي هي علة وجودنا على وجه الأرض بل هي غاية وجودنا ، إنما هي طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفةٌ يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية ، هكذا ، إذاً من أجل أن نطيع الله طاعةً طوعية ، من أجل أن نحبَّه محبةً قلبية ، من أجل أن تنتهي بنا هذه الطاعة وهذه المحبة إلى سعادةٍ أبدية يجب أن نعرفه ، ولا طريق إلى معرفته إلا أن نتأمَّلَ في خلقه ، لأن طبيعة الإنسان لا تستطيع أن ترى الله عزّ وجل ولكنها ترى آثاره ، ترى آثار قدرته ، وآثار حكمته ، وآثار رحمته ، إذاً ربنا سبحانه وتعالى حينما يدعونا إلى أن ننظر إليه ، ننظر إلى أسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى من خلال الكون : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ وكلمة الظل ولاسيما في الجزيرة العربية توحي بالرحمة ، توحي بالنِعمة ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن أبي هريرة :
(( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ ؛ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ . ))
[ صحيح البخاري ]
امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ودليل كرويتها :
إذاً :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ هنا آيةٌ دقيقةٌ جداً دالةٌ على عظمة الله عزَّ وجل ، هذا الظل ، اغرس قضيباً في تربةٍ ما ، وراقب ظل هذا القضيب ، اغرسه وقت الظهيرة ، لا ظلّ له ، تزول الشمس عن كبد السماء يمتد له ظلّ قصير ، وما يزال هذا الظلّ يمتد ويمتد ويَمتد إلى أن يصبح مثل طول القضيب ، ثم يمتد ويمتد إلى أن يصبح مِثْلَيْه ، وحينما يصبح الظل مثلي الأصل فهذا وقت العصر على أرجح الأقوال ، ويمتد هذا الظل ويمتد ، ما معنى يمتد ؟ معنى يمتد أن الشمس تتحرك حركةً ظاهرية ، وإذا تعمَّقت فإن الأرض هي التي تدور ، ويكفي أن يمتد الظل لتعرف أن هذه الأرض التي نحن عليه تسبح في الفضاء ، هذا هو الاستنباط ، بهذه الطريقة ترى أن السماوات والأرض في قبضة الله عزَّ وجل .
كيف يمتد الظل لولا أن الشمس تتحرك ؟ أو لولا أن الأرض تتحرك ؟ لا بدَّ من حركة إحداهما ، بالعين المجردة نرى الشمس تتحرك ، وبدراسة واقع الأرض والشمس والقمر نرى أن الأرض هي التي تتحرك ، إذاً امتداد الظل دليل حركة الأرض ، هذه واحدة .
شيءٌ آخر ؛ امتداد الظل دليل كروية الأرض ، لو أن الأرض مكعبة الشكل لجاء الظل فجأةً واختفى فجأةً ، لأن هذا الشكل المكعب له حروف ، ضع مكعباً أمام منبعٍ ضوئي وحرك المكعب ، يأتي الظل دفعةً واحدة ويختفي دفعةً واحدة ، أما أن يمتد الظل رويداً روَيداً فهذا دليل أن الأرض كروية الشكل .
أساس نظام النبات الليل والنهار والفصول الأربع :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ هنا لم يقل الله عزَّ وجل : ألم تر إلى الله ، ولا ألم تر إلى المسيِّر ، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ ﴾ لأن دورة الأرض حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار ، ودورة الأرض حول الشمس مع ميل المحور ينشأ عنها الفصول الأربع ، ولولا الفصول الأربع ، ولولا الليل والنهار لما أكل الإنسان لقمةً من طعامٍ أو شراب ، لأن أساس نظام النبات الليل والنهار والفصول الأربع ، إذاً من الذي حرَّك الأرض حول نفسها ؟ أدارها حول نفسها ؟ من حركها حول الشمس بسرعةٍ تزيد عن ثلاثين كيلو متراً في الثانية ؟
نحن في هذا الدرس إذا أمضينا ساعةً في شرح هذه الآيات معنى ذلك أن الأرض تسير ، هذا شيء بديهي ، من أولويات علم الفلك ، الأرض تسير ثلاثين كيلو متراً في الثانية ، ضرب ستين في الدقيقة ، ضرب ستين في الساعة ، ثلاثون ضرب ستين ضرب ستين أي مئة وثمانية وثلاثون ألف كيلو متر تقطع الأرض ونحن في هذا المسجد ، بهذه الساعة بالذات : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ، ودليل كرويتها .
الشمس هي دليل وجود الظل ولولاها لما كان الظل :
﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾ لو شاء الله لجعل الظل ثابتاً ، وإذا جعل الظل ثابتاً أي جمَّدَ حركة الأرض ، وإذا جمّد حركة الأرض انتهت الحياة من على سطح الأرض ، لأن الشمس إذا واجهت وجه الأرض الأول ارتفعت الحرارة إلى ثلاثمئةٍ وخمسين درجةً فوق الصفر ، وفي هذه الحرارة تستحيل الحياة ، أما الوجه الآخر البارد فإن الحرارة تنخفض إلى مئتين وخمسين درجة تحت الصفر والحياة أيضاً مستحيلة ، إذاً يكفي أن يصبح الظل ساكناً لا يمتد تنتهي الحياة .
شيءٌ آخر ؛ حركة الظل حركةً لطيفة ، أنت إذا نظرت إلى أشعة الشمس أو إلى ظلّ الأشياء ترى الظل ثابتاً ، فإذا تشاغلت فترةً من الزمن تراه قد انتقل من مكان إلى مكان ، كعقارب الساعة تراها واقفةً متحركة ، واقفةً إذا نظرت إليها ، فإذا غبت عنها فترةً زمنية محدودة رأيتها في مكانٍ آخر ، وهذا من لطف الله عزَّ وجل ، إذاً امتداد الظل دليل حركة الأرض حول نفسها ، وامتداد الظل دليل كروية الأرض ، فلو أنها مكعَّبة لظهر الظل فجأةً واختفى فجأةً : ﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ أي لولا الشمس لما كان الظل ، الأصل في الفضاء أنه ظلامٌ مستمر ، تأتي الشمس لتُلْقِيَ بنورها على سطح الأرض ، إذاً الشمس دليل وجود الظل ، ولولا الشمس لما كان الظل ، هذه آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته .
زيادة سرعة الأرض بلطف شديد وتباطؤها بلطفٍ شديد يجعل الحياة مستمرة عليها:
الإنسان لا ينبغي أن يمر هكذا ؛ أن يرى الشمس والقمر ، أن يرى النجوم ، أن يرى الأبراج ، أن يأتي عليه صيفٌ وشتاءٌ وربيعٌ وخريف ، أن تأتي عليه برودةٌ وحرارة ، جو رطبٌ وجو جاف ، أمطارٌ وثلوج ، وهكذا كما لو أن عقله مُعَطَّل :
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)﴾
[ سورة يونس ]
دورة الأرض حول الشمس من آيات الله العظيمة ، بل إن حركة الأرض حول الشمس ترسم مداراً إهليلجياً بيضوي الشكل ، وتختلف أبعاد هذا المسار عن مركز هذا الشكل البيضوي ، فإذا كانت الأرض في المنطقة القريبة من المركز ربما انجذبت إلى الشمس ، ومع انجذاب الأرض إلى الشمس تنتهي الحياة ، عندئذٍ تأتي يدُ القدرة والعلم ، تأتي يد الحكمة واللطف فتزيد من سرعتها شيئاً فشيئاً ، حتى ينشأ من زيادة هذه السرعة قوةٌ نابذةٌ تكافئ القوة الجاذبة ، صنع من ؟ يد من ؟ تقدير من ؟ حكمة من ؟ علم من ؟ إنه الله سبحانه وتعالى ، هذا لطف الله عزَّ وجل ، لو أن الأرض زادت من سرعتها دفعةً واحدة لتحطَّم كل ما عليها ، ولو أنها أبطأت دفعةً واحدة لارتطم كلُّ ما عليها ، ولكن الزيادة بلطف شديد ، والتباطؤ بلطفٍ شديد.
تحرك الأرض حول نفسها يجعل الظل متنقلاً من مكان إلى آخر وهذا من نِعَمِ الله تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ﴾ هذه الشمس إنها دليلٌ على عظمة الله عزَّ وجل ، تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة ، تبلغ حرارتها في الداخل عشرين مليون درجة ، على السطح ستة آلاف درجة ، تنطلق منها ألسنة اللهب بطولٍ يزيد عن نصف مليون كيلو متر ، هذه الشمس تتقد منذ ما يقارب - كما يقدِّر العلماء- من خمسة آلاف مليون عام ، ما خَبَتْ ، ولا انطفأت ، ولا ضعف لهيبها ، ولا قَلَّ ضوءها ، الشمس آيةٌ من آيات الله عزَّ وجل :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)﴾
[ سورة فصلت ]
طبعاً إذا وضعت قضيباً ، غرسته في أرضٍ ، رأيت هذا الظل من بعد الزوال يمتد نحو الشرق شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح طوله مثل طول العود ، ثم مثليه ، ثم أربعة أمثاله ، ثم تغيب الشمس فينعدم الظل ، فإذا أشرقَت الشمس من المكان الآخر من الشرق ، هذا المكان الذي كان ظلاً ظليلاً ، أصبحت فيه شمسٌ منيرةٌ وقد تكون محرقة في أيام الصيف ، الذي له بيت له شرفات من جهات مختلفة ، هذه الشرفة من الصباح وحتى الظهيرة كلها شمسٌ محرقة ، لكن بعد الظهر يأتي الظل الظليل ، وهذا من رحمة الله عزّ وجل .
إن تحرك الأرض حول نفسها يجعل الظل متنقلاً من مكان إلى مكان ، وهذا من نِعَمِ الله أيضاً ، ﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) ﴾ الظل يمتد بشكلٍ مُتعاظِم شيئاَ فشيئاً وينقبض قبضاً يسيراً ، إذاً آية الظل وحدها دليل كروية الأرض ، ودليل حركة الأرض حول الشمس ، والشمس وحدها أساس الظل ، ولولا الشمس لما كان الظل .
نعمة الليل والنوم من نِعَم الله تعالى علينا أيضاً :
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ تصور أن الحياة من دون ليل ، كيف ينام الناس ؟ فوضى ، هذا ينام وهذا يعمل ، هذا عاد من عمله ليستريح ، فإذا جاره بدأ يعمل في الليل ، لولا أن هذا الليل الذي جعله الله سكناً للنفوس ، ترتاح فيه النفوس ، هذا الجهاز العصبي الذي يجهد طوال النهار يأتي الليل ليكون راحةً تامة له ، والإنسان حينما يستيقظ من نومه يُحِسُّ أنه نشيطٌ نشاطاً لا حدود له ، وهذا بفضل نعمة النوم ، والذي ينام بشكلٍ معتدل ، هذه نعمةٌ لا يعرفها إلا من فقدها ، الأرق شيءٌ لا يحتمل ، شيءٌ يدمِّر الأعصاب ، يدمِّر الصحة ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي ﴾ هو هل عرفته ؟ إنه الله .
لولا الليل والنهار لما عرفنا الأعمار ولا الأوقات ولا الأزمنة ولما انتظمت حياتنا :
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ أي ساتراً ، كل إنسان يأوي إلى بيته ، الليل لباس بمعنى أنه يستر ، ﴿وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾ السبات سكون ، تسكن الأعضاء ، تسكن الجوارح ، تسكن العضلات ، تسكن الأعصاب ، ينتهي الكلام ، الإنسان يخلُدُ إلى الراحة ليستعيد نشاطه ، لولا الليل والنهار لما عرفنا أعمارنا : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62) ﴾ وهناك آية أخرى :
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)﴾
[ سورة الإسراء ]
فلان عمره ثلاثون عاماً ، معنى ذلك لولا أن الأرض تدور حول نفسها ، صار ليل ونهار ، سبعة أيام تصبح أسبوعاً ، سبع دورات تصبح أسبوعاً ، ثلاثون دورة شهراً ، ثلاثمئة وخمس وستون دورة تعد سنة ، ثلاثون سنة ، لولا الليل والنهار لما عرفنا الأعمار ، ولما عرفنا الأوقات ، ولا الأزمنة ، ولما انتظمت حياتنا ، من الذي جعل الشمس في السماء ساعة يدبّ عقرباها إلى قيام الساعة ؟ الشمس ساعة ، والقمر تقويم ، أصبح الظهر ، قرب العصر ، غابت الشمس ، من دون ساعة ، الشمس هي ساعة ، الشمس في كبد السماء ساعة ، والقمر تقويم .
الله عزَّ وجل جعل النهار نشوراً والليل سَكَنَاً ولباساً وهذا فضل عظيم منه:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) ﴾ .الإنسان ينطلق في النهار إلى عمله ، هذا إلى مكتبه ، وهذا إلى معمله ، وهذا إلى حقله ، وهذا إلى دُكَّانِهِ ، وهذا إلى عيادته ، وهذا إلى أشغاله ، كل إنسان له عمل ينطلق في النهار إليه ، الله عزَّ وجل جعل النهار نشوراً ، أي ضياء الشمس كافٍ ، بين أن تقود مركبتك في الليل تحس أنك اجتهدت إجهاداً لا حدود له ، وبين أن تقودها في النهار ، النهار واضح ، الرؤية صحيحة ، وبعيدة ، ومريحة ، ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن التنوخي النصراني رسول هرقل :
(( سبحانَ اللهِ أينَ الليلُ إذا جاءَ النهارُ . ))
[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : سنده ضعيف التخريج : أحمد ]
تجد ظلاماً دامساً ، الأماكن موحشة ، الإنسان يخاف أن يمشي في الغابة ليلاً ، الغابة في الليل موحشة ، الكهوف موحشة ، بعض الطُرُقات موحشة ولاسيما إذا كانت مظلمة ، ولكن إذا طلعت الشمس تغدو الأرض مؤنسة ، مريحة ، تنطلق إلى الحقول والبساتين ، إلى الجبال ، قد تركب البحر في النهار فترتاح نفسك ، أما إذا ركبته في الليل فقد تخاف نفسك ، جعل الله الليل سَكَنَاً ، جعله سُباتاً ، جعله لباساً ، وجعل النهار معاشاً ، هذه كلها من آيات الله الدالة على عظمته .
أيها الإنسان هلا فكرت فيها ؟ هلا وقفت عندها ؟ هلا تأمَّلت فيها ؟ ماذا تفعل ؟ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾ تنتهي الحياة ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾ لولا الشمس لما كان الظل ، لولا الشمس لما كانت الحياة ، لولا الشمس لما كان تحرُّك الأرض حول نفسها وحول الشمس .
الهواء ينقل الحرارة والبرودة والضوء والصوت :
﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ أولاً : الهواء ، ما هذا الهواء ؟ إنه سبب انتثار الضوء ، في الفضاء الخارجي لا ترى إلا ظلاماً دامساً ، أو نجماً مُتَأَلِّقَاً ، لا يوجد حالة ثالثة ، أما في الأرض هناك أشعة الشمس ، وهناك ظلامٌ دامس ، وهناك حالةٌ ثالثة بين هذا وتلك ، حالة الضياء ، الغُرف في النهار مضيئة بلا أشعة شمس ، الفضل في هذا يعود إلى الله عزَّ وجل ، من خلال تسخير الهواء لانتثار الضوء ، ذرَّات الهواء تصبح مرايا صغيرة تعكس الضوء ، فإذا البيت مضيء وأشعة الشمس ليست فيه ، فالهواء ينثر لكم الضوء ، والهواء ينقل إليكم الأصوات ، رواد الفضاء بالقمر يتحادثون عن طريق اللاسلكي ، ولولا أن الهواء في داخل بذلتهم الفضائية لما أمكنهم الحديث ، لكن لو أن الإنسان وقف على سطح القمر من دون بذلة فضائيَّة وخاطب أخاه الإنسان لا يسمع شيئاً ، لو وضع مدفع كبير على سطح القمر وأطلق قذيفته لا تسمع شيئاً ، لكن الهواء في الأرض ينقل لك الصوت ، ينقل لك الضوء ، ينقل لك الدفء ، أنت تدفِّئ هواء الغرفة عندئذٍ تشعر بالدفء يسري في أعضائك ، أنت تبرد هواء الغرفة تشعر بالبرد يريح أعصابك أحياناً ، إذاً الهواء ينقل الحرارة ، ينقل البرودة ، ينقل الضوء ، ينقل الصوت .
من حكمة الله عزَّ وجل أنه جعل الهواء مرتبطاً بالأرض :
الهواء جسمٌ لطيف ، ولكن هذه الطائرة التي يزيد وزنها عن ثلاثمئة وخمسين طن من الذي يحملها ؟ الهواء ، كيف هو ؟ هو جسمٌ لطيفٌ فيما يبدو لك ، ولكن الهواء إذا سار دمَّر كل شيء ، الأعاصير تجعل المدن دياراً خربة ، مدن بأكملها ، أبنيةٌ شاهقة ، المعامل ، المصانع ، المنشآت ، تصبح كلها أنقاضاً ، فالهواء إذا تحرَّك حركةً عنيفةً دمَّرَ كل شيء ، سرعة هذه الأعاصير تزيد عن ثمانمئة كيلو متر في الساعة ، يكفي أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الغلاف الهوائي مرتبطاً بالأرض ، فلو أن الأرض دارت وحدها ، وبقي الغلاف الهوائي ثابتاً لنشأ على الأرض أعاصير تزيد سرعتها عن ألف وستمئة كيلو متر ، أي تدمر كل شيء ، هذه حكمة الله عزَّ وجل على أنه جعل الهواء مرتبطاً بالأرض ، فالهواء لو أنه تحرَّك حركةً شديدة دمَّر كل شيء ، لذلك كان النبي إذا رأى رياحاً تعوَّذ بالله من شرها ، سأل الله خيرها واستعاذ بالله من شرها .
نظرية حركة الهواء :
فَرَّقَ النبي عليه الصلاة والسلام بين الرياح وبين الريح ، الريح الصرصر العاتية :
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)﴾
[ سورة الحاقة ]
الهواء يتمدد ، وإذا تمدد تخلخل ، وإذا تخلخل ضعف فيه الضغط ، قلَّ الضغط ، والهواء إذا برد تكاثف ، وإذا تكاثف ارتفع الضغط ، عندئذٍ ينتقل الهواء من أماكن الضغط المنخفض إلى أماكن الضغط المرتفع ، هذه هي نظرية حركة الهواء ، من وجود مناطق باردة في الشمال قطبية ، ووجود مناطق استوائية في الوسط ، ووجود سواحل فيها رطوبة عالية ، وفيها حرارة ، ومن وجود أماكن قاحلة كالبوادي ، أو الصحارى ، أو القفار ، من تباين مناطق الأرض ، من تباين الحرارة والبرودة ، تبعاً لخطوط الطول والعرض ، وبعدها عن سطح البحر ، وعن مستوى سطح البحر هذا كله يعين على تشَكُّل الرياح ، والرياح تسوق السحاب ، والله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا ﴾ أي بُشرَاً أيْ بشارةً ، ﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ التي هي الماء ، ولا يعرف الناس بالضبط ماذا تعني سنوات جفاف السماء ، باديةٌ يمكن أن ترعى أغناماً لا حدود لها ولا حصر لها سنةً وزيادة إذا كانت الأمطار غزيرة ، فإذا جفَّت الأمطار امتنع هذا الكلأ عن أن ينبت ، فشحَّت المراعي ، فاضطر الناس لبيع خرافهم بثمن بخسٍ أو ذبحها ، فالكلأ شيء مهم جداً ، والنبات شيء مهم جداً ، والآبار شيء مهم جداً ، والثلوج ، والينابيع ، كلنا يشعر ماذا يعني انحباس المطر من السماء ، هذا ينعكس على أسعار المواد الغذائية ، وعلى أسعار القمح ، وعلى أسعار كل حاجاتنا ، إذاً :
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)﴾
[ سورة الذاريات ]
ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ﴾ ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر ، وهو أعلى درجة من الطهارة ، هناك ماءٌ طاهرٌ غير مُطَهِّر ، هناك ماءٌ طاهرٌ مطهر ، هناك ماءٌ غير طاهرٍ وبالتالي غير مُطَهِّر ، ماء السماء طاهرٌ مُطَهِّر ، ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ﴾ تصوروا حياة الإنسان من دون ماء ، كيف ينظِّف نفسه ؟ كيف ينظف حاجاته ؟ كيف يغسل ثيابه ؟ هذا الماء الذي وهبه الله للإنسان فيه صفات عالية جداً ، من هذه الصفات القدرة على النفوذ ، أي في أدق المسام يسيل الماء ، هذه قدرة ، لو أنه لزجٌ كالقطر كيف نستعمله ؟ نفوذ إلى درجةٍ متناهية ، الماء يتبخَّر في درجاتٍ دُنيا ، لو أنه تبخر في درجات عُليا لأصبحت مصيبة ، لو أنك ألقيت الماء في أرض الدار في الشتاء لبقيت إلى فصل الصيف ، لكنه في درجات دنيا عشر درجات يتبخر الماء ، يغلي بدرجةٍ ثابتة ، لا لون له ، لا طعم له ، لا رائحة له ، شفَّاف ، صاف ، نعمة الماء لا تعدلها نعمة .
الماء الذي وهبه الله للإنسان فيه صفات عالية جداً :
في الوقت نفسه هذا الماء لا ينضغط ، لو وضعت متراً مكعباً من الماء في مكبس ، ووضعت فوقه ثمانمئة طن لا ينضغط أبداً ، فإذا تمدد الماء دمَّر كل شيء ، بل إن تفتيت الصخور الآن يتم عن طريق حفر ثقوب في الصخور وإملائها بالماء ، ثم تبريد الماء ، عندئذٍ الصخر ينشق ، وهناك شيء مهم جداً في الماء ربما لا يصدق الإنسان أن حياتنا مبنيةٌ عليه ، الماء إذا برَّدته ينكمش شأنه شأن كل عنصر ، ينكمش وينكمش إلى درجة ( +4 ) عندئذٍ تنعكس الآية فيتمدد ، لو أن الماء ينكمش عند التبريد لانتهت الحياة من على وجه الأرض ، كلما جمد سطح البحر زادت كثافته فغاص في أعماق البحر ، ما هي إلا سنواتٌ عدَّة حتى تتجمَّد كل المحيطات ، ينعدم التبخر ، تنعدم الأمطار ، لا ينبت النبات ، يموت الحيوان ، يتبعه الإنسان ، لو أن الماء انكمش مع التبريد ، من خلق في الماء هذه الصفة ؟ إن التعليل العلمي لانعكاس آية انكماش الماء من انكماش إلى تمدد هذه لها تفسير مُعَقَّد جداً ، كيف أن هذا السائل لو أنك بردته ينكمش ، طبعاً بدرجات تقاس بأجهزة دقيقة ، لكن حينما تصل الدرجة إلى (+4) تنعكس الآية فيتمدد ، هذه الظاهرة من صممها ؟ من خلقها ؟ من قننها ؟ من جعلها هكذا ؟ إنها من عند الحكيم الخبير .
إحياء الماء لكل شيء بقدرة الله :
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(49)﴾ الله عزَّ وجل قال : ﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا ﴾ البلد من دون ماء يموت ، يموت النبات ، فيموت الحيوان ، ويموت الإنسان ، وفي بعض المشاهد من بلادٍ أصابها الجفاف سبع سنين ، الأشجار كلها يابسة ، والأنعام كلها ميَّتة ، هياكل عظمية عليها جِلْد ، صور بإفريقيا ، حينما تجف ، حينما يصيب الجفاف أرضاً معينة تصبح الأرض ميِّتة ، أرضاً ونباتاً وحيوانات ، ويتبعها الإنسان إن بقي فيها ﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ ﴾ هذا الماء ﴿ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ﴾ بدأ الله عزَّ وجل بالنبات ، ثم بالحيوان ، ثم بالإنسان ، لأن حياة الحيوان متوقفة على النبات ، وحياة الإنسان متوقفةٌ على الحيوان ، فهذا الماء يحيي بلدةً بإنبات النبات ، ويسقي الحيوان ، ويسقي الإنسان ، اللهم اسقنا الغيث .
انتقال الماء من مكان لآخر للفت نظر الإنسان إلى نعم الله وشكره عليها :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ في بعض التفاسير : أن هذا الماء صرَّفناه ، نقلناه من مكان إلى مكان ، في هذا العام هنا أمطار غزيرة وسيول وفيضانات ، وهنا جفافٌ ومَحْلٌ وقَحْط ، هذا الماء صرَّفناه أي نقّلناه من مكان إلى آخر ، كي يلتفت الإنسان إلى الله عزَّ وجل ، لو أن الله سبحانه وتعالى أغدق على الناس نِعَمَهُ من دون تبديل أو تغيير ، من دون لفت نظر ، لانغمس الإنسان في شهواته ونسي ربه :
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
[ سورة الشورى ]
تأتي سنواتٌ مطيرة ، وتأتي سنواتٌ جافة ، في السنوات الجافة يجب أن نذكر الله عزَّ وجل ، يجب أن ندعوه ، يجب أن نبتهل إليه ، فهذا معنى قول الله عزَّ وجل :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ هذا الماء ، ماء السماء ، ﴿ صَرَّفْنَاهُ ﴾ الهاء تعود على الماء ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ ﴾ جمع ناس ﴿ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ نقلناه من مكان إلى مكان ، هذه السحابة صُرِفَتْ عن هذا المكان وهطلت في هذا المكان ، بعد عامٍ آخر صرفت عن هذا المكان وهطلت في هذا المكان ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ لذلك ورد : اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها .
ربما نعرف قيمة المطر في سنوات الجفاف ، قيمة المطر ، علاقتها بتوليد الكهرباء ، علاقتها بالمزروعات ، علاقتها بالثمار ، علاقتها بالمحاصيل ، علاقتها بمحصول القمح مثلاً ، بمحصول الشعير ، علاقتها بالأسعار ، هذا كله نعرفه في سنوات الجفاف ، ولكن البطل يجب أن يعرف نعمة الله في سنوات الرخاء ، لهذا ورد في الأثر : اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ﴾ هذا الماء .
الفرق بين المؤمن والكافر في سنوات الرخاء وسنوات الشدة :
﴿ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ من شأن الكافر أن الدنيا إذا أقبلت عليه تاه ، وتكبَّر ، واستعلى ، فإذا انصرفت عنه يَئِسَ وقَنط ، فهو بين الغرور وبين اليأس ، بينما المؤمن إذا جاءته الدنيا زادته تواضعاً ، وإذا انصرفت عنه زادته التجاءً إلى الله عزَّ وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : عن صهيب بن سنان الرومي :
(( عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ ))
[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم ]
النبي عليه الصلاة والسلام جاءه جبريل فقال :عن أبي هريرة :
(( جلس جبريلُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنظر إلى السماءِ فإذا ملَكٌ ينزلُ فقال جبريلُ هذا الملكُ ما نزل منذ خُلِق قبلَ الساعةِ فلما نزل قال : يا محمدُ أرسَلَني إليك ربُّك أفملكًا نبيًّا أجعلَك أو عبدًا رسولًا ؟ قال جبريلُ تواضعْ لربِّك يا محمدُ قال : بل عبدًا رسولًا . ))
[ الهيثمي : مجمع الزوائد : خلاصة حكم المحدث : رجاله رجال الصحيح : أحمد ]
أي هذه من نعمة الله عزَّ وجل .
المعنى الثاني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الضمير : ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ يعود على القرآن الكريم أي هذا القرآن جعلناه بين أيديهم ، يسَّرنا لهم تلاوته .
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)﴾
[ سورة القمر ]
أي سَهَّلَ الله للناس قراءة هذا القرآن ، سخَّر له علماء أشداء ، جهدوا في نقله ، وحفظه ، وضبطه ، وضبط آياته ، وسوَرِهِ .
تقنين الله عزَّ وجل تقنين تأديب ومعالجة لكن تقنين الإنسان تقنين عجز وضَعف:
﴿ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ إما أن يعود هذا الضمير في قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ لأقرب شيءٍ إلى الضمير وهو الماء ، أو أن يعود هذا الضمير إلى ما سيتبع وهو قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) ﴾ كفوراً بهذا الكتاب ، يقول عليه الصلاة والسلام : عن أبي هريرة :
(( عَجِبَ رَبُّنا تعالى مِنْ قَومٍ يُقادونَ إلى الجنَّة في السَّلاسِلِ . ))
[ صحيح أبي داود ]
أي بالمصائب ، بالضيق ، ربما كان نقص الماء ، نقص المواد ، لأن ربنا عزَّ وجل إذا قَنَّن فتقنينه تقنين تأديب ، تقنين معالجة ، لكن الإنسان إذا قنن تقنينه تقنين عجز وضَعف .
لحكمة أرادها الله بعث النبي عليه الصلاة والسلام للناس كافة :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) ﴾ أي شاءت حكمة الله أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام للناس كافة : ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) ﴾ أولاً : رَفْعَاً لشأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما يجعله الله نبياً لكل الناس ، رحمةً للناس .
وشيءٌ آخر ؛ ربما تقتضي مصلحة الإنسان أن يكون النبي واحداً في عصرٍ واحد.
على كلّ : ﴿ وَلَوْ شِئْنَا ﴾ أي أن الله لم يشأ ذلك لحكمةٍ يعلمها .
من أبواب الجهاد أن تتسلَّح بالقرآن الكريم علماً وعملاً:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ ﴾ على من تعود هذه الهاء ؟ العلماء قالوا : على القرآن ، ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ﴾ أي الله سبحانه وتعالى وصف هذا الذي يحفظ القرآن ، ويتلو القرآن ، ويبيِّن معاني القرآن ، ويرُدُّ شُبَهَ المعترضين ، ويرد على كيد الكائدين ، ويبيِّن إعجازه ، ونظمه ، إعجازه العلمي ، إعجازه التشريعي ، إعجازه البياني ، إعجازه اللغوي ، إعجازه الرياضي ، هذا الذي يبيِّن عظمة القرآن ، ويرد بهذا البيان على كل معترض ، هذا الإنسان كأنه يجاهد به ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ إذاً بابٌ كبير من أبواب الجهاد أن تتسلَّح بهذا القرآن ، قراءةً ، تلاوةً ، فهماً ، حفظاً ، تفسيراً ، درايةً ، تدبُّراً ، تَتَبُّعَاً ، نشراً ، تعليماً : ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ أي الكون في كفة ، وهذا القرآن في كفة .
الله تعالى أقسم بالكون على أن هذا القرآن كريم:
﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) ﴾
[ سورة الواقعة ]
أي أقرب نجم ملتهب إلى الأرض بعده عنَّا أربع سنوات ضوئية ، وهذا الرقم يعني أنَّك لو توجهت إلى هذا النجم القريب القَريب القرِيب ، الذي لا يبعد عنا إلا أربع سنوات ضوئية ، وسرت إليه بسرعة السيارة ، لاستغرقت هذه الرحلة ما يقرب من خمسين مليون سنة ، إذا كان هذا النجم الذي يبعد عنا أربع سنواتٍ ضوئية يحتاج الإنسان ليصل إليه بسرعة السيارة إلى خمسين مليون سنة ، فمتى يصل إلى نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ؟ أربع سنوات نحتاج إلى خمسين مليون سنة ، أربعة آلاف سنة ؟ متى نصل إلى المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليون سنة ضوئية ؟ متى نصل إلى أحدث مجرة اكتشفت حديثاً تبعد عنا ستة عشر ألف بليون سنة ضوئية ؟ ﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) ﴾ أقسم الله بالكون على أن هذا القرآن كريم ، في كتابٍ مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، قال تعالى :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)﴾
[ سورة الكهف ]
وجوب تعلُّم تلاوة القرآن وفهم آياته وتدبُّر أحكامه وتعليمه للناس وهذا جهادٌ كبير:
إذاً هذا القرآن : ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ لذلك تعلُّم تلاوته ، تعلم تجويده ، تعلم مخارج حروفه ، تعلم أماكن الوَقْف ، تعلم كلماته ، فهم آياته ، تدبُّر أحكامه ، استنباط معجزاته ، تعليمه للناس ، تفسيره ، هذا جهادٌ كبير : ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ أي حينما لا يكون الجهاد الصغير فهذا جهادٌ أيضاً كما ورد : رجعنا من الجهاد الأصغر - وهو الحرب- إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى .
ولا تنسوا أن الإنسان إذا علَّم هذا القرآن للناس ، وأحيا به نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً :
﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾
[ سورة المائدة ]
إذاً : ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ أي جاهدهم بالقرآن ، أي اتلُ هذا القرآن على مسامعهم ، علِّمهم أحكامه ، علمهم تفسيراته ، علمهم إعجازه ، علمهم نظمَه ، علمهم بيانه ، علمهم فيه كل شيء ، وفي القرآن كل شيء .
مياه كل بحرٍ لها مكوِّنات خاصة بها تختلف عن مياه بحر آخر :
﴿ وَهُوَ الَّذِي ﴾ هل عرفتم الله عزَّ وجل ؟ ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) ﴾ .. ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)﴾ هذه الآية وقف عندها المفسِّرون وقفاتٍ طويلة ، حاروا بها ، أين هو هذا البرزخ الذي بين البحرين ؟ هذه الآية تُكَمِّل آيةً أخرى في سورة الرحمن ، وهي قوله تعالى :
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)﴾
[ سورة الرحمن ]
بعض علماء البحار صوِّروا بعض المضائق من سفن الفضاء ، فإذا بين كل بحرين خط ، بين البحر الأحمر والبحر الهندي خط ، بين البحر الأبيض والبحر الأسود خط ، بين البحر الأبيض والمحيط الأطلسي خط ، هذا الخط عند اتصال البحرين ، هذا الخط متحرك ، مَرِن ، ما هو هذا الخط ؟ اكتشف أن مياه كل بحرٍ لها مكوِّنات ، لها كثافة ، لها درجة ملوحة ، لها درجة حرارة ، مياه كل بحرٍ لا تطغى على البحر الآخر ، فللبحر الأحمر ملوحته الخاصة به ، وللبحر الأحمر مكوّناته الخاصة به ، وللبحر الأحمر كثافته الخاصة به ، وللبحر الأحمر حرارته ، فإذا انتقلنا إلى المحيط الهندي ، له حرارته ، وكثافته ، وملوحته ، ومكوناته ، ﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20)فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21) ﴾ .. شيءٌ لا يصدَّق ، هذا الحاجز بين البحرين الذي يمنع أن يطغى كل بحرٍ على الآخر ، ما طبيعته ؟ لا أحد يدري ، لكن سُفن الفضاء صوَّرته ، هناك فرقٌ في اللون ، وهناك خطٌ بينهما ، الآية الثانية التي تكمل الآية الأولى : ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ أي بعض الأنهار الكبير كنهر الأمازون الذي تزيد غزارته عن ثلاثمئة ألف متر في الثانية ، هذا النهر يسير في عرض المحيط الأطلسي ما يزيد عن ثمانين كيلو متراً ، وتبقى مياه النهر عذبة ، وتبقى مياه البحر مالحة : ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20) ﴾ .
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ حلو المذاق ، طيِّبُ الطَعم ، شديد العذوبة : ﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ لا يُحْتَمَل ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ﴾ طبعاً هذا ينطبق أيضاً على الينابيع العذبَةِ في مياه البحار ، البحرين تشرب من مياه البحر ، يركبون القوارب إلى عُرض البحر فيملؤون أوعيتهم من ماءٍ عذبٍ ينبُعُ وسط البحر ، هذا ينطبق على الأنهار وهي في عرض البحار ، وينطبق على الينابيع الحلوة التي تنبع وسط البحار ، وله معنىً ثالث نشرحه بعد قليل .
البرزخ يمنع كل ماء من أن يطغى على الآخر لكن طبيعته غير معروفة حتى الآن:
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ﴾ البرزخ يمنع كل مياه من أن يطغى على الآخر ، أي هل من الممكن أنت أن تمرر مياهاً بقناة ، وتمرر مياهاً أخرى بقناة معترضة بحيث تتعامد مع القناة الأولى ، كشارع متعامد مع شارع ، اعمل مجريين متعامدين مع بعضهما ، وأجرِ في هذا المجرى ماءً مالحاً ، وفي هذا المجرى ماءً عذباً ، فهل تستطيع أن تصل إلى مياهٍ عذبة بعد أن تعترض المياه المالحة ؟ هذا شيءٌ فوق طاقة البشر ، لكن الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ﴾ البرزخ حاجزٌ لا ندري ما هو حتى الآن ، موجود والدليل آثاره ، لأن مياه كل بحرٍ لا تطغى على البحر الآخر ، أما طبيعته غير معروفةٍ ، صوَّرته سُفُن الفضاء ، بل إن بعض علماء البحار الكبار الذين اكتشفوا هذا الكشف العلمي المتفوق وهو في زهوة انتصاره ، وفي نشوة اكتشافه أُنْبِئَ أن في القرآن الكريم هذه الآية ، أسلم فوراً ، لا يعقل ، هذا شيءٌ جديد لا يعرفه أحد .
من تصميم الله للأنهار أنه جعلها تهبط إلى البحر من مكانٍ مرتفع:
أما الحِجْرُ المحجور فهذا شيءٌ آخر ، هذا يمنع أسماك المياه العذبة من أن تنتقل إلى المياه المالحة ، ويمنع أسماك المياه المالحة من أن تنتقل إلى المياه العذبة .
﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ﴾ هذه آيةٌ دالة على عظمة الله ، بعض المفسرين قال : لا ، هناك معنى آخر : هذه مياه البحر ، الله سبحانه وتعالى جعل جميع المياه العذبة التي تصبُّ في البحر جعلها تهبط إليه من مكانٍ مرتفع ، فلو أن المياه العذبة سارت إليه بمستوى ماء البحر ، وجاء المد والجزر لطغت مياه البحر على كل الأنهار فجعلتها مالحة ، من تصميم الله للأنهار أنه جعلها تهبط إلى البحر من مكانٍ مرتفع ، لو أن القمر اقترب من الأرض ، الآن القمر يبعد عنا ما يزيد عن ثلاثمئة ألف كيلو متر ، أثر المد والجزر واضحٌ في المياه ، مياه البحار ترتفع عشرين متراً طولياً في المد وتنخفض عشرين متراً في الجَزر ، لو أن القمر اقترب من الأرض إلى نصف هذه المسافة لارتفعت مياه البحار أكثر من ثمانين متراً ، إذاً معظم المدن الساحلية والمناطق المحيطة بالبحار تنغمر بالمياه المالحة ، لو أن مياه الأنهار سارت إلى البحر بمستوى يقارب سطح البحر ، وجاء المد أو الجزر لطغت مياه البحار على الأنهار وأفسدت طعمها ، لذلك تصميم التضاريس التي من خلالها تنصبُّ المياه على البحار هذا تصميم حكيمٍ خبير ، بحيث لا تغطى مياه البحار على مياه الأنهار ، هذا تفسير آخر ، والقرآن حَمَّال أوجه ولا حدود لمعاني كلمات الله :
﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)﴾
[ سورة الكهف ]
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)﴾ ألم تعرفه بعد ؟
الماءٌ المهين هو الماء الذي خلق الله منه البشر :
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا ﴾ ماء ، ماء مَهين ، تستحي به لو كان على ثوبك ، ماءٌ مهين خلق الله منه بشراً : ﴿ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ أي ذكراً وأنثى ، النسَب هو الرجل ينسب الابن إليه ، والصِهر أي البنت التي تجلب الصهر ﴿ فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ﴾ .
خلق الإنسان آيةٌ أخرى دالة على عظمة الله عزَّ وجل:
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) ﴾ هذه آيةٌ أخرى دالة على عظمة الله عزَّ وجل ، كيف أن الإنسان الذي خُلِقَ من ماءٍ مهين يصبح أعصاباً ، وعضلات ، وأوعية ، وقلباً ، ورئتين ، وجهازاً هضمياً ، وجهاز تنفُّس ، وجهاز إفراز ، وأعصاب حس ، وأعصاب حركة ، وعظاماً منوَّعة أنواعاً شديدة ، ومفاصل ، ودماغاً فيه ذاكرة ، وفيه محاكمة ، وفيه تصور ، وفيه تخيُّل ، وفيه إدراك ، وفيه إحساس ، هذا الإنسان كيف خُلِق من ماءٍ مهين ؟ وكيف رُكِّبَ الذكر ذكراً والأنثى أنثى ؟ تفاوت في البنية ، وفي الهيكل ، وفي الطباع ، وفي التفكير ، وفي وسائل التفكير ، هذا كله من خلق الله عزَّ وجل .
إن شاء الله في درسٍ قادم نقف عند هذه الآية وقفةً متأنية .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين