الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
من معاني شهادة الله بأحقية القرآن ورسالة النبي العدنان:
1 ـ من كان على الحق يكفيه طمأنينة أن الله يعلم ذلك:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من سورة العنكبوت.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ .. هذه الآية أيها الإخوة لها معانٍ كثيرة، في الدرس الماضي تحدثت عن بعض معانيها.
المعنى الآخر: هو أنك إذا كنت على حق، يكفيك طمأنينة أن الله يعلم ذلك، إذا كنت على حق يكفيك شعوراً بالأمن والراحة أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فإذا وحّد الإنسان استراح قلبه، وإذا أشرك أصابه عذاب شديد، لقول الله عز وجل:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
[ سورة الشعراء ]
إن أعلى أنواع العلم أن توحد الله عز وجل، نهاية العلم التوحيد، أي إن كذبوك، إذا كنت على حق، إذا كنت على حق وهناك من سَخِر منك، إذا كنت على حق وهناك من استخفّ بآرائك، إذا كنت على حق والله سبحانه وتعالى راض عنك، وهناك من يشكّك فيك، هذه آية دقيقة جداً، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ لماذا؟ لأن الله يعلم ما في السماوات والأرض، هو العليم، لهذا يقول الإمام علي كرم الله وجهه: << من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به >>. أي حينما لا تستطيع أن تقنع الآخرين بأنك على حق، أو حينما يتعنت الآخرون، حينما يجحد الآخرون، حينما يُنكر عليك الآخرون، كفاك فخراً وكفاك طمأنينة وكفاك شعوراً بالإنصاف أن الله يعلم نواياك، ويعلم أنك على الحق.
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾
[ سورة الأنعام ]
هذا معنى آخر من معاني قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ ..
2 ـ القرآن الكريم معجزة خالدة وهو شهادة الله لمحمد أنه رسوله:
المعنى الثاني هو أن النبي عليه الصلاة والسلام رسول الله، من الذي يشهد للنبي عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله؟ الله سبحانه وتعالى، كيف شهد الله لسيدنا موسى أنه رسوله؟ أعطاه معجزات، أمسك بالعصا فإذا هي ثعبان مبين، نزَع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ضرب بعصاه البحر فإذا البحر طريق يبس، هذه المعجزات الحسية شهادة الله عز وجل لرسوله موسى عليه السلام أنه نبيه، وحينما أحيا سيدنا عيسى الميت، وحينما أبرأ الأكمه والأبرص، شهد الله عز وجل لسيدنا عيسى أنه رسوله، فكيف شهد الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه رسوله؟ لابدّ من أن يعطيه شيئاً لا يستطيعه البشر، لابدّ من أن يكون معه دليل من خالق البشر، إن معجزات الأنبياء السابقة كانت معجزات حسية، والمعجزات الحسية تنقضي بانقضائها وتصبح خبراً، إما أن يُصّدق، وإما ألا يصدق، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لكرامته على الله عز وجل، ولأنه سيد الأنبياء والمرسلين، ولأنه سيد ولد آدم، ولأنه سيد الخلق وحبيب الحق، أكرمه بمعجزة من نوع آخر، أكرمه بمعجزة خالدة، بإمكان أي إنسان جاء بعد النبي أن يكتشف بالدليل القطعي أن سيدنا محمداً هو رسول الله من خلال هذه المعجزة التي بين أيدينا، معجزة النبي عليه الصلاة والسلام ما كانت معجزة حسية وقعت، وانقضت، وأصبحت خبراً يُصدق أو لا يصدق، إنها معجزة خالدة إلى يوم القيامة، ألا ترضون - كما يقول عليه الصلاة والسلام - أن يشهد الله لي بأني رسوله؟! كيف؟ هذا الكتاب الذي بين أيديكم.
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
[ سورة الإسراء ]
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ القضية متسلسلة ومنطقية، ما الذي يشهد لنا أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ إنه القرآن، وما الذي يؤكد لنا أن هذا الذي بين أيدينا كلام الله؟ هو الإعجاز، إذاً بإمكانك عن طريق قراءة القرآن وتدبره، والتأمل فيه أن تكتشف إعجازه، فإذا اكتشفت إعجازه كان هذا القرآن دليلاً لك على أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسوله، فإذا كان القرآن كلامه، والنبي رسوله، إذاً أنت ليس لك إلا أن تذعن لأمر الله عز وجل، لذلك كل ما جاء به القرآن، وكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو من عند الله، فأنت إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تأبق عن عبادته، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ..
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)﴾
[ سورة غافر ]
أي الطبيب مسموح له أن ينظر إلى أحد أعضاء المرأة لمعالجته، لو أن عين الطبيب نظرت إلى مكان آخر لا يبعد عن المكان الأول إلا عشرين سنتيمتراً، هل في الأرض كلها جهة تستطيع كشف خيانة هذه العين؟ لا، لكن الله سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ العين قد تخون، قد تنظر إلى ما ينبغي، قد تجعل بؤرة النظر إلى مكان آخر غير العضو الذي يعالجه الطبيب، إذاً الله سبحانه وتعالى وحده يعلم، يعلم كل شيء، يعلم خائنة الأعين، يعلم ما تخفي الصدور، يعلم السر، ويعلم ما هو أخفى من السر، هناك علانية تُعلنها، وهناك سر تخفيه، وهناك شيء يخفى عنك أنت، إن الله يعلمه، إذاً: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾ .
3 ـ الكتاب بإعجازه يشهد لنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسوله:
الآن المرحلة الثالثة: الكتاب بإعجازه يشهد لنا أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسوله، والنبي عليه الصلاة والسلام يحدثنا عن ربه يقول كذا، وكذا، وكذا .
4 ـ الحياة الطيبة التي هي من قدر الله هي شهادة الله للإنسان أن هذا القرآن كلامه:
المعنى الذي طرقته في الأسبوع الماضي: إن هذا القرآن أيضاً إذا شئت أن يشهد الله لك أنت أيها المؤمن أنه كلامه فإليك التفصيل، طبّق آية من آياته، نفّذ أمراً من أوامره، ثم انظر كيف أن الأحداث الخارجية، كيف أن القضاء والقدر يتجه لتحقيق الوعد الذي وعدك الله إياه في القرآن، وسقتُ على هذا آيتين في الأسبوع الماضي.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
[ سورة النحل ]
الحياة الطيبة التي هي من قدر الله عز وجل إنما هي شهادة الله لك أيها المؤمن أن هذا القرآن كلامه، والمعيشة الضنك التي هي من قدر الله تعالى، هي شهادة الله لك أيها المؤمن أن القرآن حق.
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
[ سورة طه ]
إذاً: هناك إعجاز في القرآن، وهناك تأويل القرآن، والتأويل هنا بمعنى خاص، وهو أن يقع الوعد والوعيد، وقوع الوعد والوعيد هو تأويل القرآن، إذا دُمّر مال المرابي فهو تأويل آية الربا، إذا نما مال المتصدق فهو تأويل آية الصدقة، إذا حُفِظ المال من التلف هو تأويل آية الزكاة، إذا نجح الإنسان في الحياة في شتى الميادين هو تأويل قوله تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾
[ سورة طه ]
طمأنينة المؤمن التي يتميز بها عن الآخرين هو تأويل الله لقوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾
[ سورة فصلت ]
حينما يأتيك رزق من حيث لا تحتسب، وأنت قائم على أمر الله هو تأويل قوله تعالى:
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾
[ سورة الطلاق ]
الأحداث الخارجية كلها تؤكد آيات القرآن الكريم:
لذلك الأحداث الخارجية تؤكد آيات القرآن الكريم، إذاً إما أن تنظر في آيات القرآن الكريم فترى فيه من الإعجاز اللغوي، والإعجاز البلاغي، والإعجاز البياني، والإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز الإخباري، والإعجاز التاريخي، والإعجاز الرياضي، والإعجاز الحسابي، وإما أن تتأمل الأحداث، فإذَا هي تؤكد القرآن الكريم، الأحداث الخارجية كلها تؤكد آيات القرآن الكريم، لذلك قيل: إنك إن أردت أن تعرف الله عز وجل فتأمل في آيات الله الكونية، وتفكر فيها تتعرف إليه، وإن أردت أن تتعرف إلى الله تعالى فتأمل في آياته القرآنية، وإن أردت أن تعرف الله تعالى فانظر إلى الأحداث الخارجية، الأحداث الخارجية تؤكد لك أنه في السماء إله وفي الأرض إله، وآيات القرآن تؤكد أنه كلامه، والكون يجسّد أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى.
معنى علمِ الله عز وجل:
إذاً: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .. كلمة (يعلم) نحن كما قلنا في درس سابق من أن الله سبحانه وتعالى منزه حتى عن صفات الكمال التي تخطر في بالنا، لأنه كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، أنت إذا رأيت هذا الكأس قد نُقل من هذا المكان إلى هذا المكان تقول: علمت بانتقاله، لكن إذا أنت نقلته فهذا علم آخر، علم الله من نوع آخر، لا كعلم الإنسان، الإنسان قد يراقب يتحرك، يقول: أعلم أنه تحرك، أعلَمُ أنه انتقل، ولكن لا يقع شيء في الكون إلا بقدرة الله، و لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله، ولا يقع شيء في الكون إلا بعلم الله. إذاً إذا قلنا: إن الله يعلم، فيعلم له معنى آخر غير المعنى الذي يتبادر إلى أذهان الناس حينما يقولون: نعلم أو لا نعلم.
الحقّ والباطل:
إذاً: ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ .. ما الباطل؟ ما تعريف كلمة الباطل؟ الشيء الزائل، والحق واحد، ما تعريف الحق؟ في الأصل الحق هو غير الباطل، والحق هو غير اللعب، لأن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)﴾
[ سورة النحل ]
أي خلق السماوات والأرض لابسه بالحق، الحق ملازم له، وحينما نفى الله عز وجل عن خلق السماوات والأرض أن يكون هذا الخلق باطلاً قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)﴾
[ سورة ص ]
قال:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)﴾
[ سورة الدخان ]
إذاً حينما نفى اللعب والبطلان عن خلق السماوات والأرض، وأثبت أن خلق السماوات والأرض كان بالحق، إذاً: ما الحق؟ هو شيء مناقض للباطل، الباطل هو الشيء الزائل، الحق إذاً هو الشيء الثابت إلى الأبد، هذا هو الحق، اللعب هو العبث، عمل لا جدوى منه، عمل لا هدف له، يقول ربنا عز وجل:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
[ سورة المؤمنون ]
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
[ سورة القيامة ]
إذاً خلق السماوات والأرض ليس باطلاً، أو ليس مؤقتاً، لم يخلق الله السماوات والأرض للفناء، بل خُلِق الإنسان للبقاء، وخُلق الكون تسخيراً من الله عز وجل لهذا الإنسان كي يعرف الله عز وجل. إذاً الوقفة عند كلمة الباطل، أي حينما تبني جداراً بلا قواعد، تبني جداراً بلا شاقول، حينما يبني إنسان جداراً بلا أصول، فإن هذا الجدار لابدّ من أن يقع، جدار بالباطل، الباطل لابدّ من أن يقع، وأحياناً ترى بأم عينك كيف أن الباطل لا يصمد أمام الحق، وكيف أن الباطل ينتهي ويتداعى كبيت العنكبوت.
معنى الإيمان بالباطل:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ .. أي آمن بفكرة لم ترد في كتاب الله، آمن بحقيقة أو بنظرية مناقضة لكتاب الله عز وجل، سلك سلوكاً بعيداً عن منهج الله عز وجل، أحلّ شيئاً حرمه الله هو باطل، حرم شيئاً أحله الله باطل، سلك طريقاً بعيداً عن طريق الله عز وجل باطل، اعتقد شيئاً مخالفاً للعقيدة التي جاءت في كتاب الله باطل.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ آمنت بالباطل عقيدة، آمنت بالباطل سلوكاً، آمنت بالباطل هدفاً، آمنت بالباطل وسيلة، أيّ شيء خارج عن كتاب الله وعن سنة رسول الله، بل أيّ شيء خارج عن منهج الله هو باطل، والحقيقة الهندسية كما تعلمون أن بين نقطتين لا يمر إلا مستقيم واحد، فإذا زاح الخط عن الاستقامة التي بين النقطتين فهو خط مائل، أو خط منحنٍ، أو خط منكسر، والباطل يتعدد، أما الحق فلا يتعدد، لهذا يقول الله عز وجل:
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾
[ سورة يونس ]
هناك حق، غير الحق ضلال قطعاً، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ﴾ أي اعتقد شيئاً مخالفاً لكتاب الله، سلك سلوكاً مخالفاً لسنة رسول الله، أَلِفَ شيئاً لا يرضي الله، ابتعَدَ عن شيء يحبه الله، أي إذا خرج عن منهج الله اعتقاداً أو سلوكاً فقد آمن بالباطل، إذا آمن الإنسان أن هذا المال لابدّ من أن يُستثمر بفائدة، هكذا منطق الحياة، آمن بالباطل، فإذا استثمره بفائدة فقد سلك سلوكاً باطلاً، أي هذه الآية المطلق على إطلاقه، وهذه الآية جامعة.
استنباطات من قوله تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ:
1 ـ خسارة أهل الباطل شاملة للدنيا والآخرة:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .. أحياناً حينما يستخدم الإنسان كلمة (خسر) أو (خسارة) لا بد من أن يصفَها، خسر ماله، خسر جهده، خسر وقته، خسر شيئاً، خسر بيتاً، خسر زوجة، خسر صديقاً، لكن كلمة الخسارة في كتاب الله جاءت غير مقيدة، لهذا إن من أشدّ أنواع الخسارة أن تخسر الدار الآخرة. إنّ من أشدّ أنواع الخسارة أن تخسر رضوان الله عز وجل، إن من أشدّ أنواع الخسارة ألا تعرف عن الله شيئاً، إن من أشدّ أنواع الخسارة أن تكون دنياك عريضة، عامرة، والآخرة خربة. إن من أشدّ أنواع الخسارة أن تأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة، وقد أكلت مال هذا، وشتمت هذا، وسفكت دم هذا، وعيّرت هذا، واستعليت على هذا، فيأخذ هذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، فإذا انقضت حسنات هذا الإنسان، ولم تفِ بما عليه طُرحت عليه سيئات الآخرين إلى أن يطرح في النار، هذه خسارة، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
2ـ المؤمن لا يندم على شيء مِن الدنيا:
المؤمن لا يندم على شيء فاته من الدنيا إطلاقاً، لأن هدفه كبير، هدفه أن يكون في رضوان الله، لذلك تهون عليه الدنيا، والدنيا هينة على أهل الإيمان، عظيمة على أهل البطلان، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
2 ـ العاقل يراجع معتقداته:
لهذا مما يقتضيه العقل أن تراجع كل معتقداتك، هل تعتقد شيئاً مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم؟ هل تعتقد أن أصل الإنسان قرد مثلاً؟ مخالف لما جاء في القرآن الكريم، هل تعتقد أن تثمير المال بفائدة ضرورة؟ هل تعتقد أن طبيعة العصر تقتضي الانطلاق والاختلاط والحيوية كما يدّعون؟ هل تعتقد فكرة أو مذهباً أو نموذجاً أو سلوكاً مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم؟ هذا هو الإيمان بالباطل. هل تعتقد أن المال هو كل شيء؟ هذا هو الباطل. هل تعتقد أن الذكاء هو كل شيء؟ هذا باطل. هل تعتمد على الأسباب؟ هذا شرك، فالقضية تحتاج إلى مراجعة، تصورات الإنسان، معتقدات الإنسان، ما يقنع به الإنسان، تصرفات الإنسان.
من صفات الأحمق والجاهل استعجالُ العذاب:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ .. دائماً من صفات الأحمق أنه يتحدى، ويستفز، متى العذاب؟ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، هكذا يقول الكفار دائماً، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ طبعاً عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، يقول لك: دع الله يأخذني، ويميتني، لا أريد هذه الحياة، ادخل الجنة وأغلق الباب خلفك، هذا استعجال بالعذاب، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ .
استعمال القرآن الماضي لشيء مستقبلي:
هناك آية أخرى يقول الله عز وجل:
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾
[ سورة النحل ]
انظر لهذه البلاغة في الآية، أتى كيف يستعجلونه؟ هذا من إعجاز القرآن أتى، لو أنك تنتظر صديقاً يقول لك أبوك: استعجله، اتصل به بالهاتف، قل له: تأخرت علينا، هل يعقل أن يقول لك ابنك: لقد جاء فلان يا أبت، يقول له: استعجله، اتصل به بالهاتف؟ جاء، وانتهى الأمر، دخل البيت، ما معنى هذه الآية؟ كيف أتى أمر الله؟ وكيف ينهانا الله عن أن نستعجله؟ في الآية إعجاز، أي أمر الله لا محالة واقع، القضية قضية زمن فقط، وعد الله لا محالة واقع، وعيد الله لا محالة واقع، وعد الله بنصر المؤمنين لا محالة واقع، وعيد الله بخذلان الكافرين لا محالة واقع، وعد الله بحياة طيبة للمؤمن لا محالة واقع، أمر الله أيْ قضاؤه وقدره، وقضاء الله وقدره إما مكافأة للمؤمن أو عقاب للمجرم، إذاً: ﴿أَتَى أمْرُ اللهِ فَلاَ تسْتَعْجِلُوه﴾ أي القضية قضية وقت، مجيئه محقق، أي القرآن يستخدم الفعل الماضي مكان الفعل المستقبل تحقيقاً لوقوعه، كقوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)﴾
[ سورة المائدة ]
هذا القول لم يقع بعد، هذا القول يقوله هذا النبي الكريم يوم القيامة، ولكن حينما قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾ عبّر عن ذلك العلماء فقالوا: إن القرآن يستخدم الفعل الماضي مكان الفعل المضارع، أو الفعل الاستقبال تحقيقاً للوقوع.
الأبعاد الحقيقية للإنسان:
﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾ القضية ليست على استعجال هؤلاء، لكل إنسان أجل، هذا الأجل فيه حكمة بالغة، هذا الأجل حكمته أن يأخذ الإنسان أبعاده فيه.
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
[ سورة الملك ]
الإنسان أحياناً لا يأخذ أبعاده في عشر سنوات، أبعاده الحقيقية، مطامِحه، أهدافه، رغباته، طاعته لله، معصيته لله، ورَعه، تفلّته، صبره، ضجره، حلمه، غضبه، كرمه، بخله، الإنسان لا يأخذ أبعاده إلا بفترة زمنية محدودة، لهذا يقول الله عز وجل:
﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾
[ سورة فاطر ]
أي عشتم عمراً كافياً، أخذتم في هذا العمر أبعادكم، فالقضية ليست على قول زيد أو عُبيد، ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾ ربنا عز وجل جعل لكل إنسان أجلاً محدداً، مثلاً يقول الطالب لأستاذه: دعني أرسب في صفي أستاذ، الآن رسبني، لا، سأرسبك في الفحص، معك مدة حتى شهر حزيران، يقول الطالب: الآن رسبني، وضع لي علامة الصفر، لا، يوجد معك فترة، أولاً: يعطى الطالب فرصة لعله يدرس، لعله يراجع نفسه، لعله يعود عن هذا الاستعجال، لعله يفكر، لعله يتراجع.
وثانياً: هناك نظام عام لابدّ من أن يمضي عام دراسي، يأخذ فيه الطالب كل أبعاده.
احذروا المحطات السبعة الحتمية:
إذاً: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ ربنا عز وجل قال:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)﴾
[ سورة الزمر ]
اجتماعات، أو إلى سهرات، أو إلى زيارات، أو إلى ما شاكل ذلك، نعود، وننام، ونستيقظ، ونذهب، ونعمل، ونأكل، وننام، إلى متى هذا النمط الرتيب؟ إلى لا نهاية؟ لا، كل يوم أفعل هذا إلى ما شاء الله؟ لا، الخط البياني صاعد دائماً؟ لا، بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا ، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ هناك مفاجآت في الدنيا، والمفاجآت لابدّ منها، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا غِنًى مُطْغِيًا ، فجأة جاءك المال الوفير، هذا المال جاء على غير علم فاختلّ التوازن، رفضت حياة التقشف، رفضت حياة الاستقامة، رفضت حياة طاعة الله عز وجل، المال وفير لابد من أن تفعل كذا، وكذا، وكذا، لابد من أن تذهب إلى هذه الجهة، وأن تسافر، لابد من أن تقتني هذا الجهاز، وهذا الجهاز، لابد من أن تلتقي مع زيد أو عبيد، لابد من أن تسكن غير هذا البيت، هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلّا غِنًى مُطْغِيًا ، هذه كانت مصيبة، أن يحملك المال على معصية الله، أن يدفعك المال إلى الدنيا، أن يدفعك المال إلى أن تعلو على خلق الله، أن يدفعك المال إلى المعاصي والآثام، أن يدفعك المال إلى الفجور. هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ يستيقظ في صبيحة أحد الأيام فإذا ماله كله ذاهب، وليس ذلك على الله بعزيز، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ، يفسد حياة الإنسان. أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، يجعله في أرذل العمر، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.
الفرق بين حياة المؤمن وحياة الكافر:
لذلك: ﴿وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ العوام دائماً يستعيذون بالله من ساعة الغفلة، فقد يتوهم الإنسان أن الله راض عنه، وقد يكون الله غير راضٍ عنه، الحبل مرخى، يمرح، ويفرح، ويذهب، ويأتي، ويعود، ويتكلم، ويتبجح، ويتطاول، ويتعجرف، ويستعلي، ويتحدث عن نفسه، وعن ماله، وعن مغامراته، وعن رحلاته، وعن إقامته، وعن بيته ، وعن، وعن.. فجأة أصابه مرض عضال ﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾ ، أما المؤمن فلا ينتظر إلا الخير من الله عز وجل.
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
[ سورة التوبة ]
ما كتب الله لنا من خير، أي فرق كبير بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن، حياة المؤمن فيها استبشار، فيها أمل.
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
[ سورة القصص ]
حياة الكافر فيها مفاجآت ساحقة، فيها مفاجآت مدمرة، فيها مفاجآت متعبة.
يوم الحساب والعقاب:
﴿وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ أول استعجال لعذاب الدنيا.
وثاني استعجال لعذاب الآخرة، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ جهنم مهيأة، والقضية قضية وقت، ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(55)﴾ فالإنسان المؤمن وهو في الدنيا حركاته محسوبة عليه، سكناته محسوبة عليه، مواقفه محسوبة عليه، جوارحه محسوبة عليه، لماذا نظرت؟ لماذا لم تنظر؟ لماذا تكلمت هذه الكلمة؟ لماذا سكت عن الحق؟ لماذا استمعت إلى هذا الشيء؟ لماذا عبست في وجه فلان؟ لماذا هششت لفلان وهو على باطل؟ لماذا أَعطيت هذا ولم تعطِ ذاك؟ لماذا منعت هذا؟ لماذا وصلت فلاناً؟ لماذا قطعت فلاناً؟ لماذا غضبت؟ لماذا لم تغضب؟ كل هذا أنت محاسب عليه، ﴿يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(55)﴾ نحن الآن في دار عمل، وغداً نقدم على دار جزاء وحساب.
تشريف الإنسان بالعبودية والمؤمن بالإيمان:
الآن اسمعوا أيها الإخوة: ﴿يَا عِبَادِيَ﴾ ألا تقشعر جلودكم لهذه الكلمة؟ لقد أضيف العباد إلى الله عز وجل إضافة تشريف، لكرامة العباد على الله، لأن الإنسان هو المخلوق الأول، لأنه هو المخلوق المكرم ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ .. الله عز وجل يخاطب المؤمنين، أما الكفار فما آمنوا به حتى يستمعوا إلى خطابه.
من لوازم الآية التالية ومقتضياتها الهجرة بمفهومها الواسع:
﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ .. ما معنى هذا الكلام؟ أي يا عبادي الذين آمنوا إياكم أن تعصوني، لابد من أن تطيعوني، خلقتكم للعبادة، فإذا كنتم في مكان تفتدون فيه بدينكم فارحلوا عن هذا المكان إلى مكان آخر تطيعون الله فيه، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ لا تعبدوا غيري ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ حينما يأتي المفعول به مقدماً فهو يفيد الحصر، أي اعبدوا الله، ولا تعبدوا أحداً سواه، أطيعوا الله، ولا تطيعوا أحداً سواه.﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ .. هذه الآيات كما يروي المفسرون: أنها نزلت في حضّ المؤمنين في مكة على الهجرة إلى المدينة، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ ..أي إذا آثرتم أن تبقوا في بلدكم، وتفتنون في دينكم، هذه الحياة لا تدوم لكم، لابد من الموت، كل نفس ذائقة الموت، فإذا آثر الإنسان الدنيا، ثم ماذا؟ ماذا بعد الدنيا إلا الموت؟ ماذا بعد الغنى إلا الموت؟ ماذا بعد الوجاهة العريضة إلا الموت؟ ماذا بعد النجاح الكبير في الحياة إلا الموت؟ ماذا بعد التفوق إلا الموت؟ ماذا بعد أن تملك الدنيا وما فيها إلا الموت؟ ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ أي إذا ضاق بك المقام هنا، اذهب إلى هناك، لذلك باب الهجرة قد انتهى من مكة إلى المدينة بعد الفتح. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا. ))
[ صحيح البخاري ]
لا هجرة بعد الفتح، الهجرة انتهت، لكن الهجرة مشروعة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة وقت الهجرة. عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ. ))
[ صحيح مسلم ]
في زمن الفتن.
الغريمان الأساسيان للإنسان الفقر والموت:
الحقيقة أن الإنسان يخشى شيئين، أولاهما: الموت، والثاني: الفقر، ولأن الأمر بيد الله وحده، لذلك قطع الله أمر الموت، وأمر الرزق عن العباد، بمعنى أن أحداً من بني البشر لا يستطيع أن يؤثّر في أجلك، ولا في رزقك، لهذا قيل: "كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً".
مغزى الهجرة: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ:
هنا في الآية عندما دعا ربنا عز وجل هؤلاء المؤمنين في مكة إلى الهجرة، ما الذي يخافون منه؟ يخافون أن يموتوا في الطريق، لأن قريشاً كانت تترصد لهم، ويخافون أن يفتقروا، لأنهم إذا جاؤوا إلى المدينة لا شيء عندهم، كما يقول بعضهم: اقتُلعوا من جذورهم، تركوا أموالهم تركوا بيوتهم، تركوا تجارتهم، وجاؤوا إلى بلد لا يعرفون أحداً فيه، فربّنا عز وجل طمأن هؤلاء قال: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ يجب أن يكون شغلك الشاغل أن تعبد الله، هدفك الأسمى أن تعبده، هدفك الأكبر أن تعبده، لا شيء يعلو على هذا الهدف، لا شيء يقلق إلا أن تعبده، هكذا، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي إن كنتم حقاً مؤمنين، إن عرفتموني، وعرفتم حقيقة الحياة، وكيف أنها دار عمل، وعرفتم حقيقة الآخرة، وكيف أنها دار جزاء، وعرفتم أبدية الآخرة، وزوال الدنيا، وشدة انقضائها، إن عرفتم هذه الحقائق، وعرفتم ما عندي من إكرام كبير، وعرفتم ما بعد الموت للكفار من عذاب أليم، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ عليكم أن تعبدوني بأي ثمن، ولو إذا كان الثمن أن تخرجوا من أرضكم، ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ ولا تخافوا أن تكون الهجرة سبباً في موتكم، لأن كل نفس ذائقة الموت، الموت الذي تخافون منه لا محالة آت في الوقت الذي هو مقرر، هذه الفكرة مريحة جداً، لي عند الله أجل لا يزيد ولا ينقص، لا يزيد ثانية، ولا ينقص ثانية، وهذا الأجل بتقدير الله عز وجل العليم الحكيم، لهذا عندما قال أحد الشعراء:
إن الطبــــــــــيب له علم يُدل به إن كان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انقضت أيام رحلته حــــــــــــار الطبيب وخانته العقاقير
* * *
المصير المحتوم:
كلكم يعلم أن الإنسان تكتَب نعوته أحياناً، ويعيش ثلاثين عاماً بعد كتابة النعوة، وإنسان يرتجى طول عمره، فإذا هو في ثوان معدودة أصبح من أهل القبور، هكذا الحياة، فقال: يا عبادي ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ ..أي أنت مصيرك إلى الله عز وجل، ماذا أعددت لهذا اللقاء؟ ماذا هيأت له؟ ماذا ادخرت له؟ ماذا تزودت له؟ بمَ تلقى الله إذاً؟ لا صدقة ولا جهاد، جهاد النفس والهوى، فبمَ تلقى الله إذاً؟ ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ والله الذي لا إله إلا هو لو أدركنا حقيقة الموت، جاء في بعض الآثار: أنه ما من بيت إلا ومَلكُ الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات، فإذا رأى أن العبد قد انقضى أجله، وانقطع رزقه، ألقى عليه غمّ الموت فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الضاربة وجهها، والممزقة ثوبها، والصارخة بويلها، يقول ملك الموت: فيمَ الجزع؟ ومم الفزع؟ ما أذهبتُ لواحد منكم رزقاً، ولا قرّبت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودة، ثم عودة، حتى لا أبقي منكم أحداً، فو الذي نفس محمد بيده، لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم، ولبكوا على أنفسهم، أي ينسون أن يغسلوا الميت، فإذا شُيع هذا الميت رفرفت روحه فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة عليّ، فو الذي نفس محمد بيده لو ترون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوة - تذهب القابلية نهائياً - ولا شربتم شراباً، ولذهبتم إلى الصُعدات تضربون وجوهكم، وتلتدمون أنفسكم، هكذا ورد في بعض الآثار، إذاً ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ هذا أخطر حدث في حياة الإنسان، أخطر من الحياة والولادة، لماذا؟ الولادة يوجد خيارات كثيرة أمامك، أما الموت فليس هناك خيار، فإذا سيق رجل للإعدام، إذا بكى هل يخلصونه مما هو فيه؟ البكاء ينجيه من الإعدام؟ لا، التوسل؟ لو ضحك هل ينجو؟ هذا صار ممراً إجبارياً، ضحكه كبكائه، صراخه كصمته، توسله ككبريائه، هذا الحكمُ، لا بد من أن يقع هذا الحكم.
الله تعالى بدأ بالموت لأن حدث الموت أخطر في حياة الإنسان من حدث الحياة:
لذلك قال ربنا عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ .. بدأ بالموت، لأن حدث الموت أخطر في حياة الإنسان من حدث الحياة، مثل أول العام الدراسي، أوله سهل، الفرص كلها واسعة ومفتوحة، تدرس ، لا تدرس، تهدر الوقت، تستغله، تنتبه ، لا تنتبه، تتشاغل، تكتب، تؤدي الواجبات، تهملها... هناك خيارات واسعة جداً، ولكن دخولك على قاعة الامتحان يترتب عليه النجاح أو الرسوب، الإكرام أو الإهانة، هنا ضاقت الخيارات.
الوجه المشرق ليوم القيامة:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ .. لكن أيها الإخوة الأكارم، استبشروا، هذا كتاب إرشاد، ربنا عز وجل يعطيك الصورة المخيفة، ومعها الصورة المشرقة، قال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً﴾ لننزلنهم في جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا فيها متاعب، ولا فيها خوف، ولا فيها قلق، ولا فيها كبر، ولا فيها مرض، ولا فيها خصوم، ولا فيها أعداء، ولا فيها مؤامرات على إنسان، لا يوجد أي شيء أبداً، فيها نعيم مقيم.
تعريف بالعاملين:
لنبوئنهم أي لنُنْزِلَنّهم ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ .. من هم العاملون الذين صبروا؟ التكاليف كلها مكلفة، أمرك بِغَضّ البصر، أنت بغَضّ البصر تعاكس شهوتك، أمرك بضبط اللسان، ضبط اللسان فيه كلفة، هذه حرام، هذه غيبة، هذه نميمة، هذه بهتان، هذه سخرية، هذه كلمة فاحشة، أمرك بضبط الأذن، بضبط اليد.
فيا أيها الإخوة الأكارم؛ ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ صبروا على طاعة الله، صبروا عن الشهوات، صبروا على المصائب، صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ عند المصيبة، أي صبرٌ تكليفي، وصبر تكويني، يوجد أمر ويوجد نهي، يوجد تكليف ويوجد قضاء وقدر، فالصبر عند المصيبة هو صبر على أمر تكويني، والصبر على الطاعة، أو عن المعصية هو صبر على أمر أو نهي تكليفي، ﴿الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ والصبر هو الإيمان كله، مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ، الصبر أنك إذا جاءك شيء خارجي تتلقاه بالرضى، والسماحة البذل، فأنت إما أن تأتيك الأشياء من خارجك تقبلها، وترضى بها، إما أن تبذل.
لابدّ من الحركة:
﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ .. ويا أيها الإخوة المهاجرون، يخاطب الله المؤمنين في مكة أن غادروا.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)﴾
[ سورة الأنفال ]
بربكم إذا فكر أحدكم، فكر، فكر، وقال: هذا المصباح متألق، ماذا فعل؟ ماذا قدم؟ هو متألق، إذا قال: منطفئ، هو متألق، وإذا قال: متألق، فهو متألق، هل أضاف شيئاً؟ أردت من هذا المثل أن أقول لكم: إذا آمنت بالله ماذا فعلت؟ أقول لك: لم تفعل شيئاً إلى أن تأخذ موقفاً، إلى أن تنتهي عما عنه نهى، إلى أن تأتمر بما به أمر، إلى أن تعطي، إلى أن تفكر، لأن الإيمان مع السكون هذا ليس له جدوى، لا طعم له، لا يقدم ولا يؤخر، أنا مؤمن أن الله موجود، الله عز وجل موجود إن آمنت أو لم تؤمن الله عز وجل، مثل بعض، أنا مؤمن أنه يوجد جنة، وهو في الحقيقة يوجد جنة فعلاً، المشكلة ماذا فعلت؟ حتى إن بعضهم يروي: أنه جاءه أعرابي إلى رسول الله قال له: يا رسول الله علمني من غرائب العلم – أحب هذه النهفات- النبي الكريم قال له: فماذا فعلت في أصل العلم؟ هذه لا قيمة لها، طُرَف، قراءات، قصص رائعة جداً، لقطات، نظرات، شذرات، كتاب رائع جداً، ممتع، مسلٍّ، هذا ليس له قيمة، قال له: فماذا صنعت في أصل العلم؟ قال: وما أصل العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ عرفت الله عز وجل؟ قال: ما شاء الله ، أي نعم عرفته، فقال عليه الصلاة والسلام: فماذا صنعت في حقه؟ هذا السؤال، إذا قلت: إنني أعرف الله ماذا فعلت؟ ماذا صنعت في حقه؟ ماذا قدمت لعباده؟ ماذا أعددت للقائه؟ ما الشيء الذي بذلته من أجله؟ ما الشهوة التي ضبطها من أجله؟ ماذا فعلت؟ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ إذا ما أخذت موقفاً، تقول: أنا لدي عواطف إسلامية رائعة، والبيت متفلّت ما قيمة هذه العواطف؟ أخي أنا عندي ثقافة إسلامية جيدة، ما قيمة هذه الثقافة؟ أين التزامك؟ أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك، فلذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ ، يجب أن تأخذ موقفاً، قال له: فماذا صنعت في أصل العلم؟ قال: وما أصل العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ قال: ما شاء الله، فقال: فماذا صنعت في حقه؟ قال: هل عرفت الموت؟ قال: ما شاء الله، قال: فماذا أعددت له؟
لا تتشاغل بما ضمنه الله لك عما افترضه عليك:
وأنا أنصح نفسي وإياكم أن تجيبوا عن هذين السؤالين: هل تعرف الله؟ قل لي: نعم، ماذا صنعت في حقه؟ هل تعرف الموت؟ تقول: نعم، ماذا أعددت له؟ هذان السؤالان لا ينبغي أن يفارقا مخيلتك، يجب أن يكون هذان السؤالان شغلك الشاغل، فلذلك ربنا عز وجل يقول:﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ لا تخش الرزق.
﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)﴾
[ سورة الذاريات ]
قبل أربعين عاما تقريباً كان هناك ثانوية في دمشق شهيرة جداً، فيها قسم ليلي، الآن الثانوية ليس فيها قِسمٌ ليلي، أما أنا فأعرف أنه كان فيها مهاجع في الطابق الثاني، وكان فيها مطعم كبير جداً، قاعات مطالعات، وفيها قاعات تدريس، ويوجد مطبخ، وطباخون، وموظفون، وموجهون، وقائمون للمكتبة، وموجِّهون ليلاً ونهاراً، هذا الطالب الداخلي ما مهمته الأولى؟ أن يدرس، لذلك بعد الدوام هناك قاعة مطالعة، مكتبة ضخمة جداً، والطاولات مريحة، والإضاءة جيدة، ويوجد مطبخ، في الساعة السابعة تماماً يقرع الجرس، ويذهب الطلاب إلى المطعم ليأكلوا، دققوا، لو أن هذا الطالب ترك قاعة المطالعة، وترك القراءة والدراسة، وذهب إلى المطبخ يتفقد أعمال الطباخين، ماذا صنعتم؟ هل قشرتم البصل؟ هل فعلتم كذا؟ هذا عمل تافه.
أردت من هذا المثل أن أقول لكم: لا تتشاغل بما ضمنه الله لك عما افترضه عليك، خلقت لك ما في السماوات والأرض فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك، عما افترضته عليك، فرضَ الله عليك أن تعرفه، وأن تذكره، وأن تستقيم على أمره، وأن تطيعه، وأن تعمل الصالحات تقرباً إليه، وأن تقرأ كتابه، وأن تحضر مجالس العلم، وأن تفهم أمره ونهيه، وضمن لك رزقاً، فإياك أن تنشغل بطلب الرزق عما افترضه الله عليك، الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى-ـ يروى أن حديثاً شريفاً غيَّر مجرى حياته، قيل: من طلب العلم تكفل الله له برزقه، بمعنى أنك إذا سعيت إلى طلب العلم فالله سبحانه وتعالى يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب، لا أقول لكم: لا تسعوا، لا، اسعوا في مناكبها، ولكن بجهد معقول يأتيك أجر يكفيك، لذلك: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ربنا يخاطب أهل مكة من المؤمنين الذين لم يهاجروا بعد، إن خفتم أن تموتوا فالموت مصير كل إنسان، كائناً من كان، وإن خفتم أن يذهب الرزق فرزق الله مضمون، وهذان الشيئان إذا أيقنت أن حياتك بيد الله وحده، وأن الرزق بيد الله، تنتهي كل المشكلات.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين