- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (037)سورة الصافات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس التاسع من سورة الصَّافَّات، ومع الآية التاسعة والتسعين.
المقصود من قصص القرآن العبرُ:
لا زلنا في قصَّة سيدنا إبراهيم، في الدرس السابق تحدَّثنا عن قصَّةٍ جرت له مع قومه حينما ألقوه في النار، وقال الله عزَّ وجل:
﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)﴾
ومرَّةً ثانية وثالثة: أتمنَّى أن أوضِّح لكم هذه الفكرة، إنَّ أية قصَّةٍ في القرآن الكريم ليست مقصودةً لذاتها؛ بل مطلوبةً للعبرة التي يمكن أن تُستنبط منها، لأن هذه العبرة يمكن أن تُطَبَّق في حياتنا..
معية الله للمؤمن في الشدة:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
يوم دعوتَهُ وقد أُحْكِمَت حلقاتُ المصيبة، فاستجاب لك، وفرَّج عنك.
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ
كلمة "مخرج" تعني أن الأمور مغلقة، الحلقة محكمة، الأبواب مُغَلَّقة، السُبل مسدودة، الطرق موصَدة، كلمة:
فيما يشبهها قصة سيدنا يونس عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام حينما كان في بطن الحوت، في ظلماتٍ ثلاث:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
الآن ربنا عزَّ وجل أراد من هذه القصَّة أن يجعلها قانوناً، قال:
إذاً: أنا حينما أقول لكم:
إذاً:
الآن: درسٌ آخر يُستنبط من دروس هذه القصَّة..
﴿ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَسْفَلِينَ(98)﴾
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ
دائماً العاقبة للمتقين، ثمَّ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)﴾
لكن هذه كيف تقع معنا؟ كيف يقول أحدنا: إني ذاهبٌ إلى ربي؟ أيْ إذا توَجَّه أحدنا إلى بيتٍ من بيوت الله ليصلي، توجَّه ليحضر مجلس علم، توجَه إلى الفلاة ليناجي ربَّه، توجَّه إلى غرفةٍ قَصيَّةٍ في البيت ليصلي قيام الليل، إن توجَّه إلى غرفةٍ قصيَّةٍ في البيت ذهب إلى ربِّه، وإن توجَّه إلى فلاةٍ ليناجي ربَّه وليذكره ذهب إلى ربه، وإذا توجَّه إلى بيتٍ من بيوت الله لا يقصد منفعةً، ولا دنيا، ولا حلَّ مشكلةٍ؛ إنما يقصد مرضاة الله عزَّ وجل فكأنه ذاهبٌ إلى الله عزَّ وجل..
(( إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوَّارها هم عمَّارها، فطوبى لعبدٍ تطهَّر في بيته ثمَّ زارني، وحُقَّ على المزورِ أن يُكرِم الزائر. ))
إذا توجَّه الإنسان إلى أحد بيوت الله لا يرجو دنيا؛ إلا ابتغاء مرضاة الله، فالله جلَّ جلاله سيرحمه، سيتجلَّى عليه، سينوِّر قلبه، سيوفِّقه في أعماله الدنيويَّة، سيمنحه الرضى، يمنحه القُرب.
فأنا تذوَّقت هذه الكلمة:
إن توجَّهت إلى غرفةٍ قصيَّةٍ تذكر الله فيها، بعيداً عن ضوضاء الأولاد
إن وقفت في الصلاة تناجي ربك بخشوعٍ
سيدنا إبراهيم قال:
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ(100)﴾
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ
لابد أن تترك ولدا صالحا ينوب عنك بعد موتك:
فالذي رزقه الله مولوداً ذكراً كان أو أنثى، فإن أعظم رزقٍ يُرْزَقه المؤمن؛ أن يكون له ولدٌ صالح، ولدٌ يُعَلَّم الناس من بعده، ولدٌ ينفع الناس من بعده، أجل هذا أعظم كسب المؤمن في الحياة، لذلك الدعوة إلى الله إذا تولاَّها أناسٌ كابراً عن كابر، وخلفاً عن سَلَف تبقى مستمرَّة، فيجب أن تهيئ من يدعو إلى الله من بعدك، يجب أن تهيئ من ينوب عنك في غيبتك، هذا معنى:
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)﴾
1 ـ الحلم سيِّدُ الأخلاق:
الحِلم كما تقول العرب:
وقد أورد البيهقي بسند ضعيف:
(( كاد الحليم أن يكون نبياً. ))
والحِلم لا يتأتَّى إلا عن الإيمان، فالمؤمن حليم، لماذا؟ لأنه يتخلَّق بأخلاق الله عزَّ وجل، ولأنه يرى أن الأمر كلَّه بيد الله، وأن أيَّ شيءٍ وقع أراده الله، الذي وقع أراده الله، والذي لم يقع لم يرد الله وقوعه..
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. ))
2 ـ الحلم يتأتّى بالإيمان:
هذا هو الإيمان، فمن أين يأتي الحلم؟ من الإيمان، هذا الكون تعمل به يدٌ واحدة هي يد الله، كل شيءٍ تراه عينك إنما هي صوَر، لكن الله عزَّ وجل هو الحقيقة الأولى والأخيرة في الكون، الله هو الرافع، هو الخافض، هو المعزُّ، هو المذلُّ، هو الرزَّاقُ، هو الباسط، هو القابض، هو المحيي، هو المميت، هو الموفِّق، كل شيءٍ بيد الله عزَّ وجل، فلذلك الحليم يرى أن يد الله تعمل في الخفاء، الحليم يحترم مشيئة الله عزَّ وجل، يحترم إرادة الله عزَّ وجل، لماذا هو حليم؟ لأنه يعلم علم اليقين أن كل شيءٍ وقع أراده الله، وأن كلَّ ما أراده الله وقع، وأن إرادةَ الله عزَّ وجل تنطلق من حكمته المُطلقة، وأن حكمته المطلقة تتوافق مع الخير المطلق، لذلك هو حليم.
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَه. ))
أحدنا إذا رأى ابنه يصلي طواعيةً، مبادرةً منه، إذا رأى ابنه اصطلح مع الله، يمتلئ قلبه سعادةً، تقرُّ عينه به، فكيف إذا كان النبيُّ الكريم سيدنا إبراهيم قد رزقه الله نبيَّاً مثله؟ نبيَّاً حليماً، لعله ليس من علاقة ولا درجة من المودَّة والقُرب تفوق هذه العلاقة، أوّلاً ابن، وثانياً كماله كمال أنبياء ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ الآن:
﴿
أي أنّه أصبح شاباً يسعى معه في الدعوة إلى الله، يسعى معه في إرشاد الخلق إلى الله عزَّ وجل، أو يسعى معه في حركته اليوميَّة، أي أنَّه أصبح راشداً..
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
3 ـ بيان العلل من الأمر والنهي:
كأن الله عزَّ وجل يقول: يا عبادي صلوا، لأن الصلاة تنهاكم عن الفحشاء والمنكر، هذا أمر، وهو أمر مُعَلَّل، تُقبِل على تطبيقه طواعيَّةً لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)﴾
أمرك أن تصوم، وبيَّن لك أن الصيام ينقلك إلى مرتبة التقوى، أمرك أن تزكّي فقال تعالى:
﴿
تطهرهم وتزكيهم، الناس يأتيهم أمر الله المنطقي، المعقول، المبيَّن، المفصَّل، المعلَّل، ومع ذلك يتوانون في تطبيقه، فكيف إذا جاءك أمرٌ لا يبدو لك منطقياً؟ لا يبدو لك مُعَلَّلاً؟
4 ـ طاعة الله في الأمر والنهي من تمام العبودية:
بشكل مقرَّب: مناسك الحج، الإنسان أحياناً يقول: لِمَ أنا أطوف حول البيت؟ ولمَ أرشق إبليس بالحجارة؟ ولمَ أسعى بين الصفا والمروة؟ ولمَ أهرول؟ فهذا الإنسان الذي لا يحتمل أمراً لا يرى تعليله، ولا منطقيَّته، ولا تفسيره، هذا الإنسان بعيدٌ عن مقام العبوديَّة لله عزَّ وجل، أليس أي أمرٍ لله عزَّ وجل علَّته الكبرى أنه أمر الله عزَّ وجل؟
هذا الذي لا يطبِّق أمر الله إلا إذا رآه منطقياً، لا يطبِّق أمر الله إلا إذا رأى نفعه ملموساً بيده، لا يطبق أمر الله إلا إذا راق له، هذا ليس عبداً لله، هذا عبدٌ لنفسه، لمصلحته، فقد تجد في أوامر الدين أمراً لا تراه بعقلك القاصر معلَّلاً، هذا امتحان، مثل هذا الأمر يمتحن عبوديَّتك لله عزَّ وجل، فمثلاً:
لو أمر الأب ابنه أن ينظِّف أسنانه قبل أن ينام، طبعاً الأب يقول له: يا بني، إن أسنانك ثروةٌ ثمينة، فإن اعتنيت بنظافتها تمتَّعت بها طوال حياتك وإلا؟ لا تكن مثلي ـ وضعت بدلة مثلاً ـ فكلَّما أهملتَ تنظيف أسنانك خلعتَ أسنانك واحدة واحدة، فحينما يأمر الأب ابنه بتنظيف أسنانه يعطيه التعليل، يعطيه التفسير، يبيِّن، يا بُنَي كن صادقاً حتى تنتزع إعجاب الناس واحترامهم، يا بني اجتهد لأن رتبة العلم أعلى الرُتَب، كل هذه الأوامر يُلقيها الأب على ابنه معلَّلةً.
لو أن هذا الابن جاء ليأكل مع والديه فقال له: يا بني لا تأكل معنا اجلس هناك، هذا أمر غير منطقي، فما السبب؟ أنا جائع، والطعام موجود، وليس معكما أحد، لماذا لا آكل؟ هذا الأمر غير المنطقي، وغير الواقعي، غير المعلَّل هذا الأمر يمتحن طواعية الابن لأبيه، هناك ابن يقول: لماذا لا آكل معكم؟ فأنا لا أجد مانعاً، أقنعني، هناك ابن مستواه أرقى بكثير يقول له: سمعاً وطاعةً يا والدي، ولو لم يفهم، أيهما أرقى في الطاعة؟ الذي امتثل أمر والديه دون أن يفهم حكمتهما.
يا أيها الإخوة الأكارم، هذا موضوعٌ دقيق، فالله عزَّ وجل أمرنا بأوامر منطقيَّة، ومعقولة، وواضحة، وبيِّنة، نتائجها ملموسة، معلَّلة في القرآن، ومعظم الناس يتوانون عن الأخذ بها، لكن أحبابه الذين ذابوا في حبِّه، وأقبلوا عليه، واستسلموا لمشيئته، وسبحوا في أسمائه الحُسنى، وفنيت ذواتهم في القرب منه، هؤلاء مستعدون أن يضحوا بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، امتثالاً لأمر الله عزَّ وجل، لذلك هذا نموذج من الحب، نموذج من القرب، نموذج من العبوديَّة لله عزَّ وجل.
قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فعلى أي مقياس لا يُقْبَل هذا الأمر، ابنه، فلذة كبده، ابنه الوحيد الذي بشَّره الله به، ابنٌ كامل، نبيٌّ كريم، لماذا أذبحه؟ الآن إذا أحد الآباء قال لابنه: والله أنا سأذبحك يا ابني، يقول لك: أبي جُنَّ، فبأيّ مستوى إذاً كان إبراهيم وابنه؟
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ
1 ـ الطاعة المطلقة من إسماعيل لأبيه عليهما السلام:
هذا أب، وهذا ابن، وهذا علامة الإيمان، وإذا قال الله، هذه حرام، فيجب ألاّ تقول: لماذا؟ أمّا ضعيفُ الإيمان فيقول لك: لماذا حرام؟ إنها غير منطقيَّة، هذا قرض استثماري، وليس قرضاً استهلاكياً، يتفلسف على الله أيضاً، فالله حرَّم الربا، ويقول لك: هذا قرض استثماري، وليس قرضاً استهلاكياً، لماذا لا يكون هناك اختلاط؟ هذه مثل أختي؟ كلَّما جاء أمر يقيِّد حركته يتفلسف، يريد بزعمهِ أن يكون الأمر منطقياً، هذا الذي لا يطبِّق إلا ما يروق له، وما يحلو له، ليس عبداً لله عزَّ وجل، ربنا عزَّ وجل أطلعنا في هذه السورة على نموذج من العبوديَّة لله عزَّ وجل، لا أعتقد أن هناك أمراً أبعد عن المنطق، أبعد عن الرحمة، أبعد عن القبول كهذا الأمر:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ
أطهر، ومع ذلك ينظر الإنسان، فالله عزَّ وجل أطلعنا في هذه القصَّة على مستوى رفيعٍ رفيع من العبوديَّة لله عزَّ وجل، لذلك حَسْبُ أيّ أمرٍ لله عزَّ وجل أنه أمر الله، علَّة أيّ أمرٍ لله عزَّ وجل أنه أمر الله عزَّ وجل، يكفينا هذا.
المؤمن الصادق عنده شيءٌ واحد، هو التحقُّق من أن هذا أمر الله، وهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا حكم الله، وهذا يرضي الله، وانتهى الأمر، فإذا تحقَّقَ أن هذا أمر الله بادرَ إلى تطبيقه.
لكن بعض العلماء قالوا: أنت أيها المؤمن، إذا بادرت إلى تطبيق أمر الله عزَّ وجل عبوديَّةً له، وانصياعاً له، ولو لم تقف على حكمته، لو لم تقف على عِلَّته، لو لم يتبيَّن لك وجه منطقيَّته، إذا بادرت إلى تطبيق أمر الله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله يتكرَّم عليك بكشف حكمته جزاء عبوديَّتك له، أي نفِّذ ثمَّ انتظر أن يكشف الله لك الحكمة، نفِّذ ثم انتظر.
الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به:
بالمناسبة، هناك نقطة مهمَّة جداً في هذا الموضوع، الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، كيف؟ فمن الممكن لإنسانٍ لا يقرأ ولا يكتب، ليس متعلِّماً إطلاقاً، ولا يفقه ما هي الآلة، من الممكن أن يشتري مكيفاً، وكلَّما شعر بالحر يكبس زراً فيأتيه الهواء الطيِّب، ولكن هذا جاهل بمبدأ المكيفات، وتحريك الغازات، والدفع، وما إلى ذلك، ومن الممكن لإنسان أن يركب أفخم سيَّارة، وأحدث موديل، وهو لا يعرف ما تحت غطاء المحرِّك، أنت من الممكن أن تنتفع بالشيء من دون أن تعلمه، فما علاقة هذا الكلام بدرسنا؟
إذا نفَّذت أمر الله دون أن تسأل عن حكمته، ولو لم تعرف حكمته، بل لأنه قال لك الله عزَّ وجل: غُضّ بصرك، قلت: أنا سأغض بصري، كل ثمار غضِّ البصر تقطفها دون أن تعلم حكمته، كل السعادة التي وعد الله بها من يغضُّ بصره تجنيها دون أن تعلم حكمة غض البصر، أمرك أن تصلي، أمرك أن تصوم، أمرك ألاّ تأكل الربا، لو امتنعت قصداً عن فهم حكمة تحريم الربا، ولم تأكل الربا شعرت براحةٍ ما بعدها راحة.
لذلك إن فهمت الحكمة فلا بأس، وهي أفضل، إن فهمت حكمة الأمر فهذا شيء جيِّد، لأنك إن فهمت الحكمة بإمكانك أن تعلِّم هذا الأمر للناس، كنت عابداً فأصبحت عالِماً، إذا بادر الإنسان إلى تطبيق أوامر الله عزَّ وجل من دون أن يعلم حكمتها، وقَطَفَ ثمارها، وسعد بها فهو عابد، أما إذا تعلَّم حكمتها، وعلَّمها للناس أصبح عالِماً، لكن الحد الأدنى أنك إذا عرَفت الأمر الإلهي، ولم تتعرَّف إلى حكمته، وطبَّقت هذا الأمر، تقطف كل ثماره اليانعة.
بالمناسبة: اليوم ذكرت في الخطبة: أنك من الممكن أن تقرأ عن العفو، ممكن أن تتحدَّث عن العفو، من الممكن أن تحدِّثنا عن رسول الله كيف عفا عن كفَّار مكَّة، كيف عفا عن عكرمة، ومن الممكن أن تبكيّنا، وممكن أن تقرأ ما في سِيَر الصالحين من مواقف العفو، وممكن أن تحلِّل العفو، وممكن أن تؤثِّر، لكن إنْ لم يكن لك عدوٌ نال منك أشدَّ النيل، ثم وقع في قبضتك، وأنت قادرٌ على التنكيل به، وعفوتَ عنه، إن لم تمارس العفو فلست عَفُوَّاً، الحديث عن العفو شيء، وأن تكون عَفُوّاً شيءٌ آخر، الحديث عن التواضع شيء، وأن تكون متواضعاً شيءٌ آخر، الحديث عن الكَرم شيء، وأن تكون كريماً شيٌ آخر.
فيا أيها الإخوة الأكارم، حينما تبادر إلى أمر الله عن علمٍ أو عن غير علمٍ تقطف كل ثماره، لكنك إن بادرت إليه عن علمٍ استطعت أن تعلِّمه للآخرين، وأن تنتقل من مرتبة العبَّاد إلى مرتبة العلماء.
إذاً:
﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52)﴾
يريد ديناً تفصيلاً مناسباً لحجمه، يتناسب مع حركته، مع شهواته، مع رغباته، مع عاداته، مع تقاليده، تجد المناقشة طويلة، حتى إنه يقول لك: إن هذه الأمور ما فيها حرج، ولماذا أنت تعقِّدها؟ ما هو دليلك عليها؟ لكن أين الإيمان من هذا؟ الإيمان ما إن يثبت لك أن هذا أمر الله إلا وتبادر إلى تطبيقه، إذا أردت قدوة فسيدنا إبراهيم قدوة صارفة، قال له:
1 ـ الاستسلام لله عزَّ وجل ذروة الإيمان:
سيدنا إبراهيم استسلم لأمر الله، بالاستسلام حالةٌ مريحة جداً، رب العالمين أرحم الراحمين، عليمٌ، حكيمٌ، لطيفٌ، قديرٌ، عدلٌ، مُعطٍ، مانع، مُغنٍ، رافع، خافض، رزَّاق، وهَّاب، هذا أمره، فالاستسلام لله عزَّ وجل ذروة الإيمان، كما قال الشاعر:
هم الأحبَّة إن جاروا وإن عدلـوا فليس لي عنهمُ معدلٌ وإن عدلــوا
واللــه وإن فتَّتوا في حبِّهم كبدي بـــــاقٍ على حبِّهم راضِ بما فعلوا
هذه علامة الإيمان، أحد الصحابة فقد بصره، قيل له ـ وكان مستجاب الدعوة ـ: ادعُ الله أن يردَّ لك بصرك، قال: "والله أخجل، هو اختار لي هذا، وأنا أرفضه؟!"، فقد بلغ حبُّهم لله عزَّ وجل درجة أنهم راضون بمشيئة الله مهما تكن مؤلمةً.
كلُّنا إذا قرأنا هذه القصَّة سنقول: ما الذي حصل بعد هذا؟ فقد فداه الله بذِبحٍ عظيم، هذا خطأٌ كبير في تصوّرنا للحدث، سيدنا إبراهيم حينما تلقَّى الأمر بذبح ابنه ما خطر في باله أن هذا الأمر لا يُنَفَّذ..
﴿
فَلَمَّا أَسْلَمَا
أيْ أنّه استسلم لتنفيذ أمر الله.
أنت أحياناً يمتحنك الله بمشكلة، فهو خيار صعب جداً.
1 ـ الله يمتحن عباده:
أنا أعرف رجلاً رعى امرأةً ليس لها أحد يحنو عليها، بل هي كما يقال في عُرفنا: مقطوعة، تسكن في غرفة في مسجد، وكان الرجل يسكن إلى جوار المسجد، رعاها أكثر من عشرين عاماً، ثمَّ انتقل إلى حيٍّ بعيدٍ بعيد، وقد عاهد الله على أن يتابع رعايته لها، فصار يخرج من بيته في حيِّه الجديد مشياً على قدميه إلى مكان إقامتها ليرعاها، بذل أهله كل ما في وسعهم ليصرفوه عن هذا العمل، بيتك صار بعيداً، كبرت سنك، كفاك ما قدمت، واللهُ لا يكلفك فوق طاقتك، أبداً، فلمَّا رأوا منه إصراراً لا حدود له، ووفاءً بالعهد لا حدود له، امرأة على حافة قبرها، فقالوا له: أمرُنا لله عزَّ وجل، فائت بها إلى البيت رحمةً بك، فجاؤوا بها إلى البيت، ما هي إلا أيَّام حتَّى توفَّاها الله عزَّ وجل، أما هو فقد وطَّنَ نفسه على أن يخدمها إلى ما شاء الله.
في بعض التجارب يضعك الله عزَّ وجل أمام اختيار صعب جداً، فحينما تؤثر مرضاة الله عزَّ وجل يكون الحل سهلاً جداً، والله عزَّ وجل أظهر صدقك، أظهر وَرَعَك، أظهر خوفك، ثمَّ صَرَفَ عنك هذه المتاعب كلَّها، من هذا القبيل هناك تجارب كثيرة، الإنسان يؤثر طاعة الله، فإذا هذه الطاعة التي تبدو لك متعبةً جداً يقلبها إلى مريحة، وأنت لا تدري.
أخ كريم ذكر لنا قصَّته، فقد اضطر من أجل أن يشتري بيتاً إلى معاملة غير شرعيَّة، فلمَّا عرف أنها غير شرعيَّة قال: يا رب، لا أريد البيت، ولا أعصيك أبداً، فلمّا وصل إلى محلِّه التجاري، فإذا إنسان ينتظره، ويقول له: أنا معي هذا المبلغ سأضعه عندك أمانة لسنتين، وأُناشدك الله أن تستعمله، فحينما وُضِعْت أمام ظرف صعب؛ إما أن يضيع منك هذا البيت، وإما أن تعصي الله، لا، فلن أعصي الله وليضِع هذا البيت، فإنَّ الله عزَّ وجل وضعك في اختيارٍ صعب ثمَّ هيَّأ لك البديل.
الآمر ضامن يا إخوان، فإذا كانت هذه حراماً فحرام، وهي دونما جدال، لكن أبقى بلا بيت؟ الذي أمرك بترك هذا الطريق خالق الكون، فهو قادر أن يمنحك أعظم بيت، فلذلك الآمر ضامن، اذكر هذا الكلام دائماً، الذي أمرك والذي نهاك خالق الكون بيده كل شيء، فإذا رأى منك ورعاً، وصِدقاً، واستقامةً، وخوفاً، رفعك لورعك ولاستقامتك ولخوفك، ومنحك ما أنت بحاجةٍ إليه من طريقٍ مشروع، هذا معنى القول الشهير:
(( اللهمَّ اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. ))
لقد أردتُ من هذه القصَّة أن أبيِّن لكم أن المؤمن كثيراً ما يضعه الله أمام اختيارٍ صعب جداً، فإذا آثر طاعة الله عزَّ وجل هيَّأ له ما يُخفِّف من متاعبه، أو ما يلغيها كلياً، وكل قصَّةٍ ترد في القرآن الكريم يمكن أن تحدث مع المؤمن بشكلٍ مخفَّف.
رحمة إبراهيم بابنه إسماعيل: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
﴿ قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ
فرحمةً بالأب جاءت موجةٌ عاتية حجبت الابن عن أبيه، وقد استنبط العلماء أنه لا يجوز أن يُقْتَل الابن أمام أبيه، رحمةً بالأب، جزءٌ من إكرام الله لك أيها الابن من أجل الأم.
﴿
كنتَ صادقاً، وفَّيت ما عليك، لذلك قال الله عزَّ وجل في آيةٍ أخرى:
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)﴾
﴿
﴿
﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106)﴾
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ
هذا البلاء بلاء مُبين، لكن جاء الفَرَجَ، ظهر كماله، ظهرت عبوديَّته، ظهرت طاعته، ضحَّى بحياة ابنه، ضحَّى بفلذة كبده، لكن الله جلَّ جلاله ما أصابه بكل ذلك.
أيها الإخوة الأكارم، أقول لكم هذا الكلام: والله يقيني أن المؤمن لابدَّ من أن يُمْتَحن أبداً، لابدَّ من أن يُوضَع في اختيارٍ صعب ليظهر إيمانه، لتظهر طاعته، ليظهر حبُّه، ليظهر ورَعه، ليظهر خوفه، فإذا نجح أتته الدنيا وهي راغمة.
قصَّة إبراهيم عليه السلام يمكن أن تقع بشكلٍ أو بآخر مع كل مؤمن، ظرف صعب، دخل كبير لكن فيه شبهة، وأنت في أمسِّ الحاجة إلى المال، دخلك هنا قليل جداً لا يكفي، هنا دخل كبير لكنَّه مشبوه، إذا قلت: والله يا أخي مضطر، والله شيء مغرٍ يا أخي، أنت بهذا سقطت، أما إذا قلت: والله لا أعصي الله، وليكن ما يكون، نجحت، فإذا رفضت هذا الدخل الكبير المشبوه، ما قولك أن يأتيك الله بدخلٍ كبيرٍ غير مشبوه؟ هذا والله يقع دائماً، كلَّما آثرت رضوان الله على الدنيا كسبت رضوان الله، وجاءتك الدنيا، كلَّما آثرت رضوان الله على الدنيا فزت برضوان الله، وأتتك الدنيا وهي راغمة، لذلك:
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ؛ رضِيَ اللهُ عنه، وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه، وأسخَط عليه الناسَ. ))
هذه قصَّة يعيشها كل مؤمن، تقع مع كل مؤمن، من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى.
الجزاء بعد الامتحان: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
﴿
﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ(108)﴾
السمعة الطيِّبة، والذكر الحَسَن، والسيرة العطرة..
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)﴾
هذا الإحسان، فكل واحد منَّا أيها الإخوة بعمله، بزواجه، بسفره تأتيه امتحانات صعبة جداً، من هذه الامتحانات أن طاعة الله عزَّ وجل مُكْلِفَة، وأن معصيته سهلة ومربحة، هكذا الامتحان، فإذا قلت: والله لا أعصي الله، وليكن ما يكون، فزت برضوان الله، وتأتيك الدنيا وهي راغمة..
﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(112)﴾
إسماعيل وإسحاق نبيَّان من ذريَّة سيدنا إبراهيم.
﴿ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)﴾
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ
الناس بين محسنٍ وظالم:
من ذريَّة هذين النبيّين الكريمين مُحسن وظالم، ونحن من ذريَّة نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، بعضنا محسن، وبعضنا ظالم، فالذي استجاب لله ورسوله فهو محسن، والذي لم يستجب فقد ظلم نفسه، ولم يظلم أحداً سواه.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نأتي على قصَّة سيدنا موسى والأنبياء من بعده.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.