- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (037)سورة الصافات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الحادي عشر من سورة الصَّافَّات، ومع الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من السورة نفسها.
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)﴾
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ
1 ـ إلياس رسول نبيّ:
قال العلماء: إلياس إنه إليا، أرسله الله إلى قومٍ في بلادنا ـ في سوريا ـ وكانوا يعبدون صنماً اسمه بَعْل، وبعلبك فيها هذا الصنم، هؤلاء الذين عبدوا من دون الله صنماً لا يسمع، ولا ينطق، ولا يتحرَّك، ولا ينفع، ولا يضُر.
2 ـ مع مقومات التكليف إنزال الكتب وإرسال الرسل:
أتمنَّى أن أوضِّح لكم هذه الحقيقة قبل أن نتابع الحديث عن هذا النبي الكريم: الله عزَّ وجل حينما خلق الإنسان أعطاه عقلاً يهديه إلى الله عزَّ وجل، وفطره فطرةً تكشف له خطأه، وسخَّر له كوناً معجزاً يدلُّه عليه، أعطاه حريَّةً كي يتحرَّك ليكون عمله ثميناً، أودع فيه شهوات ليرقى بها إلى ربِّ الأرض والسماوات، هذه المقوِّمات، بعقله، وبفطرته، وبالكون، وبالشهوة، وبالحريَّة، وبالقدرة التي تبدو أنه يمتلكها بإمكانه أن يصل إلى الله جلَّ جلاله، وفوق هذا وذاك أنزل الكُتُبَ، وبعث الأنبياء، الكتب والأنبياء رحمةٌ من الله عزَّ وجل.
﴿
أضرب مثلاً أقرب الفكرة وأبسطها: أب وضع ابنه في أرقى مدرسة، ودفع له أعلى قسط، وأعطاه كل الحاجات، وأمدَّه بكلِّ النفقات، وهيَّأ له جواً دراسياً كاملاً، وفوق هذا وهذا وهذا وذاك كلَّف أستاذاً ليعطيه درساً خصوصياً، هذا معنى الآية؛ العقل يكفي، الفطرة تكفي، الكون يكفي، أفعال الله التي نراها رأي العين تكفي، كلُّ شيء يكفي، وفوق كل هذا وذاك أرسل الله الأنبياء، وأنزل الكُتب، ليكون الكتاب ميزاناً على ميزانَي العقل والفطرة.
وشيءٌ آخر، كل الأنبياء الذين قصَّ الله علينا قصصهم ليسوا جميع الأنبياء، هم بعض الأنبياء.
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ
فما من بلدٍ، ما من قومٍ، ما من أهل قريةٍ، ما من قارةٍ، ما من عصرٍ، ما من مصرٍ إلا وله نبيٌّ مُرْسَل، فهؤلاء الذين عاشوا في سوريَّا، وأنشؤوا هذه الآثار في بعلبك، وعبدوا صنماً من دون الله اسمه بَعْل، هؤلاء مَنَّ الله عليهم إذ بعث فيهم نبياً اسمه إلياس، باللغة العِبرانيَّة إيليا..
3 ـ مع كلِّ نبيٍّ منهج ومعجزة:
لكن هناك شيءٌ دقيقٌ جداً في المعجزة، أن الله جلَّ جلاله جعل هذه المعجزات الحسيَّة لمن عطَّل فكره، فالذي يؤمن بالمعجزة الحسيَّة هو إنسان أدنى مرتبةً ممن يؤمن بالكون كمعجزة ثابتة ودائمة، فلذلك المعجزات الحسيَّة تأتي حينما يُعَطِّل الإنسان عقله ولا يفكِّر، أما إذا فكَّر فالكون أقوى معجزة، وأكبر دليل.
فنحن أيها الإخوة محاطون بملايين ملايين المعجزات، لكن الكون بعظمته هو المعجزة، يؤيد هذا قولهم: "حسبكم الكون معجزة"
الإنسانُ نفسُه معجزة !!!
الطفل كيف يولد؟ هذا الماء المَهين، ثلاثمائة مليون حوين في اللقاء الزوجي، الحوين الواحد؛ غشاء، هيولى، نويَّة عليها مورِّثات، هذه المورِّثات فيها ـ دقِّقوا في الرقم ـ خمسة آلاف مليون معلومة مبرمجة، هذه المورِّثات حتَّى الآن اكتُشِفَ من هذه المورِّثات ثمانمائة مورِّث، ما من صفةٍ في جسم الإنسان إلا وقد خَطَّطَ لها مورِّث، بالوقت المناسب، فخلق الإنسان معجزة، عينه معجزة.
البارحة رأيت شيئاً يوضع عليه الثياب له اسم خاص ـ المانيكان ـ له قاعدة استناد كبيرة جداً، الإنسان كيف يستقر؟ كيف يقف على قدمين صغيرتين لطيفتين؟ لابدَّ من توازن، لابدَّ من جهاز بالغ التعقيد في الأذن، ثلاث قنوات فيها أهداب، وفيها أشعار، وفيها سائل، فإذا مال قليلاً ارتفع السائل، بحسب استواء السائل، وعدم تأثُّره بالميلان، ونبَّه بعض الأشعار، فشعر الإنسان بالميل نحو جهةٍ، فصحَّح استقامته، جهاز معقَّد جداً، فأنت محاط بآلاف آلاف الأجهزة، والمجال لا يتسع، كالسمع والبصر والنطق.
أنت الآن تتكلَّم، كل حرفٍ من حروف الكلمة يسهم في تشكيله، أو النطق به سبع عشرَة عضلة، فالكلمة خمسة حروف، وكل حرف تساهم فيه سبع عشرة عضلة، في إلقاء خطبة كم من الجهد، وكم من التعقيد؟
الأعصاب، لا شك أن الإنسان إذا فكَّر في جسمه يُدْهَش، وفي جسم الإنسان آياتٌ بيِّنات دالَّةٌ على عظمة الله عزَّ وجل.
إذاً:
﴿ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ(124)﴾
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ
1 ـ معنى: تتقون:
تتقون فعل مضارع ماضيه اتَّقى، واتقى فعل مزيد مجرَّده وقى، فالإنسان كيف يقي نفسه المخاطر؟ الحياة كلُّها مخاطر، وأكبر خطرٍ فيها انتهاء الحياة، الإنسان حينما يغفل عن الموت يتحرَّك بلا وعي، لكن حينما يقع في قبضة الله عزَّ وجل في ساعةٍ عصيبة..
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)﴾
هذه الساعة، الأذكياء والعقلاء يعملون لهذه الساعة، يجعلون من هذه الساعة عُرْساً وفرحةً، وبداية لحياةٍ سعيدة، والأغبياء يعتنون بدنياهم، ويهملون آخرتهم
2 ـ اتقوا غضب الله وسخطَه:
فلذلك:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾
كلُّ العذابات في الدنيا عذاباتٌ دُنيا، عذاباتٌ صغرى، لكن العذاب الأكبر حينما يشعر الإنسان أنه خَسِرَ نفسه، الإنسان يخسر ماله، يخسر أولاده أحياناً، يخسر زوجته، يخسر مكانته، تُخدَش كرامته، يخسر حقوقه المدنيَّة أحياناً؛ لكن هناك أمل أن يقف مرَّةً ثانية، لكن الخسارة الحقيقيَّة حينما يخسر الإنسان نفسه يوم القيامة، هذه أشدُّ أنواع الخسارات، وقالوا: أشدُّ خسارةٍ هي الخسارة التي ليس بعدها ربحٌ ولا فوز، خسارة مطلقة، خسارة حتميَّة، خسارة نهائيَّة.
﴿
ما مِن شيء أغلى على الأم من ابنها إطلاقاً، ومع ذلك لشدَّة هول هذه الزلزلة تذهل المرضعة عما أرضعت، تُلقي ابنها، وقد سمعت قصصاً كثيرة عن الفزع والرُعب الذي أصاب من ابتلاهم الله بالزلازل، خوفٌ ما بعده خوف، تنطلق المرأة خارج المنزل من دون ثياب، بثياب النوم، وهي لا تدري من شدَّة الفزع..
3 ـ النجاة من المصائب من فضل الله على المؤمنين:
لا ضمانة إلا ضمانة واحدة: أن يشاء الله لك السلامة، ولن يشاء الله لك السلامة إلا إذا كنت على منهجه، لقوله تعالى:
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ
هذا كلام واضح كالشمس، دقِّق في هذه الآيات، ما من مصيبةٌ أعظم من أن يجد الإنسان نفسه فجأةً في بطن حوت، ظلمة بطن الحوت، مع ظلمة الليل، مع ظلمة البحر..
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ
سمعت في الأخبار أن رجلاً بقي تحت الأنقاض ثلاثاً وثمانين ساعة ونجَّاه الله عزَّ وجل، ثلاثاً وثمانين ساعة بقي تحت الأنقاض، وإلى جانبه امرأته وقد ماتت، وأمه وقد ماتت.
إذاً: الله عزَّ وجل الله قادر أن ينجي الإنسان، لذلك النجاة في نصِّ القرآن الكريم من فضل الله على المؤمن
﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(61)﴾
الحياة كلُّها أخطار، لدينا أخطاء كثيرة جداً؛ أخطار اجتماعيَّة، أخطار اقتصاديَّة، أخطار صحيَّة، أمراض معدية وسارية، أوبئة، تضخُّم نقدي، كساد تجارة، إفلاسات، أما أرض مستقرَّة تهتزُّ من تحت أقدامنا، فإذا كل شيءٍ كالأنقاض؟! هذا شيءٌ مخيف، كيف نتقي الزلازل؟ كيف نتقي الصواعق؟ كيف نتقي الفيضانات؟ كيف نتقي الحروب الأهليَّة؟ كيف نتقي الأمراض المُخيفة المُرعبة؟
قد يكون الإنسان في أعلى درجة من الصحة فيصيبه مرضٌ خبيث، ماذا يفعل؟ وقد يكون ملكاً، إنه في قبضة الله عزَّ وجل، فالإنسان معرَّض إلى معالجات، لا ينجيه من عذاب الله إلا أن يكون على أمر الله، لا ينجيه من عذاب الله إلا أن يكون مستقيماً على أمر الله، لذلك قال تعالى:
هناك قصَّة أذكرها كثيراً: عالِم من علماء دمشق الذين اختاروا تربية الأجيال، عاش ستاً وتسعين عاماً، وكان منتصب القامة، حادَّ البصر، مُرهف السمع، أسنانه في فمه، وقد أمدَّ الله بعمر زوجته فعاشت معه، ولم يفتقدها ولا ساعة، وكان إذا قيل له: يا سيدي، ما هذه الصحَّة التي أكرمك الله بها؟ يقول:
أنتم أيها الشباب، أيها الكهول اتقوا الله، قبل أن تتحرَّك ما الذي يرضي الله عزَّ وجل؟ ما أمر الله عزَّ وجل؟ الذي يسعدني أن أكون في طاعة الله، فإذا حفظت الله يحفظك الله عزَّ وجل.
(( يَا غُلامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ. ))
لذلك كلمة..
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا
هذه كلمات يذوب القلب لتفسيرها، أي إن الله معك بالحفظ، والتأييد، والنصر، والتوفيق، ولا طعم أطيب من التوفيق، التوفيق في عملك، لا طعم أطيب من الحفظ..
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
ألا تحب أن تقطف كل هذه الثمار؟ كل إنسان يتمنى أن يوفِّقه الله عزَّ وجل، الخسارة صعبة جداً، مؤلمة جداً، مدمِّرة، الإحباط، أن تسعى سعياً حثيثاً، ثمَّ تبوءُ بالإخفاق، أن تسير في طريقٍ مسدود، في منعطفٍ مدمِّر، في منزلق، لكن المؤمن في عين الله عزَّ وجل، لذلك المؤمنون الله عزَّ وجل قال على لسانهم:
﴿
هل من سعادةٍ أعظم من أن تشعر بالطمأنينة؟ إن الله يعطي الذكاء والجمال والمال والقوَّة للكثيرين من عباده، ولكنَّه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين..
هل هناك من أسباب تنمي الأرزاق ؟
أبرز ما كان في خطبة اليوم: هل هناك من أسباب تنمي الأرزاق؟ نعم، في القرآن الكريم:
الاستقامة:
﴿
الإيمان والتقوى:
﴿
فالاستقامة تنمي الأرزاق.
الصدقة:
والصدقة تنمِّي الأرزاق. وفي شعب الإيمان للبيهقي:
الأمانة:
والأمانة تنمِّي الأرزاق، الأمانة غنىً، أثمن شيءٍ تملكه أن يثق الناس بك، الأمانة غنى.
الإتقان:
والإتقان، إتقان صنعتك تنمي الرزق، فحينما يتقن الإنسان عمله، إذا فترت الأسواق وبارت فالمتقنون لا يتعطَّلون، عليهم طلب شديد، أما الدرجة الثانية والثالثة والرابعة فيصبحون بلا عمل، فالإتقان أحد أسباب تنمية الأرزاق.
بر الوالدين:
برُّ الوالدين أحد أسباب الرزق.
برُّ الوالدين، الإتقان، الأمانة، الاستقامة، الصدقة، هذه كلُّها تنمي الأرزاق، وقوانين.
القرآن قوانين ثابتة:
فأنت حينما تتعامل مع الدين لا على أنه تبريكات، وتهويمات، وطقوس، وكهنوت، لا، إذا تعاملت مع الدين على أنه قوانين، على أنه مقدِّمات ونتائج، على أنه قواعد ثابتة، على أنه سُنَن محكمة، فالقضيَّة سهلة جداً، التعامل مع القانون مريح جداً، هذه المقدَّمة تؤدي إلى هذه النتيجة.
والله أنا أتمنى على كل أخ منكم إذا قرأ القرآن أن يكشف القوانين.
﴿
كلام خالق الكون، من يمنعه من تحقيق وعده؟ خالق الكون وعدك، قال لك: اعمل عملاً صالحاً، استقم، تعرَّف عليَّ أولاً، استقم على منهجي، واعمل أعمالاً صالحة، وأنا سأحييك حياةً طيِّبة بأي ظرف، بأي مجتمع، ظروف معقَّدة، غير معقَّدة، قبل الحرب، بعد الحرب، أزمان اقتصاديَّة خانقة، فالوعد فوق كل هذه الظروف، لك عنده حياةٌ طيِّبة..
﴿
جرِّب، لا أحد يسعد على وجه الأرض وهو معرضٌ عن ذكر الله، هذا شيء مستحيل.
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
اقرأ القرآن على أنه قوانين، وسُنن، وقواعد، المقدِّمات تؤدي إلى هذه النتائج، وكل إنسان يحب ذاته، وربما تنجح بعملك، تنجح بزواجك، تنجح بصحَّتك، تنجح في علاقاتك الاجتماعيَّة، تنجح في معرفة الله عزَّ وجل، ممكن أن تشعر أنك تتحرَّك وفق المراد الإلهي.
﴿
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
1 ـ أَتَدْعُونَ بَعْلًا
بعلاً أي صنماً؛ لا يتكلَّم، ولا يسمع، ولا يُبصر، ولا يتحرَّك، ولا يقوى على شيء، فهذه الأصنام الآن ليست موجودة، لكن أنت عندما تعتمد على إنسان تراه قوياً فهذا نوع من الشرك..
2 ـ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ
﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)﴾
الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم.
هل هناك خالقٌ غير الله ؟ فلماذا قال: أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ؟
أيها الإخوة، ليس هناك إلا خالقٌ واحد، لكن أحياناً يسمَّى الشيء بحسب مفهوم الناس، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
فالله عزَّ وجل عزا الرزق إلى الإنسان، مع أن الله جلَّ جلاله هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين، ولا رازق سواه، فكيف يقول:
بالمناسبة الله عزَّ وجل لكرامة الإنسان عليه ـ دقِّقوا ـ لكرامة الإنسان عليه أعطاه من أسمائه الشيء الكثير، فالإنسان فرد لا ثاني له، حسب البحوث الحديثة الإنسان له قُزحيَّةٌ لا يشترك بها إنسان آخر في العالَم، إذا كان هناك خمسة مليارات إنسان في العالَم، كل قزحيَّةٍ لها شكلٌ متميِّز، هذا يؤكِّد فرديَّته، الإنسان له رائحة خاصَّة لا يشركه فيها إنسان في العالَم، الإنسان له تركيب دم خاص، الإنسان له بصمة خاصَّة، الإنسان له نبرة صوت خاصَّة، هذا من فرديَّته، ومن تكريم الله له.
والله عزَّ وجل أعطى الإنسان حريَّة الاختيار، الله عزَّ وجل مُريد، وجعل عبده تكريماً له مريداً، أنت مُنِحْتَ حريَّة الاختيار، شاءت مشيئة الله أن تكون ذا مشيئة، هذا تكريم ثانٍ، أنت فردٌ لا ثاني لك، ومريدٌ، ولست مقهوراً.
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
﴿
وشاءت حكمة الله أن يصمِّم الكون تصميماً يتيح لك فيه أن تُبْدِع، أبدعوا بالنباتات الهجين، أبدعوا بتهجين الحيوانات، أبدعوا بأشياء كثيرة، هذا بإذن الله عزَّ وجل، ربنا عزَّ وجل تكريماً لهذا الإنسان صمَّم الكون تصميماً يتيح للإنسان أن يبدع.
ومن باب التكريم أيضاً أنه سمح لك أن تشرِّع، الله عزَّ وجل كان كلامه في بعضه احتمالياً، ظني الدلالة، فالعلماء اجتهدوا واستنبطوا من هذه الأحكام الظنيَّة أحكاماً فقهيَّة، فصار الإنسان مشرِّعاً، لأن الأحكام الإلهيَّة بعضها أحكام ظنية، لذلك قَبِلَ الله أن يتعبَّدنا باجتهاد العلماء، هذه الفتاوى والاجتهاد، الإنسان فرد لا ثاني له، والإنسان مريد، والإنسان مشرِّع، والإنسان مبدع.
والإنسان بهذه الآية الكريمة يرزق، يعطي الله الرزق للأب فينفق على أولاده، فيما يبدو لهذه العين الأب رازق، يكسب المال وينفقه على أولاده، وزوجته، وأخواته العوانس.. وإلخ، فالإنسان فرد، ومريد، ومشرِّع، ومبدع، ورازق، هذه صفات الله عزَّ وجل:
﴿
هذا التكريم.
إذاً:
الإنسان يحمل ابنه من يده، فمدروس دراسة دقيقة، الأربطة في الكتف مصمَّمة لتحمل الجسم بأكمله، وأحياناً سكون الأب غاضباً فيشدَهّ بعنف، هذه الشدَّة تضاعف المقاومة، المعنى، أن الأربطة تتحمَّل هذا الجسم ولو كنت غاضباً، فالإنسان مصمَّم تصميماً رائعاً، هل طرأ شيء عليه؟
لي مأخذ على ما يقال: أن في الإنسان زائدة دوديَّة، الأصح أن نسميها ذائدة، أي مدافعة، الذائدة الدوديَّة، لأنه حاشا في خلق الله عزَّ وجل أن يكون في جسم الإنسان عضوٌ زائد، كمال مطلق، مبرمج.
﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ(125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ(126)﴾
فهو الرب، المُمِد بكل شيء..
﴿
فَكَذَّبُوهُ
لماذا كذَّب الناسُ الأنبياءَ ؟
لماذا كذَّبوه؟ لأن منهج الرسل منهجٌ يقيِّد الإنسان في حركته، فالإنسان المتفلت من منهج الله كالدابَّة المتفلتة، أما المؤمن فمُقيَّد، القرآن يقيِّده، والقيَم تقيِّده، وإيمانه يقيّده، وخوفه من الله يقيِّده، وتصوُّر الآخرة يقيِّده، فالإنسان كلَّما ارتقى فهو مقيَّد، وكلما هبط تفلّت، هذا الذي يقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويأكل ما يشاء، ويذهب إلى حيث يشاء، وينام مع من يشاء، هذا إنسان متفلت، أما الإنسان المؤمن فمقيَّد، قيَّده الشرع عن كثيرٍ من هوى نفسه..
(( والله لا أمثِّل بهم فيمثِّل الله بي ولو كنت نبيَّاً. ))
والله عزَّ وجل قال:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)﴾
موالاة الله عزَّ وجل تحتاج إلى انضباط، أما موالاة غير الله عزَّ وجل فتحتاج إلى صُراخ.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ
1 ـ قضية الإيمان قضية وقت فقط:
2 ـ كل إنسانٍ في قبضة الله:
إذاً: نحن جميعاً في قبضة الله عزَّ وجل، نحن نشبه كائنًا حيًّا مربوطاً بحبل متين، الحبل مرخًى، هذا الكائن عندما وجد أن الحبل مرخى ظنَّ أنه لا يوجد حبل، ظنَّ نفسه حراً، فتحرَّك حركات عشوائيَّة، تطاول، وتجاوز الحدود، لكن الحبل مرخى، وفي أي ثانية يُشَدُّ الحبل فهو في قبضة الله عزَّ وجل، ما دام المصير في قبضة الله، كيف نعصيه؟ كيف ننسى؟ كيف نتجاوز الحدود؟
أنت تعال باختيارك، تعال وأنت محب، لا تأتِ وأنت ملقى القبض عليك،
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ
هذا تهديد، اعمل وأكثر، افعل ما شئت
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
هذه قصَّة رمزيَّة: رجل في بعض البلاد كان ثرياً جداً، وقد جاءه الموت فخاف أولاده عليه من وحشة القبر، ومن سؤال منكر ونكير ـ كما يقال ـ فرجوا إنساناً فقيراً، وأغروه بمالٍ كثير على أن ينام معه أول ليلة فقط، رجل فقير، وقيل له: خذ عشرة آلاف جنيه مثلاً، مبلغ ضخم، والله لا يتردد، ليلة واحدة فقط وقت السؤال، فهذا وضعوه معه، جاء الملكان، وجدوا أن هناك اثنين في القبر، شيء غير مألوف أن يجدوا اثنين، ارتعب، حرَّك رجله، فقالا: هذا حي وليس بميت، إذاً نبدأ به، قم، ماذا تلبس؟ لبس كيساً من الخيش مربوطاً بحبل، من أين جئت بهذا الحبل؟ من البستان، كيف دخلت إلى البستان؟ هل أخذت إذنًا من صاحبه؟ ونزلوا فيه بالضرب، بسبب حبل، وكيف دخلت إلى البستان، ولم تستأذن صاحب البستان؟ كيف أخذتها من دون إذنه؟ خرج من القبر في اليوم التالي، وقال لهم: كان الله بعون أبيكم.
فلذلك الإنسان:
فلذلك:
قال تعالى:
﴿ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(128)﴾
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
هؤلاء ليسوا مُحضَرين، ولكنَّهم مدعوون، إذا دُعيت إلى حفل، أولاً الهديَّة تصلك إلى البيت، بعدها بطاقة أنيقة، فيها تخطيط من الداخل، تدخل إلى الحفل فيه الشراب، والمقبِّلات، والطعام النفيس، والترحيب، والبشاشة، والمقاعد الوثيرة، هذه الدعوة، الكفَّار ألقي القبض عليهم، وسيقوا ليلقوا مصيرهم؛ والمؤمنون يُدعَون إلى الله وفدا، المؤمنون وفد، الوفد معزَّز، مبجَّل، مكرَّم، محترم، مرفَّه، قال:
﴿ إِلَّا عِبَادَ اًللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ(129)﴾
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
والله شيء جميل جداً أن يموت الإنسان، ويمضى على وفاته سنة، وسنتان، وخمس، وعشر، ومائة، وألف، وذكره عطِر، العالَم الإسلامي فيه ألف ومئتا مليون، سيدنا عمر، سيدنا الصديق، سيدنا عثمان، سيدنا علي، الصحابة الكرام، سيدنا سعد، سيدنا سعيد، ابن الزبير، أبو عبيدة بن الجرَّاح، سيدنا صلاح الدين، عمر بن عبد العزيز، أقول: سيدنا، لا أجرؤ أن أقول: فلان، هذا الذكر الحسن، فشيء رائع جداً أن يموت الإنسان والناس يلهجون بالثناء عليه دوماً، هذا عطاء عظيم.
إذاً: الكافر يُلقَى القبض عليه، ويُساق ليلقى مصيره المحتوم، والإنسان في الدنيا إذا ارتكب جرماً يستحق أن يُعْتَقل، كيف يؤخَذ؟ يؤخذ مع اللكم، والضرب، والسُباب، والشتائم، والرَكل، أما إذا دُعي فإنه يُعزَّز، ويُكرَّم، فشتَّان بين من يُحضَر ومن يُكرَّم، لذلك يقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُو لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
ربما بالإحضار ينسى الإنسان حليب والدته، إذا أُلقي القبض عليه، وسيق ليُعَذَّب، وليلقى جزاء عمله، ينسى كل متع الحياة، والإنسان غير المؤمن مهما انغمس في النعيم، مهما تناول من الطعام، مهما فعل من المَلذَّات، حينما يأتيه ملك الموت ينسى كل شيء، يصيح صيحةً لو سمعها أهل الأرض لصُعِقوا، يقول:
يقول الإمام علي كرَّم الله وجهه:
سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبةٌ قال:
أيّة مصيبةٍ ليست في الدين مصيبةٌ تهون، لكن مصيبة الدين أن يعصي الإنسان الله عزَّ وجل، أن يرتكب الكبائر، أن يستحقَّ غضب الله عزَّ وجل.
إذاً:
﴿ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130)﴾
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ
هذا السلام من أسماء الله السلام، أي سلامٌ، وراحةٌ، وسعادةً، وطمأنينةٌ، الآخرة فيها سلام، الله سمَّاها دار السلام، والله الدنيا دار القلق، الإنسان دائماً يخاف، يخاف إذا امتدَّ به العمر، يا ترى ماء زرقاء؟ هناك أمراض كثيرة، أمراض الشيخوخة معروفة، دائماً في قلق؛ قلق على بصره، قلق على سمعه، على قلبه، على شرايينه، على الدسَّام، على الضغط، على الكلى، يا ترى البول خف ماذا أفعل؟ هل هناك مشكلة؟ هل هناك بحصة؟ دائماً هناك مشاكل في الحياة، وقلق، يا ترى هل ستظل التجارة رائجة؟ أم في كساد، سمحوا، أم منعوا؟ ربنا عزَّ وجل في الآخرة؛ لا خوف، ولا هم، ولا حزن، ولا قلق، ولا ضيق، ولا شيخوخة، ولا متاعب، ولا مرض، لهذا يقول الله عزَّ وجل:
سلام، هذه دار السلام، اللهمَّ أدخلنا دار السلام بسلام.
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(131)﴾
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
هذا هو الثمن، الثمن الإحسان، الإحسان في العمل، الإحسان في الاستقامة، الإحسان في أداء ما عليك، الإحسان مطلقة على إطلاقها، حتَّى لو قتلت حيواناً، الإحسان ضربة واحدة، حتَّى لو ذبحت حيواناً..
(( وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. ))
كن محسناً، دائماً المؤمن محسن، والكافر مسيء، المؤمن منضبط، والكافر متفلِّت، المؤمن موصول، والكافر مقطوع، موصول منضبط محسن، مقطوع متفلِّت مسيء.
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(132)﴾
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
أي أنه آمن بالله عزَّ وجل فأحسن، كفر فأساء، آمن فأحسن، كفر فأساء، خاف فاتقى، عطَّل فكره فتفلَّت.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله ننتقل إلى قصَّة سيدنا لوط، وقصَّة سيدنا يونس، وبعدها تأتي الآيات لتُجْمِل المعاني التي وردت في ثنيَّات هذه القصص.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.