- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (037)سورة الصافات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثالث من سورة الصَّافات، ومع الآية الحادية عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ(11)﴾
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ
هذه الآية دليل على إمكان البعث:
هذه الآية فيها دليلٌ عقليٌ على إمكان البعث، فإذا وجدوا أنه يصعُب أن يُعادوا خلقاً آخر، فربنا عزَّ وجل لفت نظرهم إلى خلق السماوات والأرض؛ فهذه المخلوقات، والمجرَّات، الكواكب، الكازارات، المذنَّبات، الشمس، القمر، النجوم، الجبال، الأنهار، هذه المخلوقات الذي خلقها قادرٌ على أن يعيد خلق الإنسان مرةً ثانية..
﴿ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ(12)﴾
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونًَ
1 ـ كلما نما علم الإنسان نما خوفه وقلقه:
أيها الإخوة، الإنسان أحياناً يستمع إلى خبر، إن استمع إلى خبر، وكان هذا الخبر خطيراً يعجب، ويتأَّمل، ويقلق؛ وأما الجاهل إذا استمع إلى خبرٍ خطير فإنه يسخر، فالفرق بين العالم والجاهل فرقٌ كبير، فكلما نما إدراك الإنسان نما خوفه، وكلما قلّ إدراكه قلّ خوفه، فإذا كان مؤشِّر الخوف يتحرك فمؤشر الإدراك يتحرك، وتحرك الإدراك موافقٌ لتحرك الخوف، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( رأس الحكمة مخافة الله تعالى. ))
من الذي لا يبالي بالجراثيم؟ الجاهل، أما الإنسان المثقف فيبالي، ويغسل الخضراوات مرة أو مرتين، أما الطبيب الذي يرى تحت المجهر مئات ألوف الكائنات الحية الدقيقة التي تؤذي الإنسان، فإنه يبالغ بغسل الخضار والفواكه.
النقطة الدقيقة: أنه كلما نما علم الإنسان نما خوفه وقلقه، وإذا خاف الإنسان ربه في الدنيا أمَّنه يوم القيامة، ولا يجتمع أمنان وخوفان، إن خفته في الدنيا أمَّنك يوم القيامة، وإن أمنته بسذاجةٍ في الدنيا أخافك يوم القيامة.
2 ـ إن وسَّعت الصراط عليك في الدنيا ضاق عليك يوم القيامة:ٌ
إن وسَّعت الصراط عليك في الدنيا ضاق عليك يوم القيامة، إذا كل قضية قلت: لا تؤثر، والله غفور رحيم، ولا تدقق، والقضية فيها مرونة، وهذه قضية خلافية، وهناك مذهب يغطيها، وقرأت في مجلة عن وجود فتوى لها! إذا وسَّعتَ الصراط في الدنيا ضاق عليك يوم القيامة، وإذا ضيقته في الدنيا، وقلت: هذا حرام، وهذه شبهة، وهذه لا أفعلها، وهذه لا أفعلها تأثُّماً، وهذه لا أفعلها ترفُّعاً، وهذه أخرج من الخلاف ولا أفعلها، فكلما ضيَّقت عليك الصراط في الدنيا اتسع عليك يوم القيامة، القضية دقيقةٌ جداً، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت.
فأنا أنصح الأخ الكريم أن لا يتسع، وأن لا يوسع صراطه، وأن لا يتعلق بفتوى ضعيفة، ألا يتعلق برأي ضعيف، وألا يتعلق بفتوى من إنسان غير ملتزم، ولا ورِع، فإذا خرجت من الخلاف، وبقيت في الذي سمح الله لك به، إذا تركت ما لا بأس به حذراً مما به بأس، فأنت من الورعين، وقد قيل: "ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط".
3 ـ السخرية دليل الجهل:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
إذا قرأ الإنسان القرآن فلا ينبغي أن يقرأه تبركاً، فهذا كلام رب العالمين، وموقفك يجب أن يكون واضحاً، فهل أنت مصدِّقٌ هذا الكلام؟ أم أنت في مخالفة، وهل أنت مصدق أن الله عزَّ وجل سيحاسبك حساباً دقيقاً؟ كيف تنام الليل؟ وسيدنا عمر يقول:
ومن غرائب المصادفات أني التقيت مع شخص ـ قبل أسبوعين أو ثلاثة ـ في حفل عقد قران، وكان من ألمع شخصيَّات الحفل، حركة، ونشاطاً، وابتسامة، وحيوية، وأناقة، وبعد يومين كان من أصحاب القبور، قلت في نفسي: لو علم هذا الإنسان أنه قد بقي له يومان في حياته ماذا يفعل؟ فقضية الموت قضيةٌ خطيرة.
(( حبك الشيء يعمي ويصم. ))
(( حب الدنيا رأس كل خطيئة. ))
(( من أُشربَ قلبُه حُبَّ الدنيا التاطَ منها بثلاثٍ :شقاءٍ لا ينفذُ عناهُ، وحرصٍ لا يبلغُ غناهُ، وأملٍ لا يبلغُ منتهاهُ، فالدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ، فمن طَلَبَ الدنيا ، طلبتهُ الآخرةُ حتى يأتيَه الموتُ فيأخذَهُ، ومن طَلَبَ الآخرةَ، طلبتهُ الدنيا حتى يَستوفيَ منها رزقَه. ))
أمل هوائي، وشعور بالفقر مستمر، وشغل يسحقه..
لقد استوقفتني هذه الآية:
(( إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ. ))
مثل من واقع الحياة: لو أن إنساناً توعّدك وهو يفعل ما يقول، بعد أسبوع أو بعد شهر، لا تنام الليل، إذا كان قوياً، وإذا قال فعل، وتوعدك بمشكلةٍ يحدثها لك، فالقرآن الكريم كلام رب العالمين، تقرؤه صباح مساء، وينبئك أنه لابد من وقفةٍ بين يدي الله عزَّ وجل، لابدَّ من سؤالٍ دقيق..
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
إياكم والظلم:
لي صديق حدثني عن قصةٍ أرويها لكم لشدة وضوحها: له قريبةٌ يحبها حباً جماً، توفيت، فرآها في المنام مراتٍ عديدة بحالةٍ تعيسة، وبقي يراها بهذه الحالة ثماني سنوات، إلى أن رآها مرةً بحالةٍ طيبة، قال: يا فلانة ما فعل الله بك؟ قالت: كأس الحليب، فلما سأل، وبحث عن كأس الحليب، كان لهذه المرأة أولادٌ من زوجها ليسوا منها، وكان لها أولادٌ منها، فكانت إذا أرادت أن تطعمهم سقتهم حليباً، لأولاد زوجها نصفه ماء ونصفه حليب، وأما أولادها فحليبٌ كامل الدسم، هذا موقف فيه ظلم
فالذي عنده أيتام، الذي عنده صانع يأكل حقه، الذي عنده زوجة لا يعرف حقوقها، هؤلاء الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، هؤلاء الذين اعتدوا على حُرُمات الله، هؤلاء الذين بنوا مجدهم على أنقاض الناس، هؤلاء الذين بنوا غناهم على فقر الناس، هؤلاء الذين بنوا أمنهم على خوف الناس، سيحاسبون حساباً عسيراً.
لذلك أيها الإخوة الأكارم، من حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً، كان حسابه يوم القيامة عسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، هذا:
﴿ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ(13)﴾
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ
1 ـ الكفر مانع من التذكّر:
لأنه:
﴿
الكفر غلَّفَ قلوبهم.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ
إذا عُزي الإضلال إلى الله عزَّ وجل، فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري.
2 ـ المؤمن إذا ذُكِّرَ يَذْكُر:
﴿
فالمؤمن سريع الاستجابة، عنده حساسة إيجابية، يصغي للحق، ويقبل النصيحة، إذا ذُكِّرَ يَذْكُر، فهو قريب المأخذ، ولكن الكافر كلما غرق في المعاصي اشتد الحجاب بينه وبين الله عزَّ وجل، إلى أن يعلم الله عزَّ وجل أنه لن يستجيب، وعندئذٍ يعطيه الدنيا كما يريد.
يا أيها الإخوة الأكارم، إن جاءتك الدنيا كما تريد، ولست مستقيماً فهذه علامةٌ خطيرةٌ جداً، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
لم يفتح باباً واحداً بل فتح أبواباً، ولم يفتح باب شيءٍ، أو أبواب شيءٍ، بل أبواب كل شيءٍ
(( ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غِنَىً مُطْغِياً، أو فَقْراً مُنْسِياً، أو مَرَضاً مُفْسِداً. ))
الشاهد:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))
هذا معنى قوله تعالى:
(( إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْها، وَإِنْ أرْسَلْتَها فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ بِهِ عِبادَكَ الصَّالِحينَ. ))
﴿ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14)﴾
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
الكافر يسخر من آيات الله الدالة على عظمته:
أي أن آيات الله الدالة على عظمته يسخرون منها، بعوضة، فالله عزَّ وجل قال:
﴿
هذه البعوضة يمكن أن تتعرف إلى الله من خلالها، هذه التي تحتقرها، وتقتلها فوراً، وكأنك لم تفعل شيئاً، هذه البعوضة فيها من آيات الله الدالة على عظمته الشيء الكثير، فلها ثلاثة قلوب، ولديها جهاز رادار، وجهاز تحليل دم، وجهاز تمييع دم، وجهاز تخدير، وأجنحة البعوضة في الثانية الواحدة ترفُّ أربعة آلاف رفة، ولأرجلها محاجم ومخالب، وربنا عزَّ وجل يقول:
وفي كل شيء له آية تـــــدل على أنه واحــــد.
أنواع الآيات:
1 ـ الآيات الكونية:
2 ـ الآيات التكوينية:
أما الآيات التكوينية فهي أفعال الله.
﴿
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾
فربنا له آياتٌ كونية، وله آيات تكوينية أي أفعاله؛ الزلازل، والبراكين، والرياح العاتية، والأعاصير التي كلَّفت ثلاثين مليار من عملتهم، ثلاثين مليارًا، وهو مبلغٌ كبير جداً، فالأعاصير، والزلازل، والبراكين، والفيضانات، والسيول، والحروب، والأوبئة، والأمراض والإيدز، هذه كلها آيات تكوينية، الشمس والقمر والنجوم والرياح والليل والنهار آيات كونية.
3 ـ الآيات القرآنية:
وهذا القرآن الكريم آيات قرآنية، ثلاث آياتٌ في حياة المؤمن، آيةٌ كونية، وآيةٌ تكوينية، وآية قرآنية، الكون قرآن صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي.
﴿ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ(15)﴾
تهمة قديمة متجددة: وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبينٌ
التعبيرات الحديثة؛ هذه غيبيَّات، هذا يتعلق بما وراء الطبيعة، وهذه لا تعنينا، هذه أمور خاصة، وليست عامة، وهذه قضايا ليس لها علاقة بالعلم، ونحن أهل علم، وكأن العالم يجب أن يكون لا دينياً، فربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ(18)﴾
البعث: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16)أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ
وأنتم مرغمون، وأنتم مقهورون، وأنتم خاضعون، فالمشكلة أن إيمانك بالله عزَّ وجل لا يصح إلا إذا آمنت مع الإيمان بالله باليوم الآخر، لأن الإيمان بالله من دون يوم آخر، تظن أن الدنيا هي كل شيء، مع أنها شيء، والآخرة هي كل شيء؛ حيث هناك يوم الفصل، هناك يوم الدين، هناك يوم البَعث، هناك يوم الجزاء، هناك يوم الدينونة، هناك الواقعة، هناك الحاقة، هناك القارعة، هذه كلها أسماء يوم القيامة.
فالقارعة تقرع النفس، والحاقة تحق، والواقعة تقع، والفصل يُفْصَلُ بين الخلائق، ويوم الجزاء، ويوم الدينونة، فالمشكلة أن الإنسان إذا آمن بالله ولم يؤمن باليوم الآخر لا يستقيم على أمر الله، إنك لن تستقيم إلا إذا آمنت بالله خالقاً ومربياً ومسيراً، وآمنت باليوم الآخر، وآمنت بأنه سيحاسبك، إذا أيقنت أنه خلقك، ويعلم، وسيحاسب، استقمت، وأي إنسان، من دون استثناء إذا أيقن أن الله موجود، ويعلم، وسيحاسب، استقام.
والأبلغ من ذلك: إذا اعتقدت أن إنساناً من جنسك، ومن طبيعتك، يملك عليك سلطةً، ويعلم ما تفعل، وسيحاسب، تستقيم على أوامره، إنك تستقيم على أوامر إنسان من جنسك، ومن طبيعتك، ومن ضعفك، ومن افتقارك، وإذا أيقنت أنه يعلم وسيحاسب، ويفعل ما يقول، أي أنه قوي، والقوي الذي يعلم، والذي يحاسب لابدَّ من أن تستقيم على أمره، فكيف برب السماوات والأرض؟ فكيف بالذي لا يغفل ولا ينام؟ فكيف بالذي يعلم سر السماوات والأرض، هذا من عند من؟
﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(6)﴾
مَن سخر من الدين في الدنيا سخر منه في الآخرة:
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ(108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)﴾
وربنا عز وجل يقول في آية أخرى:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)﴾
هل لكم أن تعلموا من هو البطل؟ هو الذي يضحك أخيراً لا أولاً، فالذي يضحك أولاً قد يبكي بعد ذلك، لكن البطولة أن تضحك آخر الناس، أما إذا ضحكت في الدنيا، وبكى الإنسان يوم القيامة فهو من الخاسرين، قال تعالى:
﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ(19)﴾
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
أي أن الله عزَّ وجل قدرته ليس لها حدود، زجرة واحدة، صيحة واحدة، وكلكم يعلم من خلال ما نسمع من أخبار، زلزال دام أربع ثوانٍ، أو خمس ثوانٍ، إذا كانت درجته خمساً بمقياس الزلازل، أصبح كل شيءٍ قاعاً صفصفاً، ربنا عزَّ وجل هزَّة واحدة ينهي كل شيء.
﴿ وَقَالُوا
يَا وَيْلَنَا
1 ـ ولات ساعة مندم:
فالبطل الذي لا يُفاجأ بالمستقبل، والغبي دائماً يُفاجأ بالمستقبل، فالأغبياء، والأشقياء، والضعفاء، والمغموسون في الدنيا، وفي حب الدنيا، والغافلون، والفاجرون، هؤلاء يعطون لأنفسهم كل شهواتها، فإذا جاء العقاب، أو جاء الموت، أو جاء يوم الدين صُعِقوا؛ أما الأذكياء، والعقلاء، والموفقون، والمؤمنون، والمستقيمون، فهؤلاء من الذكاء والكياسة والعقل حيث أدركوا ما في المستقبل، فتكيفوا معه من الحاضر، وهذه هي القصة كلها.
وكما قلت لكم من قبل إن قضية الإيمان ليس أن تؤمن أو لا تؤمن، لابد من أن تؤمن، القضية: متى تؤمن؟ إما أن تؤمن في الوقت المناسب؛ وإما أن تؤمن بعد فوات الأوان، هذه هي القضية كلها، فالإنسان العاقل إذا أيقن بالموت، وأيقن أن مع الموت حساباً دقيقاً، وأن الإنسان..
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ وَضَعَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟ ))
2 ـ الموت هو القضية الكبرى:
إذا أيقنا بالموت، وأيقنا بالسؤال بعد الموت، عندئذٍ لابد من أن نستقيم على أمر الله، لكن الإنسان إذا لم يوقن يُفاجأ، وقد قرأت مرة كلمة: العاقل هو الذي لا يندم.
متى لا يندم الإنسان؟ إذا أعد لكل شيء عدته، فهل هناك شيءٌ أكثر واقعيةٌ من الموت؟ تعالوا نتكيَّف مع الموت، لابد من أن يأتي عاجلاً أو آجلاً، ولابد من أن يقرأ الناس في أحد الأيام نعوتنا على الجدران، لا بد أن نخرج من بيوتنا بشكلٍ أفقي، لا بد أن نخرج دون أن نعود، فهل هناك أحد يشك في الموت؟ ولو بعد مائة عام، ولو بعد خمسين عاماً، لكن إذا أيقنت أن هذا كلام رب العالمين، وأن الله سبحانه وتعالى سيسألك عند الموت، وفي القبر، وفي البرزخ، وبعد الموت، ويوم يقوم الأشهاد عن كل شيءٍ فعلته، أليس من العقل التكيُّف مع هذا الحدث الضخم، الذي هو أخطر حدثٍ في حياتنا؟ ربما كان الموت أخطر من الحياة، لقول الله عزَّ وجل:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(2)﴾
قدَّمَ الموت على الحياة لأنه أخطر من الحياة، ففي الحياة عندك خياراتٌ كثيرة حينما تولد، ولكن إذا جاء الموت.
(( فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. ))
الإنسان أول العام الدراسي تجد عنده أملاً، وتفاؤلاً، يقرأ، ويتحقق، ويتأكَّد، ويتابع جهوده في مادة معيَّنة، لكن إذا جاء الامتحان، وكتب فعنده أحد احتمالين: ناجح أو راسب، فإذا وقف على لائحة الإعلانات يضطرب قلبه اضطراباً شديداً، لا يوجد سوى حل واحد؛ إما أن يرى اسمه، وإما أنه يبقى للعام القادم، فهذه هي القضية، فربنا قال:
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ
﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33) ﴾
إياكم أن تخسروا الآخرة:
الإنسان أحياناً إذا خسر في الدنيا خسارةً فادحة، أو ضاع منه بيتٌ ثمين، أو خسر محلاً تجارياً رائجاً، أو خسر شركةً أرباحها ضخمة، أو ضيَّع أرضاً أصبحت بمئات الملايين، ألا يتألم ألماً يكاد يقول: إني قلبي ينعصر من شدة الألم، هذه دنيا، فكيف إذا خسرت الآخرة كلها دفعةً واحدة؟ لذلك المشرك والكافر ماذا خسر؟ خسر نفسه، فقد تخسر بعض المال، وقد تخسر كل المال، وقد تفقد ابناً، أما الكافر خسر نفسه.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)﴾
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
فهذه الكلمة:
﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22) ﴾
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
أيها الإخوة، يقول الله عز وجل:
معنى: أزواجهم:
وأزواجهم من كان على شاكلتهم، أي أن شاربي الخمر مجموعة، والمرابين مجموعة، والزناة مجموعة، والمفسدين للعقائد مجموعة، والمرجفين في المدينة مجموعة، والكذَّابين مجموعة، والمُغتابين مجموعة، هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم.
﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23)﴾
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
1 ـ هذا مصير من لم يهتد في الدنيا:
الإنسان في الدنيا حينما كان يرفض الهدى في الآخرة سيهتدي، ولكن لا إلى الجنة؛ ولكن إلى الجحيم، في تهكُّم، الذي يرفض الهدى في الدنيا، سوف يهتدي يوم القيامة لا إلى الجنة ونعيمها؛ بل إلى الجحيم وعذابه.
2 ـ موقف السؤال:
﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ(24)﴾
هل تاه بماله على عباد الله، وهل ضيَّعَ فرض صلاة، وهل قال جيرانه: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقَصَّرَ في حقنا.
كلمة ومدلولها:
كلمة مسؤول، سبحان الله! الإنسان يترنم بها، يقول: أنا مسؤول كبير، مع أن هذه الكلمة تخوف.
﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24) مَا لَكُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ(25)﴾
مَا لَكُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ
لا تناصُرَ يوم القيامة:
الناس في الدنيا تجمُّعات، تجمعات، وهذه التجمُّعات أساسها مصالح، فأنت مع من يلوذُ بك في المصلحة على حقٍ أو على باطل، وترون بأعينكم كيف أن بعض الدول تجتمع على باطل لقهر شعبٍ أعزل أحياناً، تجتمع كلها على باطل من أجل مصالحها، وهناك تناصر في الدنيا، فالإنسان في الدنيا يتعامل مع الآخرين على أساس المصلحة، فإذا وقع خطر ينصره، أما في الآخرة فلا تناصر.
﴿ مَا لَكُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ(25) بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)﴾
التناصر من لوازم الدنيا، وقد يكون الإنسان على باطل، لكن مصلحته مع فلان، فهو يتفق معه، فإذا داهمهم خطر وقفوا جميعاً ضده بحق أو بباطل، هذا التناصر يوم القيامة مرفوض..
﴿ مَا لَكُمْ لَا يَتَنَاصَرُونَ(25) بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ(28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ(30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ(31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ(32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ(37)﴾
هذا الحوار الدقيق والعميق، والذي سيكون يوم القيامة بين أهل النار، نرجئ شرحه إن شاء الله تعالى إلى درسٍ قادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.