وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 20 - سورة الشعراء - تفسير الأية 221 صور من كذب ومبالغات الشعراء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

 

مقام النبوّة منزَّه عن الكذب:


 أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس العشرين من سورة الشُّعراء.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ(227)﴾ ..

أيها الإخوة الأكارم؛ هذه الآية اسْتئناف، الجُمَل تكون ابْتِدائِيَّة واسْتِئْنافِيّة، فهذه الآية اسْتِئنافٌ ساقهُ الله سبحانه وتعالى لِيُبَيِّن اسْتِحالة تنزّل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في آيات سابقة قال الله عز وجل: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)﴾ أي إنّ هذا القرآن لم تتنزَل به الشياطين، الآن في هذه الآية: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ أي مقامُ النبوّة مقامٌ منزَّه عن الكذب والإفْك، بينما الشياطين من صِفاتهم الثابتة أنّهم أفَّاكون آثِمون، الأفاك هو الذي يقلِبُ الحق باطلاً، والباطل حقًّا، الأفاك هو الذي يكذب، الأفاك هو الذي يوقِعُ بين الناس العداوَة والبغضاء، الأفاك هو الذي يُزَوِّرُ الحقائق، الأفاك هو الذي يقول ما لا يعْلم أو يماري فيما يَعِلَم: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾ ..

كأنَّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يُبَيِّن مقام النبوَّة؛ إنَّه مقامٌ منزَّه عن الكذب.

بالمناسبة فإنَّ الكذب يتناقض مع الإيمان، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن مصعب بن سعد ، عن سعدٍ قال : 

(( المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ. ))

[  الإيمان لابن أبي شيبة ]

في بعض أقواله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا يكذب" لِمُجَرَّد أن يكون الكذب داخلاً في حياتك بِشَكلٍ أو بآخر فالنبي عليه الصلاة والسلام نفى عنك الإيمان؛ المؤمن لا يكذب، المؤمن قد يُقَصِّر، قد تَزِلّ قدمه، قد يفْعل شيئًا وينْدم عليه، ولكنَه لا يكذب، لذلك مقام النبوَّة مقامٌ عظيم منزَّه عن الكذب، وعن الإثم، الكذب هو انْحِرافٌ قولي، والإثْم انْحِراف سُلوكي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في بعض أحاديثه الشريفة: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 

(( لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ))

[ صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : حسن ]

لذلك الذي يقول: التِّجارة شطارة ! أي مبنيَّة على الكذب، هذا خلاف الدين، بين المِهَن هناك من يقول لك: لا بدّ من الكذب، هذا كلامٌ مرفوض، المؤمن لا يكذب، ورزقهُ على الله، ومن ترَكَ شيئًا مخافة الله عز وجل عوَّضَهُ الله خيرًا منه، أي إذا كان الرِّزْق لا يأتي إلا بالكذب فلا يكن هذا الرّزق، والله هو الغنيّ، أَنْ تقول: إنَّ الكذب ضرورة، هذا كلام الشَّيطان، فالله سبحانه وتعالى يُبَيِّن في هذه الآية أنَّ من يدَّعِي أنَّ الشياطين تتنزَّل على النبي عليه الصلاة والسلام هذه دَعْوة باطلة؛ لماذا؟ لأنَّ الشياطين لا يتنزَّلون إلا على كل أفَّاك أثيم، ومقام النبوة مقام عظيم مُنَزَّه عن هذا الوصْف. 

 

الشياطين لا تتنزل إلا على من كان عنده اسْتِعداد لِقَبولها:


هناك نقطة مهمَة جدًّا لابدّ من أن نقف عندها، يقول الإمام القاشاني: تنْزِلُ الشياطين على مَن عنده اسْتِعداد لِقَبُولها، من الذي عنده اسْتِعداد لِقَبول الشياطين؟ مَن كان على شاكلتهم من الخُبْثِ، والكَيْد، والمكر، والفساد، والخِيانة، وسائر الرذائل، هذا القَوْل ينقلنا إلى حقيقة هو أنَّ أحدًا لا يستطيعُ أن يُضِلّ أحدًا، الشيطان يضِلّ من كان على شاكلته، من كان عنده اسْتِعداد لِتَقَبُّل أفكاره، لِتَقبُّل وساوسِه، لتقبّل انْحِرافاته، الإنسان له جِبِلَّة، هذه الجِبِلَّة فطرها الله سبحانه وتعالى فِطْرةً نَقِيَّة، صفْحةً بيْضاء، فإذا دنَّسَها الإنسان بانْحِرافاته، ومعاصيه، وشهواته، وجاء الشيْطان لِيُوَسْوِسَ لهذا الإنسان البعيد المنقطع؛ إنَّ هذا الإنسان البعيد المنقطع يستجيب لهذا الشيْطان، الشيطان لا يستطيعُ أن يؤثر إلا لِمَن كان عنده اسْتِعداد لِقَبوله، ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾ أي مُنحرف في أقواله، منْحرف في أعماله، الإثم فِعْل المعاصي، والموبقات، واتِّباع الشَّهوات، والمَيْلُ نحو الغرائز والأفعال القبيحة، فالأفَّاك الأثيم هو الذي تنزَّل عليه الشّياطين. 

 

من صفات المؤمن عدم سماعه أقوال الشياطين:


شيء آخر؛ المؤمن لا يمكن أن يُصْغي إلى قول الشياطين، لا يمكن أن يُصغي إلى وساوسهم، لا يمكن أن يستجيب لهم، هذه حقيقة، هذا الذي يقول لك: لا أستطيع، هكذا فَعَلَ بيَّ الجن، هكذا دخلوا بي، هذا كلُّه كلام لا يقْبلُ وساوس الشياطين، ولا يقبل إيحاءات الجنّ، ولا يقْبَلُ تعاوُنَهُ مع الجنّ إلا إذا كان على شاكلتهم، وهذه حقيقة واقعة في الحياة اليوميّة، الإنسان السيّئ يُفْسِدُ مَن كان مثلهُ سيِّئًا، أوْ من كان يمْلِكُ اسْتِعدادًا للفساد، عندهُ رغْبةٌ في الفساد يأتي المُفْسِد فَيُفْسِدُهُ، أما الذي سَمَتْ نفسُهُ، وارْتَقَتْ روحُه، واستقام على أمر ربّه، وأقبل عليه، وشعَرَ بالطهر والعفاف، وشعَرَ بالقُرْب من الله عز وجل؛ مِثْل هذا الإنسان لا يستطيعُ شيطان الإنس ولا شيطان الجنّ أن يُفْسِدَهُ، فلذلك أن يقول الإنسان كلّما زلَّتْ قدَمَهُ: لعن الله الشيطان، هذا كلام غير مقبول، لأنَّ الشيطان نفسه يوم القيامة يقول:

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)﴾

[  سورة إبراهيم  ]

هذا كلام ربّ العالمين، هذا في القرآن الكريم، ما كان لي عليكم من سلطان، إذاً لا يستطيع أن يُفْسِدَ إلا من كان عنده اسْتعداد للفساد، إلا من كانت عنده رغبة الفساد، إلا من كان على شاكلة الشيطان من الخبث، والانحراف، والكَيْد، والخِيانة، والكذب، والفجور، والإثم:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)﴾

[ سورة آل عمران  ]

كسبوا السيّئات فجاء الشيطان فأزلَّ أقْدامهم، فلذلك إذا زلَّتْ قدمُ الإنسان يجب أن يعلم عِلْم يقين أنَّه وحده يتحمَّل المسؤوليَّة كاملةً، ولا ينبغي له أن يُحَمِّلها ولا أن يُحَمِّلَ بعضها للشيطان: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾ المؤمن ليس أفَّاكًا، لا يكذب، كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا شَعَرَ أنَّ أحدًا من أهل بيْتِهِ قد كذَبَ يغضبُ غضبًا شديدًا، ويُقاطِعُه إلى أن يتوب، إذًا لمَّا كان مقامُ النبوَّة مُنَزَّهًا عن الإفك والإثم والكذب والفجور حُقَّ لِكُلّ مؤمن أن ينْفِيَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون للشياطين أو لبعضهم دَوْرٌ في إنزال هذا القرآن، أو في الوُصول إلى النبي العدنان عليه الصلاة والسلام.

 

الاستعاذة بالله من شر الشياطين والسحرة:


﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ .. النبي عليه الصلاة والسلام سألهُ ناسٌ عن الكُهَان، فقال صلى الله عليه وسلّم: عن عائشة أم المؤمنين:

(( سَأَلَ أُنَاسٌ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الكُهَّانِ، فَقالَ: إنَّهُمْ لَيْسُوا بشيءٍ، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، فإنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بالشَّيْءِ يَكونُ حَقًّا، قالَ: فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تِلكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ، فيُقَرْقِرُهَا في أُذُنِ ولِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فيه أكْثَرَ مِن مِئَةِ كَذْبَةٍ. ))

[ صحيح البخاري ]

الحديث طويل، ولكن لو اكْتَفَينا بهذا الكلام لكفى (( إنَّهم ليْسُوا بِشَيء )) أي كلّ ما يقوله الناس من أعمال الجنّ، ومن مكرهم، ومن أفعالهم، ومن تآمرهم على الإنس، وبِعِلْمهم بما سيَكُون كما قال سيّد الخلق ولا ينطق عن الهوى ((إنَّهم ليْسُوا بِشَيء )) كلهم، سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الكهان فقال: (( إنَّهم ليْسُوا بِشَيء ! فقالوا: يا رسول الله: إنَّهم يُحَدِّثون بالشَّيء يكون )) ، وكثير من الإخوة الأكارم يسْمعون مِن أقاربهم، مِمَّن حوْلهم، ممَّن يلوذ بهم، أن فلاناً مخاو، وأنَ فلانًا تنبَّأ بكذا، وكان كذا، فما تفسير هذا؟! أُجيب كما أجاب النبي عليه الصلاة والسلام:  (( إنَّهم ليْسُوا بِشَيء )) لكن المشكلة أن الله سبحانه وتعالى دلنا في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة على أن نسْتعيذ به، قال تعالى: 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾

[  سورة الفلق  ]

ودلَّنا أن نستعيذ مرَّةً ثانية:

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾

[  سورة الناس  ]

والله سبحانه وتعالى وصف المتَّقين فقال:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)﴾

[  سورة الأعراف  ]

وفي آية رابعة يقول الله عز وجل:

﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾

[ سورة فصلت  ]

أما أجمل ما في هذه الآية الأخيرة: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ، الآن يقول لك قائل: أنا اسْتَعَذْتُ بالله، والشيْطان لم يبْرحني، فكيف تُفسِّر هذه الظاهرة؟ إنَّه هو السميع العليم؛ سمِيعٌ لاسْتِعاذتك باللِّسان، ويعلم ما إذا كان قلبك حقيقةً قد اسْتعاذ بالله أم أنَّك اكْتَفَيْت بالاسْتِعاذة بِلِسانِك، أي إذا كانت الاستعاذة باللِّسان فهذه لا تكفي، ولا تفعل شيئًا، ولا تستطيعُ هذه الاستعاذة باللِّسان أن تدفعَ الشيطان، لذلك: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ فإذا أَلَمَّ بالإنسان وسواس، أو ألمَّتْ به مشكلة، أو لاحَتْ له شبهة، إذا جاءَتْهُ خواطر لا ترْضي فإنَّها من الشَّيطان إذاً فلْيَسْتَعِذ بالله، ولكن فلْيَسْتِعذ بِقَلبِهِ قبل لسانه، أي أن يتوجَّه إلى الله بِكُلِّيتِه، أن يلْتجأَ إليه، وأن يحْتمي به، أن يلوذ بحِماه حتى ينقذهُ الله سبحانه وتعالى من هذه المِحْنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: فإنَّهم يُحَدِّثون – هذا الصحابي الذي سأله - بالشيء يكون ! فقال عليه الصلاة والسلام: عن عائشة أم المؤمنين : (( تلك الكلمة من الحق يخطفها الجِنِّي  فَيُقَرْقِرُه في أُذُن وليِّه كَقَرْقَرَة الدَّجاج فَيَخْلِطون معها أكثر من مئة كِذْبة )) أي حينما تنزل أوامر الله سبحانه وتعالى إلى الملأ الأعلى هناك من الشياطين من يستمعون، فإذا الْتَقَطَ أحدهم كلمةً ألقاها في أُذن الكاهن، وكذب على مِنوالها مئة كذبة كما قال عليه الصلاة والسلام، إذاً كذبَ المُنَجِّمون ولو صدَقوا، ومن أتى كاهنًا فصدَّقهُ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد، ومن أتى ساحرًا فصدقة لم تُقبل له صلاة أربعين صباحًا. 


  تفسير قوله تعالى : يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ:


﴿تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)﴾. . ﴿يُلْقُونَ السَّمْعَ﴾ من تفسيرات هذه الآية أنَّ هؤلاء الشياطين يسترقون السَّمع، ويُلقُون السَّمع إلى الملائكة ليأخذوا بعض أمر الله للبشر، فَيَبُثُّون في أُذن الكُهَّان لِيكذبوا عليه مئة كذْبة، هذا بعض المعنى. 

المعنى الآخر؛ المنحرف يُلقي سمْعهُ، الأفَّاك يُلقي سَمْعهُ إلى الكذب، لذلك في نِظام المحاكمات يُقال: لا تُسْمعُ هذه الدَّعوى، القاضي يرفض سماعها في الأصل، إذا كانت لم تسْتَوْفِ شُروطها الإجْرائِيَّة، ومضمونها الصحيح، دَعْوى غير مَسْموعة، والمؤمن كذلك إذا كان في عالم القُدُس، وكان مع الله سبحانه وتعالى، وكان في طهارته وعِفَّتِهِ، لا يُلقي السَّمْع للشياطين، ولا لِوَساوِسِهم.

﴿وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ﴾ .. أي هؤلاء يكْذبون، والكذب كما تعرفون هو قلبُ الحقائق وتزويرها.

 

صور من كذب ومبالغات الشعراء:


هناك من يقول: إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام شاعر، وفي آيات كثيرة أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه التُّهمة التي اتُّهِمَ بها النبي عليه الصلاة والسلام من أنَّه كاهن، ومن أنّه شاعر، في بعض الآيات الكريمة يقول الله عز وجل: 

﴿  إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)﴾

[  سورة الحاقة  ]

لا هو بِقَول شاعر، ولا هو بِقَول كاهن، بل هو قول رسول كريم، تنزيل من ربّ العالمين، هذا هو الحق، فهناك من ادَّعى، ومن زعمَ من كُفَّار قريش أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام شاعر، فكان هذا الردّ، قال: إذا زعمتم أنَّه شاعر فالشُّعراء يتَّبِعُهم الغاوون، الشُعراء ليْسُوا كذلك. 

من هو الشاعر؟ هذا الذي يتكلَّم كلامًا وفْق هواه فقد يمدحُ مديحًا كاذبًا، وقد يهْجو هِجاءً ظالمًا، وقد يصِفُ حالةً ساقطة، وقد يُبالغ، هناك من الشُّعراء من يبالغ :  

ولو أنّ النّســاء كمـن فقَدْنا                 لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال

* * *

أراد شاعِرٌ أن يتقرَّبَ إلى المعتصِم، فلما َتُوُفِّيَت أُمّ المعْتَصِم، مَدَحَ أُمَهُ بِقَصيدةٍ مَطْلعها:  

ولو أنّ النّســـاء كمن فقَـدْنا                لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال

* * *

من أجل هذه المرأة التي لا يعرف التاريخ عنها شيئًا، قال الشاعر:

ولو أنّ النّســـاء كمن فقَـدْنا                لَفُضِّلَت النِّساء على الرِّجال

* * *

هذا كذب، هذه مبالغة، مبالغة كبيرة، بعض الشُّعراء يمدح مديحاً كاذباً، مديحاً لا أصل له، يسبغ على ممدوحه صفات البطولة، والكرم، والشجاعة، والتَّقوى، وهو ليس كذلك، إذًا هذا المديح الكاذب فيه معْصِيَة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يغضب إذا مُدِحَ الفاسق، فَمِن أجل مكاسب رخيصة، من أجل نوال محدود، من أجل عطاء قلَّ أو كثر، كان هذا الشاعر يُصْبغُ على ممدوحهِ صِفاتٍ كلّها غير صحيحة، لذلك ربّنا عز وجل قال عن هذا النبي الكريم:  

﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)﴾

[ سورة يس ]

لأنَ من شأن الشعراء أن يكذبوا، هناك لقَطَاتٌ كثيرة من أقوال الشعراء، مثلاً هذا الذي قال:

 أيَّ عظـيــمٍ أتَّقـي           وأيَّ مكانٍ أرتقــي

 وكـــــــلّ مــا خلـق           الله وما لـم يخلـق

 محتقر في نظري           كشَعْرةٍ من مرْفقي

* * *

هذا قول المُتَنَبِّي، هذا شعر، ما قيمة هذا الشِّعر؟ هذا الكون العظيم الذي تحار به العُقول قال عنه المُتَنَبِّي: إنَّه محْتقرٌ في نظرهِ، فهل يُعْقَلُ أن يكون النبيّ شاعرًا؟! هذا المتنبِّي الذي قال مرَّة:  

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبـي         وأسْمَعَت كلماتي من بِهِ صمَـــــــــمُ

أنام ملء جُفوني عن شـواردهـــا         ويســهر الخلْق جرَّاها ويخْتصِـــــــمُ

الخيل والليل والبيـداء تعرفنـــــــــي         والسيف والرمح والقرطاس والقلم

* * *

بطل، فارس، مِغْوار، شجاع، لا يهاب المنايا، كان في طريقه من بغداد إلى حلب أو من البصرة إلى حلب، خرج عليه كمين فولَّى هاربًا، فقال له غلامه: ألم تقل:  

الخيل والليل والبيـداء تعرفنـــــــــي         والسيف والرمح والقرطاس والقلم

* * *

فقال: قتلتني قاتلك الله، وعاد وقاتل حتى قُتِل، إذًا هناك مبالغات، شيءٌ غير صحيح، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أعظمُ بِكَثير، وأسْمى بِكَثير من أن يكون شاعرًا،  ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ إنَّه رسول الله، الشاعر ينطلقُ من خيال، وقد يبتعد عن الواقع، الإسلام دينُ الفِطرة، لذلك هناك تناقض بين ما هم عليه الشُّعراء، وبين قواعد الدِّين، ليس من قواعِدِ الدِّين أن تكذب في المديح، وليس من قواعِد الدِّين أن تَهْجُوَ هِجاءً مقذعًا، ولا هِجاءً مُراً، وليس من قواعد الدِّين أن تُثير الغرائز بِشِعْر رخيص، هذا كلُّه من صفات الشعراء، والنبي عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، من مبالغات إلى غزل إلى هِجاء إلى وصْف كلُّه ما أراده الله سبحانه وتعالى، ولكنَّ الحقيقة التي أُحب أن أُقرِّرَها في هذا الدَّرس هي أنَّ الإسلام لم يُهاجِم الشِّعْر لذاته، ولكن هاجَمَهُ لِمَضمونه، لأنّ مضمونه يتنافى مع قواعد الدِّين، فكلّ شاعر سخَّر شِعرهُ للهِجاء الباطل، وللمديح الكاذب، ولإثارة الغرائز، وللتَّحليق في عالم الخيال، مُبْتَعِدًا عن الواقع فهذا الشاعر ينطبق عليه قول الله عز وجل: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾

 

حكم الشعر في الإسلام كلام حَسَنُهُ حسَن وقبيحُهُ  قبيح:


إلا أنّ الشِّعْر كما يقول العلماء: كلام حَسَنُهُ حسَن، وقبيحُهُ قبيح، هذا حُكمٌ فقهي في الشِّعر، نوَّهَ به النبي عليه الصلاة والسَّلام، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن عبد الله بن عمر :

((  أنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، أوْ: إنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ. ))

[ صحيح البخاري ]

 (مِن) هذه للتَّبعيض، أي بعض الشِّعر فيه حِكمة، وبعض البيان فيه سِحر، ما كلّ البيان ساحر، وما كلّ شعر حكيم، ((إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، أوْ: إنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ )) ، وفي صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام تمثَّل قَول لبيد، فقال: عن أبي هريرة رضي الله عنه :

(( أصدَقُ بيتٍ قالتِ العربُ ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللَّهَ باطِلٌ. ))

[  أبو نعيم: حلية الأولياء  : خلاصة حكم المحدث : مشهور من حديث شعبة ثابت متفق عليه  : أخرجه مسلم  ]

ولكنَّه عليه الصلاة والسلام ما أتمَّ البيت، لأنَّ في تمام البيت مخالفة للحقيقة، فالبيت أصله: 

ألا كلّ شيءٍ ما خلا الله باطل              وكـل نعيم لا محالـة زائل

* * *

نعيم أهل الجنَّة لا يزول، وهذا الكلام غير صحيح. 

شيءٌ آخر؛ إذاً الإسلام لم يُهاجم الشِّعر لذاته بل هاجمهُ لِمَضْمونه، لأنَّ الشِّعر كلامٌ حسَنُهُ حسَنَ، وقبيحُهُ قبيح، لو أنَّ الشاعر اسْتَخْدم شِعرهُ في الحديث عن الله عز وجل، أو عن هذا الكون العظيم، أو عن النبي الكريم، أو أثار الهِمَم للأعمال الطَّيِّبَة، فهذا الشِّعر حسَن، بعض الشعراء يقول:  

اُنظر لِتِلك الشَّجـــرة  ذات الغُصون النّضـرة

 كيف نَمَتْ مِن حبَّــةٍ؟ وكيف صارَتْ شَجَـرة

فابْحَث وقل مـــن ذا الذي يُخرجُ منها الثَمرة؟

وانْظر إلى الشمــس جذوتها مُسْتَعِــــرة

فيها ضِيـــــــاء  وبها حرارة منتشــرة

من ذا الذي أوْجَــدَها  في الجوّ مثل الشَّــرَرة

وانْظر إلى الليـــل  فمن أوْجَدَ فيه قمره

وزانـهُ بأنْجُــــمٍ  كالدُّرر المنتشــــرة

وانْظر إلى الغَـــيم  فمن أنزل منه مطــرًا؟

فصيَّـــــرَ الأرض بـــه  بعد اصْفِرارٍ خَــضِرة

ذاك هو الله الــذي أَنْعُمُهُ مُنْهَمِــــــرة

ذو حِكمةٍ بالغـــة  وقدرةٍ مقــــــتدرة !

* * *

هذا شعر، إذاً الشِّعر ليس حرامًا لِذاته، لكنَّ المديح الكاذب، والهِجاء الرَّخيص، والغزل، وإثارة الغرائز؛ هذا الذي هاجمه الإسلام، إذاً إذا كان الشاعر في هذا المسْتوى فأنْعِم به من شاعر.

 

استثناء الشعراء المؤمنين من شرّ الغواية:


القرآن الكريم بعد قليل استثنى قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لأنَّك إن أردْتَ أن تُحْدِثَ موقفًا في الناس قد تسْتخدمُ الشِّعر، لأنه يُحَرِّك المشاعر، يُحَرِّك العواطف، لأن البلاغة والقدرة التَّعبيريّة شيءٌ ثمين إذا وُظِف للحق فأنْعِم به وأكرِم، إذا وظفت القدرة البلاغية واللغوية في سبيل الله فهذا عمل طيب، لذلك الشِّعر كلامٌ حسنُهُ حسَن وقبيحُهُ قبيح، ولا ينبغي أن نُطْلقَ عليه حُكْمًا جائرًا وعامًّا، لكنَّ هؤلاء الذين زعَمُوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام شاعر، قال: لا، ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ﴾ وليس مقام النُّبوّة يقترب منه مقام الشّعر، الشِّعر فيه كذب، الشعر فيه هِجاء، الشعر فيه خيالات، الشعر فيه بُعْدٌ عن الواقِع، كافور الإخشيدي مدحَهُ المُتَنَبّي بقصيدة، جعل من هذا الإنسان أحد أصحاب رسول الله هكذا، فلمَّا غضِبَ عليه، ولم يُوَلِه العِراق قال:  

لا تشْترِ العَبد إلا والعصا معه                 إنَّ العبيد لأنجـاس مناكيدُ !

* * *

 وقال:  

وفي كلّ أرضٍ وطِئْتُها أمم                 تُرعى بِعَـبْد كأنَّهم غَنَـم

سْتخشِنُ الخزّ حين يلْبسُهُ                 وكان يُبْرى بِظُفرِهِ القلَمُ

* * *

هذا الشِّعر، رفعُه إلى مستوى عال جدًا، فلمَّا أحْبط مسْعاه ويئسَ منه جعَلَهُ في أسفل سافلين، كذب، أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد نهانا عن أن يحمِلَكَ الغضب على أن تُبالغ، أو أن يحمِلَكَ الرضا على أن تُبالغ، يجب أن تقف عند الواقع، عند ما هو كائن، فكلّ زِيادة وكلّ مبالغةٍ ليست من شأن المؤمن. 

حال الشُّعراء مُنافيَةٌ لِحال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، النبي عليه الصلاة والسلام في مراتب عليا من الطَّهر، من العفاف، من الصِّدق، من المروءة، من الواقِعِيَّة، أما هؤلاء الشُّعراء فإنهم يمْدحون، ويهْجون، ويتغزَّلون، ويصفون، ويُحَلِّقون بالخيال، ويبتعدون عن الواقع، إذاً ليس من يقول: إنَّ النبي شاعر مُحِقّ بل إنه مبطِل: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ هل هؤلاء الصَّحابة في مستوى أن يكونوا أتباع شاعر؟ لا والله.

 

تفسير قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ:


﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)﴾ .. لم يقل الله عز وجل: في كلّ طريق يهيمون، قال: في كلّ واد، أي هناك متاهات، واد فيه مغاوِر، فيه مسارب، فيه اتِّجاهات متناقضة، فيه حَيرة، ويهيمون أي هامَ على وجْهه سارَ بِلا هُدَى، سار بلا بصيرة، سار بلا هدف، الشُّعراء في كلّ وادٍ يهيمون، يميل مع مصلحته أين مالَت، حتى إنَّ شاعرًا في العصر العباسي مدَحَ وهجا اثنَي عشر خليفةً، يمْدحُهُ ثمَّ يهجوه، إذا جاء خلفه يهجوه، يمدحه فإذا عزل هجاه ومدح خلفه، كله كذب في كذب، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ ، هذا الذي مَدَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بِقَصيدة رائعة، له أبيات أخرى: 

رمضان ولَّى هاتِها يا ساقي                  مشْـتاقةً تسْعى إلى مُشتاق

* * *

يقصِدُ بها الخمر، إذا مدح النبي يمدحه، وإذا مدح الخمر يمدحه، هَذا مسلِم؟ هذا إنسان منضبِطٌ يؤخَذُ عنه؟ بلا انضباط، بلا حدود، الأمور عنده ليست منضبطة، الأمور فوضى، فلذلك ربّنا سبحانه وتعالى قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ في كلّ واد يخوضون، تارةً يُتَّهَمُ بعض الشعراء بالزَّندقة، وتارةً يُقال عنه إنَّه مؤمن، تارةً يؤمن بالآخرة، تارةً يرفض الآخرة، هناك اضطراب فِكري، اضطراب عقيدي، اضطراب سُلوكي، هؤلاء ممكن أن نأخذ عنهم؟ إذا كان عندهم شيء مَقْدُرة لُّغوِيّة، شِعريّة ليس غير، أما أن يكون الحقّ معهم فهذا أبْعدُ شيءٍ عن الواقع.

 

حرص سيدنا عمر على استعمال ولاة من أعلى مستوى:


﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)﴾ .. سيّدنا عمر رضي الله عنه استعْمَلَ واليًّا على البصرة اسمهُ النعمان بن عَدِيّ، وكان هذا الوالي يقول الشَعر، قال قصيدة وقال في خِتامها:

لعلّ أمير المؤمنين يسوءه                       تنادمنا بالجَـوثق المتهدِّم

* * *

فبَلَغَ سيِّدنا عمر هذه القصيدة، فقال: إي والله، إنَّه لَيَسُوءني ذلك، ومن لَقِيَهُ فلْيُخْبرْهُ أني عَزَلْتُه، وكتَبَ إليه: 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3) ﴾

[  سورة غافر  ]

أما بعد فقد بلغني قولك: واَيْمُ الله إنَّهُ لَيَسُوءُني ذلك، قد عَزَلْتُك ! فسيّدنا عمر كان حريصًا حِرْصًا بالغًا على أن يكون هذا العامل الذي يسْتَعْملهُ على مِصْرٍ، أو على قُطْرٍ من أقطار بلاد المسلمين في المستوى الراقي الذي لا تشوبُهُ شائبة. 

 

موقف بعض شعراء الصحابة بعد نزول قوله تعالى : وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ:


شيءٌ آخر مُتَعَلِّق بِهذا الموضوع؛ هو أنَّ بعض أصحاب النبي عليهم رِضوان الله، منهم سيدنا حسَّان بن ثابت، كان شاعراً، ومنهم سيّدنا عبد الله بن رواحة، كان شاعراً، ومنهم كعب بن مالك، كان شاعراً، حينما نزَلَ قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ ، أتَوْا النبي عليه الصلاة والسلام وهم يبْكون فقالوا: يا رسول الله، إنَّ الله سبحانه وتعالى حينما أنزل هذه الآية يعْلمُ أنَا شُعراء، ونحن قد هَلَكْنا، فقال عليه الصلاة والسلام مُتَلَطِّفًا: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنتم هؤلاء.

أما هذا الاسْتِثناء مهمّ جدًّا، الإنسان الآن إذا كان يمْلكُ قُدْرةً لُغَوِيَّة، قدرة شِعْريَّة، ووظَفَها في الحق، هذا عمل طيِّب، والآن بالمقاييس المعاصرة للشِعر يَعُدُّون الشِّعْر الملْتَزم من أرقى أنواع الشِّعْر، هذا الشِّعر الذي يُنافحُ عن قضِيَّة، الذي يلْتَزِمُ مبدأً، الذي يُسَخَّرُ لِخِدمة أهداف كبرى، هذا شِعر مُلتَزِم، سيّدنا حسَّان بن ثابت في شعره، وسيدنا عبد الله بن رواحة في شعره أيضاً، وسيدنا كعب بن مالك في شعره، كان شِعرهم مُوَظَّفًا في خِدمة الحق، فالنبي عليه الصلاة والسلام اسْتَثناهم كما جاء من قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ .

 

مجاهدة المؤمن بِسَيفه ولسانه:


وقد أُثِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّهُ قال لِحَسَّان بن ثابت: هاجِهِم وجِبريل معك، للكفار، سيدنا حسان كان شاعراً وله ديوان وأكثره أو جله في مدح النبي عليه الصلاة والسلام وفي الرد على خصومه، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام قال: هاجهم وفي رواية: اهجهم وجبريل معك، وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد في مسنده عن كعب بن مالك أنَّه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية فقال: 

(( إنَّ المؤمن يُجاهد بِسَيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّما ترمونهم به نضح النبل. ))

[  البغوي في شرح السنة عن كعب بن مالك بسند صحيح ]

أيْ هذه القصائد التي ينظمها أصحاب رسول الله في الردّ على أعداء الإسلام كأنَّها نِبال تُصيبهم، هذا بعض ما جاء في السنَّة المطهَّرة عن شعراء الإسلام الذي نافحوا بِشِعرهم عن هذا الدِّين العظيم. 

 

صفات الشعراء:


﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)﴾ وهذا شيءٌ خطير، يقولون ما لا يفعلون ! أي هم في واد وأفعالهم في واد: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً﴾ .. أجْمَلُ ما في هذه الآية أنّ الشِّعر لم يُلْهِهِم عن ذِكْر الله تعالى؛ هذا معنى، والمعنى الثاني أنَّهم ذكروا الله كثيرًا في شِعرهم، أي شِعْرُهم كلّه طافِح بالحديث عن آيات الله الكونيّة، وعن رحمته، وعن عظمته، وعن قدرته، وعن نبيِّه صلى الله عليه وسلّم، فإذا لم يشْغل الشِّعر الشاعر المؤمن عن ذِكر الله، أو أنَّه ذكر الله كثيراً في شعره ، فهذا من صفات الشاعر المؤمن: ﴿وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً﴾

 

الأمرُ بالردِّ على شعراء الأعداء:


﴿وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ .. هذا هو الردّ على الشُّعراء الذين ناصَبُوا النبي العِداء، هناك شعراء ناصَبُوا النبي العِداء وكان حسَّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة يرُدُّون عليهم، فإذا كان الشِّعْر ردًّا على خُصوم الدِّين، أو ذِكراً لآيات الله، أو لأسمائه الحسنى، أو مَدْحاً للنبي الكريم، فهذا من حسنات الشعراء المؤمنين، ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾  هذه مُطلقةٌ، أيُّ ظالم: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ .. أيِّ ظالم، وبعضهم قال: سيعلمُ الذين ظلموا من هؤلاء الشعراء، ظلَمُوا الناس بِهِجائهم، ظلموا بِمَديحهم الكاذب، بِنفاقهم، بثرْثرتهم، بإثارة الغرائز، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ ، سيّدنا الصِّديق رضي الله عنه حينما عَهِدَ بالخِلافة إلى عمر بن الخطاب كتَبَ هذه الوصيّة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما وصَّى به أبو بكر بن أبي قِحافة عند خُروجِهِ من الدُّنيا: حين يُؤْمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصْدق الكاذب، إنِّي اسْتَخْلفْتُ عليكم عمر بن الخطّاب فإن يَعْدِل فذلك ظنِّي به، ورجائي فيه، وإن يَجُر – يظلم - ويُبدِّل فلا عِلْم لي بالغَيب، وَصِيَّة رائِعة جدًّا، ومات وكان هذا الذي أوصى به أبو بكر بن أبي قِحافة عند خروجه من الدنيا. إذاً هذا على قوله تعالى: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾.

 

اللغة هي الوسيلة الوحيدة للدعوة إلى الله عز وجل:


إذاً إذا الإنسان تعلم اللغة، سيدنا عمر قال: "تعلموا العربية فإنها من الدين" ، إذا أردت أن تدعو إلى الله عز وجل فهي الوسيلة الوحيدة، الأداة الطيعة، فإذا استخدمت اللغة، استخدمت العبارة الأدبية القوية، إذا استخدمت البيان، عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 

(( إنّ من البيان سحراً، وإنّ من الشّعرِ حكمةً. ))

[ صحيح الأدب المفرد ]

فإذا وظفت هذه كما وظفها أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في الحق فهنيئاً لك، وإذا كان هذا الذي امتلك ناصية البيان كهؤلاء الشعراء المنحرفين الذين يكذبون، ويأفكون، ويتهمون، ويزورون، ويظلمون فالويل له لقول تعالى: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾.  

اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة، وكان في أثناء حفر الخندق يقول: 

هذا الحِمالُ لا حِمالَ خَيْبَرْ          هذا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ

* * *

وكان يقول:

(( عن جندب بن عبد الله  دَمِيَتْ إصْبَعُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في بَعْضِ تِلكَ المَشَاهِدِ، فَقالَ: هلْ أَنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيتِ... وفي سَبيلِ اللهِ ما لَقِيتِ. ))

[ صحيح مسلم ]

النبي كان أفصح العرب، وهكذا يقول: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش" . أي أريد كملخص لهذا الدرس، الإنسان إذا قويت لغته ووظفها في سبيل الحق فهذا عمل طيب، أما أن تحمله لغته الجميلة وبيانه الرائع على أن يتهجم، وأن يهجو، وأن يثير الغرائز فهذا الذي لا يرضى الله عنه، وهذا الذي تنطبق عليه الآية الكريمة: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾ والنبي عليه الصلاة والسلام كان أفصح العرب، وأفصح كلام بعد كلام الله هو كلام النبي الكريم، وكان إذا تكلم يعد المستمع كلماته، كان هادئاً، وكانت كلماته تخرج من فمه وكأنها لآلئ، إذا تكلم علاه حياء وبهاء، جمال وبهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، وكان منطقه فصل لا هذر ولا نزر، وكان يقول: "نضّر من أوجز في كلامه واقتصر على حاجته" ، مرة سيدنا الصديق رأى شخصاً يطيل الكلام فقال: "إياكم وكثرة الكلام فان كثرة الكلام ينسي بعضه بعضاً" .

يوجد أقوال كثيرة حول الفصاحة، والبلاغة، والقدرة على التعبير، والقدرة على نقل الحقائق، هذه إذا أخذنا بها ووظفناها في الحق، هذا هو المطلوب، أما أن تنحرف فهذا الذي لا يريده الله سبحانه وتعالى.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور