- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
العاقل لا يدفع ثمن تعلمه الحقائق باهظاً:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس عشر من سورة الشُّعراء.
كان الدرس الماضي قد وصل إلى قوله تعالى:
عذاب الله بغتة في ساعة غفلة:
لذلك من يعطِّل فكره، من يُجَمِّدُ عقْلَهُ، هذا الذي لا يؤْمِن بالقرآن حتَّى يرى العذاب الأليم، فنحن المؤمنين إن شاء الله تعالى ينبغي أن نتعرَّف إلى الخطر قبل وُقوعِهِ، من خِلال كتاب الله عز وجل:
هذه ساعة الغَفلة، أحيانًا يظنّ الإنسان أنَّ الأمور تجري هكذا، إلى ما لا نهاية، هذا خطأٌ كبير، هذا وهم كبير، الله سبحانه وتعالى يُرْخي الحبل إلى أن يظنّ الإنسان أنَّه لا حِساب، وأنَّه لا مسؤوليّة، وأنّه يفعَلُ ما يشاء، وأنّ الحق للقويّ، وأنّ السماوات والأرض هكذا خلقت، عندئذٍ يأتي عِقاب الله عز وجل بغْتةً فيَعْرف أنَّ في السماء إلهًا لا يغْفَلُ عن كلّ منْحَرِف، لذلك:
﴿ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)﴾
﴿ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)﴾
استعجال العذاب استهزاء:
﴿ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)﴾
الاستدراج مِن سنة الله في الكافرين:
جاء الجواب، هذا الجواب: سيّدنا عمر بن عبد العزيز كان إذا قام أو قعد، إذا دخلَ مجلس الخِلافة، قبل أن يحكم بين الناس يتلو هذه الآية:
﴿
هل من آية في القرآن الكريم أوْسعُ من هذه الآية؟ أبواب كلّ شيء، كلّ شيء له باب، أبواب المال، أبواب الملذَات، أبواب الجاه،
متاع الدنيا غرور قليل:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
المؤمن العاقل لا يمكن أن يتمنَّى أن يكون في وضْعٍ من الدُّنيا ممتازٍ على حِساب دينه، ما من إنسانٍ فيه ذرّة من إيمان لا يرضى ولا يتمنَى أن يكون مكان هذا الإنسان الغارق في ملذّاته، ولكن مكانه في جهله بالله، وفي جحوده، الآية الكريمة:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ
خالق الكون يقول لك: قليل، ألسْتَ مُصَدِّقًا له؟!
آية ثالثة ؛ قال سبحانه وتعالى:
﴿
تملك أكبر شركة في العالم، شيء، تحتلّ أرقى مكانة في المجتمع، شيء، تملك أكبر رصيد في العالم ؛ شيء:
﴿
أي إذا أنت مؤمن خالق السماوات والأرض وعدك بالخير، وعدَكَ بالسَّعادة، وعدكَ بالجنة، وعدك بالرِّضْوان، وعدك بالقُرب، وعدك أن ترى وجهه الكريم:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وقال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
﴿
لمَّا خرج قارون بِزينته:
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾
بالتَّعبير الفصيح هنيئًا له ! أحيانًا يرى الإنسان متاع الدنيا يسيل له لعابهُ، النبي الكريم علَّمنا أنك إذا رأيت بيتًا فخْمًا، مركبةً فارهةً، شيئًا من متاع الدنيا، كان يدعو ويقول: اللهمّ لا عَيْش إلا عَيْشُ الآخرة !
الإنسان بِضْعة أيام والموت في النهاية مصيره:
إلى متى أنت باللَّـذات مَشْــغـول وأنت عن كلّ ما قدَّمْت مسؤول؟
* * *
البطل مَن يعد العدّةَ لساعة الفراق:
﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾
ورد في الأثر أنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عن عائشة رضي الله عنها:
(( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا، فسألَت السيّدة عائشة رضي الله عنها النبي عليه الصلاة والسلام قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكَ . ))
أي من دون طهور أيضاً، وقد سألتْهُ مرّةً ثانية: يا رسول الله أيَعرفُ بعضنا بعضًا يوم القيامة؟ قال: نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواضِع ؛ عند الصِّراط، وعند الميزان، وإذا الصّحف نشِرَت ! في هذه اللَّحظة لو وقعَتْ عَين الأم على ابنها، أو عَيْنُ الابن على أمِّه لا يعرفها، ولا تعرفهُ، وفيما سوى هذه المواقف قد يعرف الابن أمَّه، وقد تعرف الأمّ ابنها، تقول له: يا ولدي لقد كان صدري لك سِقاءً، وحِجْري وِطاءً، وبطني وِعاءً، فهل مِن حسنةٍ منك تجود بها عليّ؟ ماذا يقول الابن؟ ليْتني أستطيعُ ذلك يا أُمَّاه، إنَّني أشْكو مِمَّا أنت منه تشْكين.
لا ينفعك في الآخرة إلا عملك الصالح:
لذلك
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
فيخاطب نفسه ويقول: قومي لقد أرجعناك
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))
فلْينْظر ناظرٌ بِعَقْلِهِ أنَّ الله أكْرمَ محمَّدًا أم أهانهُ حين زوى عنه الدُّنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمَهُ فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا، لا شأن لها عند الله ؛ تافِهَةٌ؟
مِن عدل ورحمةِ الله بعباده الإنذارُ قبل الإهلاك:
نهارك يا مغْرور سَهْوٌ وغفلــــــــةٌ وليـلـكَ نـومٌ والرَّدى لـــــــــــــــك لازِمُ
فلا أنت في الأيقاظ يقْظان حازم ولا أنت في النُّوام ناجٍ فســــــــــالمُ
تُسَرُّ بما يفنى وتفرح بالمُنـــــــــى كما سُرَّ بالـلَّـذات في النوم حــالِم
وتسعى إلى ما سوف تكْرهُ غِبَّــهُ كذلك في الدنيا تعيش البهائـــــــمُ
* * *
هذا الذي يعيش لِوَقته، للذَّتِهِ، لا يعي على خير، لا يرى ما سيكون، لا يُعْنى بالمستقبل، لا يفكر بِساعة اللِّقاء، هذا إنسان عطَّلَ تفكيرهُ، هذا مثلهُ كمثل البهيمة.
لا حظ للشيطان في نزول القرآن:
خطورة الشرك بجميع أنواعه:
أوَّلاً: العلماء اتَّفقوا على أنَّ الشِّرك نوعان ؛ شِرْك جليّ وشِرْك خفي، شرْك ظاهر وشرك باطن، شرْك كبير وشرك صغير، ما هو الشِّرْك الجليّ؟ و ما هو الشِّرْك الكبير؟ و ما هو الشِّرْك الظاهر؟ الشِّرك الظاهر أنْ تدَّعِي جِهةً ؛ جمادًا أو حيوانًا أو إنسانًا أو كائنًا أن تدّعي أنه إله وتُسَوِّيهِ بِرَبِّ العالمين، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
لكنَّ العلماء حمَلُوا هذه الآية على معنًى مُضْمر وهو: إن لم يتوبوا ! إن لم يتوبوا إن الله لا يغفر أن يشرك به.
الحقيقة أصْلُ الشِّرْك اعتِقادُ المُشْرك أنَّ هذا الذي يعْبُدُه من دون الله يستطيع أن ينقذهُ عند المِحَن، ويستطيع أن يشْفعَ له، هذا هو أصل الشِّرك، هؤلاء الذين يعتقدون أنَّ زَيْدًا أو عُبَيْدًا، أو أنَّ هذا الصَّنَم، أو أنَّ هذا النَّوْء، أو أنَّ هذا الحيوان بإمكانه أن يُبارك حياتهم، أو ينقذَهُم من المهالك، إذاً هم يعتقدون بهذه الأصنام أنّها تشفعُ لهم وتنجيهم من عذابٍ مُحَقَّق، هذا أصْل الشِّرْك، اعتقادُ الشَّفاعة، أصْل الشِّرْك فماذا يقول الله عز وجل عن الشَّفاعة؟ قال الله عز وجل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
إذاً ليس في الكون كله جهة تستطيع أن تنقذكَ، أو أن تشْفَعَ لك، أو أن ترقى بك إلا الله عز وجل، فكلّ من يعتقِد أنَّ جهةً من دون الله تستطيعُ أن تُنْجِيك، أو أن ترفعَكَ فهذا شِرْك.
الآية الثانية:
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
سبحان الله ! في القرآن ثلاث آيات مترابطة، الآية الأولى:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾
مفهوم الشفاعة:
شيء آخر ؛ أما شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام هذه لا علاقة لها بهذا الموضوع، لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام سئل: يا رسول الله، من أسعد الناس؟ دقِّقوا في هذا الحديث، لأنَّ مفهوم الشفاعة مفهوم في أصله صحيح، ولكن أصاب هذا المفهوم تشْويهٌ وتزوير وتعطيل إلى الدرجة التي أصبحَت الشفاعة تُسبِّب للإنسان كسلاً، وقُعودًا، وتساهلاً في طاعة الله عز وجل، هذا الذي يعتقدُ خطأً، ويعتقِدُ متوهِّمًا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لن يدخل الجنَّة حتى يُدْخِلَ أُمَّتَهُ قبله ؛ على معاصيهم، وعلى انْحِرافاتهم، وعلى أغلاطهم، وعلى شرْكهم، وعلى عُدْوانهم، وعلى ظلمهم، فهو إنسانٌ واقعٌ في وهْمٍ كَبير كبير ؛ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، ولأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى بعضٍ من أُمَّتِهِ يوم القيامة،
(( فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:
والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول:
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ. ))
خالصًا بها أيْ حَجَزَتْهُ عن محارم الله تعالى، كما ورد "من قال: لا إله إلا اللهُ مخلصًا دخل الجنةَ. قيلَ: وما إخلاصُها؟ قال: أنْ تحجزَهُ عنْ محارمِ اللهِ".
إذاً الشَّفاعة لها معنى صحيح، ورَدَت فيها أحاديث صحيحة، إلا أنّ العامَّة والجهلة فَهِموها فهْمًا مُزَوَّرًا عطَّلوا بها العدالة الإلهِيَة، وعطَّلوا بها سَعْي الإنسان لِمَرضاة ربِّه، إذا مات الإنسان غير مشرِكٍ، إذا كان موحِّدًا، مخلصًا في توحيده اسْتحقَّ شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
ربّنا سبحانه وتعالى لِهَؤُلاء الذين اتَّخذوا أنْدادًا من دون الله يحِبُّونهم كَحُبّ الله، لهؤلاء الذين عبدوا من دون الله جِهاتٍ لا تنفعهم ولا تضرّهم، قال الله عز وجل:
﴿
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ. ))
والآية الكريمة:
﴿
هذا الشِّرْك الجليّ، هذا الشِّرْك الكبير، هذا الشِرْك المهْلِك، هذا الشِرْك الذي يتناقض مع العِبادة، يتناقض مع الدِّين، فما هو الشِّرْك الخفيّ الذي يقع من معظم الناس؟!!
الشرك الخفي صُوَرُه وآثاره السيئة:
الشِّرْك الخفيّ تُؤكِده آيةٌ كريمة وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾
1 ـ عدم التوحيد في الأفعال:
يؤمن بالله وهو مشرك، آمن بالله تعالى خالقًا، آمن بالله مربِّيًا، آمن بالله مُسَيِّرًا، لكنَّه لم يُوَحِّد ربَّهُ في الأفعال، قال: فلان أزْعجني، فلان أغضبني، فلان أعطاني، فلان حرمني، إذا لمْ يُوَحِّد في الأفعال، ويراها كلّها من الله عز وجل فقد وقعَ في نوْعٍ من الشِّرْك الخفيّ.
2 ـ الرياء اليسير:
ما هو الشِّرك الخفيّ؟ العلماء قالوا: الرِّياء اليسير، تقول: هذا من أجل زَيْد، وهذا من أجل عُبَيْد، وتقول هذا الكلام وأنت لسْتَ قانعًا به من أجل فلان، وتغضَبُ غضبًا متصنَّعًا وأنت لست غاضباً من أجل علان، فالرِّياء اليسير نوعٌ من أنواع الشِّرْك الخفيّ.
3 ـ التصنُّع للخَلق:
التَّصَنُّع للخَلْق، كأن تُصَلِّي صلاةً مُتْقَنَةً أمام الناس، وقد تكون غير ذلك فيما بينك وبين نفسك، هذا من الشِّرْك الخفي، التَّصَنُّع للخَلْق تُظْهر الورع والعفة إذا كنت تحت أنظار الناس، فإذا خَلَوْتَ تساهلْتَ في هذا الأمر، فالتَّصَنُّع للخَلْق نوعٌ مِن أنواع الشِّرْك الخفيّ.
4 ـ الحلف بغير الله:
الآن: مَنْ حلفَ بِغَير الله فقد وقعَ بالشِّرْك الخفيّ، كأن يحلِفَ بأُمِّه أو أبيه أو أولاده، بأعزّ ما يمْلك مثلاً، لذا مَن كان حالفًا فلْيَحْلف بالله تعالى، لكنَّ الله عز وجل يقول:
﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
أما أن تحلف بغير الله فهذا نوعٌ من أنواع الشِّرْك الخفيّ.
5 ـ ربط مشيئة الله مع مشيئة العبد:
إذا قلتَ: ما شاء الله وشئْت، ما أراد الله وأردت، هذا شِرْك لأنَّ رجلاً جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: ما شاء الله وشئت، فغضب النبي أشد الغضب وقال: عن ابن عباس:
(( أجعلتني لله ندّا؟ قل: ما شاء الله وحده. ))
فكلمة:
6 ـ نسبة البلاء إلى العبد:
وكلمة هذا من الله ومنك ؛ أنت أصل البلاء، تعتقدُ اعْتِقادًا جازمًا أنَّ هذا البلاء جاءك من فلان بالذات، هذا شِرْكٌ خفيّ، أين الله؟ كيف سمح له أن يفعَلَ هذا؟ كيف سمَحَ له أن يطولك بِكَلماته أو أفعاله؟ إذا اعتقدْت أنَّ فلانًا أو عِلاَّنا بإمكانه أن يصيبَكَ بِشَيء فهذا شرْك خفيّ، هذا من الله ومنك شرك خفي.
7 ـ التوكل على العبد:
إذا قلت: أنا بالله وبك – داخل عليك - هذا شِرْكٌ خفيّ، إذا قلتَ: ليس لي إلا الله وأنت، شِرْك خفيّ:
(( عن أبي هريرة : قال اللهُ تعالَى : أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ تركتُهُ وشِركَهُ. ))
8 ـ المبالغة في تعظيم غير الله تعالى:
إذا قلتَ: لولا أنت لم يكن كذا وكذا !! لولا هذا الطبيب لمات الابن، هذا المحامي لخَسِرنا الدَّعْوَى، ولضاعَ البيت، لولا فلان لكُنتُ في حالةٍ صعبة، إذا عَزَوْت النَّفْع أو الضَّرر إلى إنسان فهذا شِرْكٌ خفيّ، إذا قال شخصٌ لفلان: أنا تائبٌ إليك، فهذا شِرْك، المبالغة في تعظيم غير الله تعالى شِرْك خفيّ .
9 ـ التوبة لغير الله:
أن تعتقد أنَّ هذا الإنسان تنتهي عنده آمالك وهو يرْفَعُك أو يخْفضك فهذا شِرْك، وقعَ أسيرٌ في عهْد النبي عليه الصلاة والسلام فقيل له: تُبْ، فقال هذا الأسير: اللهمّ إنِّي أتوب إليك ولا أتوب لِمُحمَّد ! فعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، وَلا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن الأسود بن سريع :
(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أُتيَ بأسيرٍ فقالَ : اللَّهمَّ إنِّي أتوبُ إليكَ ولا أتوبُ إلى محمَّدٍ . فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ : عرفَ الحقَّ لأهلِهِ. ))
فقال عليه الصلاة والسلام وهو راض بهذا الكلام: عرف الحق لأهله، لا يُتاب إلا لله عز وجل.
10 ـ النذر لغير الله:
مَنْ نذر لغير الله فقد وقعَ في الشِّرك الخفيّ، لأنَّ النَّذر يجب أن يكون لله وحده، هناك آيات كثيرة:
﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)﴾
النَّذْر لله، من نذَرَ لغير الله فقد أشْركَ، الآن: من توكَّل على غير الله، من اعْتَمَدَ على غير الله، من أرْضى غير الله، من أراد غير الله، من توجَّه إلى غير الله ؛ هذا كلّه شرْك خفيّ، ونرْجو الله سبحانه وتعالى أن ننْجُوَ منه جميعًا.
11 ـ التذلل لغير الله:
الآن: التَّذَلُّل لغير الله شرك، الخضوع شرْك، أن تبتغي مرضاة زَيْد شِرْك.
12 ـ حمدُ غير الله على ما أعطاك:
أن تحمَدَ الناس على ما أعطاك الله شرْك، أن تذمَّهم على ما منَعَكَ الله شرْك، ورد:
13 ـ طلب الحوائج من الموتى:
ومن هذا القبيل طلبُ الحوائج من الموتى، إنسان ماتَ، والإنسان إذا مات انْقَطَعَ عمله، فإذا وقفْت على شُبَّاك وليّ، وأمْسَكْتَ بالنافذة، وهززْتها بِعُنْف، وقلت: يا فلان، فهذا شرْك خفيّ، ماذا يفعل هذا الوليّ العظيم القابعُ في قبره؟ والدليل إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال الله في حقِّه:
﴿
إذا كانت هذه حال النبي عليه الصلاة والسلام، قل لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، وهناك آية ثانية:
(( مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو ساحراً أو كَاهِنًا فسأله فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.))
هذا كلّه من الشِّرك الخفيّ.
14 ـ الاعتماد الخالص على الأسباب:
بقي في الشِّرْك الخفيّ موضوع قصير، هو أنَّ بعض العلماء ومنهم الشَّيخ الأكبر في كتابه الوصايا يقول:
العلاقة بين المعصية ونتائجها:
ما معنى قوله تعالى:
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
سورة القصص
مَنْ اعْتمَدَ على ماله ذلّ، ومن اعتمَدَ على نسبه اخْتلَّ، ومن اعْتمَدَ على الله لا ذلّ ولا اخْتلّ، لذلك:
اجْـعَل لـربِّك كلّ عِزّك يستقرّ ويثبـــــتُ فإذا اعْتَزَزْتَ بِمَن يموت فإنَّ عِزَّكَ ميِّــــتُ
* * *
جوهر القرآن التوحيد:
لو تتبَّعْتَ القرآن الكريم في أكثر آياته، تجد أنَّ جوهر القرآن هو التَّوحيد، قال تعالى:
﴿ مِنْ دُونِهِ
هذا هو التوحيد:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
الدِّين كلّه توحيدٌ وطاعة، توحيدٌ وعبادة، أما الشِّرْك فيُسَبِّب الحِقْد، الشِّرْك يُسَبِّب النِّفاق، الشِّرْك يُسَبِّب المعْصِيَة، الشِّرْك يُسَبِّب الحُزْن، والألم، والقهْر، أما إذا وحَّدْت الله عز وجل فقد أُزيحَتْ عنك جِبال من الهموم، لذلك أعراض الشِّرْك كثيرة جداً، كلها أعراض لمرضٍ واحد ألا وهو الشِّرْك، والشِّرك عِلاجه التوحيد، والتوحيد عِلاجه التَفكّر في خلق السماوات والأرض، ومعرفة كتاب الله عز وجل.
الفرق بين اتخاذِ الأسباب والاعتمادِ على الأسباب:
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نُتابع قوله تعالى:
كأنَّني أريد أن أقول لكم: إيَّاكم أن تفْهموا من التَّوحيد ترْك الأخذ بالأسباب، التوحيد أن تأخذ بالأسباب، ولكنَ الشِّرك أن تعتمد عليها، وتنسى الله عز وجل، والقصص التي لا تُعدُّ ولا تُحصى مفادُها أنَّ الإنسان لِمُجرَّد أن يعتمد على ماله، أو على قوَّتِهِ، أو على صِحَّته، أو على أهله، أو على مَنْ حوله، أو على جماعته، عندئذٍ يؤدِّبه الله عز وجل، وإليكم هذه القصَّة الخِتامِيَّة: أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هم أشْرفُ البشر بعد الأنبياء، باعوا أنفسهم لله عز وجل، فَدَوْا نبِيَّهم بأرواحهم، اتَّبعُوه في ساعة العُسْرة، ومع ذلك خاضوا معه بدْراً وأحداً والخندق، وهاجروا، وتركوا أموالهم وأولادهم، وأطاعوا ربّهم، وحينما قالوا والنبي معهم في حنين: لن نُغْلَبَ مِن قِلَّة – أصبحنا كثيرين - واعْتَمَدوا على عددهم، وعلى قوَّتهم بعد فتْح مكَّة كما قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
هذا ملخَّص الملخَّص، إذا كان أصحاب النبي صلوات الله عليه ورضي الله عنهم قد عالجهم الله من الشِّرْك الخفيّ، فَمَن نحن حتى لا نعالج؟!! فلِمُجَرَّد أن تقول: أنا، وقعْتَ في الشِّرْك، وقعت في المطبّ، قل: الله، قل: هذا من فضل ربِّي عليّ، لقد أكرمني ربّي، لقد تفضل عليّ، لقد أرشدني، لقد ألهمني، لقد أعانني، لقد ساعدني، لقد نوَّرني، فلذلك الطبيب الماهر قبل أن يُعالج المريض يقول: اللهمّ إنِّي تبرَّأْتُ من حولي، وقوَّتي، وعلمي، والْتَجَأتُ إلى حولك، وقوَّتك يا ذا القوَّة المتين، الطبيب والمعلِّم والمحامي والتاجر، وأيّ إنسان في أيّ عمل، صاحب الصنعة، قبل أن تقدم على العمل أعلن براءتك من حولك وقوتك، أعلن براءتك من علمك، وقل: يا ربّ، ليس لي إلا أنت، هذا هو التوحيد، فما دُمْت معه فهو معك، كن مع الله تر الله معك، فإذا قلتَ: أنا، وانْفَصَلت عنه، واسْتَغْنَيْت عن الله، واتَّكَلْت على نفْسِك أوْكَلَك الله إيَّاها، هذا شيء مهمّ ودقيق في عالم الإيمان ؛ التَّوْحيد، والذي يتناقض معه هو الشِّرك، نعوذ بالله من الشِّرْك الخفيّ والجليّ.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين