- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
من صفات النبي عليه الصلاة والسلام الإنذارُ:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع عشر من سورة الشُّعراء.
في الدرس الماضي وصلنا إلى قوله تعالى:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾
والعاقل هو الذي يأخذ الحيطَة قبل أن يقَعَ في موقفٍ لا يستطيعُ أن يفْعل فيه شيئًا، أُعَبِّر عن هذا المعنى بكَلمة: بعد فوات الأوان، العاقل هو الذي يحتاط للأمور قبل وُقوعها، والأقلّ من هذا عقلاً هو الذي يحتاط للأمور مع وُقوعها، والعاجز هو الذي لا يحتاط للأمور لا قبل وُقوعها، ولا بعد وُقوعها، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . ))
لذلك أفْرَدَ ربّنا سبحانه وتعالى في هذه الآية صِفَة النبي عليه الصلاة والسلام بأنَّه من المنذرين، وما رسالات الله عز وجل إلى عباده إلا نوعٌ من الإنذار:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
وقال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
لأنَّك مِن بني البشر، ولأنّك إنسانٌ حُمِّلْتَ الأمانة، وأمانتك نفسُكَ التي بين جَنْبيْك؛ هذه الأمانة إما أن ترقى بها إلى أعلى عِلِيِّين، وإما أن يهْوي بها بعض الناس إلى أسفل سافلين، ما دام هناك أمانة فهناك مسؤوليّة، ما دام هناك حريَّة فهناك مسؤوليّة، ما دام هناك تَكليف فهناك مسؤوليّة، ما دام هناك ابتِلاء فهناك مسؤوليّة، ما دام هناك أمر ونهي فهناك مسؤوليّة، فالمسؤوليّة مِن لوازم الأمر والنّهي، من لوازم التَّكليف، من لوازم الابتِلاء، من لوازم الأمانة، والمسؤوليّة شيءٌ خطير جدًّا؛ لماذا؟ لأنَّ الإنسان بعد أن يموت لا يستطيعُ أن يعود:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
لذلك في بعض الآيات وُصِفَ النبي عليه الصلاة والسلام بأنَّه بشير ونذير، ولكن لأنّ الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أفرَدَ صِفة النبي بأنَّه نذير فالإنذار مِن ضِمْنِهِ التَّبشير، أي الإنذار إن فعلْتَ كذا وكذا نَجَوْتَ، وإن لم تفْعَل هلكْتَ، فالإنذار أوْسَعُ مِن التَّبشير.
اللغة العربية لغة من أرقى اللُّغات الإنسانيّة:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)﴾
الله عز وجل في آيتين وصَفَ كلامه بأنَّه عربيّ، لذلك لا بدّ من أن تنْطَوِيَ هذه اللّغة على خصائص تَجعلها من أرقى اللُّغات الإنسانيّة، فهذه اللّغة العربية التي حبانا الله بها لغة لها خصائص كثيرة، طبعًا هذا الذي يتكلَّم العربيّة، هذه نِعْمةٌ لا يعرفها إلا مَنْ فقَدَها، لِسانُكَ عربيّ، وكلام ربّ العالمين بهذه اللّغة العربيّة، تعلُّمُ العربيّة يحتاج إلى جهد كبير، ولكنّ هذا الجهْد على أهل العربيّة يسير، من هنا قال سيدنا عمر رضي الله عنه:
سعَة اللغة العربية في التعبير والإيضاح:
شيءٌ مُهِمّ في هذه اللّغة التي حبانا الله بها أنَّ هذه اللّغة فيها طاقة على التَّعبير واسِعَة، عبَّرَ عنها علماء فقه اللَّغة: " اتِّساع العربيّة في التَّعبير "، وقد ذكرتُ هذا المثل في درس سابق حينما كنتُ أُفسِّر بفضل الله عز وجل سورة يوسف.
الإنسان قد ينظر إلى الشيء، ومع هذا النَّظَر خَوْف، أنت لا تقول: نَظَرَ، ولكن تقول: شَخَصَ، شَخَصَ نظَرٌ مع الخوف، وقد تنظر إلى الشيء وأنت تحب هذا الشيء، النَّظَر مع المحبّة لا يُقال له نظَر، يُقال له: حدَّجَ، وقد قيل: " حدِّث القوم ما حدَّجوك بأبصارهم "، والنَّظر إلى الشيء مع الاستْمِتاع به فهذا لا يُقال له: نَظَر، يُقال له: رنا، رنَوْتُ إلى الشيء، أي أدَمْتُ النَّظَر إليه مع الاستِمتاع به، صار عندنا شخص، وحدَّج، ورنا، والنَظر إلى الشيء مع الدهْشة يُقال: حَمْلقَ، أي ظهر حِمْلاق العَين، والنَّظَر إلى الشيء في ضَوءٍ خافت يُقال له: بَحْلقَ، اتّسع، اتَّسَعَتْ حدقة العَين، وإذا نَظَرْتَ إلى الشيء، ثمَّ اختفى هذا الشيء: لا تقول: نظرْتُ إليه، تقول: لاح هذا الشيء، لاحَ نَجْمٌ في الأفق، لاحَتْ طائرة بين الغيوم، وإذا نظرْتَ إلى الشيء، وتذكَّرْت أنَّ الله سبحانه وتعالى أمركَ أن تغضَّ عنه البصر، لا تقول: لاحَ لي، تقول: لَمَحْتُ، لَمَحَ إذا نظرْتَ ثمّ أعْرضْتَ، ولاحَ إذا ظَهَرَ الشيء ثمّ اختفى، وإذا نظرْتَ إلى الشيء ويداك عليه تتفحَصُهُ يُقال: اسْتشَفَّ، وإذا نظرْتَ إلى الشيء، وأنت تتطاول لِتَرى أبعادهُ يُقال: اسْتشْرفَ، وإذا نظرْتَ إلى الشيء مع احْتِقارهِ يُقال: نظر إليه شَزَرًا، وإذا نظَرْتَ إلى الشيء مع المسؤوليّة يُقال: شاهَدَ، ومنه الشاهد، وإذا كانت رؤيتُكَ ليْسَتْ بصَرِيَّةً، بل هي قلبِيَّة يُقال: رأى، فَشَتَّان بين رأى، وبين شاهَدَ، وبين نظرَ شزَرًا، وبين لمَحَ، وبين لاحَ، وبين شَخصَ، وبين حدَّج، وبين اسْتشفّ، وبين استشرف، مِن أولى صفات لغتنا العربيّة بِفَضل الله عز وجل أنَّها تمتَلِكُ قدرةً واسعة على التَّعبير، هذا عبَّرَ عنه بعض العلماء بكلمة: " اتِّساع العربيّة في التعبير "، أي بَدَلَ أن تستخْدم كلمتين للتَّعبير عن معنى دقيق تستخدم كلمةً واحدة، لأنّ لكلّ حالة من هذه الحالات كلمة تُوافقها تمام الموافقة، ربنا عز وجل قال:
اللغة العربية حروف لها معانٍ:
صفة أخرى أنَّ في هذه اللّغة العربيّة حُروفها لها معانٍ، لو أخذت الحرف من حروف هذه اللّغة تشعر أنّ هذا الحرف يوحِي لك ببعض المعاني، فَحَرفُ السِّين في أيّ كلمة يوحي إلى السامع أنَّ الشيء فيه شيءٌ نفسي داخِلِي، الحسّ، النَّفس، الأنس، اللَّمس، الهمْس، أية كلمة فيها حرف السِّين تشعر أنّ في هذه الكلمة معنى أساسه نفسي، همسَ في أذنه، أسرَّ له، سرّ، أسرّ، همس، لمس، أحسّ، أنِسَ، فالحرف وحده في هذه اللَّغة التي حبانا الله بها له دلالته، حرف الغين مثلاً، هذا الحرف يعني الغَيْبوبة، غابَ، غرِقَ، غيبة، حرف الراء فيه معاني التَّكرار، مرَّ – حدث يتكرر - جرَّ، كرَّ، بعضهم قال: إنَّ كلمة غَرِقَ حينما غاب هذا الشَّخْص عن الأنظار وُضِعَتْ الغَين، وحينما تتالى سُقوطهُ وُضِعَتْ الراء، وحينما ارْتَطَمَ بالقاع وُضِعَتْ القاف، وفي حرف القاف تعبير عن الاصْطِدام والصَّوت، طَرَقَ، لصَقَ، إذًا الصِفة الأساسية الثانية في هذه اللّغة العربيّة التي اختارها الله لكَلامه أنَّ هناك معاني متعلقةً بِحُروفها وحدها.
من خصائص اللغة العربية الاشتقاق:
شيء آخر؛ الاشتقاق في اللّغة العربيّة شيءٌ لا يُصدَّق، معنى الاشتقاق أنّ هناك أوزاناً، وزْن فاعِل على من قام بالفِعل، هذا الوزن له صِيَغ مبالغة، وزن فاعول أي فاروق، فعيل ككريم، ومِفعال كمِفضال، وفعِل كَحَذِر، هناك صيغة لاسم الفاعل، وهناك صِيَغ لِمُبالغة اسم الفاعل، هذه كلّها قوالب يمكن أن يوضع فيها أيّ فِعل، هناك أوزان، هناك بُنَى - جمع بنية، هذه الأوزان وتلك البُنَى في اللغة العربية تستطيعُ بها أن تتَّسِعَ في إحداث المفردات اللازمة، هناك اسم الفاعل، وهناك صِيَغُ مبالغة اسم الفاعل، وهناك الصِّفة المشبّهة باسم الفاعل، وهناك اسم المفعول، وهناك اسم المكان، وهناك اسم الزَّمان، وهناك اسم الآلة، وهناك اسم التَّفضيل، وهذه كلّها قوالب يمكن أن يوضَع فيها أي فِعل؛ كَتَبَ في الماضي، يكتبُ في المضارع، اكْتُب في الأمر، كاتب اسم فاعل، مكتوب اسم مفعول، مكتب اسم مكان، مكتب اسم زمان، آلة كاتبة اسم آلة، عرف يعرف اعرِف وعارف ومعروف وتعريف وعرَّاف، هناك المصادر والأفعال الماضية والمضارعة والأمر والمشتقات وأسماء الفاعلين وأسماء المفعولين واسم المكان واسم الزمان واسم التفضيل واسم الآلة، وهناك الأفعال والأسماء وأسماء الأفعال، إذاً في هذه اللّغة العربيّة اشتقاقات.
مثال عن أهمية الاشتقاق وفائدته:
لذلك قال ربّنا سبحانه وتعالى:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
فرْق كبير بين كسِبَ واكْتَسَبَ، العلماء قالوا: أيَّة زِيادةٍ في المَبْنى دليل زِيادةٍ في المعنى، قاعدة، لماذا ربّنا قال: لها ما كسبَت؟ ولماذا لم يقل: وعليها ما كسبت؟ أو لماذا لم يقل: لها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت، لماذا قال:
من خصائص اللغة العربية أسلوب الحصر والقصر:
هناك في اللُّغَة أشياء دقيقة جدًّا، لمَّا قال ربّنا سبحانه وتعالى:
﴿
مِن أجل أن تعْلَمَ كيف أنَّ هذه اللُغة دقيقة، وكيف أنّ هذا الكلام كلام ربّ العالمين، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ هل هناك احْتِمالات أخرى لِصِياغَة هذا المعنى؟
أول احتمال:
سوف نُغَيِّر العِبارة: وما دابَّةٌ – نكرتها - إلا على الله رزقها، حَذَفنا كلمة مِن، ماذا تعني كلمة مِن؟ لو دَخَلَ أستاذ على الطُّلاب قال: ما طالبٌ إلا وسأُعْطيهِ مُكافأةً في هذا الأسبوع، وأمامه خمسة وثلاثون طالبًا، إلا أنَّ خمسة منهم كانوا غائِبين، عندما قال: ما طالبٌ إلا وسأُعْطيهِ مُكافأةً، هو هنا يقصِد هؤلاء الطلاب، أما إذا أضاف كلمة مِنْ فهذه لاسْتِغراق أفراد النَّوع واحِدًا وَاحِدًا، لو قال: ما من طالب إلا وسأُعْطيهِ هدية، أي شمَلَ الطلاب الحاضرين والغائبين، فلمَّا ربّنا قال: " وما مِن دابَّة " صار معنى الكلام أنّه أيّة دابّة واحدةً وَاحدةً في الكون على الله رِزقها، هنا اسْتفدنا من "دابة " لأنَّها نكرة، واسْتفدنا من كلمة " مِنْ " لاستغراق أفراد النوع، لو ألْغَينا الاستثناء والنّفي قلنا: الدواب على الله رزقها، ألغينا من دابة إلا، ألغينا النَّفي والاستثناء، ماذا يعني النَّفي والاستثناء؟ إذا قلت مثلاً: شَوقي شاعِر؛ معنى ذلك أنَه شاعر، وقد يكون كاتِبًا، وقد يكون تاجِرًا، وقد يكون موظَّفًا، أما إذا قلت: ما شَوقي إلا شاعرٌ، قصَرْتَ شَوقي على الشِّعر، إذا قلتَ: ما شاعرٌ إلا شَوقي، قصَرْت الشِّعر على شوقي، هذا توضيح،
﴿
الفرْق كبير بينهما، إذا قلتَ: نعبدُ إيَاك، أيْ نعبُدك يا ربّ، وقد نعبُد غيرك، أما:
نِظام اللّغة العربية نِظام أُسَر:
شيء آخر؛ عندنا في اللغة العربية غير الاشتقاق، فعل ماض، مضارع، أسرة لها جدّ، وهو المصدر، الكتابة، له ابن، الفِعل الماضي، المضارع، الأمر، اسم الفاعل، صِيَغُ مبالغة اسم الفاعل، اسم الآلة، اسم المفعول، اسم المكان، اسم الزمان، الصفة المشبّهة، هؤلاء كلّهم أولاده، نِظام اللّغة العربية نِظام أُسَر، نُسمِّيها الأسرة باللُّغة العربيّة: المادَّة، افْتَح المعجم مواد، مادَّة عَلِمَ: تجد فيها مصادر وأفعال وأسماء وأقوال.
من خصائص اللغة العربية النحتُ:
يوجد شيء آخر؛ عندنا باللغة العربية شيء اسمُهُ: النَّحْت، فلان قال: سبحان الله، تقول: سبحل فلان، بدَلَ أن تقول: قال فلان: سبحان الله، تقول: سَبْحَلَ فلان، قال: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، تقول: حَوْقَلَ، قال: الله أكبر، تقول: كبَّرَ، قال: لا إله إلا الله، تقول: هلَّلَ، قال: أدام الله عِزَّكَ: دَمْعَزَ، أي ممكن أن تأخذ كلمة مِن مجموعة كلمات، وهذا اسمهُ أيضًا النَّحْت.
من خصائص اللغة العربية ظاهرة تغير المعنى بتغيّر الحركات:
في اللُّغة العربيّة ظاهرة الحركات، انظر إلى كلمة قَدِمَ أيْ حضَرَ، أما قَدُمَ فمعناها أصبَحَ قديمًا، اختلف المعنى، قَدَم سبقه بقدمه، كلمة برّ تعني اليابسة، وأما كلمة بُرّ فهي القمح، وكلمة بِرّ تعني الإحسان، كلمة خَلْق تعني البُنْيَة، وكلمة خُلُق تعني الأخلاق، والخَلِق الشيء المهترئ، حركة واحدة، منصِب معروف منصَب اختلف الأمر، شتان بين المَنْصِبَ والمَنْصَب، حركة، ينتقل المعنى مئةً وثمانين درجة، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا جاءه الأعرابي قال له: يا رسول الله عِظني وأوْجِز؟ قال:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
فقال: كُفيت – والله تكفي هذه الآلة - فقال عليه الصلاة والسلام: فَقُهَ الرجل، لم يقل: فقِه الرجل، شتَّان بين فَقِهَ وبين فَقُهَ، إذا قال: فَقِهَ أيْ عرَفَ الحُكْم، أما فَقُهَ أيْ أصْبَحَ فقيهًا، الفِعْل الثلاثي مضموم العَيْن له معنى الاتِّخاذ، أي أصبح فقيهاً، حَسُن وكَرُمَ أيْ أصبح كريمًا، أما فقِهَ فتعني عرف هذا الحُكم، دقة اللغة.
من خصائص اللغة العربية الإعراب:
عندنا الإعراب، إذا قلت مثلاً في الوصية: فلان له عليّ ألف درهم ونصفُهُ، يا ترى ألف وخمسمئة درهم أم ألف ونصف درهم؟ بِحَسب إعراب هذا الضَّمير، إن أعدْتهُ على الألف فالوصيّة ألف وخمسمئة درهم، وإن أعدْتهُ على الدِّرهم فالوَصِيَّة ألف ونصف درهم، إذًا دِقَّة العربيّة متناهِيَة في هذا المجال، مُتَعَهِّد قدَّم مشروعاً، وخُصِمَ له من هذا المشروع خمسمئة ألف ليرة، لأنَّ مواصفاته أقلّ مِمَّا يجب فأقام دعْوى، واحْتَكَم الطَّرفان لِمَجمع اللَّغة العربيّة، هو يقول في المواصفات: سأُقدِّم المواد مِن أجْود الأنواع، فَمِنْ هذه تعني التَّبعيض، لا تعني أنَّه يُقدِّم أجْودَ الأنواع، من أجود، فَمِن معاني كلمة " مِن " كَسِبَ الدَّعْوَى، اللّغة شيء دقيق جدًّا، حينما تفهم كلام الله بِهذه الدِّقة، قال تعالى:
﴿
من للتبعيض، لولا ( مِنْ ) لَهَلَكْنا جميعًا، يغضون أبصارهم عن زَّوجاتهم أيضاَ وعن أمهاتهن، وعن أخواتهم، وعن بناتهم، وعن أية امرأة لا تحل لك، أما مِن فتعني غضَّ البصر عن بعض النِّساء أيْ الأجنبِيَّات، أما أمَّك وابنتك وأختك وعمّتك وخالتك وزوجتك فلا حرجَ عليك، لكن لا يوجد: وليحفظوا من فروجهم، فلْيحفظوا فروجهم، أيّ خلل هناك فهو معصيَة، لماذا جاء غضّ البصر قبل حِفظ الفرج؟ لأنَّ غضّ البصر طريق إلى حفظ الفرْج.
لو وقفْتَ عند كلمات القرآن كَلمةً كلمةً، حركةً حركةً، تقديمًا أو تأخيرًا، إيجازًا أو تفصيلاً، تعريفًا أو تنكيرًا:
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
قدَّم الإناث تَكريمًا لهنّ، وأخَّر الذُّكور، لكنه عرَّف الذّكور، فالإناث جاءتْ سابقة ولكنَّها منكَّرة، والذكور جاءَت معرَّفة ولكنّها متأخِّرة.
مِن هذا القبيل هناك آلافُ آلاف القضايا اللُغَوِيَّة في القرآن بحَيث يعْجز الإنسان عن أن يخْطُرَ في باله أنَّ هذا الكلام ليس كلام الله عز وجل، كلَّما تعمَّقْتَ في اللُّغَة وجدْت هذا القرآن لا يمكن لِبَشر أن يأتي بِمِثلهِ، طبعًا هذا من الإعجاز اللُغوي.
من خصائص اللغة العربية الإحكام:
القرآن فيه أبواب كثيرة لا يعلمهُا إلا الله، في إعجازه العِلمي، وفي إعجازِهِ البياني، وفي إعجازه اللّغوي، كلّما ازْددْتَ عقلاً وفهْمًا لهذا الكتاب عرفْت كيف أنَّ هذا القرآن كلام الله عز وجل، وكيف أنَّ الله تعالى يقول:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)﴾
وقوله تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)﴾
كيف أنَّ الله تعالى يقول:
﴿
وقوله تعالى:
﴿
أيْ كأنَّ الكتاب يُعادل السماوات والأرض، هذا خلْقُهُ، وهذا منهجهُ وكلامه، وهذه أفعاله، ولا بدّ من أن تتوافقَ أفعاله مع أقواله، مع منهجه، مع خلْقِهِ.
من خصائص اللغة العربية الأوزان:
عندنا الأوزان كذلك، مثلاً وزن فَعَل شيء، ووزْنُ فاعَلَ شيء آخر؛ فهذا فيه المشاركة كقاتَلَ وخادع وقاوَمَ وناضَل وراسَلَ؛ كلّها تفيد معنى المشاركة، تقول: كسَّرَ، قال تعالى:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ
مبالغة؛ قطَّعْتُ اللَّحم، قطَع اللحم شيء وقطَّعَه شيءٌ آخر، وزْنُ فَعَّلَ غير وزْن فَعَلَ، غير فاعَلَ، غير اسْتَفْعَلَ، وزْنُ الثُّنائي المضعَّف:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)﴾
عَسْعَسَ، قَلْقَلَ، جَرْجَرَ، تشعر أنَّ هذا الوزن له معنى التتالي، أي الحديث عن الأوزان لا ينتهي، وعن الإعراب لا ينتهي، وعن الأفعال، وعن الاشتقاق الصغير، والاشتقاق الكبير، وعن النَّحت، وعن مناسبة الحروف لمَعانيها، وعن اتِّساع العربيّة في التَّعبير، قال ربنا عز وجل:
القرآن الكريم مذكور في كتب الأنبياء السابقة:
وبعضهم قال: الهاء تعود على النبي عليه الصلاة والسلام. إما أنَّ القرآن مَذْكور في الكتب السماويّة السابقة، وإما أنَ اسم النبي عليه الصلاة والسلام مذكور في الكتب السابقة.
القرآن الكريم كتاب من عند الله عز وجل:
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
لأنَّ اسم النبي عليه الصلاة والسلام وردَ في الكتب السابقة:
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
هذا نص القرآن الكريم، ففي الكتب المقدَسة اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا بَحثٌ يَطُول،
معالجة الآية التالية أخْطَر موضوع في اللّغة:
أما الآية التالية فإنها تُعالِج أخْطَر موضوع في اللّغة:
من لم يطلب الحقيقة فلن يتأثَّر بها:
أما الشيء الدقيق
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ
آية ثانية:
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنَ الإنسان إذا لم يُرِدْ معرفة الله عز وجل فهذا الكلام لا يؤثِّرُ فيه، معنى ذلك أن الإنسان إن لم يطلب الحقيقة فلن يتأثَّر بها إذا سَمِعها.
إنسان داخل إلى غرفة يريد شيئًا، يريد كتاباً أو مفاتيح، أعْطه رسالة لا يقرؤها،، وإن قرأتَها أمامه فلن يسْمعها، هو بعيدٌ عنها، هو في عالم آخر، في اهْتِمام آخر، في جوّ آخر، في هموم أخرى، لذلك مَن جَعَلَ همومه همًّا واحدًا كفاهُ الله الهموم كلّها، والإنسان يفْهم إذا تطابق همّهُ مع هذا الشيء المسْموع. أحيانًا طالبٌ في صفّ من صفوف الجامعة عنده كِتاب مُقرَّر يشْغَلُ همَّهُ كلّه، ولو قرأْتَ عليه كتاباً آخر فلن يفْهمُ منه شيئًا، كأنَّ الله عز وجل يقول: مع أنَّ هذا الكتاب بلِسانٍ عربيٍّ مُبين، مع أنَّ هذا الكتاب فيه الإعجاز العِلمي، وفيه الإعْجاز البلاغي، والإعجاز اللُّغَوي، والإعجاز التشريعي، والإعجاز التاريخي، والإعجاز الحِسابي، مع أنّ هذا القرآن فيه شيء لا يصدق، لو قرأهُ إنسان وهو لا يريد أن يعرف الحقيقة لا يفْهَمَ منه شيئًا، ولا يؤثِّرُ فيه:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)﴾
قلبه مغلق، مغلف، وقال تعالى:
﴿
الكُفْر يُغَلِّف القلب، لذلك هذا القرآن يحتاج إلى صفاءٍ، إلى اسْتِقامةٍ.
أريد أن تكون هذه الآية واضحة في أذهانكم، معنى هذه الآية أنَّ الإنسان ما لم يبْتَغِ الهدى، ما لم يبْحث عن الحقيقة، ما لم يطلب معرفة الله فإنَّه لا يسمعَ شيئًا، نفسُهُ في واد، والحق في واد آخر، نفسُهُ مشْغولةٌ بِهُمومها، وشَهواتها، ونزواتِها، والحقّ في جِهَةٍ أخرى، ما لم يطلب الإنسان الحقيقة، ما لم يبحث عنها، ما لم يرْغب في الوُصول إليها فإنَّ الطريق أمامه مَسْدودة، فالرَّغبة الداخلية هي الشَّرْط الأوَّل، لذلك العالِم مهمَّتُهُ أن يوجِدَ هذه الرَّغْبة بالبحث عن الحقيقة، قبل أن يُعْطِيَ الحقيقة، لو أعْطَيْتَ الحقيقة والمسْتَمِعُ لا يرْغب فيها ما أفادتْهُ شيئًا، يجب أن تجعلَه يبحث عنها، فإذا ملَّكْتهُ إيَّاها تملَّكها، هذا معنى الآية.
من العقل والذكاء التعاملُ مع الخطر قبل وقوعه:
ولكن معنى الآية الثانية:
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. ))
البهائم والعاجزون والأغبياء متى يفهمون؟ عند الغرق:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
عند الغرق، عند المصيبة، عند تلف المال كله، تعامل بالرِّبا فأتلف الله ماله، عند تلف المال يقول: والله، هذا صحيح، حق، الربا حرام، حينما تخونه زوجته يتركها تفعل ما تريد، حينما يكتشف خِيانة زوجتِهِ له يقول: والله عدم الاختلاط حق، لا يؤمن إلا بعد أن يدْفَعَ الثَّمَن باهِظًا، وقد يكون الثَّمَن أحيانًا حياته، لذلك ماذا قال الله بِحَقّ هؤلاء؟
﴿ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) ﴾
والحمد لله رب العالمين