- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (026)سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
اكتساب الشيء قيمتهُ من نِسْبتِهِ :
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث عشر من سورة الشُّعراء.
في الدرس الماضي أيها الأخوة الأكارم أَنْهَيْنا سابع قِصَّة من قصص سورة الشعراء، وقبل أن ترِدَ هذه القِصص تِباعًا بدأ ربّنا سبحانه وتعالى السورة بِقَوله الكريم:
فائدة القصص السبع الواردة في سورة الشعراء:
1 - المكذب مصيره الهلاك:
هذه القصص السَّبع ماذا أفادَتْنا؟ أفادتْنا أنّ كلَّ مَن يكفر، وكلّ من يكذِّب، وأن كل من يتحدَّى الخالق مصيرهُ الهلاك والدَّمار، بِشَكل أو بآخر ما الذي أهْلَكَ المُكَذِّبين؟ جَهلُهم بالله عز وجل، هذا الذي أقوله كلّ يوم.
2 ـ الجهل أعدى أعداء الإنسان:
إنَّ أعدى أعداء الإنسان هو الجهل، لأنَّ فِطرة الإنسان فطرة مركوز فيها حب الخير، مركوز فيها الإيمان بالله، مركوز فيها الانضِباط على أمره، مركوز فيها التوكّل عليه، فحينما يؤمن الإنسان بالله عز وجل تَهدأُ نفسُه، وتطْمئن، وتستقر، وتسْعَد، وترْضى، إذاً الفِطرة تُعينك على الإيمان بالله، عقلك يُعينك على الإيمان بالله عز وجل، الكون يُعينك على الإيمان بالله، الكتاب يُعينك على الإيمان بالله عز وجل، أبواب الخير التي فتحها الله عز وجل تُعينُكَ على التَّقرّب إليه، ما الذي يحول بينك وبين أن تكون سعيدًا في الدنيا والآخرة؟ إنَّه الجهْل، لذلك سأرْوِي لكم بعض أقوال العلماء فيما يتعلّق بالعِلم.
3 ـ العلم أساس الإيمان:
يقول أحد العلماء: العِلم إنْ لم يصْحب السالك من أوَّل قدَمٍ يضَعُهُ في الطريق إلى آخر قدَمٍ ينتهي إليه، فَسُلوكُهُ على غير الطريق، وهو مَقطوع عليه طريق الوصول إلى الله عز وجل، مَسْدود عليه سبيل الهُدَى، أي الشيء الوحيد الذي اعْتَمَدَهُ القرآن الكريم كَقِيمة يتفاضل بها العِباد إنه العِلم، قال تعالى:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ
الشيء الوحيد الذي أمرنا الله أنْ نزْداد منه هو العِلم:
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ
إذا أردْت الدنيا فَعَلَيك بالعِلْم، وإذا أردْت الآخرة فَعَلَيك بالعلم، وإذا أردْتهما معًا فعليك بالعِلْم، والعِلم لا يُعْطيك بعضهُ إلا إذا أعْطَيْتَهُ كلَّك، فإذا أعْطَيْتَهُ بعضك لم يُعطِكَ شيئًا، ويظلّ المرء عالمًا ما طلب العِلْم، فإذا ظنَّ أنَّه قد عَلِمَ فقد جَهِلَ، لا ينْهَى عن العِلْم- كما قال بعض العلماء- إلا قُطَّاعُ الطُرق، ونُوَّابُ إبليس، هذا الذي ينْهاك أنْ تفْهَمَ القرآن، هذا الذي ينْهاك عن أن تفْهَمَ سنّة النبي العدنان، هذا الذي يصْرفُكَ عن عِلْم لا طائل فيه؛ لا ينْهَى عن العِلْم إلا قُطَّاعُ الطُرق ونُوَّابُ إبليس.
4 ـ كل الطرق مسدودة على الخَلق إلا طريق النبي عليه الصلاة والسلام:
يقول الإمام الجُنَيْد - رحمه الله تعالى – وقد كان من كِبار العلماء:
وقال عالمٌ آخر:
5 ـ لابد للمواقف والأعمال من ميزان :
عالمٌ آخر يقول: من لم يَزِن أفعاله، لماذا وَقَفْت هذا الموقف؟ لماذا أعْطَيتَ؟ لماذا تبسَّمْتَ؟ لماذا منعْت؟ لماذا غضبْت؟ لماذا رضيت؟ لماذا وصَلْت؟ لماذا قطَعتَ؟ الإنسان يقف مواقف مواقف الرّضا، مواقف الغضب، مواقف العَفْو، مواقف الثَّأْر، مواقف الاسْتِسْلام، مواقف العَطاء، مواقف المَنْع، مواقف المديح، مواقف الهِجاء، هذه المواقف الكلاميّة والفِعْليّة والقلبيّة؛ هذه المواقف يجب أن تزِنَها بِميزان، من لم يَزِن أفْعالهُ وأحواله؛ لماذا أنا خائف مع أنَّ الأمر بيَدِ الله؟ إذًا في أحوالي خلل، لماذا أنا يائس مع أنّ الله سبحانه وتعالى بيَدِهُ كلّ شيء؟ إذاً هذه الحال التي أُعانيه حال فيها خلل، مَنْ لمْ يَزِن أفعاله وأحواله في كلّ وقتٍ بالكتاب والسنَّة فلا يُعَدُ في ديوان الرِّجال، الرَّجُل الذي يزِنُ أفعاله، ويزن أقواله، ويَزِنُ أحواله في ضَوء الكتاب والسنَّة، فإن جاءَتْ موافقةً لأوامر الله فهو على حق، وإلا فليسَ من ديوان الرِّجال.
ويقول عالمٌ آخر:
6 ـ حسنُ الأدب والهيبة مع الله تعالى واتباع رسول الله:
ويقول بعض العلماء:
ويقول عالمٌ آخر:
وابن عطاء الله السَّكَنْدري يقول:
7 ـ معرفة طريق الحق وسلوك جادته:
من علِمَ طريق الحق سَهُل عليه سُلوكهُ، أي الطريق إلى الله طريق مُسْعِدَة، ولكن أوَّل شيءٍ فيها أن تعرف معالِمَها، كيف تمشي فيها وأنت لا تعرفها؟ معرفة أنَّ هذا العمل يوصِلُ إلى الله، وأنَّ معرفة كلام الله تعالى توصِلُ إليه، وأنّ قِراءة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تَجعلُكَ أمام المَثَل الأعلى الذي ينْبغي أن تقْتَدِيَ به، وأنَّ إنْفاق المال يُقَرِّب إلى الله تعالى، وأنَّ غضّ البصر عن محارِمِ الله يُؤدِّي إلى رِضا الله عز وجل، لا يمكن أن تسْلُكَ الطريق قبل أن تعرفهُ، لذلك معرفة الطريق إلى الله فرْضُ عَين على كلّ إنسان، كيف تمشي في الطريق وأنت لا تعرفُه؟! يجب أن تعرف الطريق إلى الله، من علِمَ طريق الحق سَهُل عليه سُلوكهُ: عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب :
(( صدقةُ السرِّ تطفئُ غضبَ الربِّ. ))
باكِروا في الصَّدَقة فإنّ البلاء لا يتخطَّاها، وفي الحديث: عن أبي ذر الغفاري :
(( اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السَّيِّئةَ الحسَنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ. ))
أي إذا عرفْتَ كيف تُعالجُ نفْسَك؟ كيف تُقبِلُ على ربّك؟ كيف تتلافى أخطاءَكَ؟ كيف تتُوبُ من ذنْبِك؟ كيف يرْضى الله عنك؟ كيف لا يرْضى؟ هذا شيءٌ مهمّ جدًّا؛ هو فرْضٌ عَيْن، وشيءٌ خطير ومصيريّ في حياة الإنسان: مَنْ علِمَ طريق الحق سَهُل عليه السُلوك فيه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أحواله وأقواله وأفعاله.
8 ـ ضوابط حال الإنسان:
الآن هذه الأحوال التي يُحِسُّها الإنسان، التي يشْعر بها، يجب أن يكون لها ضابط، وإلا قد تودي بِصَاحِبها إلى الهلاك، فيقُول أحد العلماء: أفضَلُ الأحوال ما قارنَهُ العِلم، أي حال من دون عِلم مُحَرّك من دون مِقْوَد، محرك قوي من دون مقود، فهذه المرْكَبة مصيرها إلى الهلاك، لابدّ من أن يكون التَوْجيهُ صحيحًا حتَى نسْتفيد من دَفْع الحال، الحال يدفَع، والعِلم يُوَجِّه، فإذا كان الدافِعُ قَويًّا، والتوجيه مُخِلاً أوْدى بِصاحِبِه إلى الهَلاك، إذا كان التوجيه صائباً، وليس هناك دافِع، بَقيَ الإنسان في أرضِه، إذاً لابدّ من دافِعٍ، ولابدّ من مُوَجِّه، العِلْم هو المُوَجِّه، والحال هو الدافع.
ويقول بعض العلماء: كلّ حالٍ لا يكون عن نتيجة عِلْمٍ فإنَّ ضَرَرَهُ على صاحِبِه أكثرُ مِن نَفْعِهِ، أي الحال الذي لا يكون نتيجة معرفةٍ بالله، نتيجة اسْتِقامة على أمره، نتيجة عمل الصالحات، الحال نتيجة طبيعيَّة لما بُذِلَ في سبيل الله تعالى، فإذا لم يكن الحال نتيجةً طبيعيَّة، تاجًا تُتَوَّج به الأعمال الصالحة والانضِباط التامّ فإنَّ هذا الحال خَطِرٌ على صاحِبِه.
والعِلم الحقيقيّ ما قام به الدليل، والعِلْم النافِع ما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم، عِلْمٌ من دون دليل لا قيمة له، هذا هَذَيان، تخْريف، إلقاء الكلام على عواهِنِه، كلام غير مسؤول، كلامٌ لا ينفعُ، كلام لا يُجْدي، عِلمٌ من دون دليل، وما كلّ عِلْمٍ بِنافِعٍ، العِلْم النافِع ما جاءنا عن النبي عليه الصلاة والسلام، العلم ما قام عليه الدليل، والعِلْم النافِع ما جاءنا عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ويقول بعضهم: العِلم خير من الحال، الحال فُقاعَة صابون تأتي وتذهب ولا ضابِطَ لها، ولكنَّ العِلْم حِصْنٌ حصين، << يا بنيّ - كما قال الإمام علي كرَّم الله وجْهه -العِلْم خير من المال، لأنَّ العلم يحْرُسك، وأنت تحرْسُ المال، والمال تنْقصُه النَّفَقَة، والعِلم يزْكو على الإنفاق، يا كُمَيل ماتَ خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقِيَ الدَّهر، أعْيانهم مفقودة، وأمْثالهم في القلوب موجودة >> فالعِلْم خير من الحال، العلم حاكم، والحال محْكومٌ عليه، العِلم قائِد، والحال مَقود، العلم هادٍ، والحال تابِع، العلم آمر ناهٍ، والحال منفِّذٌ قابل، الحال سيْف إن لم يصْحَبْهُ العِلم فهُوَ مِخراقٌ في يد لاعِب، أي الحال من دون عِلم خطير جدًّا، مِخْراقٌ في يد لاعِب، هؤلاء الذين لا يعْتدّون بالعِلم، ولا يتأثَرون به، ولا يُقيمون له وزْنًا؛ هؤلاء خطيرون في أقوالهم وأفعالهم، الحال مرْكب لا يُجارى، مركب سريع، فإن لم يصْحَبْهُ عِلمٌ ألقى صاحبَهُ في المهالك، الحال كالمال يُؤتاهُ البرّ والفاجر، فإن لم يصْحَبْهُ نور العِلم كان وبالاً على صاحبِه.
ما أريد مِن كلّ هذه الأقوال إلا أن أُرسِّخَ فِكرةً أساسيّة هو أنَّ أعْدى أعداء الإنسان هو الجَهل، الذي يُردي الإنسان، الذي يهْلِكُهُ، الذي يُشْقيه جهلهُ، فلذلك طلب العِلْم فريضة على كلّ مسلِم، أيْ على كلّ شَخصٍ مسْلمٍ ذكرًا كان أو أنثى، على كلّ من اتَّصَف بالإسلام ذُكورًا وإناثًا.
نَفْعُ الحال لا يتَعَدَى صاحِبَهُ، النبي عليه الصلاة والسلام رأى إنسانًا يُصَلِّي في النَّهار، فسأله عليه الصلاة والسلام: من يُطْعِمُكَ؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك ! لأنّ الحال ينفعُ صاحبَهُ فقط، لكنَّه جاءهُ رجل يشْكو شريكَهُ فقال عليه الصلاة والسلام عن أنس بن مالك :
(( أن أخوَينِ على عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان يحترفُ أحدُهما والآخرُ يلزمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فشكا المحترفُ أخاهُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال النبيُّ : لعلك تُرزقُ بهِ. ))
لأنَّ شريكهُ كان في طلب العِلْم، فالذي يطلب العِلْم يطلبُه لِمَجْموع البشر، بين أن تنتفِعَ وحدَك وبين أن تُصبِحَ أمَّة، بين أن تكون فرْدًا وحيدًا بِعِبادتك، وبين أن تُصبِحَ أمَّةً بِعِلْمِكَ، لذلك طلب العِلْم فريضة على كلّ مسلم، فَنَفْعُ الحال لا يتعدَّى صاحبهُ، ونفْعُ العِلم كالغَيْث يقَعُ على التِّلال والوِهاد، يقَعُ على الآكام وبطون الأوْدِيَة، وعلى منابت الشَّجر، يُغيث كلّ شيء، العِلم هادٍ، والحال الصحيح مهْتد به، وهو تَرِكَة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دِرْهمًا ولا دينارًا ولكن ورَّثُوا هذا العِلْم، فمن أخذ منه بِنَصيب فقد أخذَ بِحَظِّ وافر، اللهُ عز وجل أعطى الملك لِمَن لا يحِبَّه، وأعطى المال لِمَن لا يحِبّه، قال تعالى:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
لكنَّ الذي يُحِبُّهُ ماذا أعطاهُ؟ أعطاه الحكمة والعلم، قال تعالى:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)﴾
9 ـ العلم أعظم الضوابط لحال الإنسان :
العلم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصُّدور، ورياض العقول، ولذّة الأرواح، وأُنْس المسْتَوْحِشِين، ودليل المُتَحَيِّرين، وهو الميزان الذي توزَنُ به الأقوال والأعمال والأفعال، وهو الحاكم المفرِّق بين الشكّ واليقين، والغيّ والرشاد، والهدى والضَّلال، به يُعْرف الله عز وجل، وبِهِ يُعْبَد، بِه يُذكر، به بوحد، به يُحمَدُ، به يُمجَّد، بالعِلم، لذلك حُضور مَجلس عِلْم حَتْمٌ واجب على كلّ مُسلِم، من يتعلَّم من دون مجلسٍ عِلم؟ لا بدَّ مِن مَوْرِدٍ لك، لابدّ من مشرب لك، لابد من وقتٍ تُخَصِّصُه لِطَلب العِلم، بِرَبِّكم هل في الأرض كلِّها إنسان أصبحَ يحْمِلُ دكتوراه من دون أن يذْهب إلى الجامعة؟ من دون أن يفْتَحَ كِتابًا؟ من دون أن يقرأ؟ من دون أن يقتَطِعَ من وقْتِهِ الثَّمين ما يطلب به العلم؟ هذا الذي يتمنَّى أن ينال كلّ شيءٍ من دون شيء لا ينال شيئًا، هذا إنسان حالم، إنسانٌ تائِه، إنسان ليس ذكِيًّا، كل شيء من كل شيء، كلّ شيء له ثَمَن، كلّ درجة لها جُهْد، بِالعلْم اهتَدى إلى الله السالكون، بالعلم وصَلَ إليه الواصِلون، بالعِلم دخَل عليه القاصِدون، بالعلم تُعْرف الشرائِع والأحكام، بالعِلم يتميَز الحلال من الحرام، بالعِلم توصَل الأرحام، هو إمام، العلم إمام، والعمل مأموم، هو قائِد والعمل تابِع، هو الصاحب في الغربة - كما قال عليه الصلاة والسلام - والمحدِّث في الخَلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشُّبهة، وهو الغِنَى الذي لا فقْر بعده، ولا غنى دونه.
هؤلاء الأقوام قوم عادٍ وثمود وأصحاب الأيْكة، هؤلاء دمَّرهم الله عز وجل بِجَهلهم، الذي أهلكهم جهلهم، مُذاكرته تسبيح، البحث عنه جِهاد، طلبُهُ قُرْبة إلى الله عز وجل، بذْلُهُ صَدَقة، مُدارستُه تعْدِل الصِّيام والقِيام، الحاجة إليه أعظم من الحاجة إلى الطَّعام والشَّراب، الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال:
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول:
الإمام مالك كان عنده رجل اسمه: ابن وهب فقال ابن وهب: كنتُ بين يدي مالك وضَعْتُ ألواحي – أي دفاتري وكتبي - وقُمْتُ أُصَلِّي، فقال الإمام مالك: " ما الذي قُمْتَ إليه؟ - طبعاً الصلاة نافلة - إنَّ الذي قمت إليه ليس بِأفضل من الذي قمتَ عنه ! " هذا كلام الإمام مالك.
الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم استشهد بأهل العِلم على أجلّ مَشْهود ألا وهو وحدانِيَّتُهُ، قال:
﴿
الله سبحانه وتعالى لا يسْتشْهِدُ إلا بِشُهودٍ عُدول، هذه شهادة من الله عز وجل لأولي العلم على أنَّهم عُدول، ولأنّ شهادتهم قَرَنَها مع شهادته، ومع شهادة ملائكته، ويقول عليه الصلاة والسلام:
(( يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ، وانتحالَ المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ. ))
أنت بين مُغالٍ وبين مُبْطِل، قال تعالى:
﴿
بين المغالين وبين المبطلين، فيحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه ينفونَ عنهُ تحريف الغالينَ، وتأويل المبطلينَ، وحَسْبُ من يطلب العِلم شرفًا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا ، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ ، وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا ، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ. ))
كلّ هذه الأقوال، وهذه الآيات، وهذه الأحاديث من أجْل أن يكون طلب العلم شُغْلكم الشاغل، من أجْل أن يكون طلب العلم الشيء الأوّل في حياتكم، لأنَّ أساس المصائب، أساس النَّكبات، أساس الشَّقاء هو الجهل، والعالِم كما ورد يسْتغفر له من في السماوات والأرض حتى الحِيتان في البحر، وحتَّى النّمل في الجحر، وإنَّ الله وملائكته يُصَلُّون على مُعَلِّمي الناس الخير، وحسْبُ النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه قد أُمِرَ مِن قِبَل ربّ العِزَّة بأنْ يزداد عِلْمًا
القرآن الكريم كتاب منزل من عند الله وهو دستور ومنهج لنا:
الآن الآياتُ الكريمة التي ختمَ الله بها هذه السورة الكريمة، ربّنا سبحانه وتعالى يقول في آخر سورة الشّعراء:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
وقال تعالى:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
قال تعالى:
أخصّ صِفات سيّدنا جِبريل أنْ يكون أمينًا فلقب بأمين وحي السماء:
لماذا نزل القرآن ؟
لكنّ الشيء الذي يَلفتُ النَظر لماذا نزل مع أنَّ الله تعالى في كلّ مكان؟ ربّنا سبحانه وتعالى وصَفَ نفْسهُ بأنَّه العليّ العظيم، علو مكانة، وصف نفسه بأنه الكبير المُتعال، وصف نفسه بأنَّه رفيع الدَّرجات، بأنه القاهر فوق عِباده، فَكُلّ شيءٍ يخرجُ من عنده إلى موطن الخلق والتَّقدير لا بدّ من أن ينزل، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
وقال تعالى:
﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وقال تعالى:
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
قال تعالى:
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)﴾
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
لأنّه عليّ عظيم، لأنه رفيع الدَّرجات، لأنَّه قاهِرٌ فوق عِباده، لأنَه الكبير المُتعال، فكُلّ شيء انتقل من عند الله إلى الخلْق والتَّقدير لا بد من أن ينزل اسْتِنادًا إلى هذه الآية، هذا هو معنى قول الله عز وجل:
معاني قلب النبي العدنان الذي نزل عليه القرآن :
1 ـ قلب الإدراك :
من هذه المعاني أنّ القلب المقصود في هذه الآية هو قَلْب الإدراك والشُّعور، ليس المقصود هو المِضخَّة العضليّة التي تضخّ الدَّم إلى أطراف الجِسم، لا، ذاك قلب الجسد، المقصود بهذا القلب قلبُ النَّفس، عبدي طهَّرت منظر الخلق سِنين أفلا طهَّرْت منظري ساعة؟ منظر الخلق، القلب منظر الرب، والجسم والبيت والمركبة واللباس منظر الخلق، فالله سبحانه وتعالى يقول: عبدي طهَّرت منظر الخلق سِنين أفلا طهَّرْت منظري ساعة؟ القلب هو منظر الرب،
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
القلب يقسو.
2 ـ القلب له المكان الأول في الإنسان:
هناك كلمة عن القلب لا بد من أن أُسْمِعَكم إيَّاها؛ القلب في الإنسان له المكان الأوَّل، وعليه في كل الأمور المعوَّل، ولا عجَب فهو القائد، والجوارح جُنود له وخَدَم، وهو الآمر الناهي، والأعضاء أتباع له وحشَم، وحسْبُكَ فيه قول الله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾
3 ـ القلب حقيقة الإنسان :
القلب حقيقة الإنسان، ومن عجيب أمر الله تعالى فيه أنَّه جعَلَ بِبَقاء قلب الجسد وصِحَّته وانتِظام عمله حياةَ الجسد ونشاطه، وجَعَل بِطَهارة قلب النَّفس وسلامته، حياةَ الروح وازْدِهارها، والقلب هو الجانب المُدْركُ من الإنسان، هو المخاطب، وهو المُطالب، وهو المُعاتَب، وهو محلّ العِلم والتَّقْوى، والإخلاص والذِّكْرى، والحبّ والبغْض، والوساوِس والخَطَرات، وهو موضِعُ الإيمان والكُفْر، والإنابة والإصرار، والطمأنينة والاضْطراب، والقلب هو العالِم بالله، والمتقرّب إلى الله، وهو المقبول عند الله إذا سَلِم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا استغرق بغير الله، وهو الذي يسعد بالقُرب من الله، ويشْقى بالبُعد عنه، القلب منظر الرب، ولا يُفلحُ الإنسان ولا يفوز إلا إذا زكَّاه، ولا يخيب ولا يشْقى إلا إذا دنَّسهُ ودسَّاه، لذلك سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يقول: " تعاهَد قلبَك "، والله سبحانه وتعالى يقول:
4 ـ القلب هو الجانب الملائكي :
قال بعض العلماء: القلب هو الجانب الملائكي في النبي عليه الصلاة والسلام، يتلقَّى به الحق، واللِّسان هو الجانب البشري من النبي وهو الذي يُلقي به الحق، يتلقَّى بِقَلبه، ويُلْقي بِلِسانه، وبعضهم قال: نزل به الروح الأمين على قلبك، أي لأنَه طاهر، لأنه مُقدَّس، لذلك سيّدنا جبريل جاء وصْفُهُ بِكَلِمَتَين؛ مرَّةً روح القدس، ومرَّةً الروح الأمين، وفي كِلا المعنيَيْن الأمانة والقُدْسِيَّة هما الأداء والانْضِباط والحفظ الثَّبات.
5 ـ القلبُ أعجَب خَلْق الله :
كلمة عن القلب أُنهي بها الدَرس، لعلَّك إن فتَّشْتَ عن أعْجَب ما خلق الله تعالى في السماء والأرض، لم تَجِد أعْجَب، ولا أرْوَعَ، ولا أدَقَّ، ولا أجْمَلَ من قلب الإنسان، تصلحُ أوتارهُ فيَفيضُ رحمةً، وشفقةً، وحُبًّا، وحنانًا، ومعانٍ لِطافًا، وشُعورًا رقيقًا، حتَّى يتجاوزَ في سُمُوِّه الملائكة المُقَرَّبين، وتفْسُدُ أوتارهُ فيَنْضَحَ قسْوَةً، ولؤْمًا، وسوءاً حتَّى يهْوي إلى أسفل السافلين، حوى على دِقَّتِهِ كُنْه العالم، فما أدقَّهُ وأجلَّه ! وما أصغرهُ وأعظمه ! يكبرُ القلب ولا نرى كِبره، فيتضاءلُ أمامه كلّ كبير، ويصْغر ولا نرى صغَره فيتعاظم عليه كلّ حقير، اتَّحَدَ شَكل القلب واخْتلفَتْ معانيه، فقلْبٌ كالجَوهر الكريم صفا لونُه، وراق ماؤُه، وقلبٌ كالصَّخر قويّ متين، ينفَعُ ولا يلْمعُ، وقلبُ هواء خفّ وزْنهُ، وحال لونه، يموت القلب، لِمَا قال ربّنا عز وجل:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
أي الكفار، قلوبهم ميِّتة:
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
يموت القلب ثمَّ يحيا، ويحيا ثمَّ يموت، ويرْتَفِعُ إلى الأوْج، ويهبط إلى الحضيض، وبينما هو يُسامي النُّجوم رِفْعةً، إذا هو يلامس القاع ضِعَةً.
وجوب سَعَة صدر الداعي إلى الله:
يا أيّها الإخوة الأكارم؛ إنّ أعظم بُناة العالم قد امْتازوا بِكِبَرِ القلب، الذي يدْعو إلى الله يجب أن يكون قلبهُ كبيرًا يتَّسِعُ لكل شيء، يتَّسِعُ لأخطاء الناس، لتجاوزاتِهم، لتطاوُلهم، لأنَّ الله سبحانه وتعالى شرَّفَهُ بِهذه الدَّعْوَة، من كان قلبهُ صغيرًا لا يتَّسِعُ للخلْق هذا ليس أهلاً أن يدْعو إلى الحق، بناة العالم تميزوا بكبر القلب، الأنبياء العِظام تميَّزوا بِكَبر القلوب، لذلك لِتَبقَ هذه الآية تَرِنُّ في أسماعِكم
إن شاء الله تعالى في الدرس القادم نتحدَّث عن الإنذار الذي هو صفة النبي عليه الصلاة والسلام، ونتحدَّث عن هذا اللِّسان العربيّ المبين الذي شرَّفنا الله به، هناك أُمَمٌ كثيرة تغبِطُنا على هذه اللغة التي نتكلَّم بها إنَها لغة القرآن، لذلك قال سيدنا عمر رضي الله عنه:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين