- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (045)سورة الجاثية
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القرآن الكريم تعليمات الصانع به نرى الحقائق:
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس من سورة الجاثية، ومع الآية العشرين.
أيها الإخوة الكرام؛ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)﴾
بصائر جمع بصيرة، وبصيرة على وزن فَعِيلَة، وفعيلة صيغة مبالغة اسم الفاعل، أي نُبْصِر بها، دققوا في هذا المثل؛ هذه العين لو أنها في أعلى مستوى، وفي أدق حالة، هل يمكن أن ترى الأشياء من دون نور؟ لو فحص إنسان عينيه فوجدهما بأعلى درجة، ودخل إلى غرفةٍ مظلمة فهل يرى فيها شيئاً؟ مع أن عينيه سليمتان لا يرى شيئاً، لابدَّ من وسيط، لابدَّ من نورٍ ترى به الأشياء، العقل تماماً كالعين، لو كان عقلاً راجحاً، لو كان عقلاً متفوقاً، بذاته لا يرى الحقيقة إلا أن يرى الحقيقة مهتدياً بنور الله، لأن الإنسان العقل يهديه إلى أن لهذا الكون خالقاً، ولكن من هو الخالق؟ يأتي الوحي ويقول:
﴿
العقل يصل بذاته إلى أن هذا القرآن كلام الله من خلال إعجازه، وأن الذي جاء به نبيّ الله من خلال قرآنه، ولكن هذا القرآن ماذا يقول؟ من الذي يكشف لك حقائقه؟ ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى
مهما تمتع الإنسان بعقلٍ راجح لابدَّ له من نورٍ كاشف، وبشكل مختصر كيف أنك إذا شققت الطريق تضع لافتات، هنا منعطف خطر، هنا منزلق حادّ، هنا تقاطع خطر، هنا طريق ذات اتجاه واحد، هنا اتجاهين متقابلين، هذه اللوحات هي بصائر تنير للسائقين ملابسات الطريق، أخطار الطريق، خصائص الطريق، كذلك الإنسان في الدنيا لابدَّ له من بصائر، لابدَّ له من كتاب من عند خالقه، بشكل أو بآخر الأمر اضغطه إلى أن يصبح أنت آلة معقَّدة جداً، غاية التعقيد، ثمينة جداً، غالية جداً، عظيمة النفع جداً، كيف تستعملها؟ لابدَّ من تعليمات الصانع، القرآن تعليمات الصانع فقال:
الإنسان يرى بشيئين؛ إما ببيان أو بنور:
شيءٌ آخر، أحياناً أنت ترى الحقيقة بشيئين؛ إما ببيان، أو بنور، البيان أن تصغي إلى الحق، هذا حرام، وهذا حلال، هذا يجوز، وهذا لا يجوز، في هذا المجال افعل ولا تفعل، هذا بيان، وإما أن تتصل بالله عزَّ وجل اتصالاً محكماً فيُلْقي الله في قلبك النور، وهذا تؤكِّده الآيات الكريمة:
﴿
﴿
فالقرآن بصيرة، إما أن تقرأه فتستوعب أوامره ونواهيه فتطبقها، صار التبصير بيانياً، أو صار التبصير نورانياً، إما أن تتصل بالله اتصالاً محكماً يلقي الله في قلبك النور، وفي النهاية من كانت صلته بالله محكمة، ومن كان إدراكه للقرآن عميقاً، يلتقيان في تطبيق المنهج الإلهي
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾
(علينا)، وعلى إذا جاءت مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي، أي الله عزَّ وجل تكفَّل لنا أن يهدينا إلى سواء السبيل
﴿
وعلى الله قال بعض العلماء: بيان سبيل القصد، خُلِقْت كي تسعد في أبد الآبدين، على الله عزَّ وجل أن يبين لك معالم الطريق التي تودي بك إلى سعادتك
إذاً نشر الهُدى، وتوضيح الأمور، وإنزال الكتب، وإرسال الأنبياء، وإلهام الدعاة والعلماء بتبصير الأمور، هذا مما يفعله الله عزَّ وجل رحمةً بالعباد.
القرآن الكريم هدىً من الضلالة ورحمةٌ من الشقاء:
إذاً:
﴿
هذه دعوة الله لسعادتنا، دعوة الله كي نحيا حياةً حقيقيَّة، دعوة الله كي نصل إلى دار السلام بسلام، دعوة الله إلى أن نحقق الهدف الذي من أجله خُلِقْنا، دعوة الله إلى أن يرحمنا الله عزَّ وجل
من اتبع هدى الله فلا يضل عقله ولا تشقى نفسه:
القضيَّة قضيّة فهم، قضية محبَّة للذَّات، من أدرك إدراكاً صحيحاً وهو يحب ذاته لاشك أنه يسلك هذا الطريق:
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
من اتبع هداي فلا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، أي هل هناك إنجاز أعظم؟ هل هناك تفوَّق أكبر من أن يستنير عقلك وتهتدي نفسك وتسعد نفسك؟ عقلك مستنير، ونفسك سعيدة، عقلك مستنير بالحقائق الربَّانيَّة، ونفسك سعيدة بالرحَمَات الإلهية، فأنت عقلك يرى الحقَّ حقاً والباطل باطلاً، ونفسك تُقْبِلُ على الله عزَّ وجل فتسعد بهذا القُرب.
الإيمان كله يقينيَّات:
﴿ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)﴾
يُفْهَم من هذه الآية معنىً مخالف أن الناس دائماً في شك، أهل الدنيا لا يوجد عنده أولاً صدق كاف يبحث عن الحقيقة، يقول لك: لا نعرف، الله أعلم، الله يجعل الخاتمة لخير، دائماً كلمات فيها تشكك، تصور ألا يكون هناك جنة بالآخرة نكون لم نستفد شيئاً، ضيعنا علينا الشهوات كلها، أهل الدنيا أفهم منا، دائماً في شك، لا يوجد يقين، بالإيمان لا يوجد فيه شك، بالإيمان يوجد يقينيَّات، إذا كانت حقائق الإيمان ليست واضحةً وشاخصةً أمامك كإيمانك بوجودك فهذا ليس إيماناً، والدليل:
﴿
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)﴾
لا يوجد شك في الإيمان، لا يوجد احتمال، لا يوجد حالة وسط بين اليقين وبين عدم اليقين، الإيمان كله يقينيَّات، أي لن تؤمن حتى تكون الحقائق كالشمس في رابعة النهار، لذلك لو اجتمع أهل الأرض على أن يفتنوك لا يستطيعون، لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلاَّدين اللاذعة أن تصرفك عما أنت فيه، هذا هو الإيمان:
الآية التالية لو قرأها الإنسان واستوعبها أدخلته في السعادة:
الآن الآية الدقيقةُ الدقيقة التي لو قرأها الإنسان واستوعبها أدخلته في السعادة:
﴿
هذا الدين لو أنه استوى الذي يجترح السيئات مع الذي عمل الصالحات، لو استوى المؤمن مع الكافر، لو استوى المحسن مع المسيء، لو استوى الخائن مع المخلص، لو استوى الصادق مع الكاذب، لو استوى النصوح مع الغاش، لو استوى هذان الشخصان فالدين لا طعم له، ولا جدوى، ولا فائدة، بل هو باطل، يقول الله عزَّ وجل أي أيعقل هذا الكون المعجز خالق هذا الكون أيعقل أن يسوِّي بين الصالح والطالح؟ بين المحسن والمسيء؟ بين المستقيم والمنحرف؟ بين الغاش وبين الناصح؟ بين الصادق وبين الكاذب؟ بين من تتبَّع أمر الله وطبَّقه وبين من لم يبال بأمر الله؟ بين من اتبع العقل وبين من اتبع الشهوة؟ بين من سار في طريق الجنَّة وبين من سار في طريق النار؟ بين من أساء للخلق، بنى حياته على أنقاضهم وبين من بنى آخرته على حساب مصالحه؟ أيستويان؟
حينما تتوهَّم أنه يمكن أن يكون الصالح كالطالح أخي ظروف صعبة تعم الجميع، معنى هذا أن الدين لا فائدة منه، لا حاجة للدين إطلاقاً، إذا لم يكن للمؤمن معاملة خاصَّة من الله، ليس له زواج خاص، ليس له عمل خاص، ليس له سمعة خاصة، ليس له توفيق خاص، ليس له دعم خاص، يستوي مع الكافر، محسن محسن، مسيء مسيء، كلاهما سيَّان، كلاهما يساقان بعصا واحدة، كلاهما تقع عليهما ظروفٌ واحدة، يعانيان من مشكلات واحدة، إذاً الدين شيء لا يجدي، ولا يغني، ولا ينفع، هذه الآية مفصلية أي إذا توهَّمت أن فلانًا الله يعطيه، لا دين له، لا يصلي، ولا يصوم، شارب خمر، كاذب، زانٍ، والله يعطيه، يقول لك: سبحان المعطي! وهذا المؤمن المستقيم الله حرمه، لماذا؟ لا نعرف، هناك حكمة، إذا قلت: هناك حكمة، وتعني أن هناك حكمة فكلامك مقبول، أما إذا قلت: هناك حكمة، وتعني أنه لا توجد حكمة فهذا الكلام صار فيه كفر،
حقيقة معاملة الله للناس:
لو أردنا أن نتعرَّف إلى الحقيقة لا من خلال كتاب الله، ولا من خلال سنَّة رسول الله، ولا من خلال الكون، والله لو أن أحدكم له نفس طويل، وله قدر دؤوب، ونظر إلى الناس كيف يعاملهم الله عزَّ وجل لعرف الحقيقة من معاملة الله لعباده، المستقيم محفوظ، المنحرف يفاجأ بمصيبة لم تكن متوقَّعة، من يكسب المال الحلال يبارك الله له في هذا المال، من يكسب المال الحرام يدفعه على صحته ويُتلفه الله، من يغش في بضاعة الناس الله عز وجل المال الذي حصّله من هذا الغش يتلفه في ثانية واحدة، الأمور دقيقة جداً وعميقة، إيَّاك أن تفهم الأمور فهمًا سطحيًا، كل مصيبة لها حكمة بالغة، لو كُشِفَ الغطاء لاخترتم الواقع.
مرَّة قال لي أحدهم-والله لا أنسى هذه الكلمة- قال لي: كم تُقَدِّر عمري؟ قلت له: ستون عاماً، قال: لا، عمري ستة وسبعون عاماً، قال لي: والله أنا أشعر أنني ذو نشاطٍ بحيث أهدم حائطاً، لأنني والله لم آكل في حياتي كلها درهمًا حرامًا واحداً، ولا أعرف الحرام، ويعيش معززاً مكرماً، تجد أشخاصًا كثيرين أكلوا المال الحرام فأتلفهم المال، هذه الآية آية مصيريَّة، آية مفصليَّة، اطمئن إذا كنت مع الله لا تبالي، لا تخف، أبشِر.
للمؤمن معاملة خاصة من الله في الدنيا قبل الآخرة:
الله يؤكِّد لعباده المؤمنين أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لن يكونوا كالذين عملوا السيئات،
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
لكن في الدنيا تشجيع، توجد دفعات تشجيعيَّة لبقيَّة المحسنين، ويوجد عقابات ردعيَّة لبقيَّة المسيئين، ولكن الجزاء الحاسم يوم القيامة،
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا
هو يحفظك، هو يوفِّقك، تجد أن الله خلق من الضعف قوَّة، كان لا شيء فصار كل شيء، كان خامل الذكر فرفع الله شأنه، كان دخله أقل من حاجته فيسّر الله له دخلاً غطَّى حاجاته، كان بلا زوجة فيسر الله زواجه، كان بلا بيت يسَّر الله له بيتًا، كان له عمل مُجْهِد ومردوده قليل فصار له عمل مريح ومردوده كبير، إذا دعا إلى الله -عزَّ جل- وفِّقه، يُطْلِقُ لسانه في الحق، كلما قرأت هذه الآية مئات المرات لا ترتوي منها:
في الدنيا يستحيل على الله عزَّ وجل أن يجعل حياة المؤمن كحياة الكافر:
الحديث عن الآخرة حق، أما أنا أركِّز الآن على الدنيا، وأنت في الدنيا يستحيل على الله عزَّ وجل أن يجعل حياة المؤمن في الدنيا كحياة الكافر، البيت متميز، الزواج متميز، العمل متميز، حتى الصحَّة الجسميَّة متميّزة، لأنه يصلي، الصلاة رياضة، يصوم، الصيام وقاية، يعتدل في الشهوات، الاعتدال هو الصواب، حتى في صحَّته، حتى في بيته، حتى في عمله، حتى في علاقاته، حتى في أفراحه، تجد أحياناً عرساً النساء كلهنَّ مصونات، مثلاً مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، امرأة ألقت كلمة، عرس، شيءٌ جميل! هذا عرس إسلامي؛ وهناك عرس فيه أغان ورقص وانحرافات وما شاكل ذلك، هذا العرس غير هذا العرس.
عقد قِران المؤمن تجد فيه منشدين، إلقاء كلمات، توزيع حلوى، أما أهل الدنيا ففيه اختلاط، عرس أنفق فيه كذا مليون، والعريس على المنصَّة قال لزوجته: أنتِ طَالق طالق طَالق، لأن كل زواج بني على معصية الله يتولَّى الشيطان التفريق بين الزوجين، وكل زواج مبني على طاعة الله يتولَّى الله التوفيق بينهما.
هذه الآية يجب ألا نشبع منها:
(( وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))
أين هذه؟
إخواننا الكرام؛ هذه الآية يجب أن تُحْفَر في أذهاننا، يجب أن تمتزج مع دمائنا، يجب أن تتخلخل بين خلايانا،
أقول لكم كلمة إخواننا الكرام لا تعتبرونها تحدّ لكن إذا بالأرض كلها التي يوجد فيها خمسة آلاف مليون إنسانٍ إنسانٌ واحد سعيد في البعد عن الله فهذا الكتاب باطل، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
إذا وجدت شخصاً لو كان من أهل الغنى، لو كان من أهل القوة، واحداً وليس اثنين سعيداً في البعد عن الله، وفي عدم ذكر الله يكون هذا الدين باطلاً، وهذه الآية باطلة، الله قال:
﴿
اسأل إخواننا الأطبَّاء عن الإنسان عند النزع كيف تكون حالته؟ انهيار كامل، سيدنا سعد بن الربيع كان في طور النزع، تفقَّده النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل من يسأل عنه في ساحة المعركة، وصل الصحابي، قال له: إن النبي الكريم أمرني أن أتفقَّدك هل أنت مع الأحياء أم مع الأموات؟، قال له: أنا مع الأموات، لكن قل لرسول الله-اسمعوا كلام شخص ينازع-:
أنا متصوِّر أن سيدنا سعد بن الربيع في قمَّة السعادة وهو في النزع الأخير، وقل لأصحابه:
ما هذه السعادة؟ في قمَّة النشوة وهو ينازع، ما هذا الإيمان؟
وأنت مريض سعيد، وأنت فقير سعيد، وأنت بالنزع سعيد، وأنت تغادر الدنيا سعيد، المؤمن كل أطوار حياته هي ألوان السعادة حقيقة، إياكم أن تتوهَّموا أنني أعني بالسعادة الماديَّة، المؤمن قد يكون فقيرًا، لا تظن لأنه مؤمن صار بيته واسعاً، ومركبته فارهة، ودخله كبيراً، لا، ليست هذه هي السعادة، السعادة تنبع من الذات، ولا تأتي من المحيط، إنها تنبع من الذات.
عناصر السعادة عند أهل الدنيا:
أيها الإخوة؛ أهل الدنيا- أذكر هذه العبارة لأنها تعبير عن أهل الدنيا- يقول لك: السعادة الماديَّة تحتاج إلى ثلاثة عناصر: تحتاج إلى وقت، وتحتاج إلى صحَّة، وتحتاج إلى مال، مقياس السعادة المادي، أي اللذائذ، مباهج الحياة، متع الحياة، وهذه الأشياء الثلاث دائماً يتوفر عند المحظوظين اثنان منها: الإنسان في
(( عن صهيب بن سنان الرومي: عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ. ))
غير المؤمن يتكبَّر في الرخاء وينسى، وفي الشدَّة ييئس، يأسٌ قاتل أو غفلةٌ مستحكمة، المؤمن شكور في الرخاء، صبور في البلاء، في الفقر متعفِّف، في الغنى سموح، منفق، منصف في القوَّة، متذلِّل لله عزَّ وجل في الضعف.
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على الفقر والجوع والأذى والغربة:
النبي الكريم أذاقه الله الضعف والقهر في الطائف، قال صلى الله عليه وسلم:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري،
أذاقه النصر بفتح مكَّة، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، أذاقه الفقر.. عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ:
(( يَا عَائِشَةُ، هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ. ))
لا يوجد شيء في بيته إطلاقاً، ولا تمرة، فلمَّا صار غنياً قال له أحدهم: لمن هذا الوادي؟ قال له: هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أذاقه الله الفقر، وأذاقه الغنى، وأذاقه القهر، وأذاقه النصر، وأذاقه موت الولد.
(( تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا إِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))
أصابه موت الولد، أصابه ترك الوطن، الهجرة، ترك مكَّة، فقال: اللهمَّ إني تركت أحبَّ البلاد إليّ فأسكني أحبَّ البلاد إليك، ترك مكَّة، وسكن في المدينة،.
من المستحيل أن يستوي المحسن مع المسيء بنص القرآن الكريم:
إذا حكم الإنسان أن الله يسوِّي بين المسيء والمحسن قال تعالى:
﴿
تصوَّر جامعة كيف يكون نظام النجاح فيها؟ تهدي الأستاذ هديَّة فينجِّحك، ولو لم تدرس، الفحص اختياري وليس إجبارياً، تحب أن تقدم فحصاً قدم هدية، الهدية بدلاً من الفحص فتنجح، هل هذه جامعة؟ العلاقات الشخصية وحدها تنجحك من دون ورقة امتحان، من دون سؤال موحَّد، لك علاقة مع الأستاذ طيّبة تنجح، قدَّمت له هديَّة ينجحك، أعطاك الأسئلة دفعت ثمنها فتنجح، هل هذه جامعة؟ هذه بالحق أم بالباطل؟ انظر إلى الآية الكريمة:
﴿
خلقهما بالحق، ما خلقهما بالباطل، معنى هذا أن الحق عكس الباطل، الباطل هو الشيء الزائل، الحق الشيء الثابت.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾
معنى هذا أن الحق خلاف اللعب، من القرآن الكريم الحق خلاف الشيء الزائل، والحق خلاف اللعب، خلاف الزائل الثابت، خلاف اللعب الهادف، معنى هذا أن الحق بتعريف القرآن له الشيء الثابت الهادف، الشيء الثابت النبيل العظيم، فربنا عزَّ وجل خلق السماوات والأرض لهدفٍ كبير، وخلق الله السماوات والأرض لتبقى لا لتزول.
أيها الإخوة؛ العلاقة بين الآيتين علاقةٌ تامَّة:
﴿ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(22)﴾
حينما تتوهَّم أنه يمكنك أن ترتكب إساءات دون أن تُحَاسَب عليها إطلاقاً وتنجو، معنى هذا أن المنضبط غبي، الذي ضبط دخله، جعله كله حلالاً، وكان قليلاً، وصبر على قلَّته، والذي لم يضبط دخله، وجعله أكثره حراماً، وتمتَّع بهذا المال، ثم سوَّى الله بين هذا وذاك، معنى هذا أن المستقيم إنسان غبي، محروم، من الذي أفلح ونجح؟ الذي لم يبالِ بهذا النظام، ولم يأخذ به، فعلَ ما يشتهي، ثم جاء يوم القيامة وله الجنَّة، قال له: لا،
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿
أحياناً تسمع قصصًا مُفادها أن فلانًا عمل وكسَّب، وكسَّر واشترى، ونهب وسلب، وركَّز وضعه، واشترى بيوتًا ومراكب، ويعيش مسروراً، معنى هذا أنه لا يوجد إله، أي فوضى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
هكذا بلا حساب؟ بلا مسؤوليَّة؟ معقول الغني والفقير، الغني مسرف، ماله أكثره من الحرام ينفقه على ملذَّاته، والفقير محروم ما ذاق طعم الحياة، ويستويان يوم القيامة؟ هل يستوي إنسان ظالم مع إنسان مظلوم؟! إنسان مستغِل مع إنسان مستَغَل يستويان؟ دول قوية عاتية تتحكَّم بهؤلاء الشعوب، يقتلون ملايين من أجل رفع مستوى المعيشة عند شعوبهم، يفتعلون حروبًا أهليَّة تمتد سنوات من أجل بيع الأسلحة فقط، هذه الدول لن تُحَاكَم عند الله يوم القيامة؟ سيستوون مع الشعوب المتخلِّفة؟! معنى هذا لا يوجد إله، يقول الله عزَّ وجل: ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ هذا الإيمان، يجب أن تؤمن أنه لا يمكن لإنسان أن ينجو إذا كان ظالماً:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
المتفوق والفالح من يطع الله ويكون على منهجه:
يقول الله عزَّ وجل:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
لا تفكر أبداً أن يستوي المؤمن والكافر.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
مستحيل، هذا الإيمان أيها الإخوة يحملكم على طاعة الله، ويحملكم على الثقة بالله، ويحملكم على الاستبشار، كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله، اجعل شعارك دائماً:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
أنت الفائز، أنت الرابح، أنت الناجح، أنت الفالح، أنت المتفوِّق، أن تكون على منهج الله، تنام مساءً دون أن تكون مغتصباً لحقّ أحد، دون أن تكون آكلاً لمال أحد، دون أن تكون معتدياً على أحد، وفق منهج الله،
أعمال الإنسان كلها مسجلة عليه والغبي من يظن أنه سينجو يوم القيامة:
إخواننا الكرام؛ يجب أن تعتقد اعتقادًا قاطعًا أن الذي يرتكب المظالم، ويأكل أموال الناس بالباطل، ويعتدي على أعراض الناس أحمق إنسان على الإطلاق، ما السبب؟ لأنه سوف يدفع الثمن باهظاً، إذا أخذ أحدهم ليرة سرقة ودَفَّعوه عوضاً عنها مليون ليرة، أخذ الليرة سرقة يكون هذا ذكاء منه أم غباء؟ لا يمكن أن ينجو من العقاب، كله مسجَّل عليه، مستحيل يأخذها، فكل إنسان يرتكب المعصية، يأكل مالاً حرامًا، يعتدي على أعراض الناس، لا يقيم وزناً لشرع الله، لا يأتمر بأمر الله، لا ينتهي عما عنه نهى الله، ويظنُّ أنه على علم، وأنه ذكي وقادر، هذا هو الغباء بعينه،
﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)﴾
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ