- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (045)سورة الجاثية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وظيفة الكون:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة الجاثية، ومع الآية الثانية عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ دائماً وأبداً هذه حقيقةٌ ثابتة أنَّ الكون بسماواته وأرضه، بكل ما فيه من شيءٍ ظاهرٍ أو باطنٍ، جليل أو صغير، أن الكون له وظيفتان كبيرتان؛ الوظيفة الأولى: أن يكون الكون وسيلةً لمعرفة الله، والوظيفة الثانية: أن تنتفع به في الدنيا.
هذا الكلام أساسه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال حينما رأى هلالاً:
(( عن قتادة بن دعامة أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا رأى الهِلالَ قال: هِلالُ خَيرٍ ورُشدٍ، هِلالُ خَيرٍ ورُشدٍ، هِلالُ خَيرٍ ورُشدٍ، آمَنتُ بالذي خَلَقَك ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ يقولُ: الحَمدُ للهِ الذي ذهَبَ بشَهرِ كذا، وجاء بشَهرِ كذا.))
أي يرشدني إلى ربي، وينفعني في دنياي.
الكفَّار ما استفادوا من الكون إلا بالوظيفة الثانية، انتفعوا بما في الأرض إلى أقصى درجة، سَخَّروا المواد، المعادن، المناجم، البحار، الفضاء، استغلُّوا ثروات الطبيعة إلى أقصى درجة، ولكنهم ما انتقلوا من الكون إلى خالق الكون، لكن الله سبحانه وتعالى أراد من خلق السماوات والأرض أن يكون الكون مظهراً لأسماء الله الحُسنى، أن تتعرَّف إلى الله من خلال الكون، فلذلك تأتي الآيات في القرآن الكريم تلو الآيات تُنْبِئ عن عظمة هذه الكون.
البحر أكبر آيةٍ تدلُّ على الله:
هذا البحر يوجد في أرضه جبال، وما الجزر إلا رؤوس الجبال، الجزر التي ترونها أنتم ما هي إلا رؤوس لهذه الجبال، هناك جبال، هناك وديان، هناك تضاريس، حتى أن هناك خرائط لتضاريس البحار تحت سطح الماء، هناك وديان في البحار، أعمق واد في البحر وادي مريانا في المحيط الهادي، هذا البحر المالح من أين جاءت ملوحته؟ ولماذا كان مالحاً؟ وما الحكمة في أنَّه مالح؟ هذا موضوع، هذا البحر الذي يحوي من الأسماك ما لا عدَّ له ولا إحصاء، لماذا إذا كان البحر في المنطقة القطبيّة يتجمَّد سطحه الأعلى فقط، والأسماك تعيش في بطن البحر في بحبوحةٍ ويُسرٍ وسلام؟ لماذا لا يتجمَّد الماء كلُّه من أعلاه إلى أسفله؟ خاصَّة في الماء لولاها لما رأيتم على وجه الأرض كائناً حيَّاً، أن الماء إذا بردَّته شأنه كشأن أي عنصر يتقلَّص، وإذا سخَّنته يتمدَّد، إلا في الدرجة زائد أربع فتنعكس الآية، فإذا بردَّته يتمدَّد، وإذا تمدَّد كثافته قلَّت فطفا على سطح الماء، لذلك لو ذهبت إلى المحيط المتجمِّد الشمالي التجمد فقط في طبقة سطحيَّة، لأنه كلَّما تجمَّد الماء طفا على السطح، وبقيت أعماق المياه دافئةً كجو مناسبٍ للأسماك، لو أن مياه البحار شأنها شأن أي عنصر آخر من عناصر الأرض فإذا برَّدناها تقلَّصت فزادت كثافتها، فغاصت في أعماق البحار، بعد حينٍ من الزمن لا أدري كم هو تصبح البحار كلها متجمِّدة، ينعدم التبخُّر، تنعدم الأمطار، يموت النبات، يموت الحيوان، يموت الإنسان، هذه حقيقة.
الماء له خصائص، من خصائصه أنه يدفع السطح المنغمس فيه إلى الأعلى، ولولا هذه الخاصَّة لما أمكن أن نستفيد من البحار إطلاقاً، لولا هذه الخاصَّة لكان البحر همزة فصلٍ، وليس همزة وصلٍ، الآن إنشاء طريق يكلِّف أُلوف الملايين، أما البحار فكلها طُرُق مجَّانية لكل الشعوب والأمم، فالبحر همزة وصل تمخر به البواخر كالجبال، كالأعلام، بعض البواخر الآن حمولتها تزيد عن مليون طن، المليون ألف أَلف، والطن ألف كيلو، أي طريقٍ يستوعب هذه المركبة أو هذه السفينة لولا أن الماء يدفع الأجسام المنغمسة فيه إلى الأعلى؟ هذا هو قانون أرخميدس.
تسخير كل شيء للإنسان:
الحقيقة أن الآية فيها نقطة دقيقة جداً، هذه النقطة هي مركز ثِقَلها:
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)﴾
إحدى نظريَّات البترول أنه في عصور الأمطار الغزيرة، وعصور النباتات العملاقة هذه كلها دُفِنَت تحت سطح الأرض، وأصبحت بترولاً،
﴿
أحياناً يستخدم الإنسان هذه لا لينتقل بها من مكانٍ إلى مكان، بل ليزهو به أمام أترابه.
كل شيء في الكون يُعزى إلى الله سبحانه وتعالى:
المقصود أيها الإخوة أن هذا الكون لولا أن له قوانين ثابتة، ولولا أن الله أودع في الإنسان عقلاً فيه مبادئ تتوافق مع هذه القوانين، ولولا أنه أعطى كل شيءٍ في الأرض خاصَّةً، وهدى الإنسان إلى اكتشافها، ولولا أن الله ثَبَّتَ الخواص لما أمكن أن نستفيد من هذا الكون، ولما كان لهذه الآية من معنى.
معنى
تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف وتكريم:
أيها الإخوة؛ الأشياء لها خصائص، لولا أن هذه الخصائص ثابتة لما استفدنا منها، الحديد له خاصَّة، الفولاذ له خاصَّة، النحاس له خاصَّة، القصدير له خاصَّة، الرصاص له خاصَّة، الخشب له خاصَّة، والخشب أنواع تزيد عن مئة نوع، ولكل نوعٍ خاصَّة، والعقل اهتدى لهذه الخواص، الأخشاب أنواع منوعة، المعادن أنواع منوعة، العقل البشري مع ثبات الخصائص هو الذي جعل الإنسان يستفيد من هذا الكون.
البقرة مسخَّرة مثلاً، لولا أنها تنقاد لما أمكن الإنسان أن يستفيد منها، مذللة، الغنمة مذلَّلة ومسخَّرة، وهناك حيوان بحجمها غير مذلَّل، كالضبع مثلاً، هذا غير مذلل، العقرب غير مذلَّل، إذا رأى الإنسان عقرباً قفز من مكانه، وصرخ بأعلى صوته، أما قد يقود جملاً وزنه عشرة أضعاف وزن الإنسان، وهو مطمئن، فإذا تعامل مع الجمل، مع الغنم، مع البقر، مع هذه الحيوانات الأليفة المذللة، هذا التذليل من فضل الله ونعمته، وليس من جهد الإنسان وعقله، الله جلَّ جلاله جعلها مذلَّلة.
إذاً ينبغي أن نعلم أن الكون كله مسخَّرٌ لهذا الإنسان تسخير تعريفٍ وتكريم، كيف لو أن إنساناً أهداك هديَّة ثمينة جداً، جهاز بالغ التعقيد، بالغ الفائدة، بالغ الثمن، وقُدم لك هدية، ألا ينبغي أن تشعر تجاه الذي قدَّمه لك بشعورين اثنين؟ الشعور الأول شعور الامتنان، والشعور الثاني شعور التقدير، هذا الجهاز من صنعه ومن اختراعه، فينبغي أن تشعر تجاه الذي قدَّم لك هذه الهدية بشعورين اثنين؛ شعور امتنان لأنه قُدَّم لك هديَّةً من دون ثمن، وشعور التقدير لهذا العلم العالي الذي ينطوي عليه هذا الجهاز، لذلك ربنا عزَّ وجل سخَّر لنا هذا الكون تسخيرين؛ تسخير تعريفٍ لأسمائه الحُسنى، وتسخير تكريمٍ لنا.
الإكرام من آثاره الحب والعظمة والجلال من آثارهما الإعجاب والتقدير:
لذلك قال تعالى:
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)﴾
الله عظيم، والله كريم، الإكرام من آثاره الحب، والعظمة والجلال من آثارهما الإعجاب والتقدير، فربنا عزَّ وجل في أكثر من آية وردت يقول:
﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
بقدر ما هو عظيم بقدر ما هو مُكْرِم، بقدر ما ينبغي أن تعظِّمه بالقدر الذي ينبغي أن تحبه
إذاً أيها الإخوة؛ هذا الكون بنص هذه الآية قطعيَّة الدلالة، الواضحة، مسخر لهذا الإنسان، بسماواته وأرضه، بشمسه وقمره، بليله ونهاره، بفصوله، بالهواء الذي نستنشقه، الهواء الذي له نسبٌ ثابتة، ولولا أن النبات يأخذ من الهواء غاز الفحم ويطرح الأكسجين، ولولا أن الإنسان يأخذ الأكسجين، ويطرح غاز الفحم لما ثبتت هذه النسبة في الهواء، الهواء ذو نسبٍ ثابتة، الطعام الذي تأكله، النبات الذي تتمتَّع بمنظره، التضاريس التي تألفُها، الجبال لها مُناخ خاصّ، والسهل له مناخ خاص، والساحل له مُناخ خاص، والوديان لها مُناخ خاص، والأغوار لها مُناخ خاص، والصحراء لها مُناخ خاص، ومن تفاوت هذه المناطق المناخيَّة يتحرَّك الهواء.
ما فائدة الصحراء؟ لولا الصحراء كمنطقة حارَّة تسخِّن الهواء فيتمدَّد، فيتخلخل الضغط لما أتى الهواء البارد من منطقةٍ أخرى ذي ضغط مرتفع، فالضغط المنخفض يكون الهواء فيه مخلخلاً، المنطقة حارَّة، والضغط المرتفع أي المنطقة باردة، الهواء كثيف، فإذا كان هناك تفاوت في الضغطين تحرَّك الهواء ذو الضغط الأعلى إلى المكان الذي فيه هواء لضغطٍ أقلّ، لولا أن هناك صحارى حارَّة ومناطق باردة لما تحرَّك الهواء على سطح الأرض، هذه تسخير الرياح، هذه حكمة الهواء، إذاً الصحراء لها وظيفة، أكثر النشرات الإخباريَّة يقول لك: يوجد منخفض متمركز فوق قبرص، حتى الجُزُر لها آثار كبيرة جداً في مناخ القارَّات، الجزر تستقطب أحياناً المنخفضات الجويَّة، وتحرِّكها بحيث تتجه نحو المناطق الداخليَّة في الأرض، هذا علم قائم بذاته، علم المُناخ علم قائم بذاته.
أيها الإخوة الأكارم؛ هذا الكون مَعْرِض لعظَمة الله، كيف أن الشركات أحياناً تشترك في معرض-ولله المثل الأعلى- تبرز بضاعتها الجميلة معروضة عرضًا رائعًا، الكون كلُّه معرِضٌ لأسماء الله الحُسنى وصفاته الفُضلى، فإذا أردت أن تعرفه فلا سبيل إلا الكون، من خلال الكون تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، لهذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
لا يوجد حديث آخر، لأن الحواس الخمس لا يمكن أن ترى الله، قال تعالى:
﴿
لذلك قيل:
الأسماك آية من آيات الله الدالة على عظمته:
توجد أسماك في البحار كالطبيبات، يصطفُّ أمامها السمك في نَسَقٍ طويل، وتعيش هذه الأسماك على القروح التي تتوضَّع على جلد الأسماك تنظِّفها، وكأن هناك عرفاً في البحار أن هذه الأسماك التي تعمل كطبيبات لا أحد يلتهمها، إنها في حصن، وقد قرأت بحثاً مطوَّلاً حول هذا الموضوع، ورأيت بأمِّ عيني الصورة الملوَّنة كيف أنَّ نسقاً طويلاً من الأسماك ينتظر كل منها دوره في المعالجة، هذا السمك فيه آيات عظيمة جداً، كيف السمك مسخَّر لنا؟
قال لي صيَّاد قبل أيام: هو يصنع مكعَّباً من الحديد الشبك، وله فتحة كالعنق هكذا، السمكة تدخل فإذا دخلت لا تستطيع أن تخرج أبداً، أي السمك لا يستطيع أن يخرج من مكان صغير، لولا هذه الخاصَّة لما أمكننا أن نأكل السمك، كل الشباك أساسها الدخول من مكان واسع، والسمكة ليس بإمكانها أن ترجع نحو الوراء، لا يوجد رجوع، ولا تستطيع أن تدخل إلا من مكانٍ واسع، فإذا ضاق عليها المكان ليس عندها قوَّة تسديد، لكن الخفَّاش مثلاً لو وضعته في غرفة، وقسمت الغرفة بحاجزٍ إلى قسمين، وفتحت في هذا الحاجز ثقباً لا يزيد قطره عن حجم الخفَّاش، يقطع الخفَّاش من قسمٍ إلى قسم مئة مرَّة دون أن يلامس جناحه جدار هذا الثقب، الخفَّاش بإمكانه الخروج من مكان ضيِّق، أما السمك فليس بإمكانه، لذلك بهذه الطريقة يُصاد السمك، عن طريق الشباك ذات الجهة الواحدة، تجد الصياد أحياناً يرمي جداراً من الشبك فقط ويسحبه، ولولا هذه الخاصة لما كان السمك مذللاً.
والسمك عنده جهاز عبارة عن سطح مُقَعَّر يوجد في أسفله حبَّات رمل، وفي قعره أعصاب حسَّاسة، فما دامت الحبَّات في مكانها فالسمك نحو الأعلى، فإذا قلب جسمه تحرَّكت الرمال بفعل الجاذبيّة، فعرفت السمكة أنها في اتجاه القعر لا في الاتجاه الأعلى، ثم إن في السمكة خطًّا، خط ضغط في القسم الأول من سطحها الخارجي، هذا الخط عبارة عن أنبوب مفرَّغ من الهواء، فبحسب ضغط الماء على هذا الخط تعرف السمكة أين هي من سطح الماء دائماً، وقد ورد في الحديث الشريف:
(( عن عبد الله بن عمر:
منها السمك، ولكن السمك لا يُذْبَح، والذبح فيه تذكية للحيوان، كلكم يعلم أن الدم محرَّم أكله، وأن النبي صلى الله عليه وسلَّم حينما أمر بذبح الأوداج دون قطع الرقبة هذا الأمر النبوي لا يعرف أحدٌ زمن الرسول حكمته، لأن معطيات العلم وقتها لا تسمح أبداً بتفسير هذا الأمر النبوي، لكننا الآن عرفنا أن القلب ينبض ثمانين نبضة بأمرٍ من القلب ذاته، بمركز كهربائي أول وثانٍ وثالث، لكن إذا كان الأمر يقتضي أن يضرب القلب مئة وثمانين ضربة فإن هذا الأمر الاستثنائي يجب أن يأتيه من الدماغ، أو يجب أن يأتي عن طريق الدماغ من الكظرين فوق الكليتين، فإذا قُطع الرأس تعطَّل الأمر الاستثنائي، فضربات القلب البطيئة لا تكفي لإخراج الدم من الخروف، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قطع الرأس، أمر بقطع الأوداج عند الذبح لا بقطع الرأس، لذلك حينما تُقْطَعُ الأوداج تنشأ حالة خطر عند الحيوان، فيأتي الأمر من الكظر إلى الدماغ إلى القلب بمضاعفة الوجيب، فالمئة والثمانون ضربة كافية أن تجعل الدم كله خارج الذبيحة، يصبح اللحم أحمر اللون، أزهر اللون، رائعاً، فكيف أحلَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم وهو المشرِّع؟
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ
كيف أحلَّ النبي لنا لحم السمك الذي لا يُذْبَح ذبحاً بل يُصطاد اصطياداً؟ السمكة تموت حينما تُخرَج من الماء، هنا الإعجاز، العلماء قالوا: السمكة حينما نصطادها ينتقل دمها كله إلى غلاصمها وكأنك ذبحتها، دم السمكة كلُّه ينتقل إلى الغلاصم، لذلك فإن الصيادين يفتحون الغلاصم فإذا كانت ممتلئة بالدم فهذه السمكة قد اصطيدت صيداً، أما السمكة الطافية في بعض المذاهب فلا يجوز أكلها لأنها ميتة، فإذا كانت الغلاصم ليس فيها أثر للدم هذه سمكة ميّتة، وليست مصطادة، أما إذا اصطدت سمكةً فينبغي أن تكون غلاصمها ممتلئةً بالدم الأحمر القاني.
هناك معلومات عن الأسماك تضيق بها الدروس، تضيق بها المجلَّدات، البحر بحد ذاته شيء لا يتصوَّر العقل عظمته، ومع ذلك يذهب الإنسان أحياناً إلى البحر ليستمتع بمائه، وبمنظر البحر، وهو غافلٌ عن الله عزَّ وجل، وكثيراً ما تُرْتَكب المعاصي على شواطئ البحار، بدل أن نُسَبِّح الله، وأن نوحِّده، وأن نخشع لعظمته، وأن نسجد لإنعامه وفضله، تُرتكب المعاصي أكثرها على شواطئ البحار، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿
إما في البواخر العملاقة التي فيها كل الموبقات، أو على شواطئ البحار.
جريان السفن في البحر بأمر الله وحده:
﴿
أي هذه السفينة العملاقة تتحرَّك بأمر الله، لأنه حينما يريد الله إغراق سفينة فلا رادَّ لقضائه، السفينة التي قال عنها من بناها: إن هذه السفينة لا يستطيع القدر إغراقها، في عام ألف وتسعمئة واثني عشر، اسمها التيتانيك، كانت تضمَّ نخبةً من أثرياء أوروبا، ثمن الحِلي الذي على النساء في هذه الباخرة يُقدَّر بمئات الملايين، فيها المسابح، فيها المطاعم، فيها الأبهاء الواسعة، الثريَّات، هي من أعجوبة العصر كانت، أي أضخم سفينة، وقد صُنِّعت جدرانها طبقتين، وبين الطبقتين حواجز، فلو أنها خُرِقَت يكفي القبطان أن يُغْلِق الحواجز فيبقى الخرق محصورا ومحدوداً، ومع ذلك في أول رحلةٍ لها من أوروبا إلى أمريكا غرقت في عرض المحيط الأطلسي، وقبل سنة فيما أعتقد عرفوا مكانها، واستخرجوا بعض ما فيها من الثروات، لذلك:
قبل سنة أو سنتين أبحرت باخرة من جدَّة إلى مصر، فجأةً غرقت في وسط الجُزُر المرجانيَّة، يركب رجل في أفخر غرفة من الدرجة الأولى وجد نفسه يعالج مياه البحر، وراح من القتلى أعداد كبيرة جداً، فغرقُ الباخرة بأمر الله عزَّ وجل، فإذا رأيت باخرة تمخر عباب الماء والطائرة شيءٌ آخر تجدها وقد سقطت ومات جميع ركَّابها، وهناك علبة سوداء يرون آخر الاتصالات، لكن هذه الطائرة التي تطير في جو السماء أيضاً بأمر الله عزَّ وجل، ولو شاء الله لها أن تسقط لسقطت، ما قولكم أن تُرتَكب المعاصي على مَتْنِ الطائرات؟ وأن توزَّع الخمور على متن الطائرات؟ وأن تُرتكب الموبقات على متن الطائرات؟ هذا هو الفساد الذي ظهر في البر والبحر والجو، لذلك قال تعالى:
﴿
البحر مادَّة للتفَكُّر وهو من أكبر الموضوعات الدَّالة على عظمة الله عزَّ وجل:
﴿
بعض الأمواج ارتفاعها عشرين مترًا، وهو ما يساوي ارتفاع بناء مؤلَّف من ثلاثة طوابق تقريباً، وقد تبدو أكبر باخرةٍ كأنها ريشة، أصاب إعصار المحيط الأطلسي في شاطئ أمريكا الشرقي، وكانت الخسائر ثلاثين مليار دولار، قبل عشر سنوات تقريباً جاءت عاصفة بحريَّة على الشاطئ السوري صدعت الميناء، لم يبق مقهى على الشاطئ من الشمال إلى الجنوب إلا وقد غمره الماء، أي حينما يهيج البحر لا يقف أمامه شيء.
بُنيت قاعدة نفطية في بحر الشمال، أي استخرجوا النفط من قعر هذا البحر، العمق خمسة آلاف متر، والبترول اكتشفوه على عمق خمسة آلاف متر أخرى، وأوصلوا فوهة البئر إلى سطح البحر بأساليب عجيبة، ثم بُنيت محطَّة عائمة، مدينة فيها مطار، مكاتب، كل شيء في هذه المدينة، وقد دُرِسَت دراسة محكمة، دُرِست المنطقة خلال سنوات طويلة، ودرست ارتفاع الأمواج والعواصف وما إلى ذلك، وعلى غير المتوقَّع جاءت عاصفةٌ حطَّمت هذه المدينة قبل أعوام، أحياناً تجد ناقلة نفط تحمل مليون طن تتحطَّم بفعل أمواج البحار، فلذلك البحر بحد ذاته آية كبيرة، يمكن أن نعرف الله من خلال البحر.
أحياناً يتجلَّى الله على البحر باسم الجميل، أجمل منظر، أي أن تركب البحر متعة من متع الحياة، وأحياناً ينخلع القلب حينما تكون على سطح البحر، والله سبحانه وتعالى يستدرج أحياناً أهل الدنيا إلى البحر، فإذا صاروا على مَتْن سفينةٍ هاجت الأمواج، وماجت، وقالوا: يا الله، فإذا أعادهم إلى البر عادوا إلى معصيته كما كانوا.
الغوَّاصة تقليدٌ للسمك، طبعاً السمك فيه أكياسٌ هوائيَّة في أحشائه، فإذا أفرغها من الهواء غاص، أما إذا ملأها هواءً، من أين يأتي بالهواء؟ جهاز الهضم في السمك يُصنِّع من الغذاء هواءً، يُصَنَّع الهواء تملأ به الأكياس يطفو على سطح الماء، وهذا مبدأ الغوَّاصة نفسه، الغواصة إذا انحدرت تحت سطح البحر إلى أقلّ من مسافة معيَّنة قد تكون مئتي متر تتحطَّم بفعل ضغط الماء، ما بال هذه السمكة التي لها أرجل، وتجري في قعر المحيط، الغواصة المصنوعة من الفولاذ بعد مئتي متر تتحطم والأسماك التي تتحرَّك في قعر المحيطات تحت اثني عشر ألف متر، ما بالها لا تتحطَّم؟ العلماء درسوا هذه الظاهرة فوجدوا أن فيها أجوافًا داخليَّة يدخل فيه الماء، فصار الضغط متكافئًا، كما لو أن الإنسان سمع صوت مدفع، وفتح فمه، لا يصير شيء، يدخل الصوت مرَّة من فمه، ومرَّة من أذنه فيتعادلا، أما لو بقي مغلقاً فمه، تنثقب أذناه، ينثقب غشاء الطبل، إذا سمع الإنسان صوت مدفع قوي جداً ربما ثقب غشاء الطبل، كذلك هذا السمك الذي في قعر البحار له أجواف فيها من ماء البحر، صار الضغط متكافئًا، هذه بعض آيات الله الدَّالة على عظمته.
على الإنسان في البحر أن يكون مع الله دائماً:
يوجد شيء آخر؛ يجب أن يكون الإنسان في البحر مع الله دائماً، لأن هناك أخطاراً، هناك سمك القرش، أشدُّ الأسماك توحُّشاً هو القرش، له قصص، لذلك ما من إنسان يسبح في البحر إلا وفيه قلقٌ من سمك القرش، من أجل أن تكون مع الله دائماً لا أن تنسى، أن كبار السبَّاحين لأتفه الأسباب ابتلعهم السمك، أحياناً يفتحون بطن سمك فيجدون فيه آثار عظام، آثار ساعات، لأنه كان قد التهم بعض السبَّاحين، هناك أسماك كبيرة في الشواطئ، هذه الأسماك آتاها الله ذكاءً عجيباً، وهي الدلفين، لو درست وظيفتها على شواطئ البحار لوجدت أن وظيفتها إنقاذ الغرقى، تألف الإنسان أُلفةً لا حدود لها، تحب الإنسان حبَّاً شديداً، تقود أصحاب السفن إلى شواطئ الأمان، وتنقذ الغرقى، هذه مهمَّة هذه الأسماك.
وإذا أردت كائناً بحريًّا يُعدُّ عملاق البحر فهناك الحوت الأزرق، وزنه مئة وخمسون طنًا، خمسون طناً لحماً، خمسون طناً دهناً، تسعون برميل زيت كبد الحوت، أربعمئة وخمسون كيلو وزن دماغه، ترضع أنثاه كل رضعة ثلاثمئة كيلو، ثلاث رضعات طن من الحليب، يفتح فمه ليأكل يلتقم أربعة أطنان ليشعر بالشبع أحياناً، هذا الحوت ثروة كبيرة جداً، لكنَّه الآن في طريق الانقراض، هذا الحوت يتنفَّس الهواء، لولا أنه يتنفَّس الهواء لما أمكن اصطياده، لو كان كبقيِّة الأسماك تتنفَّس عن طريق الغلاصم من أكسجين الماء، تلاحظون في أحواض الأسماك توجد فقاعات هواء، إن لم يمتزج الماء مع الأسماك يموت السمك، فالسمك يتنفَّس الأكسجين الممزوج بالماء، لكن الحوت أصله من الثدييات لا يتنفَّس إلا بالهواء، فالحوت يخرج إلى السطح ليتنفَّس فيصطاده الإنسان، هذا معنى:
ثم إنكم إذا أكلتم سمكاً صغيراً تشعرون ببعض اللُقيمات بمادَّة كأنَّها خشنة، هذا مبيض السمكة، المبيض فيه مئات ملايين البويضات، لو أن كل بويضةٍ أصبحت سمكةً لجفَّت مياه البحار، ولامتلأ البحر سمكاً، لولا أن السمك الكبير يلتهم الصغير كما لو أنك طبخت في وعاءٍ وضعت بقولاً وجفَّ الماء، لذلك ثروات البحار كبيرة جداً:
﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)﴾
اللحم لم يُذكَر طريَّاً إلا في السمك..
﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
والحقيقة أن المفروض أن يكون لحم السمك متوافر بكميات كبيرة لأن له فوائد كبيرة جداً على القلب والرئتين، والأوعية والشرايين، بل إن هناك أمراضاً كثيرة جداً علاجها في لحم السمك أحياناً، الإنسان في الشتاء ولو كان من النوع الرخيص لابد من حين لآخر من أن يأكل سمكاً، طبعاً غذاء أساسي جداً.
كل شيءٍ خلقه الله يسبِّح بحمده سبحانه:
﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ
الآن عطفنا العام على الخاص، السماوات والأرض كلها مسخَّرةٌ لهذا الإنسان
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
ما قولك أن هذا المخلوق الأول المكرَّم الإنسان الذي خُلِقَت له السماوات والأرض وسخرت له هو وحده غافل والكون كله يسبح الله عزَّ وجل؟ هو وحده الغافل، لذلك:
﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
إذا أكل الإنسان شيئًا، شرب شيئًا، سافر، نظر، أتأمَّل، عن أبي هريرة رضي الله عنه:
(( أوصاني الله بتسع أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر و العلانية ، والعدل في الرضا و الغضب ، و القصد في الفقر والغنى ، وأن أعطي من حرمني ، و أعفو عمن ظلمني ،
طرق معرفة الله:
إخواننا الكرام؛ ملخص الدرس ثلاثة طرق إلى الله،
يوجد أسلوب آخر، قال تعالى:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾
التفكُّر في خلق السماوات والأرض من أرقى العبادات:
الآيات التي شرحت اليوم:
﴿
أي معقول المجرات كلها مسخرة لنا؟ معقول طبعاً بنص هذه الآية، مليون مليون مجرة، بكل مجرة مليون مليون نجم، بعض الشموس عشرة آلاف مليون أضخم من شمسنا، بعض المجرات تبعد عنا أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية، هذا كله بنص هذه الآية مسخر للإنسان،
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين