- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (045)سورة الجاثية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
معرفة الله أثمن شيء على الإطلاق:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الجاثية، ومع الآية السادسة.
في الدرس الماضي أيها الإخوة تحدثنا عن آيات الله الدالة على عظمته، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)﴾
أي الآيات الأولى آيات السماوات والأرض، والآيات الثانية الكائنات الحية، والآيات الثالثة آيات الرزق، أي الله عزَّ وجل خلق الكون مسخراً لكم، وخلقكم، وسخَّر لكم ما في السماوات والأرض جميعاً منه من أجل أن تُرزقوا.
النقطة الدقيقة أيها الإخوة أن الإنسان عندما يجول فكره في آيات الله عندئذٍ تتسع دائرة معرفته، لأنه لا يوجد طريق ثان لمعرفة الله عز وجل، أثمن شيءٍ على الإطلاق أن تعرف الله، والطريق الإجباري الوحيد الذي لا طريق سواه أن تعرف الله من خَلقه، فكلما تفكَّرت في خلقه ازدادت معرفتك، ازدياد المعرفة يتبعها ازدياد الطاعة، والطاعة تطبيق المنهج، معنى ذلك أنك سَلِمْتَ في الدنيا، وسعدت في الآخرة، أي أساس كل الخيرات تبدأ بمعرفة الله، ومعرفة الله أساسها التفكر في الكون.
فأنا أدعوكم أيها الإخوة إلى اليقظة الفكرية، شربت كأس ماء النبي قال لك: سَمِّ، ما معنى سمِّ؟ بسم الله الرحمن الرحيم، مَن جعله عذباً فراتاً؟ من جعله لا لون له ولا طعماً ولا رائحة؟ من جعله بهذه السيولة؟ بهذه الخصائص؟ البسملة من أجل أن تفكِّر في هذه النعمة، والحمد من أجل أن تشكرها، فإذا تناولت الطعام؛ رغيف الخبز، الخضار، الفواكه، ابنك أمامك، هبت نسمات عليلة، ترتدي ثيابًا من قطن، مَن خَلق القطن؟ ثياب من الصوف في الشتاء، مَن خلق الصوف؟ تنام على سرير، فراش وثير، من خلق هذا الفراش؟ من خلق هذه المواد الأولية؟ فلما يعَوِّد الإنسان فكره ليجول في النعم، في البداية يحتاج إلى جهد، لكن بعد ذلك يصبح التفكُّر في آيات الله ديدنه، وشيئاً من سلوكه اليومي، وكلما جال الفكر في الكونيات اتسعت معرفتك لله عزَّ وجل، لذلك: ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه الشمس أمامك، القمر أمامك، المجموعة الشمسية أمامك، تحب أن تفكر؟ فكر، تحب أن تنظر؟ انظر، تحب أن تقرأ؟ اقرأ لا يوجد مانع، أي كلما قرأت عن الكون تزداد تعظيماً لله، كلما استمعت إلى محاضرات عن الكون تزداد تعظيمًا لله، كلما تأملت في خلق السماوات والأرض تزداد تعظيمًا لله، أي لَكَ أن تقرأ، ولك أن تسمع، ولك أن تفكر، كل هذه الطرق تؤدِّي إلى معرفة الله.
منهج التفكر في الخلق:
هناك منهج قد ذكرته من قبل: تصور أن الشيء ليس موجوداً، كيف تغدو حالتك؟ أَلْغِ هذا المفصل وفكِّر، تصور الإنسان بلا عين، أو بعين واحدة، بلا أذنين، أو بأذن واحدة، بلا لسان، بلا مثانة، تصور الرئتين لا تعملان بشكل ذاتي، تحتاج إلى أمر إرادي، لا تستطيع أن تنام إطلاقاً، يُلغى النوم، وأنت بحاجة إلى النوم، معنى ذلك أن هناك خالقًا حكيمًا، لو أوكل إليك التنفس فلا يمكنك أن تنام، إذا نمت تموت، وهناك مرض أساساً يصيب الرئتين، يصيب مركز التنبيه النوبي في البصلة السيسائية، لا يستطيع أن ينام هذا الشخص، واخترعوا دواء، اعتبروه إنجازًا كبيرًا جداً، يجب أن تأخذه كل ساعة مرة، أعرف شخصاً أربع منبهات، يأخذه الساعة الثانية عشرة، ثم في الساعة الواحدة فالثانية فالثالثة فالرابعة فالخامسة فالسادسة فالسابعة، أنت تنام ست ساعات بكل راحة، والرئتان تعملان بانتظام، فجسمك، الكون من حولك، كأس الماء، رغيف الخبز، الفواكه، الثمار، ابنك أمامك، النهر، الطائر، السمك، عَوِّد نفسك أن تفكر.
أي العين موضوع، والأذن موضوع، واللسان موضوع، والأوردة والشرايين موضوع، والشعر موضوع، وطبقات العين من الداخل، ومراحل الأذن من الداخل:
﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)﴾
الأبواب الثلاث؛ الكون والخلق والرزق:
أنا أتمنى على إخواننا الكرام أن هذه الآيات الكونية خلقها الله عزَّ وجل كي نتعرف إليه بها، فلا يكون موقفنا من الكون موقف المنتفعين الأجانب، ينتفع فقط ولا يتعظ، هذا الكون له وظيفتان كبيرتان؛ الوظيفة الكبرى أن يكون هذا الكون دليلاً لك إلى الله، والوظيفة الصغرى أن تنتفع به، الكفار اكتفوا بالصغرى، انتفعوا بالكون، استخرجوا المعادن، صنَّعوا المعادن، استخرجوا المياه، أنشؤوا السدود، صنعوا مركبات، صنعوا نقل الصورة والصوت، استفادوا من الكون، ولكن لم يتعظوا به، المؤمن يَعْبُرُ من النعمة إلى المنعم، من الكون إلى المكوِّن، من النظام إلى المُنَظِّم، من التسيير إلى المُسَيِّر، من التربية إلى المربي، دائماً ينتقل إلى الأصل؛ الكافر يبقى في الشيء، يبقى في النعمة، يستغرق بها، وينسى المُنْعِم.
تصور رجلاً ماشيًا في الصحراء بمركبة أو على جمل، إما أن المركبة تعطَّلت، أو غاب الجمل عنه، وهو بالصحراء فأيقن بالهلاك، هلاك قطعي، من شدة التعب والبكاء والخوف أصابته سِنَةٌ من النوم فنام، ثم استيقظ، رأى مائدة عليها ما لذّ وطاب، فهل من المعقول أن يأكل على الفور؟ ينظر من أعدّ هذه المائدة؟ من وضع هذه المائدة؟ من هيأها؟ من وضع هذا الطعام؟ من وضع هذا الشراب؟ أمن المعقول لإنسان أن يقبل على النعمة وينسى المنعم؟ هل من المعقول أن تُدعى إلى وليمة فتدخل البيت وتتناول الطعام، وتأكل، وبعد ذلك ترجع، وتخرج من الباب؟ ألا تقل: من ضيفني؟ لتشكره على الطعام، تبارك له بالبيت، فكيف الإنسان يقبل على نعم الدنيا يستهلكها وينسى المنعم؟
الشكر إدراك وحال وسلوك:
لذلك أيها الإخوة الشكر أن تعرف أن هذه النعمة من الله، هذا رقم واحد، ثانياً: أن يمتلئ قلبك امتناناً له، ثالثاً: أن تخدم عباده شكراً على نِعَمِهِ، فالشكر إدراك وحال وسلوك.
كلما ضعفت المعرفة ضعفت الطاعة:
أما الآية الدقيقة:
﴿
آيات الخلق، وآيات التكوين، آيات الكون، وآيات الخلق، وآيات الرزق،
الفكر أداة معرفة الله وسبب سعادة الإنسان:
إذاً:
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنه واحد
* * *
الآن انظر إلى نملة وأنت تسير، ضع يدك أمامها تجدها قد وقفت، لماذا توقفت؟ معنى هذا أنها رأت، تغير اتجاهها معنى هذا هناك أمر صدر من الدماغ للعضلات، معنى ذلك أن فيها دماغاً، وجهازاً عصبياً، وجهازاً عضلياً، وقلبًا ينبض، وإدراكًا، ورؤية، هذه النملة الصغيرة.
هناك دويْبِيَة أي لا تزيد على ربع مليمتر تمشي وترى، إذا كانت البعوضة –كما قلت لكم في درس سابق- عندها جهاز تحليل دم، وجهاز تخدير، وجهاز تمييع، وجهاز رادار، ولها ثلاثة قلوب، قلب مركزي وقلبان فرعيان، ترف أربعة آلاف رفة في الثانية، ولها محاجم، ولها مخالب، هذه البعوضة التي إذا قتلها الإنسان لا يحس بشيء، أحضر لي شخصاً يشعر أنه إذا قتل بعوضة أنه قاتل، هيِّنة على الناس، هينة جداً، والنبي قال: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))
أي هذه الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة، لذلك هي أحقر من أن تكون عقاباً لعبد، وأحقر من أن تكون مكافأة،
إخواننا الكرام؛ إما أن تفكر كل يوم بعد صلاة الفجر، قبل أن تنام، أثناء النهار، هذا الفكر يجب أن يتحرَّك، لأنه إذا تحرك قادك إلى الجنة، وإذا لم يتحرك استخدمت هذا الفكر لغير ما خُلِق له كنت من أشدّ الخاسرين.
ممكن الآن جهاز كمبيوتر ثمنه حوالي ثلاثين مليوناً حجمه بحجم الطاولة فرضاً تستعمله كطاولة للطعام؟! ألا تكون قد احتقرته؟ حاسوب ثمنه كذا مليون، وسعته التخزينية كذا ألف ميغا، تستخدمه طاولة طعام؟! هو مثل الطاولة، هذا احتقار له، كذلك العقل البشري تستخدمه فقط لكسب الرزق؟! فقط لكسب المال؟! فقط للإيقاع بين الناس؟! فقط للانغماس في الملذات؟! يوم القيامة سيرى الإنسان أن هذا الفكر أداة معرفة الله، سبب سعادتك، لذلك هنيئاً لمن أعمل فكره في معرفة الله، وفي التقرُّب إليه،
العاقل من يعدّ للشيء قبل أن يقع:
لذلك من دون تفكر يكون الإنسان عابدًا، والعابد إخواننا الكرام مقاومته هَشَّة، فلا يستطيع كثيراً مقاومة الشهوات، الإيمان أحياناً يقاوم، الدنيا فيها فتن كثيرة، طبعاً إذا الإنسان لم يكن هناك إغراءات لا يسمى مؤمناً، لكن بالطريق يوجد فتن، في العمل يوجد فتن، في كسب المال يوجد فتن، في الزواج يوجد فتن، في الزواج أحياناً الزوجة تضغط على زوجها ليكسِبَ مالاً حراماً ليلبي رغباتها، الزوجة أحياناً تكون فتنة.
أعرف شابًا عمل في مكان براتب جيد جداً، متزوج حديثاً، تحت ضغط داخلي من زوجته، ألبسة، وزينة، وما شاكل ذلك مدّ يده إلى الحرام من المحل التجاري، كُشِف أمره، فطُرِد، بقي من دون عمل، فالزوجة فتنة، الطريق فتنة، التعامل المادي فتنة، كسب المال فتنة، إنفاق المال فتنة، فالعبادة الآن لا تُنَجِّي، يمكن قبل خمسين سنة، قبل مئة سنة كانت الأمور بسيطة جداً، والطرقات خالية من الفتن، وكسب المال سهل، وكسبه أكثره حلال، والناس جميعهم أصحاب دين، يجوز قبل خمسين أو ستين سنة التقليد ينفع، أما الآن مع اشتداد الفتن، والضلالات، والمذاهب الهدَّامة، وطُرُق الكسب غير المشروعة، فلا يكفي إلا الإيمان، لا يصمد أمام هذه الفتن وتلك الضلالات إلا الإيمان القوي، والقضية قضية مصيرية، لا قضية تسلية، أننا حضرنا مجلس علم والدرس جميل، القضية أخطر من ذلك، قضية مصيرك الأبدي، يقولون أحياناً ببعض التعابير الحديثة : قضية مصيرية، يوجد قضايا ثانوية، وهناك قضايا مصيرية، يعبرون عن القضية المصيرية نكون أو لا نكون، أحياناً تكون القضية قضية مصير إما أن تبقى، وإما أن تفنى، هذه قضية مصيرية.
مثلاً إذا كان عند إنسان عدة أعمال يجب أن ينجزها، كتبها بقائمة، لو فرضنا أنه أصابه مرض عضال، كل هذه البنود لا معنى لها، يلغيها كلها، عنده أمر أهم؛ قضية وجوده أو عدم وجوده، بقاؤه حيًّا أو موته، هذا مقدَّم على تفاصيل الحياة، فقد يحتاج إلى جهاز صغير، أو يحتاج إلى إرتاج للباب، يحتاج إلى إصلاح غرفة، إصلاح مركبته، عندما يكون معه مرض عضال ينسى كل هذه الأشياء، فنحن نريد أن نعرف أن معرفة الله قضية مصيرية متعلقة بالآخرة، متعلقة بسلامة الإنسان في الدنيا، وفوزه في الآخرة، فلذلك ليس للإنسان الحق أن يجعل أخطر قضية في الهامش.
هناك شيء على السطح وشيء مهمل، الإنسان عادةً يهتم بالأشياء التي على السطح، يجوز الدنيا حر لا يخطر في باله أن يهيئ مستودعات الوقود للشتاء، القضية تركها، لكن متى يفكر فيها؟ إذا جاء البرد فجأةً بقسوة بالغة، يفكر أن يملأ مستودعات الوقود عنده في البيت، لكن العاقل هو الذي يُعِد للشيء قبل أن يقع، فلذلك موضوع الموت موضوع خطير جداً، لكن أكثر الناس لم يدخلوه في حساباتهم، يفكر في كل شيء، يقول لك: هذا البيت لا يربح إذا اشتريته، هذه الدكانة عليها تنظيم، دائماً تفكيره إلى عشرين سنة قادمة، إذا اشترى أو باع، أو تاجر أو أسس شركة يقول لك: هذه ليس لها مستقبل، لأن في فكره أن يعيش خمسين سنة قادمة، أما الموت فلا يدخله في حساباته اليومية، قد ينتقل إلى الله عزَّ وجل بأقل من لمح البصر.
فيا أيها الإخوة الأكارم؛ هذا العقل، أو ذاك الفكر الذي أودعه الله فينا علينا أن نُعْمِلَهُ وفق ما أراد الله، لا وفق ما نريد.
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
إذا فكَّر الإنسان صباحاً، وأحبّ أن يسجل تفكيراته على ورقة، مرة فكر في عينه، مرة في أذنه، مرة في شعره، مرة في جهازه العظمي، مرة بجهازه العضلي، مرة بجهاز الدوران، مرة بجهاز الهضم، مرة بجهاز التصفية والإفراز، مرة فكر بطعامه، مرة بشرابه، مرة بأولاده، مرة بالجبال، مرة بالأنهار، كل كلمة باب كبير لا ينتهي، فهذا الفكر ينبغي أن يُدرَّب على التفكُّر في الكون، دائماً الشيء وخلاف ما هو عليه، الشيء وعدمه، الشيء وأصله، تعرف قيمته.
تجد رجلاً في الخمسين، وزنه خمسة وثمانون كيلو، هذا عندما وُلِد كم كيلو كان؟ ثلاثة كيلو، من أين جاء هذا الوزن؟ من الطعام والشراب، هذا الطعام والشراب يساوي عضلات؟ يساوي عظام؟ يساوي أنسجة؟ معنى هذا أن جهاز الهضم شيء عظيم جداً، تأكل تفاحة، تأكل برتقالة، تأكل خبزًا، تأكل لحمًا، هذا الطعام يصير كيلوسًا، يُهضم، تمتصه الأمعاء، يذهب إلى البناء، يصير فيه عضلات، يصير فيه مواد شحمية، مواد دهنية، هذا الجهاز الذي يحول الطعام إلى نسيج لحمي، ونسيج شحمي، ونسيج دهني جهاز عظيم جداً، هذه من آيات الله.
الدين قضية مصيرية:
﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)﴾
إخواننا الكرام؛ كلمة ويل الهلاك ﴿لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ الأفّاك من هو؟ الذي يفتري على الله، يقول لك: هكذا رأيي، من أنت؟
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟
* * *
الجواب: فمن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟ من أنت؟ أنت مشرّع؟ لا، أنت منظّم؟ لا، تعرف كل شيء؟ لا، فالأفّاك هو الذي يفتري على الله، تجده لو أحضرت له آية يقول لك: أنا هكذا قناعتي، هذا أفّاك، أنت معك علم يقيني؟ لا، جاءك الوحي؟ لا، عندك مناقشة منطقية؟ لا، فكيف تدّعي هذه الآراء؟ اقعد مع أكثر الناس تجد أن كل واحد يفلسف الحياة فلسفة تتناسب مع وضعه، إذا كان يحب الاختلاط يقول لك: الاختلاط ليس حرامًا، هذا تزمت يا أخي، إذا كان ماله بالربا، يقول لك: الربا ماذا فيه؟ فهل يعقل أن المال لا نثمره، أأنت مجنون؟ هو أصبح مشرّعاً، كل إنسان يريد دينًا تفصيلاً بحجم شهواته وانحرافاته، هذا الشيء الخطير في الدين، أن الذي يعجبك تطبقه، وما لا يعجبك لا تهتم فيه، أو تنكره، هذا موقف خطير في الدين،
هناك آية قرآنية في سورة الأعراف، ذكر الله المعاصي بالتسلسل، ذكر الفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، وذكر الشرك، وذكر الكفر، وذكر أكبر معصية على الإطلاق قال:
﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
الإمام الشافعي يقول:
أنا أتمنى على كل إنسان أن يشكِّل حياته وفق الدين، هناك أشخاص ماذا بقي معه من وقت فراغ يطلب العلم، أما عمله فقبل كل شيء، أي ليس مستعدًا أن يتخلى عن بيعة واحدة، ويتخلَّى عن زبون واحد، ويحضر مجلس علم، إلى التاسعة، إلى أن ينتهي الدوام، أخي قبل ساعة، قد يأتي زبون يبيعه بيعة المحل لا يغلقه قبل ساعة، هذا مشكل نشاطه الديني على الفضلة، ماذا بقي من عمله؟
هناك إنسان الدين عنده كل حياته، يشكل حياته كلها وفق منهجه في الدين؛ صلواته، دروس العلم مثلاً، طاعته لله عزَّ وجل، وهناك أشخاص لا يهمه إذا كان ثمة اختلاط، يقول: ماذا أفعل؟ هكذا أهلي، هكذا يريدون، هكذا تريد زوجتي، ماذا أفعل؟ لكن المؤمن يغيِّر كل نمط حياته، يغيّر كل علاقاته وفق منهج الله عزَّ وجل.
العلاقة بين أفّاك وأثيم:
أيها الإخوة الكرام؛ في هذه الآية شيء دقيق جداً:
مثلاً: لو أن إنسانًا اعتقد خطأً أن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لأمته مهما عملت من ذنوب، معه بعض الأدلة، بعض النصوص، ولكنه لم يحاول أن يفهمها فهمًا عميقًا، أن تعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيشفع لك، هذا الاعتقاد سيحملك على ماذا؟ على أن تعصي الله، لا يمكن أن تعتقد اعتقادًا خاطئًا إلا ويقابل هذا الاعتقاد سلوكاً خاطئاً، فالأفاك دائماً أثيم..
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
هو نفسه، لذلك الإنسان يحاول أن يصحح عقيدته، لأن عقيدته متعلقة بسلوكه، إذا اعتقدت أن فلانًا بيده أمرك، إذاً لو أمرك بمعصية تعصي الله من أجله، أما إذا اعتقدت أن الله بيده الأمر، وفلان لا يقدم ولا يؤخِّر، لا تطيعه في معصية، فلا يسلك الإنسان سلوكًا إلا كان أساسه قناعة، إما صحيحة، وإما باطلة.
سأل والي البصرة الحسن البصري-كان تابعيًا جليلاً- جاءه كتاب من الخليفة، هذا فيه توجيه خلاف المنهج الإلهي، فوقع في حيرة، إن نفَّذ أمر الخليفة أغضب الله، وإن أرضى الله، ولم يعبأ بأمر الخليفة أغضب الخليفة، وقد يعزله من منصبه، وقع بحيرة سأل الحسن البصري، قال له كلمة، قال له: ماذا أفعل؟ قال له كلمة:
العقيدة الزائغة من لوازمها السلوك الزائغ، أبداً، لو فرضنا أن العقيدة الزائغة ليس لها علاقة بالسلوك فاعتقد ما شئت، لا مشكلة عندئذٍ، لكن نحن نشدد على العقيدة الصحيحة، لأن أي عقيدة خطأ يتبعها سلوك خطأ، هؤلاء الذين يرتكبون المعاصي كيف يرتكبونها؟ عندهم شعور أن الله لن يحاسبهم حسابًا دقيقًا، لا تدقق، أو عندهم شعور آخر أن النبي سيشفع لهم، أو يقولون: من مات ورجع، وقال: هناك آخرة؟ هذه أفظع، أما أن يرتكب الإنسان معصية من دون عقيدة فيها خلل فهذا مستحيل، العقيدة الصحيحة تحاصرك، انظر إلى الطبيب أحياناً تجده يبالغ في غسل الفاكهة أكثر من غيره، ما السبب؟
مرة كنت بسهرة، قُدم لنا طعام فيه قشدة، الطبيب رفض أن يأكلها، كُل، قال: أفتح القلب أجد الشريان مسدودًا كله من القشدة، كوليسترول، عنده كل يوم عملية قلب، يرى آثار المواد الدسمة في الشرايين، تسدها، فلا يأكل، الذي يرى الجراثيم والأمراض الإنتانية والحالات الصعبة في الحياة يكره أن يأكل فاكهة من دون غسل، يضعها بالبرمنغنات، أحياناً يغسلها مرتين أو ثلاثاً بالصابون، لأنه يرى، فأنت كلما ازداد علمك يزداد انضباطك، قضية مصلحة ذاتية، أحب نفسك ولا تحب أحداً آخر حتى تنجو، إذا كانت نفسك غالية عليك، أنت حريص على سلامتك، على سعادتك، وهذا المنهج، هذه تعليمات الصانع، فهذه:
(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ. ))
قصص لا تعد ولا تحصى؛ اشترى أخوان بيتاً مناصفةً، لكن الثاني أخ للأول من أم وأب، لم يخطر في بال الثاني إطلاقاً أن يطالبه بإيصال، وقد اشتراه عن طريق جمعية سكنية تابعة لإحدى الوزارات، فالأخ الأول سجل البيت باسمه، والثاني دفع نصف ثمنه، فبعدما أن صار ثمن البيت عشرين مليونًا، قال الذي يملك البيت لأخيه: لا شيء لك عندي، واستطاع بطريقة أو بأخرى أن يجعله خارج البيت، وظن نفسه ذكيًا، وشاطر، واتفق مع محامين أقوياء لهم مركز قوي، وجعل أخاه في الطريق، واستأثر بهذا البيت- بالطبع هذه القصة طويلة- بعد شهر مرض المغتصب مرضًا خبيثًا أصاب أمعاءه، بعد شهرين كان تحت التراب، رجع البيت إلى أخيه، في علاقة أنثى وذكر، لو عرف أن الله يحاسب حسابًا دقيقًا لما فعل ما فعل.
إن الإنسان لا يرتكب معصية إلا بجهل كبير، أنت صديقك العلم، النجاة في العلم، بالعلم تعرف الله، تعرفه أنه يحاسب، تعرفه عادل، تعرف أنه لا يضيع عنده حق أبداً، تعرفه أن كل شيء بيده، فإذا أراد ربنا عزَّ وجل جعل حياة الإنسان جحيمًا بأتفه الأسباب، ممكن يجعلك من أسعد الناس بطاعته، فأنت عندما تتراكم عندك الحقائق والقناعات تستقيم، وتجد نفسك مستقيمًا بشكل عفوي، لا أفعل هذا، معاذ الله، سيدنا يوسف قال:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ
يمكن لو وضعت ألف إنسان مكان سيدنا يوسف لرآها مغنمًا كبيراً، أما سيدنا يوسف فلأنه يعرف الله عزَّ وجل قال:
العذاب المهين عاقبة كل من يستهين بالدين:
فيا أيها الإخوة الكرام؛
﴿
أحياناً يحب الإنسان أن يمزح، الكفار لا يحلو لهم المزاح إلا في شؤون العقيدة والدين، القضايا المقدَّسة يجعلونها محلاً لمزاحهم واستهزائهم وسخريتهم،
العذاب لمن يستهين بالدين بالدنيا مهين وبالآخرة عظيم:
﴿
قد يكون غنيًا كبيرًا
﴿ هَذَا هُدًى
اعتبروا هذه الآيات شيئًا سخيفًا، ولا وقت عندنا لنفكر، ما فائدة هذه؟ معروفة، هذه شمس، ظاهرة أنها شمس، ماذا فيها؟ هذه طبيعة، صنعت نفسها بنفسها، مادة معقدة، قال:
مركز الثقل، العقيدة المنحرفة يتبعها سلوك منحرف، والسلوك المنحرف سبب شقاء الدنيا وشقاء الآخرة.
إذاً أنت نجاتك في العلم، تعرَّفت إلى الله عزَّ وجل عرفته استقمت على أمره، ولما استقمت استحققت كل إكرام منه في الدنيا والآخرة، القضية لا تعقدوها بسيطة جداً، اعرف الله، واعرف أمره ونهيه، واستقم على أمره تسعد في الدنيا والآخرة.
الدرس القادم إن شاء الله:
﴿ اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)﴾
والحمد لله رب العالمين