- السيرة / ٠1السيرة النبوية / ٠3الشمائل المحمدية
- /
- ٠2الشمائل المحمدية 2010م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام:
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس السادس من دروس الشمائل النبوية، والحديث اليوم عن حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تنسوا أن المقولة تؤكد أن جمال الرجل فصاحته، أجمل ما في الرجل فصاحته، ولا تنسوا أن العرب كانوا يعجبون بالفصاحة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))
إلا أنني؛ هذا أسلوب بلاغي رائع يسميه العلماء تأكيد المدح بما يشبه الذم،قد تقول: فلان كريم إلا أنه شجاع، أنت حينما أقول: إلا أنه، تتصور أنني سأذمه، إلا أنه شجاع.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
* * *
(( أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش ))
وقريش أفصح قبيلة، كان النبي عليه الصلاة والسلام فصيحاً، بل كان أفصح العرب، بل تعلمنا في الجامعة أن أعلى نص بعد القرآن الكريم كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث اليوم عن حلاوة منطق النبي عليه الصلاة والسلام.
اللغة قوام الدعوة إلى الله عز وجل:
بالمناسبة إذا كان أعظم عمل كما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
إذا كان أعظم عمل أن تُمكّن من الدعوة إلى الله عز وجل، فأساس الدعوة إلى الله الحديث، اللغة، الفصاحة، البيان، هل تصدق أن دعوة إلى الله عميقة يمكن أن تسري في كل البلاد بلغة عامية؟ بلغة ضعيفة؟ بجمل غير متينة؟ مستحيل، فلذلك قوام الدعوة إلى الله اللغة، المنطق، الفصاحة، لذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام أفصح العرب قاطبة، بل إن النص النبوي يصنف بعد القرآن الكريم مباشرة، أي أفصح كلام، وأجمل بيان، بعد كلام الله عز وجل كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أوتي جوامع الكلم، والآن علماء كثر ممن يحملون أعلى شهادات في اللغة يدرسون بعض الأحاديث، ويتبحرون في خصائصها من حيث الصياغة، فينالون بهذه الأحاديث الدكتوراه، دكتور في الحديث الشريف، أي جمع بعض الأحاديث ودرسها دراسة عميقة، من حيث المضمون، ومن حيث الشكل.
فبعض الصحابة يقول: لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي، ورجعنا من عنده منصرفين، قالت لي أمي وخالتي:
(( يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهاً، ولا أنقى منه ثوباً، ولا ألين كلاماً، ورأينا كأن النور يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم))
النشاط اللغوي أصل الدعوة إلى الله:
لذلك أتمنى أن الأخ المؤمن يلم بشيء من الثقافة اللغوية، بشيء من قواعد اللغة العربية، يحاول أن يتكلم بالفصحى، من حين لآخر يحاول أن يقرأ ويكتب بالفصحى، هذا النشاط اللغوي أصل الدعوة إلى الله، الأصل أن تأتي العبارة فصيحة متينة، ولا تنسى أيضاً أن الله عز وجل حينما وصف المؤمنين بأنهم يتلون القرآن الكريم حقّ تلاوته، حق التلاوة أي أن تقرأ القرآن الكريم بلغة عربية فصيحة، ألا تخطئ لا في الحركات، ولا في التصريف، ما الفرق بين النحو والصرف؟ الصرف بنية الكلمة، أي تأمل يتأمل، أراد يريد، بنية الكلمة الصرف، أما حركة الحرف الأخير، آخر حرف، لو أنه فعل مضارع لو سبقه جازم يجزم، إن سبقه ناصب ينصب، إن تجرد عن الناصب والجازم يرفع، علم النحو يتحدث عن العوامل النحوية التي تؤثر في الكلمات المعربة، أما الكلمات المبنية تقول: من: اسم موصول مبني على السكون في محل كذا، فالكلمات كما تعلمون معربة، أي حرفها الأخير قابل للتحريك، بين فتح، وضم، وجر، أو تسكين، والكلمات المبنية حرفها ثابت، نقول: الكلمات معربة ومبنية، وكلما شككت في بنية كلمة إن راجعتها في المعجم تضيف ضبط كلمة إلى ذخيرتك اللغوية.
إذاً:
(( يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن منه وجهاً ولا أنقى منه ثوباً، ولا ألين كلاماً، ورأينا كأن النور يخرج من فيه صلى الله عليه وسلم))
الكلمة الطيبة صدقة:
وكما تعلمون:
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))
(( إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاٍ))
(( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ...))
والكلمة الطيبة صدقة، قال تعالى:
﴿ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
والحديث الثاني:
(( لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ))
ما ورد في السنة المطهرة عن جمال منطق النبي عليه الصلاة والسلام:
ومما ورد في السنة المطهرة عن جمال منطق النبي عليه الصلاة والسلام، أن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ سمع من أبيه أُسَامَةَ قَالَ:
(( كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً كَانَتْ مِمَّا أَهْدَاهَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسْ الْقُبْطِيَّةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا ))
أين الشاهد بالنص؟ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا، أي كلمة عظم لا تثير الإنسان، أما أي كلمة أخرى مكان كلمة عظامها قد تكون كلمة مثيرة، أي النبي عليه الصلاة والسلام ينتقي الكلمة ـ إن صحّ التعبير ـ المحشومة التي لا تثير، أي في قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾
طفل صغير يسمع كلمة تغشاها، كلمة سهلة واضحة، لا تحرج، لا يحمر منها الوجه، أنواع الانحرافات الجنسية:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ ﴾
دخل في هذه الكلمة كل انحراف جنسي من دون استثناء.
الأدب القرآني:
أيها الأخوة:
﴿ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾
لامستم: طفل صغير يفهمها لامستم:
﴿ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾
﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فأولئك ﴾
هذا أدب قرآني.
المؤمن يتأدب بالأدب القرآني:
والله أيها الأخوة، تستطيع أن تعبر عن أدق أدق الانحرافات بكلمات لا تثير الشهوة أبداً، هذا الكلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا ))
كلمة عظم لا تثير، أما أي كلمة مكانها تثير، أنا أعتب أحياناً على بعض الخطباء الذي إذا أراد أن يصف الفساد الاجتماعي ذكر مفاتن المرأة بالتفصيل، وكيف أنها بادية للناس، لا يصير، تريد أن تبين الفساد أوقعت المستمعين بالفساد، فلذلك يقول لك إنسان: والله عاشرته ثلاثين عاماً لم أسمع منه كلمة محرجة، ولا كلمة غير منضبطة، علامة المؤمن انضباط لسانه:
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فأولئك ﴾
﴿ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾
﴿ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا ﴾
هذا أدب قرآني، والمؤمن يتأدب بالأدب القرآني.
ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان:
شيء آخر: أحياناً والله لا أصدق هذا على مؤمن متفوق، هناك مزاح فاحش، مزاح فيه ذكر العورات، أنا لا أصدق أن يجرؤ مؤمن أن ينطق بهذا المزاح، ولا أن يطرب له، لأنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ))
هذا كلام السوقة، كلام دهماء الناس، كلام الجهلاء، كلام غير المنضبطين:
(( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ))
وأنا أتمنى إذا كان أحد الأخوة الكرام في مجلس، وبدأت الطرف الجنسية تلقى ألا يبقى في المجلس، بقاؤه في المجلس يحمله إثماً، لأن المؤمن:
(( لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيءِ))
هذه فحشاء الطرف الجنسية، اسم العورات، المغامرات الجنسية، هذه كلها بعيدة عن ثقافة المؤمن، وعن أخلاق المؤمن، وعن منطق المؤمن، وصدق ولا أبالغ قد تعرف المؤمن من انضباط لسانه، هناك جلسات وما أكثرها، أكثرها طرف لا يليق أن تسمعها وحدك فكيف إن كانت بين مجموع؟ وكيف إن كان في هذا المجلس أطفال صغار؟
النبي الكريم أفصح خلق الله لساناً وأوضحهم بياناً:
وكان عليه الصلاة والسلام أفصح خلق الله لساناً، وأوضحهم بياناً، أوتي جوامع الكلمة، وبدائع الحكم، وقوارع الزَجر، وقواطع الأمر، والقضايا المحكمة، والوصايا المُبرمة، والمواعظ البليغة، والحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، والأدلة الساطعة.
هذا كان منطق النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أنه يَقُولُ:
(( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالْمُوَدِّعِ فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ وَعَلِمْتُ كَمْ خَزَنَةُ النَّارِ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ وَتُجُوِّزَ بِي وَعُوفِيتُ وَعُوفِيَتْ أُمَّتِي فَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا مَا دُمْتُ فِيكُمْ فَإِذَا ذُهِبَ بِي فَعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ ))
ومن وصايا النبي عليه الصلاة والسلام الكثيرة ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنة رسوله.
ضبط اللسان من صفات المؤمن:
أيها الأخوة، ضبط اللسان من صفات المؤمن:
احذر لسانَك أيُّــها الإِنسانُ لا يلدغنَّك إنـه ثُـــعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لسانِه كانت تهابَ لقاءَه الشجعانُ
***
إنسان أحياناً ينتهي بكلمة، البطولة أن تضبط اللسان، هناك حديثٍ آخر:
(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا ـ أي الشريعة ـ بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))
أحياناً إنسان يصل إلى الحق، إلى كتاب الله، إلى سنة رسوله، ينبغي ألا يلتفت إلى شيء آخر، هذا هو الأصل، هذا هو الحق الصراح.
تحدث النبي عن خصائصه و نبوته من قبيل التعريف لا المباهاة:
أيها الأخوة، وفي حديث آخر يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ))
النبي عليه الصلاة والسلام إن تحدث عن نفسه صدق ولا أبالغ مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يتحدث مفتخراً:
(( أنا سيد ولد آدم ولا فخر))
لكن النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يبين لنا من هو دائماً وأبداً، من مهمات الأنبياء أن يذكروا خصائصهم، بل سمح لهم أن يتحدوا بمعجزاتهم الطرف الآخر، فهذا الكلام إذا تحدث النبي عليه الصلاة والسلام عن خصائصه، عن نبوته، عما آتاه الله عز وجل من فصاحة، من نسب، فهذا من قبيل التعريف، والدليل:
(( أنا سيد ولد آدم ولا فخر سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكونَ أنا ))
من فصاحة النبي الكريم أنه كان يتكلم أحياناً بلهجات العرب:
من فصاحته صلى الله عليه وسلم أنه كان يتكلم أحياناً بلهجات العرب، فقال يوماً:
(( لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ ))
أي ليس من البر الصيام في السفر، وخاطب إنساناً آخر بلغة أخرى، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))
فكلمتان تقولهما بعض القبائل، النهاوش أي بالاحتيال، والنهابر يذهب ماله في مهالك:
(( من أصاب مالاً من نهاوش أذهبه الله في نهابر))
هناك مهاوش ونهاوش، كان متقناً لهذه اللغة، متقناً للهجاتها، فكان يخاطب صاحب اللهجة بلهجته.
تأني النبي الكريم في حديثه:
وبعض أصحابه يقول:
(( قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من بني سعد بن بكر وكنت أصغر القوم، فخلفوني في رحالهم، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى من حوائجهم ثم قال: هل بقي منكم من أحد قالوا: نعم خلفناه في رحالنا، فأمرهم أن يبعثوا إلي، فأتوني فقالوا: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فلما رآني قال: ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئاً، فإن اليد العليا هي المنطية ـ عوض المعطية في بعض اللهجات النون مكان العين ـ وإن اليد السفلى هي المنطاة ـ المعطاة ـ وإن مال الله تعالى لمسؤول، ومنطي، قال: فكلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتنا ))
(( لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ))
كان يتأنى في الحديث، كلمةً كلمة، جملة جملة، فالذي يسمع منه يحفظ، كنا في الجامعة هناك مواد كثيرة و أساتذة كثر، هناك أستاذ يحضر درسه خمسة طلاب، وأستاذ آخر عشرة طلاب، و أستاذ يحضر درسه مئتان وعشرون طالباً، السبب أنه فصيح، أفكاره واضحة جداً، تعابيره متقنة، تستمع إلى الدرس تحفظه من فمه، هذه قدرة بالإنسان، ما الذي يمنع حينما تقرأ قول سيدنا عمر: "تعلموا العربية فإنها من الدين"، ما الذي يمنع أن تقتني بعض الكتب في النحو والصرف؟ أن تحاول أن تتكلم بالفصحى مع أولادك؟ أدخل هذه اللغة لغة القرآن إلى بيتك، تعلموا العربية فإنها من الدين، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما قال أبو هريرة:
(( لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ))
كان يتأنى جملة جملة، كلمة كلمة، عبارة عبارة، وفي روايةٍ عن عائشة:
(( إنما كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهماً تفهمه القلوب))
النبي الكريم يكره التنطع في الكلام والتكلف في الفصاحة:
مرة ثانية: جمال الرجل فصاحته، وفي الصحيحين عن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم:
(( كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا ـ التكرار أحياناً يفيد ومن صفات كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ يتكلم بكلامٍ فصلٍ لا هذرٍ ولا نذرٍ ويكره الثرثرة في الكلام والتشدق به وكان صلى الله عليه وسلم يكره التنطع في الكلام والتكلف في فصاحته))
هناك إنسان أحياناً يتكلف الفصاحة، يروي شاهد إنسان وقع من على الدابة فتحلق الناس من حوله، فقال لهم: مالكم تكأكأتم عليّ تكأكؤكم على ذي جنة، أي مجنون، افرنقعوا عني، هذا التكلف، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يكره التنطع في الكلام، والتكلف في الفصاحة.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ ))
أي فصاحته مقصودة لذاتها، ليعرض عضلاته، يستخدم كلمات غير واضحة، إنسان قال بيت شعر:
مدخوصة بنحيص الدحص بازلها له صريف صريف القعو بالنسب
***
هل فهمتم شيئاً؟ يتقصد أبياتاً صعبة، كلماتها غريبة، بل كلماتها ميتة، فهذا الذي يتقصد الفصاحة، والتقعر، والكلمات الغريبة، هذا ليس على سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
كلام النبي الكريم ليس مخلاً بإيجاز ولا مملاً بإطالة:
وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا خطب لا يُخل ولا يمل، كلامه بين الإيجاز المخل والإطناب الممل، هناك إطناب ممل وهناك إيجاز مخل، بين المخل والمطل، ليس كلامه مخلاً بإيجاز، ولا مملاً بإطالة. وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال:
(( كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا - معتدلة - وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا - أي وسطاً -))
وكان عليه الصلاة والسلام لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هي كلماتٌ يسيرة، وسأله أعرابي: "يا رسول الله عظني ولا تطل "، فتلا عليه قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾
فقال له: " كفيت "، فقال النبي: " فقه الرجل ".
أيها الأخوة، الحديث عن فصاحته أمر يطول، ولكن أتمنى أن يقتدي أحدنا بهذه الفصاحة، ويحتاج إلى شيء من الثقافة اللغوية، شيء من الكتب الأدبية المتقنة ذات الأسلوب القوي، واقتباس الكلمات، والعبارات، والصور البيانية، هذه تغني ثقافته، وتغني عبارته، ولعله يوفق في إلقاء الكلام على نهج سيد الأنام.