- (007)-سورة-الأعراف
- /
- (007)-سورة-الأعراف
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الثاني من دروس سورة الأعراف ، ومع الآية الثانية ، وهي قوله تعالى :
﴿كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
الله محمود على الخلق وإنزال الكتب :
أيها الإخوة ،
﴿ كِتَابٌ ﴾
أي القرآن الكريم
﴿ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
الكون .
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ﴾
القرآن .
1 – لا بد للخلق من منهجٍ يسيرون عليه :
الكون في كفة والقرآن في كفة ، الله عز وجل خلق السماوات والأرض ونور السماوات والأرض بالهدى .
للتقريب : يُشق الطريق ، ثم توضع الشاخصات ، هنا منعطف ، هنا تقاطع ، هنا منحدر ، هنا طريق ذات اتجاه واحدة ، يشق الطريق أولاً ، وتوضع الشاخصات ثانياً .
لذلك :
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
خلق السماوات والأرض ، وهداية الله نور السماوات والأرض ، وفي درس سبق بينت لكم أن الله سبحانه وتعالى قا
﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾
والترتيب ليس الترتيب زمنياً ، إنما هو ترتيب رتبي ، بمعنى أنه لا معنى لوجود الإنسان من دون منهج يسير عليه ، من دون منهج يَشقى ويُشقي ، في شهوات يندفع من خلالها ، هذا الاندفاع من دون منهج يسير عليه يسبب شقاء للبشر .
2 – بين المنهج الإلهي السماوي والأنظمة الأرضية الوضعية :
لذلك :
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ ﴾
إذا سمعت كلمة أنزل أي من الأعلى ، الأرض فيها مبادئ وفيها اتجاهات ، وفيها فلسفات ، وفيها تصورات ، وفيها مذاهب ، وفيها اتجاهات ، لكن هذا الكتاب أنزل من أعلى ، من عند خالق السماوات والأرض ، كلمة أنزل يعني ليس من صنع البشر ، ليس من ثقافة البشر ، ليس من تصورات البشر ، ليس من معطيات البشر ليس من اختراع البشر ، هذا من إله البشر ، من خالق السماوات والأرض .
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾
يا محمد .
أيها الإخوة ، من نعم الله الكبرى أنك تتبع منهجاً ليس من نِدٍّ لك ، ليس من مُساوٍ بك ، حينما تتبع منهجاً من صنع إنسان مثلك هذا المنهج يحابي مصالحه ، يحابي حظوظه ، يحابي حاجاته ، لذلك إذا وضع الإنسان التشريع حابى نفسه ، إذا وضع الإنسان التشريع كان نظره قاصراً ، إذا وضع الإنسان التشريع رأى من زاوية واحدة .
3 – الأصل في الأنظمة الأرضية النقص :
لذلك ما من تشريع أرضي إلا ويعدل ، ثم يعدل ، ثم يعدل ، ثم يلغى ، أبداً ، لأن الإنسان ليس مؤهلاً أن يشرع ، لأن علمه قاصر ، وأهواءه تتحكم فيه ، يأتي التشريع منعكساً لضعفه في النظر ، ولضعفه في النفس .
لذلك من نعم الله الكبرى على المسلمين أن التشريع ليس من بعضهم ، ليس من صنع فئة منهم ، ليس من صنع طرف آخر ، التشريع من عند خالق السماوات والأرض ،
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾
معنى : فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ
شيء آخر ،
﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾
الحرج ؛ الضيق ، يا محمد لا تضق ، ولا تُحرج بهذا الكتاب ، ما المعنى ؟
المعنى الأول للنهي ( فلا يكن ...) :
هناك لفتة رائعة جداً لهذه الآية ، أن النهي لا يتوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعدم الحرج ، لكن النهي كما يرى بعض المفسرين يتوجه إلى الحرج بألا يدخل على قلب محمد .
(( قلب العبد بين إصبعين من أصابع الرحمن ))
أحياناً يمتلئ قلبُ الإنسان أمناً ، وقد لا يملك أسباب الأمن ، وقد يمتلئ قلبه خوفاً ، وقد يملك أسباب الأمن .
للتوضيح : إنسان سافر ، والعجلة الاحتياط ليست صالحة ، طول الطريق هو في هلع وخوف شديد ، فلو فسدت عجلة تدور لتوقف عن السير ، لو أن ابنه في الليل أصلح العجلة الاحتياط ، ولم يخبره هذا الذي يقود مركبته في النهار ، وعنده عجلة احتياط فاسدة بزعمه ، والابن أصلحها ، ولم يبلغ أباه يمتلئ قلبه قلقا وخوفا ، ومعه أسباب الأمن ، ولو أن هذه العجلة فاسدة ، لكن الذي يقود المركبة لا يعلم يمتلئ قلبه أمنا ، ومعه أسباب الخوف .
إذاً : الخوف والأمن يلقى في قلب الإنسان ، لذلك قال تعالى :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
فحينما يتوجه الإنسان إلى الله عز وجل لا يسمح الله للقلق ، والخوف أن يتسرب إلى قلب المؤمن ، في قلب المؤمن من الأمن ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، والآية واضحة جداً :
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
تطابق الفطرة مع منهج الله :
لذلك من نعم الله العظمى أن الله سبحانه وتعالى جعل فطرة الإنسان متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله ، فأنت حينما تطيع الله تصطلح مع نفسك ، حينما تطيع الله يلقى في قلبك من الأمن ما لو وزع على أهل بلدٍ لكفاهم ، حينما تطيع الله تلقى في قلبك السكينة ، وحينما تطيع الله تعطى الحكمة .
﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾
حينما تطيع الله تعطى الصبر ، تعطى الرضا .
أيها الإخوة الكرام ،
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾
ينهى الله الحرج ، والضيق ، والقلق ، والخوف ، والألم ، أن تتسرب إلى قلبه صلى الله عليه وسلم .
لذلك قد يعيش إنسانان في ظروف واحدة ، وصعوبات واحدة ، وعقبات واحدة ، وصوارف واحدة ، ومشكلات واحدة ، الأول مؤمن قلبه ممتلئ طمأنينة ، ورضا ، وسعادة وإقبال ، وتفاؤل ، والثاني يمتلئ قلبه بالضيق ، والقلق ، والخوف ، والحقد ، والتشاؤم .
جهازُ المناعة أخطر جهاز في الجسم :
بالمناسبة ، أخطر جهاز يعمل بأجسامنا جهاز المناعة المكتسب
هذا الجهاز أوكل الله إليه القضاء على معظم الأمراض السرطانية والجرثومية ، وهذا الجهاز يقويه الإحساس بالأمن ، يقويه الحب ، يقويه الود ، وهذا الجهاز يضعفه الخوف ، والقلق ، والحقد فأنت حينما تتعرف إلى الله وتتصل به ترتفع معنوياتك .
لذلك بشكل علمي بحت المؤمن أبعد عن الأمراض من غير المؤمن ، لأن جهازه المناعي بأعلى درجة بسبب الحب الذي في قلبه ، والأمن الذي ينعم به ، والطمأنينة التي يرتاح بها ، والتوازن الذي ينعم به .
لذلك :
﴿ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾
بعض العلماء يقول : هذا نهي للحرج أن يتسرب إلى قلب النبي عليه الصلاة والسلام ، أنت مطمئن ، وهذه السعادة النفسية أيها الإخوة والله لا تقدر بثمن .
المعنى الثاني للنهي ( فلا يكن ...) :
هناك معنى آخر ، النبي بشر ، لولا أنه بشر ، تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر .
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم﴾
(( لقد أوذيت في الله ، وما يؤذى أحد ، وأخفت في الله ، وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
هو بشر ، يشتهي ، ويخاف ، ويرغب ، ويتمنى ، لأنه بشر ، ولأنه انتصر على بشريته كان سيد البشر .
أيها الإخوة ، لأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتُهم بأنه ساحر ، هو ليس بساحر ، لأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتُهم بأنه مجنون .
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾
هو بشر ، ولأنه بشر يتألم أشد الألم إذا اتهم بأنه كاهن ، اتُهم أنه ساحر ، وأنه كاهن ، وأنه مجنون ، لكن السؤال :
لماذا أثبت الله في القرآن الاتهامات الظالمة التي اتُهم بها النبيُّ ؟
يا رب ، هذا نبيك ، هذا سيد الخلق ، هذا حبيب الحق ، هذا سيد ولد آدم ، هذا صفوتك من خلقك ، فكيف تثبت في القرآن الكريم الاتهامات الظالمة التي اتُهم بها ؟ كنا نتوقع أن هذه التهم الظالمة الجاحدة أن لا تُذكر في كتاب الله ، كتاب الله يتلى إلى يوم القيامة ، نتعبد الله بقراءاته .
قال بعض العلماء : الحكمة من هذا أن كل من دعا إلى الله ، إلى نهاية الحياة سيلاقي متاعب كثيرة ، لأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أسوة للمؤمنين ، أسوة للعلماء ، أسوة للدعاة إلى الله ، هذا سيد الخلق ، وحبيب الحق كُذب ، وعورض ، واتُهم ، اتُهم بأنه مجنون ، وبأنه ساحر ، وبأنه كاهن ، وهو فوق هذه الشبهات كلها :
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾
إذاً : كأن هذه التهم التي أثبتها الله في القرآن الذي نتعبد الله بتلاوته إلى يوم القيامة هي تسلية ، وتعزية ، ومواساة ، وتطييب قلب لكل من دعا إلى الله بعده ، ولاقى من المتاعب ما لاقى .
ولا يغيب عن أذهانكم أن إرادة الله شاءت أن يجتمع المؤمنون وغير المؤمنين في هذه الأرض ، واجتماع المؤمنين وغير المؤمنين ينتج عنه معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، فليوطِّن المؤمن نفسه أنه في معركة ، معركة الحق والباطل ، معركة الخير والشر معركة الظلم والعدل ، معركة الرحمة والقسوة .
لذلك هذه الآيات التي تثبت التهم الظالمة التي اتُهم بها النبي عليه الصلاة والسلام هي تسلية لكل مؤمن من بعده :
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾
المعنى الثالث للنهي ( فلا يكن ...) :
هناك معنى ثالث : أن الله سبحانه وتعالى يطيّب قلبَ نبيّه ، مع أنهم اتهموك لكنك عندي من المقربين ، لا حرج عليك ، مع أنهم اتهموك إنك من منأى عن كل هذه التهم ، وأنت فوق كل هذه التهم ، وأنت النبي الأول ، وأنت الرسول الأول ، وأنت الحبيب الأول ، وأنت المقرب الذي بلغ مرتبة عند الله لم يبلغها نبي مرسل ، ولا ملَك مقرب حين بلغ سدرة المنتهى .
﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾
موقف البشر مع رسالات الله قسمان : مؤمن وكافر :
أيها الإخوة ،
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ﴾
كأن الله سبحانه وتعالى يشير في هذه الآية الثانية من سورة الأعراف أن البشر حينما تأتيهم رسالات السماء ينقسمون ، ينقسمون على فريقين ، فريق يؤمن بها ، وفريق يكفر بها ، فريق يتلقاها بالقبول والرضا ، وفريق يتلقاها بالمعارضة والتكذيب ، هكذا شأن الحياة ، بالحياة اثنينية ، فيها حق وفيها باطل ، فيها خير وفيها شر ، فيها جمال وفيها قبح ، فيها عدل وفيها جور ، فيها إحسان وفيها إساءة ، فيها رحمة وفيها قسوة ، كل الصفات السلبية صفات أهل الكفر والضلال ، وكل الصفات الإيجابية صفات أهل الإيمان والإسلام .
لذلك كيف أننا في الأحداث التي تحيط بنا أحياناً ينشأ حدث عظيم ينقسم به المجتمع كما ترون ، وكذلك الناس حينما تأتيهم رسالات الله ينقسمون إلى مؤمنين وإلى كافرين ، والدليل :
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾
يكذبونه ، ذلك بأن الطرف الآخر يتحرك بلا ضابط ، بلا منهج ، بلا تعليمات بلا توجيهات ، بلا قيم ، بلا مبادئ ، تحركه شهوته ، دابة متفلتة ، تبحث عن إرواء شهواتها بأي طريقة ، بأي ثمن ، بأي أسلوب ، بلا رادع من قيمة أو مبدأ ، أو حياء ، أو خجل ، هكذا العالم اليوم ، انقسم إلى قسمين مؤمن وكافر ، مقسط وظالم ، القاسط هو الظالم ، أما المقسط فهو العادل ، وقد انقسم العالم اليوم إلى مثل هذا .
لذلك المؤمن يتلقى هذه الرسالة بالقبول والإيمان ، والتصديق ، والبكاء ، والسعادة بينما غير المؤمن يتلقى هذه الرسالة بالتكذيب ، والسخرية ، والمعارضة ، والرد ، لذلك يقول الله عز وجل :
﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ ﴾
من ؟ الكافرين المكذبين ، الساخرين ، المعارضين
﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
معنى ذكرى :
ما معنى ذكرى ؟
إذا ذهبت إلى بلد من البلدان ، وليكن إلى بلد ساحلي ، ورأيت صخرة مشهورة في هذا البلد ، ولتكن صخرة الروشة في بيروت ، رأيتها بأم عينك ، بعد بضع سنوات رأيت صورة لهذه الصخرة ، تقول : نعم كنت في هذا المكان ، ما معنى ذكرى ؟ إنه شيء رأيته ، شيء تعرفه ، لكن هذه الصورة ذكرتك به ، شيء رأيته ، شيء تعرفه ، لكن هذه الصورة ذكرتك به .
فلذلك الله عز وجل حينما خلق النفوس قبل أن تصور ، خلقها في عالم الأزل خلقها في عالم الذر ، هذه النفوس التي خلقها ماذا قال لها ؟
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾
هذا عالم الأزل ، هذا عالم الذر ، كل المخلوقات كانت نفوساً مجردة من صورها ،
﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾
هذا العهد جاء في العقل ، وجاء في الفطرة ، وجاء في رسالات السماء ، فأنت مؤمن في أصل خلقك ، أنت مؤمن في أصل فطرتك ، أنت مؤمن بحسب مبادئ عقلك ، أنت مؤمن بحسب ما أودع الله فيك من خصائص ، أنت مؤمن فإذا جاءتك الدعوة إلى الله تتذكر .
لذلك أينما قرأت في القرآن الكريم كلمة وذكرى تعني أنك مؤمن بالفطرة ، مؤمن بحسب مبادئ العقل ، مؤمن بهذا العهد الذي عاهدت الله عليه في عالم الأزل ، أنت مؤمن ، فإذا جاءتك الرسالة ، أو جاءك الهدى تتذكر العهد الذي قطعته على نفسك في عالم الأزل .
إذاً :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴾
أيها الإخوة ، إذاً :
﴿ لِتُنذِرَ بِهِ ﴾
المكذبين ، الشاردين ، الذين اختاروا الشهوة ولم يختاروا الآخرة ، اختاروا حظوظ الدنيا ، ولم يختاروا :
﴿ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
اختاروا العاجلة ، وكفروا بالآجلة ، اختاروا الحياة الدنيا ، وكفروا بالحياة الآخرة لهؤلاء تنذرهم من مغبة كفرهم ، تنذرهم من مغبة تقصيرهم ، تنذرهم من مغبة معصيتهم تنذرهم من مغبة انحرافهم عن الطريق الصحيح ، بينما الطرف الآخر المؤمنون أنت تذكرهم بما عرفوا في عالم الأزل ، تذكرهم بما أخذ الله عليهم من عهد حينما خلقهم في عالم الذر .
إذاً :
﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾
معنى الرسالة :
إخواننا الكرام ، ماذا تعني كلمة الرسالة ؟ يعني هناك مرسل هو الله جل جلاله هناك مرسل إليه هو النبي عليه الصلاة والسلام ، هناك مرسل إليهم هم البشر ، هناك موضوع الرسالة هو الكتاب ، وهناك مرسِل ، وهناك مرسَل ، وهناك مرسل إليه ، موضوع الرسالة هو هذا القرآن ، منهج الله عز وجل ، خاتم الكتب ، دستور حياتنا ، طريق سلامتنا ، طريق سعادتنا ، لذلك الآن جاء التوجيه :
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
دعوة قرآنية إلى اتباع المنهج القرآني :
1 – هذا مثل من الواقع فاعقلوه ، ولله المثل الأعلى :
يشكل مبسط تبسيط كبير :
عندك آلة غالية جداً ، عظيمة النفع ، معقّدة التركيب ، معك كُتيب صغير فيه تعليمات التشغيل والصيانة ، فأنت بدافع من حرصك على هذه الآلة ، وعلى سلامتها ، وعلى حسن مردودها تقرأ الكتاب ، وتنفذ ما في هذا الكتاب ، أنت أعقد آلة في الكون ، ولهذه الآلة البالغة التعقيد صانع حكيم ، ولهذا الصانع الحكيم تعليمات التشغيل والصيانة ، فأنت بدافعٍ من حبك لذاتك ، وحبك لسلامتك ، وحبك لكمال وجودك ، وحبك لاستمرار وجودك تنفذ تعليمات الصانع ، انظر إلى سلوكك إن اقتنيت مركبة جديدة ، تقرأ كيف تستخدم المكابح ؟ كيف تستخدم الماسحات ؟ كيف تستخدم ؟ كيف تملأ مستودع البنزين ؟ بشكل فطري وطبيعي حينما تشتري آلة ، وتحرص على سلامتها ، وحسن أداءها ، تتبع تعليمات الصانع .
لذلك جاء التوجيه الإلهي : أيها المؤمنون
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
طبق .
﴿ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾
هذا من عند الخبير .
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
2 – الأوامر والنواهي الإلهية هي ضمان للسلامة وليست حدودا للحريات :
أنت حينما تمشي في حقل ، ثم تفاجَأ بلوحة كتب عليها : " حقل ألغام ، ممنوع التجاوز "
لا تشعر بحقد على من وضعها ، بل تشعر بالامتنان ، لأن هذه اللوحة ليست حداً لحريتك ، بل هي ضمان لسلامتك .
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
فنحن ربنا خلقنا .
﴿ لَهُ الْخَلْقُ ﴾
دقق :
﴿ وَالْأَمْرُ﴾
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
مَن هي الجهة التي تستحق وحدها أن تطاع ؟ الله جل جلاله ، لا معبود بحق إلا هو .
لذلك :
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
لسلامتكم ، لسعادتكم ، لأمنكم ، لنمائكم ، لتوفيقكم ، لنصركم ،
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
لكن لا يعقل أن يكون الله هو الخالق ، وتتبع منهج آخرين من أهل الأرض .
(( إني والإنس والجن ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري ، أهل مودتي ، أهل شكري ، أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))
لذلك :
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا ﴾
3 – هذا هو المنهج الإلهي فلماذا نستورد مناهج المخلوقين ؟!
ينبغي ألا نستورد مناهج من أماكن أخرى ، من ثقافات أخرى ، ثقافات مادية ، ثقافات جمالية ، ثقافات ملحدة ، ثقافات نفعية ، ثقافات الأرض لا تعد ولا تحصى ، كلها باطلة إلا منهج الله عز وجل ،
﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
أيْ تذكروا قليلاً العهد الذي بينكم وبين ربكم في عالم الأزل .
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
4 – لا شقاء ولا ضلال في اتباع منهج الله :
لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه .
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
اجمع الآيتين ، من يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت ، فماذا بقي من السعادة ؟ لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .
أيها الإخوة ، الحقيقة أن آدم عليه السلام وهو في الجنة أعطاه الله درساً بليغاً ، وأنت حينما تربي ابنك ينبغي أن تعطيه درساً بليغاً ، ينبغي ألا تعتني بجسمه فحسب ، ينبغي أن تعتني بجسمه ونفسه وعقله وإيمانه ، وسر وجوده ، أن تبين له سر وجوده ، وغاية وجوده لذلك ،
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
5 – منهج الله سماوي عُلْويّ ، لا شرقي ولا غربيّ :
أيها الإخوة ، لكن البشر شأنهم أنهم يلزمون مَن حولهم إذا كانوا أقوياء باتباع منهجهم هذا الذي ترونه في العالم شرقاً وغرباً ، الشرق يفرض المنهج المبني على تقديس المجموع فيما سبق ، وجهة أخرى تدعو إلى مبدأ يعتمد على تقديس الفرد
أما ربنا عز وجل فمنهجه لا شرقي ولا غربي ، ولكنه علوي ، لا يجوز أن تقال الإسلام يتطابق مع المنهج الفلاني ، أو مع المنهج الفلاني ، الإسلام نسيج وحده ، الإسلام من عند خالق السماوات والأرض الإسلام علوي .
أيها الإخوة الكرام ، مع أن الإنسان أودع الله فيه فطرة تتوافق مع منهج الله توافقاً تاماً ، ومع ذلك منّ الله على البشر برسالات السماء من حين إلى آخر ، فكلما ضعف تمسك الناس بالهدى بمنهج الله عز وجل ، جاءت رسالة جديدة ، إلا الذي ينبغي أن يكون واضحاً تماماً هو أن كل جيل ينبغي أن ينقل إلى الجيل الآخر معالم الهدى .
لذلك ما لم تبنَ مناهج التربية على وحي السماء ، وعلى الهدى الذي جاء به الأنبياء فهناك خطر كبير ، خطر الفساد في الأرض ، خطر الشقاء ، فساد وشقاء .
لكن قد تشير بعض الحقائق إلى أن الأجيال ينبغي أن تتوارث نقل الهدى من جيل إلى جيل بمثل في جسم الإنسان :
من الإعجاز في خَلق الإنسان :
1 – في جسمِك مدرسة حربية وأنت لا تدري !!!
هناك غدة صغيرة جداً لا تزيد على حبة الحمص ، إلى جانب القلب ، كتب الطب من مئة عام أجمعت على أن هذه الغدة لا وظيفة لها إطلاقاً ، بسبب أنها تضمر بعد سنتين وتتلاشى كلياً ، وهناك دراسات من عقد واحد من الزمن تؤكد أن هذه الغدة أخطر غدة على الإطلاق
إنها مدرسة حربية ، تدخلها الكريات البيضاء المقاتلة ، وتتعلم فيها من هو الصديق ومن هو العدو ، الكريات البيضاء خمس فرق ، فرقة استطلاع ، وفرقة تصنيع السلاح وفرقة المشاة المحاربين ، وفرقة الخدمات ، وفرقة المغاوير ، الحديث عن الفرقة الثالثة فقط فرقة المقاتلين ، هذه الكريات البيضاء المقاتلة معها سلاح فتاك ، لكنها جاهلة ، سماها العلماء الخلية التائية الهمجية ، تدخل هذه إلى هذه الكلية الحربية وقد كبرت هذه الكلية آلاف المرات بدت وكأنها مدرج ، وهذه الخلايا التائية الهمجية تجلس على مقاعدها في هذا المدرّج ، أمّا كيف تُعلم هذه الكريات الهمجية مَن هو الصديق والعدو فهذا لا يعلمه إلا الله .
تمضي هذه الكريات البيضاء في هذه المدرسة الحربية سنتين كاملتين ، تتعلم من هو الصديق ، ومن هو العدو ، ثم ينتهي العامان الدراسيان بامتحانين ، الامتحان الأول تعطى الخلية التي كانت همجية فأصبحت مثقفة تعطى عنصرًا عدوًّا ، فإذا قتلته تنجح وتتخرج ، وإذا لم تقتله ترسب وتقتل ، الامتحان الآخر تعطَى عنصرًا صديقًا ، فإن قتلته ترسب وتقتل ، وإن لم تقتله تنجح وتتخرج .
الآن مجموع الكريات البيضاء المقاتلة تتخرج بعد سنتين من هذه الكلية ، وتغلق الكلية أبوابها ، وتضمر وتتلاشى ، الآن الجيل المتخرج من هذه الكلية يتولى تعليم الأجيال اللاحقة ، إلى نهاية الحياة ، كل جيل يعلم الجيل القادم .
2 – تعلَّم نقل العلم مِن نظامِ جسمك :
ذكّرتني هذه الحقيقة العلمية بأن البشر ينبغي أن يكونوا كذلك ، أن ينقلوا إلى أجيالهم اللاحقة الهدى الإلهي ، مع التربية التي تناسب هذا الهدى .
بعد ستين سنة يضعف التعليم في جسم الإنسان ، فيصاب الإنسان بشيء اسمه خرف المناعي ، التعليم ضعيف ، في جندي معه سلاح فتاك وجاهل فقد يضرب الصديق ، وقد يقتل الموالي ، لذلك ينشأ في جسم الإنسان بعد سن الستين حرب أهلية ، من خصائص هذه الحرب الأهلية : التهاب المفاصل الرثوي ، الذي معه التهاب مفاصل عنده حرب أهلية ، فالعناصر القوية في الجسم تضرب عناصر المفاصل ، وهناك سبعة أمراض خطيرة هي من نتائج الحرب الأهلية بين فرق المقاتلين المدججة بالسلاح ، وهم جهلة ، لأن التعليم كان ضعيفًا ، هذه الحالة اسمها الخرف المناعي .
فلذلك الأمة مسؤولة أن تنقل رسالات السماء إلى الأجيال الصاعدة .
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
3 – التعليم صنعةُ الأنبياء :
أيها الإخوة الكرام ، لا بد من التنويه بأن التعليم صنعة الأنبياء .
(( وإنما بعثت معلما ))
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
وإلى درس آخر إن شاء الله .