- (007)-سورة-الأعراف
- /
- (007)-سورة-الأعراف
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة لسورة الأعراف
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الأول من سورة الأعراف ، والأولى أن نقف وقفة متأنية عند مضامين هذه السورة :
ـ هذه السورة مكية ، إلا أنها أطول السور المكية على الإطلاق .
ـ وهذه السورة المكية الطويلة تضمنت قصص الأنبياء بشكل مفصل .
ـ وكما تعلمون أن السور المكية تركز دائماً على عقيدة التوحيد ، والإيمان الحقيقي هو التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، ألا ترى مع الله أحداً ، أن تعلم علم اليقين أن يد الله تعمل في الخفاء ، وأنه :
﴿ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
وأنه :
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
وأنه :
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾
وأنه :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ ﴾
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
يعني أن أمره متوافق توافقاً تاماً مع خلقه .
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾
السور المكية في الأصل تركز على التوحيد ، لأنك إذا آمنت بالله خالقاً ، هذا شأن الوثنيين .
﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾
فأن تؤمن بالله خالقاً شأن الوثنيين أيضاً ، بل إن إبليس آمن بالله ، قال :
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
وقال :
﴿ خَلَقْتَنِي ﴾
وقال :
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
لذلك هذه السورة الأعراف أطول سورة مكية ، عرضت لقصص الأنبياء بشكل تفصيلي ، ومهمتها كشأن كل السور المكية أن تركز على التوحيد ، الإيمان هو التوحيد ، وبالتوحيد تخلص ، بالتوحيد تستقيم ، وتركز أيضاً على البعث والجزاء ، فإنه ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن كركن الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر ، إذا آمنت بالله هو معك ، ويراقبك ، وإذا آمنت باليوم الآخر هو سيحاسبك ، ولمجرد أن تؤمن أن الله يعلم وسيحاسب ، وسيعاقب تستقيم على أمره .
ـ فالسور المكية أيضاً تركز على الإيمان باليوم الآخر ، بيوم الجزاء ، بيوم الدينونة بيوم تسوية الحسابات ، بيوم الواقعة الرافعة الخافضة ، وتركز أيضاً على الوحي ، ديننا الإسلامي دين وحي ، التلقي من الله ، الوحي كيان مستقل عن رسول الله ، لا يملك أن يجلبه ، ولا أن يوقفه ، ولا أن يصرفه ، فديننا دين توحيد ، ودين إيمان باليوم الآخر ، ودين تركيز على الوحي والرسالة ، هذا شأن السور المكية ، والأعراف من أطول السور المكية .
من إعجاز القرآن في سورة الأعراف
شيء آخر : في هذه السورة الطويلة ، بل هي تعد من أطول السور المكية في هذه السورة إشارة إلى إعجاز القرآن .
1 – ما هي المعجزة ؟
أيها الإخوة الكرام ، كلكم يعلم أن كل نبي معه معجزة ، ما المعجزة ؟ إنسان يقول : أنا رسول الله ، ومعه منهج افعل ولا تفعل ، والكفار ألفوا الحركة من دون منهج ، من دون قيد أو شرط ، من دون حسبان لحساب أو جزاء ، فلذلك حينما يأتي إنسان ويقول : أنا رسول الله موقف هؤلاء المعرضين الشاردين هو التكذيب .
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ﴾
2 – المعجزة شهادة الله لأنبيائه :
فكيف يشهد الله لأنبيائه ورسله أنهم أنبياءه ورسله ؟ لا بد من أن يشهد لهم شهادة الله لهم بالمعجزات ، فيُجري على أيديهم خوارق للنواميس ، لا يستطيعها إلا خالق الأكوان .
صور مِن بعض معجزات الأنبياء
1 ـ معجزة موسى عليه السلام :
سيدنا موسى :
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾
سيدنا عيسى أحيا الميت .
2 ـ معجزة إبراهيم عليه السلام :
سيدنا إبراهيم لم تستطع النار أن تحرقه .
هذه معجزات إثبات للناس أن هؤلاء الرجال أنبياءه ، أو شهادة الله للبشر أن هؤلاء الأنبياء والرسل هم أنبياءه ورسله ، إلا أن المشكلة أن الأنبياء السابقين هو أنبياء لأقوامهم فقط ، كل نبي له قوم .
﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾
لذلك المعجزات كانت حسية ، أي مادية ،
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾
﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾
معجزات حسية كتألق عود الثقاب ، تألقت مرة واحدة وانطفأت ، وأصبحت خبراً يصدقه من يصدقه ، ويكذبه من يكذبه ، إلا أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام لكل الأمم والشعوب ، بل هو :
﴿ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾
فلا يمكن أن تكون معجزته حسية منقطعة خبراً يصدق أو يكذب ، لا بد من أن تكون معجزته مستمرة إلى نهاية الحياة .
3 ـ معجزة النبي عليه الصلاة والسلام :
لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم معجزة علمية ، في القرآن الكريم 1300 آية تتحدث عن الكون ، بل فيها سبق علمي إشارات قرآنية إلى قوانين ، وإلى حقائق اكتشفت بعد 1400 عام ، قبل أن يرتاد الإنسان الفضاء ، ماذا يعلم ماذا في الفضاء ؟ هو في الأرض ، لما ارتاد الفضاء ، وتجاوز طبقة الهواء ، وانعدم تناثر الضوء صاح الرائد الفضائي : لقد أصبحنا عمياً لا نرى شيئاً ، ثم نفتح القرآن الكريم لنجد آية تقول :
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾
أما أن تصل بحوث علم الجنين بعد ألف عام وزيادة إلى أن نوع الجنين لا علاقة للبويضة به إطلاقاً ، الذي يحدد نوع الجنين النطفة فقط ، وتأتي آية لتقول :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾
أن يكتشف العلم أن كل شيء مؤلف من ذرات وفيها نواة ، وفيها كهارب ، وفيها مدارات ، وكل شيء يدور في الكون ، الصخر ، الحجر ، الخشب ، كل شيء ، أما أن نقرأ قوله تعالى :
﴿ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾
الحديث طويل ، 1300 آية في القرآن الكريم فيها سبق علمي ، هي أدلة قاطعة يقيناً 100 % أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن ، ففي هذه السورة إشارات كثيرة إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم .
ذلك أنك تؤمن بالله بواسطة عقلك من خلال الكون ، فالكون مظهر لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، وتؤمن بالقرآن من خلال إعجازه .
أنت راكب طائرة( 777 ) ، أحدث طائرة في العالم ، أو قبل أحدث طائرة على ارتفاع 40 ألف قدم ، على مقعد وثير ، الجو مكيف ومدفأ ، تتناول كل الأطعمة النفيسة ، والشربات النفيسة أمام قنوات عديدة جداً تتابع الأخبار ، وكل شيء على ما يرام ، وتفتح القرآن الكريم لتقرأ قوله تعالى :
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ﴾
وأنت تركب طائرة .
﴿ وَزِينَةً ﴾
أما حينما تتابع الآية :
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
يقشعر جلدك ، دخلت الطائرة في كلمة :
﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾
ودخل القطار ، ودخلت السيارة ، ودخلت الحوامة .
أما أن تشاهد على موقع معلوماتي وردة جورية بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، وردة جورية بأوراقها الحمراء الداكنة ، بوريقاتها الخضراء الزاهية ، بكأسها الأزرق في الوسط ، ثم يكتب تحت هذه الصورة صورة انفجار لنجم يبعد عنا 3000 سنة ضوئية ، اسم هذا النجم عين القط ، يبعد عنا 3000 سنة ضوئية ، والأربع سنوات ضوئية لو أردنا أن نصل إلى هذا النجم بمركبة أرضية لاحتجنا إلى خمسين مليون عام 300 سنة ضوئية ، ثم تفتح القرآن الكريم لتقرأ قوله تعالى :
﴿ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾
إذاً : في هذه السورة سورة الأعراف تركيز على إعجاز القرآن الكريم ، وأنت تؤمن بأن هذا الكتاب كلام الله يقيناً من خلال إعجازه ، والآن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة أقوى علم يرد به على من يشكك بالدين ، يقيناً ، وعقلاً ، وفطرة ، وبديهة ، هذه الإشارات العلمية في القرآن الكريم لا يمكن أن تكون إلا من عند خالق الأكوان ، وكأن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو أن تقتنع أن الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل هذا القرآن .
سورة الأعراف بيان لتكريم الإنسان
شيء آخر ، في هذه السورة سورة الأعراف بيان إلى أن الإنسان مكرم .
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾
الإنسان مكرم ، والإنسان هو المخلوق الأول تفضيلا .
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
الإنسان مكرم ، والإنسان هو المخلوق الأول ، والإنسان هو المخلوق المكلف .
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
سورة الأعراف بيان لأزلية الصراع الثنائي بين الحق والباطل
وفي هذه السورة تبين أن حكمة الله وإرادته شاءت أن يكون في العالم حق وباطل مؤمن وكافر ، محسن ومسيء ، منصف وجاحد ، مخلص وخائن ، هذه المفارقة ، أو هذه الاثنينية في الحياة تقتضي صراعاً بين الحق والباطل ، وكنت أقول دائماً : كان من الممكن أن يكون الطرف الآخر في كوكب آخر ، إذاً : ليس هناك مشكلة ، وكان من الممكن أن يكون الطرف الآخر في قارة أخرى ، وكان من الممكن أن يكون الطرف الآخر في حقبة أخرى ، ولكن شاءت حكمة الله أن يجتمع المؤمنون مع الكافرين ، أهل الحق مع أهل الباطل ، أهل الدنيا مع أهل الآخرة ، أهل العقل مع أهل الشهوة ، أهل القيم مع أهل المصالح ، أهل المبادئ مع أهل الغرائز .
آدم طرف الحق وإبليس طرف الباطل
إذاً : لا بد من معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، لا بد ، لذلك يعلمنا ربنا جل جلاله درساً بليغاً في هذه السورة ، حينما مثل إبليس طرف الباطل ، طرف الإغواء ، طرف المعصية ، طرف الشهوة ، طرف الإباء تأبي طاعة الله عز وجل ، ويمثل آدم عليه السلام طرف الإيمان والتقوى والقرب والطاعة ، وكيف استطاع إبليس مستغلاً فطرة آدم السليمة وطيبه ، فاستطاع أن يخرجه من الجنة ؟ هذا درس بليغ لنا .
إذاً : وطنوا أنفسكم أن الشيطان عدو مبين ، لذلك ينبغي أن نحذره ، هذا أيضاً من مضامين سورة الأعراف .
سورة الأعراف تقسم الناس إلى أهل الشقاء وأهل السعادة وأهل الأعراف
ومضمون آخر في هذه السورة وهو : أن المصير الخلائق يوم القيامة مؤمنون وكافرون ، الكافرون ضحكوا أولاً ثم بكوا كثيراً ، وشقوا إلى أبد الآبدين ، وخسروا أنفسهم وأهليهم ، أما المؤمنون فتكلفوا طاعة الله عز وجل ، وهي ذات كلفة ، ومنه التكليف .
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
هؤلاء المؤمنون استقاموا على أمر الله عز وجل ، وبذلوا الغالي والرخيص والنفس والنفيس حتى استحقوا جنة الله عز وجل التي فيها :
(( ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ))
استحقوا الجنة ، فلذلك هناك مؤمنون وكافرون .
وتنفرد هذه السورة بأن هناك زمرة ثالثة ، هم الأعراف ، وسميت السورة باسمهم ، سورة الأعراف ، ولها بحث طويل يأتي في مكانه من دروس هذه السورة إن شاء الله تعالى .
سورة الأعراف مملوءة بقصص الأنبياء
1 – الرسل مبلِّغون :
وهي أول سورة مكية تبين مقام النبوات ذكرت قصة سيدنا نوح ، وهود وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، بالتفصيل ، وكيف أن الأنبياء قمم البشر ، وأن الله اصطفاهم على علم ، اصطفاهم ليكونوا مبلغين للبشر ، مبلغين بألسنتهم ، ومبلغين بأفعالهم فالنبي عليه الصلاة والسلام مثلاً أقواله تشريع ، وأفعاله تشريع ، وإقراره تشريع ، هو قدوة لنا .
2 – ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب :
بالمناسبة : هناك قاعدة جليلة أنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض ، مثل ذلك الوضوء ، الصلاة لا تتم إلا به ، ولأن الصلاة فرض ، ولأنها لا تتم إلا بالوضوء ، فالوضوء فرض ، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة ، لذلك إذا قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
أنه لا بد من أن تعلم ما الذي آتانا ، ما الذي أتى به رسول الله ، ما لا يتم تنفيذ هذه الآية ، وهي :
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾
هذه الآية لا تطبق ، ولا تصبح موضع التطبيق إلا إذا عرفت ما الذي آتانا ، إذاً كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، وكل أمر لا يتم تطبيقه إلا بشيء الشيء الثاني أصبح واجباً ، إذاً : يجب علينا جميعاً ، بل مفروض علينا جميعاً سنة النبي القولية ،
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ﴾
كيف آخذه إن لم أعلم ماذا آتاني ، وعن أي شيء نهاني ؟ .
3 – الرسل قدوة للبشر :
الآن للنبي رسالة ثانية ، الثانية :
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾
كيف يكون النبي أسوة حسنة إن لم نعرف سيرته العملية ، حياته في بيته ، مع زوجاته ، مع أولاده ، مع جيرانه ، مع أصحابه ، مع إخوانه ، في سلمه ، في حربه ، في إقبال الدنيا ، في إدبار الدنيا ، في انتصاره ، في عدم انتصاره .
إذاً ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم ، فلذلك هذه السورة جاءت بقصص الأنبياء ، نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى .
4 – العلم يؤخذ من العلماء :
بالمناسبة أيها الإخوة ، لو كان من الممكن أن يتعلم الإنسان من كتاب فقط فلا داعي إطلاقاً لإرسال الأنبياء إطلاقاً ، لو كان من الممكن أن يتعلم الجيل من دون معلمين فلا داعي أن نفتح المدارس ، نوزع كتبًا فقط ، لكن العلم لا يؤخذ إلا عن معلم متحقق ورع ، لذلك لا بد من إرسال الأنبياء ، والأنبياء الذين ذُكروا في القرآن الكريم عددهم محدود .
﴿ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾
قرأت في بعض الكتب أن العدد التقريبي بالآلاف ، لكن نحن في كتابنا الكريم ذُكرت قصص بعض الأنبياء .
إذاً الأنبياء قدوة ، والأنبياء لهم مهمتان مهمة التبليغ ، ومهمة القدوة ، ولعلي أرى مهمة القدوة أعظم بكثير من مهمة التبليغ ، سهل جداً أن تتكلم بالفضائل ، لكن البطولة العظمى أن تتمثل هذه الفضائل ، أن تكون حليماً ، البطولة أن تواجه بلدة ناصبتك العداء عشرين عاماً ، ونكلت بأصحابك ، وتفننت في حربهم ، وفي إزعاجهم ، وفي هجائهم ، وفي التنكيل بهم ، ثم تنتصر على هذه البلدة مكة ، ومعك عشرة آلاف سيف متوهج ، هذه السيوف رهن إشارتك ، ويكفي أن تعطيهم إشارة ليبيدوا هؤلاء حرب إبادة ، تقول لهم :
(( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
هذه البطولة ، أن يذهب إلى الطائف ليهدي أهلها إلى سواء السبيل ، يكذبونه يسخرون منه ، يتلذذون في تعذيبه ، وتأتيه ملك الجبال ، ويقول : يا محمد ، أنا طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين ، فيقول : لا يا أخي ، اللهم اهدِ قومي ، فإنهم لا يعلمون ، ما تخلى عنهم ، قال : قومي ، ودعا لهم بالهدى ، واعتذر عنهم ، فإنهم لا يعلمون ، ورجا الله أن يخرج من أصلابهم من يوحده ، هذا هو الكمال .
لذلك الأنبياء والمرسلون يعلموننا بكمالاتهم أضعاف ما يعلموننا بألسنتهم ، لذلك قال بعضهم : إن دلالة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم على فهمه لكتاب الله أبلغ من دلالة كلماته ، لأن الكمال يؤول أما السلوك حدي ، السلوك لا يؤول ، هكذا فعل مع جاره وهكذا .
إذاً : في هذه السورة الكريمة إشارة أيضاً إلى أن الأنبياء هم قمم البشر ، وقد اصطفاهم الله على علم :
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
اصطفاهم على علم .
في سورة الأعراف صورة للمتاجرة بالعلم
شيء آخر ، في هذه السورة أيضاً شرح لإنسان تاجر بهذا العلم ، اشترى به ثمناً قليلاً ، وصدقوا أيها الإخوة ، ما من مثل يقفز إلى ذهني كهذا المثل :
لو أنك وجدت على الطاولة ورقة مستطيلة بيضاء ، وظننتها ورقة من سخط المتاع ، كتبت عليها بعض الكلمات ثم مزقتها ، ثم اكتشفت أنها شيك بمئة مليار دولار ، فلما مزقتها خسرت المبلغ كله ، كم هو الندم ؟.
هذا الذي يتاجر بالدين ، هذا الذي يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً ، هذا الذي يتقرب إلى الناس باتجاه ديني كاذب .
لذلك يقول الإمام الشافعي : " لأن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين " .
لذلك :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾
إذاً : في هذه السورة أيضاً إشارة إلى من يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً .
الأعراف تثبيت للتوحيد ابتداء وانتهاء
آخر موضوع في هذه السورة ، أن هذه السورة تثبت أخيراً التوحيد ، وأنه ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، بدأت بالتوحيد ، وانتهت بالتوحيد ، وأن التوحيد نهاية العلم وأن التقوى نهاية العمل ، و أنه يمكن أن نضغط رسالات الأنبياء جميعاً بكلمتين :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
وحد اعتقاداً ، وأطع ربك سلوكاً ، هذا هو الدين كله .
أيها الإخوة الكرام ، الآية الأولى في هذه السورة سورة الأعراف :
﴿ المص﴾
الحروف المقطّعة
شيء يلفت النظر ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ قَرَأَ حَرْفَاً مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، لاَ أَقُولُ : آلم حَرْفٌ ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْف ، ولامٌ حَرْفٌ ، وَميمٌ حَرْفٌ ))
هذه الحروف أيها الإخوة ، تختلف عن بقية الحروف ، بقية الحروف حروف بناء ليس لها كيان إطلاقاً ، الباء ما لها معنى ، أما أكلتُ بالملعقة ، لها معنى ، الحرف كلمة ليس لها معنى إطلاقاً إلا إذا اقترنت مع غيرها ، من ، ما لها معنى ، أما ذهبت من دمشق إلى حلب ، فالحروف البناء ، والحروف بمعنى الأدوات ، ليس لها معنًى تستقلّ به ، إلا أن معانيها من ارتباطها من بقية الكلمات ، إلا أن هذه الحروف الأربعة عشر حرفاً ، التي افتتحت بها بعض سور القرآن ، هذه حروف لها كيان مستقل .
مثلاً : لماذا قرأ النبي عليه الصلاة والسلام ؟ :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
لماذا قرأ ؟
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
أما حينما قرأ البقرة قال :
﴿ الم ﴾
أولاً : هي حروف مقطعة ، ثانياً : تسكن ، ألف : سكون ، لام ، ميم ، ثالثاً ينبغي أن نفصل فيما بينها ، ألف ، لام ، ميم ، حروف مقطعة ، تُسكن ، نقف عليها ، نفصل بينها وبين الحروف التي بجانبها .
طبيعة الحروف المقطَّعة
1 – الله عزوجل هو الذي علم النبي النطق بالقرآن :
شيء آخر ، هذه الحروف هي مسميات وأسماء ، تتميز هذه الحروف بأنها مسميات وأسماء ، كيف ؟ مسميات ، با ، أو كتب ، ك ، مسمى ، ت ، مسمى ، با ، مسمى كتب ، أما الأسماء : كاف ، ك ، ا ، ف ، كاف مفتوحة هذا اسمها ، وتاء مفتوحة ، وباء مفتوحة ، صار الحرف له مسمى ، يعني صوته ، وله اسم ، ألف ، باء ، جيم ، دال ، تاء ظاء ، عين ، غين ، قاف ، كاف ، من الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ
﴿ الم ﴾
وأن يقرأ في سورة أخرى :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
﴿ أَلَمْ ﴾
نطق بالمسميات ، أما :
﴿ الم ﴾
فقد نطق بالأسماء .
الشيء الذي يلفت النظر أن النبي أُميّ ، وأميته وحده وسام شرف له ، لأن الذي تولى تعليمه هو الله ، العلم المطلق ، أما نحن فلو كنا أميين أميتنا وصمة عار بحقنا نحن ليس عندنا وحي نتعلم منه ، ولما تلقى الوحي من الله ، ولما تولى الله تعليمه كان أعلم العلماء ، فقد تأخذ بعض الأحاديث ، تدرسها ، تحللها ، تنال دكتوراه ، أنت دكتور ، لأنك درست بعض الأحاديث ، فكيف بصاحب الأحاديث ؟ العلماء في الأرض عالة على علمه .
فلذلك من علّم النبي أن يقرأ :
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾
﴿ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
ومن علمه أن يقرأ في البقرة
﴿ الم ﴾
2 – استنباط لطيف :
لذلك هناك استنباط أول في قوله تعالى :
يعني عليك :
﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾
﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ﴾
يعني قرأه جبريل عليك ،
﴿ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾
لذلك استنبط أن القرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي ، والقرآن فضلاً عن هذا الكتاب الذي فيه آيات القرآن ، القرآن نقل لنا جمعاً عن جمعٍ من رسول الله إلى اليوم ، فهو منقول بالتواتر ، والتواتر ما رواه جمع غفير ، عن الجمع الغفير من نزول هذا القرآن عن رسول الله ، عن جبريل ، عن الله ، فهذا الكتاب الذي بين أيديكم هو الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالتمام والكمال ، وهذه قضية إيمانية .
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
3 – الحروف المقطّعة في القرآن نصف حرف اللغة العربية :
أيها الإخوة ، شيء آخر : هذه الحروف حروف المعجم 28 حرفاً ، الحروف المقطعة 14 حرفاً ، نصف الحروف بالتمام والكمال ، والحروف لها صفات في علم التجويد الهمس ، والتفخيم ، والترقيق ، والصفير ... إلخ .
نصف خصائص الحروف في هذه الحروف الـ14 ، بعض الآيات أو بعض السور تبدأ بحرف واحد :
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾
بعض الحروف المقطعة حرفان ، حاء ، ميم ، بعض هذه الحروف ثلاثة حروف ،
﴿ الم ﴾
بعض هذه الحروف أربعة حروف كسورة الأعراف :
﴿ المص ﴾
بعض هذه الحروف خمسة .
﴿ كهيعص ﴾
4 – المعنى الراجح للحروف المقطّعة :
مجموع الحروف أربعة عشر ، التفسير السهل والمريح أن الله أعلم بمراده والتفسير الآخر ، كما يقال : الرأي والرأي الآخر ، والتفسير الآخر أنها أوائل أسماء الله الحسنى ، ألف : الله ، لام : لطيف ، ميم : محمود .
وبعضهم قال : إنها أوائل أسماء رسول الله لأنه جاء بعدها في الأعم الأغلب كاف الخطاب .
﴿ طه ﴾
يا طاهر من الذنوب ، يا هادياً إلى علام الغيوب .
﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ﴾
المرجح أنها أوائل أسماء رسول الله ، لأن كل هذه الحروف يأتي بعدها كاف الخطاب .
بعضهم قال وهو ورأي وجيه : أن هذه الحروف بين أيديكم ، وأنها قوام لغتكم ، وهذا القرآن يتحداكم ، المادة الأولية عندكم ، بين أيديكم ، وهذا القرآن لن تستطيعوا أن تأتوا بسورة منه ، بل ولا بآية ، هذا هو التحدي ، المادة الأولية بين أيديكم ، هي حروف ، إذاً لك أن تقول الله أعلم بمراده .
إخواننا الكرام ، تصوروا لو أن النبي فسره لانتهى القرآن ، وهو سيد الخلق ، لأن لا يعرف الله إلا الله ، ولا يعرف كلام الله إلا الله ، نجتهد نحن جميعاً .
لذلك القرآن ليس ملك أحد ، فالذي قال : الله أعلم بمراده معه الحق ، ومعها وجهة نظر ، الذي قال : أوائل أسماء الله الحسنى مقبول ، والذي قال : أوائل أسماء النبي لوجوب كاف الخطاب ، والذي قال : هذا القرآن المعجز من هذه الحروف ، فأتوا بمثله إن استطعتم لا تستطيعون .
وبعض علماء القلوب قال : ألف من أقصى الحلق ، واللام من وسطه ، والميم من الشفتين ، يعني هذه الحروف تغطي كل مخارج الحروف ، من أقصى الحلق ، إلى أوسط الفم ، إلى الشفتين ، والصاد لأن في هذه السورة قصص الأنبياء ، كلٌ يدلو بدلوه ، وكلام الله معجز ، لك أن تختار من هذه التفسيرات ما يروق لك .
أيها الإخوة الكرام ، في درس قادم إن شاء الله نتابع تفسير الآية التي تلي هذه الآية .