- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (002) سورة البقرة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض :
أيها الأخوة الكرام؛ في أواخر سورة البقرة آيات دقيقة ، وكأن هذه الآيات تلخص السورة بأكملها ، بل كأن هذه الآيات تعطينا الطريق العملي لفهم هذه السورة ، يقول الله عز وجل في الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
أولاً: هذه اللام . . . لله . . . هذه لام الملكية .فأنتَ مثلاً تقول : القلم لي ، والبيت لي ، والمركبة لي ، فهذه اللام لام الملكية ، فلله ما في السماوات وما في الأرض ، كلمة السماوات والأرض يقابلها الكون ، والكون ما سوى الله ، والله واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، وما سواه هو الكون ، والتعبير القرآني للكون ، السماوات والأرض
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
أي الكون كله ملك لله عز وجل .ما معنى أن يكون الله مالكاً للكون ؟
أنت قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، قد أجرته في الخمسينات بمئة ليرة في الشهر ، وثمنه الآن ثلاثون مليونًا ، قد تملك بيتاً ولا تنتفع به ، وقد تنتفع به ولا تملكه فأنت مستأجر ، وقد تملكه وتنتفع به ، و لكن مصيره ليس إليك لأن مشروع تنظيم مِن قِبل المحافظة يأتي على البيت ، فملكية الإنسان دائماً غير كاملة .
فهو إما أنه يملك الرقبة ولا يملك المنفعة ، أو أنه يملك المنفعة ولا يملك الرقبة ، أو أنه يملك المنفعة والرقبة ولا يملك المصير .
لكن إذا كان الله مالكاً فالله سبحانه وتعالى يملك الشيء ، ويملك التصرف فيه ، ويملك مصيره ، أجل يملك الشيء ويملك التصرف فيه ويملك مصيره .
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
أمره نافذ في خلقه .قد يصنع المعملُ طائرة ويبيعها لدولة ما ، فأصبحت الطائرةُ ملك تلك الدولة ، لكن الله عز وجل له الخلق والأمر ، لذلك:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
هذا يؤكده قوله تعالى:﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
شخص عنده معمل ، وبيته في حيِّ خورشيد ، ركب مركبته واتجه إلى البيت ، فنسي موقعَ البيت ، قضى نصف ساعة أو أكثر يبحث عن بيته ، أُصيب بفقد جزئيٍّ للذاكرة ، لكنه عرف بيت ابنه الذي بالجسر ، فذهب إلى ابنه وقال له : يا بني أين بيتي؟ هذا يعني أنَّ أيَّ شيء يُملك فالله مالكه ، فأنت هل تملك ذاكرتك مثلاً ؟ أعرف إنساناً ينشى أولاده ، أحد الأشخاص أعرفه ، وهو صيدلي في حيِّ المهاجرين ، جاء ابنه من أمريكا ، فقال له : من أنت ؟ أفتملك ذاكرتك ؟ هل تملك أن تعيش بعد ساعة ؟ يقال: سكتة دماغية ، أتملك مزرعتك ؟ يكون ثمنُ محصولها خمسمئة ألف .﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾
موجة صقيع تستمر عشر ثوانٍ تُتلف المحصول كله ، أو لفحة حر تتلف المحصول كله ، أو رياح عاتية ، أقبلت رياح عاتية قبل حين قلعت حوالي خمسمئة بيت بلاستيكي من جذوره ، تلاشى البيت كله ، وتلاشى المحصول طبعاً ، فماذا نملك نحن ؟ بناء بالقاهرة من أربعة عشر طابقًا ، فيه بنوك ، وفيه مؤسسات ، وفيه بيوت فخمه ، طبعاً البيت لإنسان غني فيه آلات كهربائية ، ومكيفات ، وبرادات ، آلات تسجيل . . .إلخ ، خلال ثلاث وأربعين ثانية أصبح هذا البناء ركاماً ، خمس درجات على مقياس ريختر تصير تحت خيمة تُؤويك ، كان عندك بيت مساحته أربعمئة متر ، تزينه ديكورات ، وفرشه وثير ، بثلاث وأربعين ثانية غدوت تحت الخيمة ثاويًا ، هناك ناس ينزحون من بلادهم ، قد يقال : مئة ألف نازح ، فنحن لا نملك إلا رحمة الله عز وجل .أنواع العطاء :
قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾
هناك عطاء مادي ، وهناك عطاء معنوي ، العطاء المادي ، بيت ، أرض ، مركبة ، تجارة ، أموال ، والعطاء المعنوي مكانة ، عزة ، كرامة ، إهانة ، فضيحة ، ذل .﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
هذا تمهيد للآية الرابعة والثمانين بعد المئتين في أواخر سورة البقرة ، قال تعالى:﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
وأنت على الأرض تشملك الآية الكريمة ، أنت مِن مُلك الله ، ثم قال:﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
إذا كان الإنسان مثلاً مصاباً بمرض نفسي ، كأن يكون فيه كبر ، أو إشراك بالله ، أو آفةُ الاستعلاء ، وتأكيد للذات ، أو عنده غرور ، فهذه الأمراض إن أبديتها لله أو أخفيتها لابد من أن يحاسبك عليها .أما الطبيب إن لم تأته إلى عيادته ، وتقل له : إنني لا أنام الليل من ألم المعدة فإنّه لا يعالجك ، الطبيب البشري إن لم تأته ، وإن لم تخبره بآلامك لا يعالجك ، لكن الله عز وجل لأنه يعلم ، ولأنه مالك ، ولأنه رحيم ، يعلم ، ومالك ، ورحيم ، سواء أعرضت عليه مشكلتك أم تجاهلتها يحاسبك بها .
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
طرق معالجة الله لعباده :
أخواننا الكرام ؛ أدق ما في الآية :
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
والله الذي لا إله إلا هو ملخص ملخص الملخص إما أن تذهب إليه طواعيةً ، إما أن تنتبه لأمراضك النفسية طواعيةً ، وإما أن تقبل عليه مبادرةً منك ، وإما أن يرغمك على أن تأتيه قصراً .﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
أي إنْ أصابك مرض ، فقد يقول لك الطبيب : لدينا حبوب ، أو عملية جراحية ، وإمَّا إن امتنعت عن هذا الطعام ، وأخذت هذه المقويات تشفى ، فأنت بين خيارين ؛ إما أن تشفى بالحسنى ، وإما أن تشفى بعد مصيبة ؛ فالآية دقيقة… أي المرض النفسي إن أظهرته أو أخفيته ، إن عرضته أو سترته ، إن أبديته أو أسررته ، إن ذهبت إلى الطبيب أو لم تذهب إليه ، فالطبيب يعلم ، ورحيم ، وعليم ، وقدير ، وأنت بملكه ، لأنه رحيم ، ولأنه رب العالمين ، ولأنه جاء بك إلى الدنيا ليؤهِّلك للآخرة فلا تعصِهِ .فلذلك أمراضك النفسية مكشوفة عنده ، إنْ تكلمتَ أو سكتَّ سيان ، و المعالجة تكون بإحدى طريقين .
الطريق الأول : أن تأتيه تائباً ، وأن تقبل عليه .
بهذا الاتصال تشفى من أمراضك ، أمّا إذا أبيت أن تأتيه طائعاً ، ولم تندم على ما تفعل ، فالله عنده مليون ، مليون ، مليون وسيلة يرغمك أنْ تأتي إليه ركضًا ، مليون وسيلة ، بدءاً من صحتك ، إلى زوجتك ، إلى أولادك ، إلى عملك ، إلى تجارتك ، وأنت مسافر ، وأنت في البحر ، وأنت بالجو ، وأنت بالبر ، وأنت في بيتك ، وأنت بغرفتك ، حيثما كنت فلن تعجزه .
حدّثني أحدُهم قال لي : أنا كنت أستاذاً في أوروبا ، ليس مِن معصية إلا قارفتُها ، عدا القتل ، فما قتلت أحداً ، قال : ثم جئت إلى الشام ، ونقلت باريس إلى دمشق ، فكل المعاصي ؛ السهرات في النوادي ، والخمور ، و النساء ، لا زلتُ أقارفها ، وفجأةً وأنا في مقتبل الحياة ، وأحمل شهادة دكتوراه بالكمبيوتر ، فجأةً صار كلُّ شيء يتحرك أمامي مضطربًا ، أعوذ بالله ، فهو يمشي ويقع ، واللهِ عشر محاولات لأمسك الكأسَ فما أقدر ، أي أصابه مرضُ اسمُه فقدُ التوازن الحركي ، وأصبح لديه خلل في كهرباء الدماغ ، انعكاس واضطراب بالرؤية ، واختلال بالمشي ، وعُرضتُ هنا على ستة وثلاثين طبيبًا بالشام ، فما استفدت ، فذهب إلى فرنسا حيث تعلَّم وتخرَّج ، وأُدخِل إلى أعظم مستشفى ، وجاء الطبيب بالطائرة ، وبحثوا عن مرضي ، وطبعاً سرتُ على بساط إلكتروني ، وانطبعتْ حركاتي على شاشة ، فأول كلمة قالها لي الطبيب : مرضك مرض يندر وجوده بالعالم ، نسبته واحد من ثلاثة عشر مليون إنسان ، كل ثلاثة عشر مليون إنسان يصاب به واحد ، ثم قال لي : أنا فداء سوريا كلها ، وبلغته إدارة المستشفى أنّ إقامته في فرنسا ، وذهابه و إيّابه كل ستة أشهر على حساب فرنسا ، لا لأنه مكرم بل لأنهم جعلوا منه حقل تجارب ، إنه مرض نادر ، ولأجل أنْ يتعلموا فيه اعتبروه ضيفًا ، ذهاباً ، وإياباً ، وإقامةً ، وبعد ستة أشهر قال لي الطبيب المعالِج بالحرف ما يلي : أنا أعلمُ طبيبٍ بمرضك في العالم كله ، ولا فخر ، وللأسف ليس لك عندنا دواء ، ارجع إلى بلدك وانتظر أجلك ، فرجع إلى الشام ، فاعتبر يا أخي المؤمن حيث قال: لم تبق مصيبةٌ إلاّ اقترفتُها ، جاء إلى الجامع يومًا وحضر درسًا ، ولعله سُرَّ ، فقال يا رب : إذا شفيتني سأصلي ، فهو لم يصلّ بحياته ثمّ حضر درسًا ثانيًا ، ولعلّ الله ألهمني كلمة فقلت : أتشترط على الله ؟ أتجرِّب الله عز وجل ؟ فلا شرط ، و لا تجربة مع الله ، ولا تجرب الله عز وجل ، لا تشارط ولا تجرب .
سبحان الله ، ثم قال: يا ربي مِن الآن أبدأ الصلاة ، وفي البيت صلى أول ركعتين في حياته .
وفي ثالثِ يومٍ ثبتت الصورة ، قام وصرخ فرحًا بالشفاء .
إنّ الصورة ثبتت ، وما بقي لديه ارتجاج ، وأمسك الكأس من أول محاولة ، وبعد ثلاثة أيام عاد صحيحاً معافى ، وكان الصلح مع الله ، ولزم دروس العلم ، وتاب إلى الله توبة نصوحًا .
أخواننا الكرام ؛ إمّا أن تأتي طائعًا ، وإمّا أنْ يأتي بك ركضًا ، وعنده مليون دواء ، أحد الأدوية يجعلك لا تنام الليل خوفاً ، وأحد الأدوية يوحي إليك أنْ تقول : أنا مستعد لأنْ أبيع أملاكي على أنْ أُشفى .
قلت لكم بالأمس : شخص يحمل دكتوراه ، وصل لأعلى منصب بوزارة الصناعة ، فَقَد بصره ، وبيته بالمالكي ، وله سيارة ، وزوجة فرنسية ، يعيش في بحبوحة ، ومكانة ، وعز .
زاره صديق لي فأخبرني أنه قال للطبيب : واللهِ أتمنى أن أجلس على الرصيف أتسول ، ولا أملك من حطام الدنيا إلا هذا المعطف ، وأن يرد اللهُ لي بصري .
الإنسان دائماً بين خيارين :
أخواننا الكرام ؛
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
أنت ملكه ، وهو رحيم ، وهو رب كريم ، وحكيم ، وخلقك للجنة ، إذاً أنت بين خيارين .﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾
فالأمر سيان . في الجسم أمراض إنْ أظهرتها أو أخفيتها ، إن أبديتها أو أسررتها .﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أنت بين طريقين ؛ إما طريق الحمية والحبوب ، أو عملية جراحية ، وكلاهما على الله سهل .﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
للإقبال عليه ،﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
للإعراض عنه ، يبعث له مشكلة .﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
على هذه قدير ، وعلى تلك قدير .الطريق الأول أولى وأجمل ؛ أن تأتيه طائعاً ، والأمر في متناولك ، صحتك طيبة سليمة ، وبيتك منتظم ، ودخلك جيد ، وزوجتك كاملة ، وأولادك ملاح ، وأنت بهذه الحالة الطيبة صلِّ وتُبْ وغض بصرك ، وحرر دخلك واضبط جوارحك ، واضبط سمعك وبصرك ، وأنت سليم صحيح الجسم ، وإلا إذا انحرفت فالله عز وجل يعرف كيف يداويك .
﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾
هذه الآية دقيقة ، هذه ملخص سورة البقرة كلها .﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
الطريق السلمي أولاً ، بأن تأتيه طائعاً ، أنا يا رب تبتُ إليك ، وأريد رضاك .﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
أما إذا غفلت عنه فعنده أساليب ترجعك قهرًا .﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
على هذه قدير ، وعلى العملية الجراحية قدير ، وعلى إعطائك برنامج حمية مع تناول حبوب قدير ، والأولى أهون ، فاحذروا يا أولي الألباب .